ماهر المقوسي
الحوار المتمدن-العدد: 8317 - 2025 / 4 / 19 - 22:55
المحور:
الادب والفن
أنا آخرُ الساهرينَ على لهبِ الأمسِ،
أمشي أنقّبُ في العتْمةِ الصامتةْ
أنقب عن رغبةٍ لم تزلْ تتدلّى على حائطِ الخوفِ
مثلَ الحقيبةِ في يد من رحلوا
أنا آخرُ الراحلينَ بلا جهةٍ،
كلُّ بابٍ تشهّى دمي،
ثم أغلقَ حلمي عليهِ ونامْ…
أنا جئتُ من جهةِ الطعنةِ الساكنةْ،
أنا من حنينٍ تمشَّى على جثةِ الضوءِ
وانتحرَ الآنَ في كبدي...
أنا آخرُ الساهرين وآخر ناجٍ
ولستُ بناجٍ،
ولكنني ظلُّ من كان يسكنني،
صوتُ أمّي الأخيرُ
إذا ما توهّجَ في صمتها الوجعُ الأبديّ
ولم تستطعْ أن تقولَ: ارجعوا...
أنا الآن أفتحُ جلدي على فتحةٍ في الجدارِ،
أدلّي يديّ كأني أريدُ اعتذاراً من الغيمِ،
أو من ملاكٍ تأخّرَ
حين هوت دمعتايَ على رُكبتيهِ…
أنا لم أعُدْ غير نافذةٍ
يتجوّلُ فيها الغياب،
وكلُّ العيونِ التي ظلّت الآنَ
ترقبُ ظلّي
وتحسبُ أني نجوت،
ستبكي إذا ما رأت كفناً يسكن الآن في داخلي.
أنا آخرُ الساهرينَ
ولكنني كلما صاح قربيَ موتٌ
أقول له:
– لا تؤجّلْ،
فقد صار في داخلي ميتتانِ، وقد يزدحمْ…
أأبدو ثقيلاً؟
فذاك اختناقُ النجاة،
وإن خفَّ ظلّي فإني نسيتُ جروحي
معلّقةً فوقَ مرآةِ هذا الخرابِ...
أنا آخرُ الساهرينَ على قيد هذا الوجودْ
نجوتُ… ولكنْ
أنا الآنَ منْ؟
ومِن أيِّ موتٍ أعودْ؟
نجوتُ من المدنِ المستقيلةِ من أهلها،
من جدارٍ يحاورُ ظلّي ولا ينحني.
ومن جثثٍ تتدلّى على الأرضِ
نجوتُ من الوقتِ حينَ استحالَ سراباً،
ومن لحظةٍ فوقَ فكِّ القيامةِ
كانتْ تُمسد شعري وتضحكُ… ثمّ تموتْ!
أنا آخرُ الساهرين
ولكنَّني كلّما قلتُ: ها قد تنفّستُ
ضاقتْ عليَّ النجاة، وصارَ الهواءُ
كميناً يدوّنُ أسماءنا
ثم يمحو الشهودْ...
أنا لستُ شيئًا سوى قبضةٍ من غبارِ الملاجئِ، تمشي بلا جهةٍ،
وترى اللهَ حينَ تصيرُ المآذنُ جسم الحريقِ...
أنا لستُ إلا كلاماً أضاعتهُ أمي على سدَّة الدار تدعو، ولا تعرفُ الآنَ إن كان وجهي
هو الوجهُ، أم ظلّه في الدخانْ...
نجوتُ... ولكنْ، نجوتُ كشُرفةِ بيتٍ
تطلُّ على المقبرةْ،
نجوتُ كصوتِ يتيمٍ ينادي على ميِّتٍ
ثم يغفو على إسمه في سِجلٍّ قديمٍ...
نجوتُ من الحربِ
لكنْ بماذا سأخبرُ موتايَ؟
من سيرتّبُ ما انكسرَ الآنَ في لغةِ الأرض؟
من سيعيدُ الجنازةَ نحو اسمِها؟
والنداءَ إلى ضوئهِ؟
والغريبَ إلى... غربتهْ؟
أنا آخرُ النازحين
ولكنني
حينَ أقفزُ من طعنةٍ
أرتمي في رؤى شاعرٍ
كانَ يهذي:
نجوتَ؟
نجوتَ من الشعرِ؟
من أنتَ؟
من أيّ أمٍّ ستبكي عليكَ؟
أنا الآنَ أكتبني
كغريبٍ تعلّقَ في فمِ خارطةٍ دون فمْ،
أنا الآنَ أسكنُ ما ليس يسكنني،
وأقنعُ هذا الرمادَ بأنّي احتميتُ…
أنا آخرُ النازحين…
ولكنّني كلّما مرَّ طيفٌ
أشرتُ إليهِ: تعالْ...
فأنا لم أنمْ منذ عشرين موتاً،
وما زلتُ وحدي أعدُّ
النجاةَ هراءً
مررتُ على الريحِ
كانَتْ تُراودُ شباكَ أمي وتبكي…
وكانتْ تغنّي لظلِّ الذينَ
سقطْتُ عليهمْ كأحلامِ نومٍ ثقيلٍ…
وكانتْ تُسمّي الغيابَ
بلاداً
وتحفرُ أسماءَنا
في وسائدنا الباليةْ
أنا ذلكَ الطفلُ من شرفةِ الحربِ
يحملُ قمصانَ إخوتِهِ ويعلّقها في الهواء…
كأنّ الغيابَ يُصفّقُ للقابضين على موتِهمْ بالخطأْ!
أيا أميَ الأرض
يا جسدي المستعارَ من الأنبياءِ الذينَ تخلّوا…
دعيني أعودُ إلى شرفةٍ لم تدمَّرْ
وفيها أُحدّقُ في برتقالِ الحنين…
وكم في المدى كان وجهُ المدينةِ
يشبهُ نعشاً تكدّسَ فيهِ الهواء
وكان الرصيفُ البعيدُ
يُصفّقُ لي كلما مرَّ ظلّي…
وكنت أنا مثل من يتذكّر موتاً رماهُ العزاءُ…
ولا جهةٌ في الجهاتِ تعيدُ احتمالي،
ولا لغةٌ تتّسعْ…
وقد صار موتي خفيفاً كأني دخانُ الحكايةِ
حينَ تشظّى…
وصار الطريقُ مرايا تُكحّلُ وجهي بأسماءِ من رَحلوا
من أنا؟
سؤالٌ صغيرٌ
تُدوّيهِ جدرانُ بيتي المقنّعِ بالانفجارْ،
أنا لا نجاةَ
أنا لا انتظارْ.
فهل قد رأيتَ البلادَ وقد صارت الآن خيمةَ شكٍّ؟
وهل قد رأيتَ الطفولةَ وهي تُربّي الغيابَ
على مَهدِ قنصٍ
وترضعُهُ سيرةَ النارْ؟!
أنا لم أعُدْ غير هذا الرمادِ
الذي يتذكّر وجهَ البلادِ،
أنا لم أعُدْ غير ضلعٍ
تكسّرَ في صرخةِ الانفجارْ،
أنا —
لا أنا.
غريبٌ…
وأعرفُ هذا الضياع،
أمرُّ على الحلمِ مثلَ الغبارْ،
وأعرفُ أنَّ العناوينَ أبواب موتٍ،
وأنَّ الشوارعَ تأكلُ أهلي
وتصمتْ...
أجرُّ خطايَ إلى آخرِ الحرفِ
أكتبُني
ثمَّ أُطفئني في الزحامِ...
تعبتُ من الأمسِ
كيفَ يطاردني؟
من أنا حينَ لا شيء يبقى،
سوى ظلِّ أختي على بابِ بيتٍ تهدّمْ؟
سوى صوتِ أمي
تُخبّئُ في حجرِها قُبلةً للذي لم يعُدْ؟
أنا الآنَ أسكنُ جفنَ الخريطة،
لا وطنٌ يستقيمُ هنا
غيرُ صوتِ الجنودْ،
ولا لغةٌ
غيرُ جوعِ النشيدْ،
ولا عشقَ
إلا لطينِ البيوتِ المهدّمةِ الآنَ
في كلِّ حُلمٍ جديدْ..
غريبٌ،
وكلُّ العواصمِ
تُلقي علينا الخُطبْ،
ومن ثم تنسى وجوهَ الضحايا
وتغلقُ بابَ النشيدْ...
فماذا تبقّى لنا؟
غيرُ هذا الغيابِ، وهذي الشظايا
تقول لنا كلَّ يومٍ:
نجوتمْ… ولكنْ،
بأيّ الحواسِ تعيشون بعدَ الذينَ مضَوا؟
ولا أحدٌ في المدى...
كلُّ ما في الطريقِ شظايا سؤالٍ
يُمزّقُ ظلَّ النهارِ البليدْ،
وتبكي..الخرائطُ تبكي
وتحملُ وجهي إلى حيثُ لا شيء
إلا الزحام
وأصواتُ موتى تُدوِّنُ أسماءَها في الجدارْ...
وقد صار هذا الفضاء ضئيلاً
وأنفاسيَ الآنَ ضيقةٌ مثلَ كفِّ الشهيدْ،
وكلُّ الجهاتِ
تُطلُّ على غرفةٍ في الغيابِ
يُقيمُ بها الليلُ منذُ قرونْ...
أنا لستُ شيئاً سوى لحظةٍ
لم تُفسَّرْ،
تُراوغُ هذا الجنونْ
وتنسى متى ابتدأًتْ
ثمّ تُصبحُ صمتاً كثيفاً
يُفسِّرُ وجهَ السكونْ...
وهذا النزيف هواءٌ
يُحاوِلُ أن يتنفسني ثمّ يخنقُني في الزحامِ،
وحين أُفكِّرُ بالموتِ
أبدو كأني نجوتْ...
وأمشي،
وفي القلبِ حربٌ تُراوِغُ صوتي وتُطفئُ فيّ النشيدَ القديم
وأسأل من أينَ أبدأُ صمتي؟
وكيفَ أُرمِّمُ وجهي المشقّقَ بينَ الرمادِ؟
أنا خائفٌ من نجاتي
كما خفتُ منّي
ومن هذه الأرضِ
حينَ استحالَ الهروبُ إلى مقبرةْ…
وأرى الوقت أضغاث حشرجةٍ في القصيدةِ لا ينتهي...
أخضُّ نجاتي،
وأُسدلُ فوقَ الطريقِ جنوني المؤرَّقَ
مثلَ الوصايا البليدةِ،
أبحثُ عن قبلةٍ
في الجدارِ الملطّخِ بالأمنياتِ،
عن اسمِ شهيدٍ
تسلّقَ روحي وماتَ على صفحة الذكرياتِ…
نجاتي؟
نجاتي دخانٌ
يبلّلُ أطرافَ نافذتي
ثم يمضي
نجاتي؟
وصايا الجنازاتِ في الليلِ
حينَ يموتُ الذين أحبُّ
ويولدُ حزني
من البالِ
حيثُ التراتيلُ
كانتْ
وكانَ السكوتُ نبيّاً…
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟