حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8300 - 2025 / 4 / 2 - 06:28
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
د.حمدي سيد محمد محمود
يمثل مصطلح "ما بعد العلمانية" تحولًا جوهريًا في الفكر الفلسفي الحديث، حيث يعكس مراجعات نقدية لأسس الحداثة التي قامت على افتراض أن العلمنة هي المسار الحتمي للتاريخ الإنساني. نشأ هذا المصطلح في سياق فلسفي معقد، يجمع بين نقد مشروع الحداثة الغربية وإعادة التفكير في مكانة الدين داخل المجال العام، لا باعتباره بقايا مرحلة سابقة، بل كفاعل متجدد يتشابك مع منظومات المعرفة والسلطة والهوية في العالم المعاصر.
يُعَد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس أحد أبرز المنظرين لما بعد العلمانية، حيث رأى أن الحداثة لم تؤدِّ إلى تآكل الدين كما كان متوقعًا، بل إن الدين أعاد تشكيل نفسه بطرق غير متوقعة، مما يفرض على الفلسفة السياسية مراجعة علاقتها به. فبينما كانت العلمنة تفترض إخراج الدين من المجال العام، فإن ما بعد العلمانية تشير إلى الحاجة إلى استيعاب القيم الدينية في الحوارات الديمقراطية المعاصرة، لا باعتبارها بديلاً عن العقلانية الحداثية، بل كشريك في إنتاج المعنى وإثراء النقاش العام.
لكن السؤال الفلسفي الأكثر تعقيدًا هنا يكمن في: هل تعني ما بعد العلمانية استعادةً للدين في صورته التقليدية، أم أنها تشير إلى تحول في فهم الإنسان لنفسه وعلاقته بالمقدس؟ إن الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه يرى أن العلمنة لم تكن مجرد تراجع للدين، بل كانت عملية إعادة تشكيله، حيث لم يختفِ البعد الروحي من حياة الإنسان، بل تحوّل إلى أشكال جديدة من البحث عن المعنى، سواء من خلال الحركات الروحانية الحديثة أو النزعات الأخلاقية التي تبحث عن أساس متجاوز للمصلحة المادية البحتة.
هنا يتقاطع مفهوم ما بعد العلمانية مع أزمة المعنى في الفلسفة الأوروبية الحديثة، حيث إن سقوط السرديات الكبرى، سواء الدينية أو الأيديولوجية، ترك فراغًا وجوديًا، ملأته محاولات متعددة لإعادة تعريف الهوية الإنسانية خارج الأطر التقليدية. في هذا السياق، يمكن فهم ما بعد العلمانية لا بوصفها انحيازًا لعودة الدين بحد ذاته، بل كحالة من الوعي الفلسفي الجديد بأن الإنسان لا يمكن اختزاله في البُعد المادي أو العقلاني الصرف، وأن البحث عن المطلق لا يزال جزءًا أصيلًا من التجربة البشرية.
لكن يبقى التحدي الأساسي الذي تطرحه ما بعد العلمانية هو كيفية التوفيق بين العقلانية النقدية من جهة، والإقرار بأهمية القيم الروحية من جهة أخرى، دون الوقوع في نزعة رجعية تعيد إنتاج استبداد المقدس، أو في تفكيكية مفرطة تلغي إمكانية الوصول إلى أي أساس ثابت للحقيقة. هنا يظهر جذر المشكلة الفلسفية: هل يمكن بناء فضاء عام مشترك يحتضن المختلفين دون الحاجة إلى فرض رؤية أحادية حول العلاقة بين العقل والدين؟
هكذا، نجد أن ما بعد العلمانية ليست مجرد وصف لواقع معاصر، بل هي تحدٍّ فلسفي يفرض علينا إعادة التفكير في أعمق الأسئلة حول المعنى، الحقيقة، والغاية الإنسانية في عالم يتأرجح بين الإرث الديني ومقولات العقل الحديث.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟