فراس هوض
الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 15:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حضارة بلا روح, حضارة مبتورة: الغرب المادي امام الشرق القيمي
فراس عوض
في عالمٍ يركض نحو الحداثة كمن يطارد سرابا في صحراء عطشى، يقف الشرق العربي حاملًا شعلة القيم التي لا تنطفئ، قيمٌ كانت وما زالت صمام الأمان في وجه عاصفة المادية العاتية التي تجتاح الأرض، تقتلع جذور الإنسانية وروحها، وتستبدلها بآلاتٍ لا ترى سوى الربح والخسارة.
تجلى جانب من تلك القيم بأبهى صوره في مواقف المقاومة، حيث ظل العرب عبر تاريخهم يحترمون القواعد الأخلاقية حتى في أحلك الظروف، فلم يكن الأسرى يومًا ضحايا الانتقام، ولم تُهدر كرامة النساء أو الشيوخ، ولم يستهدف المدنيين في الحروب، بل كانت المقاومة دائمًا تُجسد أسمى معاني النبل والرحمة، على عكس ما شهدناه من جرائم الاحتلال الصهيوني، الذي انتهك كل معايير الإنسانية، وتمادى في إذلال الأسرى، واستباحة حرمات النساء، وقتل الأطفال والشيوخ بوحشيةٍ لا تعرف الرحمة وانتهاك حركة المساجد والكنائس والمستسفيات، هذه الفجوة الأخلاقية بين قيمنا الأصيلة وبين ما تمارسه القوى الاستعمارية الحديثة تكشف بوضوح أن التطور الحقيقي لا يُقاس بالقوة العسكرية أو التقدم التكنولوجي فحسب، بل بمدى الحفاظ على القيم التي تصون كرامة الإنسان، وتحفظ للمجتمعات تماسكها وإنسانيتها، وهنا يقف سؤالٌ جوهري: هل يُقاس التطور فقط بالتقدم المادي والتكنولوجي؟ أم أن هناك عنصرًا أعمق، أكثر أصالة، هو ما يمنح المجتمعات استقرارها الحقيقي؟ وغالبا لا يراد له الظهور على السطح من قبل من يملك الإعلام في العالم من قوى الهيمنة! التي لطالما ادعت التقدمية وحفاظها على القيم الانسانية، لكن سرعان ما اخفيت تلك الشعارات البراقة امام سطوة السلطة والمال، فمن يملك المال يملك السلطة ومن يملك السلطة يملك الخطاب ، الذي يصبح مهمين حتى وان كان تلفيقا وكذبا ولا إنسانيا!
ولو تمعنا في مجتمعاتنا العربية، حيث تُبنى العلاقات على قيمٍ راسخة، الأسرة ليست مجرد رابطة قانونية، بل حاضنةٌ دافئةٌ تُشكل هوية الفرد، وتصنع منه إنسانًا يحمل في قلبه التراحم، وفي روحه الإيثار. هناك حيث الجار يعرف جاره، والصغير يُوقر الكبير، والمحتاج لا يُترك وحده في العراء، و تدلل المرأة و تحترم كذات انثوية خالصة، تتجلى القيم في أبهى صورها، ليس كشعاراتٍ جوفاء، بل كأسلوب حياة. هذه القيم ليست رفاهية، بل ضرورةٌ لاستقرار المجتمعات، فمن دونها تُصبح الأسرة هشّة، تنهار أمام أول اختبار، يتفكك النسيج الاجتماعي، وتضيع هوية الإنسان في زحام الفردية المفرطة.
على الجانب الآخر، في الغرب، حيث تطغى التكنولوجيا على كل شيء، يعيش الإنسان غريبًا في مدنٍ صاخبة، لكنه وحيد. الأسرة هناك مجرد ترتيباتٍ مؤقتة، والعلاقات تُبنى على المنفعة، وحين تنتهي المصلحة، يذوب الرابط كما يذوب الثلج في الشمس. المجتمع هناك لا يعرف التراحم كما نعرفه، لا يرى في الآخر أخًا أو سندًا، بل منافسًا في سوقٍ لا يرحم.! والمفارقة أن الغرب، رغم ما حققه من إنجازاتٍ علمية، يعيش أزمةً أخلاقية حقيقية، نسب الاكتئاب في ارتفاع، حالات الانتحار تزداد، العزلة الاجتماعية أصبحت وباءً خفيًا. هذا لأن الإنسان، حين يُفرغ من القيم، يصبح تائهًا، لا يدري لماذا يعيش، ولا يجد من يواسيه حين يسقط وحين نقطه اوصال العلاقات الاجتماعية يصبح مجتمع هش بلا روح او عاطفة ، كما لو كان اشبه بروبوتات بائسة.
لم يكن الغرب حياديًا يومًا في رؤيته للشرق، لقد صنع منظمات و مؤسساتٍ إعلامية، أكاديمية، وثقافية هدفها تشويه صورة الحضارات غير الغربية، وعلى رأسها الحضارة العربية، يُروّج للشرق على أنه متخلف، غارق في الفوضى، لا يملك شيئًا سوى النفط والصراعات، بينما يُصوّر الغرب على أنه المخلص التقدمي، النموذج الأوحد الذي يجب أن يحتذى به. لكن الحقيقة مختلفة، الغرب لم يسعَ فقط للهيمنة الاقتصادية، بل أراد تفكيك قيم المجتمعات الأخرى، أراد أن يجردها من هويتها، أن يحولها إلى نسخٍ باهتةٍ منه، بلا روح، بلا عمق، بلا جذور. ولهذا، نجد أن المؤسسات الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان تتدخل في مجتمعاتنا، ليس بدافع الإصلاح، بل لإعادة تشكيلها وفقًا لمنظورٍ ماديٍ بحت، يتجاهل الخصوصية الثقافية والدينية لهذه المجتمعات، لتحويلها من مجتمع الأسرة الى مجتمع الفرد ، وهل فعلا المجتمع الصحي السوي هو مجتمع الفرد لا الأسرة او الجماعة؟ وهل علميا وقيميا يعتبر الأمر منطقي و واقعي؟ بالطبع لا ولا بأي حال من الاحوال ان بحل مجتمع الافراد.مكان الأسر ، انها مغالطة لا تتوافق مع الانسان بيولوجيا ولا احنماعيا.
هل يمكن أن تكون الحضارة مجرد ناطحات سحابٍ وسياراتٍ ذاتية القيادة؟ هل يُمكن أن يُقاس الإنسان بعدد الأصفار في حساباته البنكية؟ إن التقدم الحقيقي لا يكون بالمادة وحدها، بل بالقيم التي تحفظ إنسانية الإنسان، وتمنحه المعنى،العلم مهم، لكنه ليس كل شيء، ما قيمة المعرفة إن لم تكن في خدمة الخير؟ ما قيمة التكنولوجيا إن لم تكن وسيلةً لتعزيز التراحم والحب؟ الغرب تقدم في المادة، لكنه تراجع في القيم، وحين تنهار القيم، يصبح التطور المادي مجرد قشرةٍ هشة، تنهار عند أول أزمة. وكما أن للغرب مؤسساته التي تُروّج لثقافته، لا بد أن يكون لنا مؤسساتنا التي تحمي قيمنا، التي تُعرّف العالم بأن هناك نموذجًا آخر للحياة، نموذجًا يُوازن بين التقدم المادي والأخلاقي، بين التطور العلمي والانسجام الاجتماعي، بين القوة الاقتصادية والروح الإنسانية. هذه المؤسسات لا بد أن تكون إعلامية، ثقافية، أكاديمية، تُعيد الاعتبار لقيمنا، تُدافع عنها، تُحارب التشويه الذي تتعرض له، وتُظهر للعالم أن هناك طريقًا آخر غير الطريق المادي الأعمى الذي يسير فيه الغرب.
ليست الأمم التي تملك أكبر اقتصادٍ هي التي تبقى، بل الأمم التي تملك أقوى القيم. فالمادة تُبنى، ثم تنهار، لكن القيم حين تكون راسخة، تظل شامخة، تُحفظ في قلوب الناس، تُورّث من جيلٍ إلى جيل، تُشكّل درعًا يحمي المجتمعات من التفكك، من الضياع، من الاغتراب. نحن لسنا ضد التطور، ولا بأي شكل من الأشكال، لكننا نؤمن أن القيم أولًا، ثم العلم، ثم التقدم. لأن العلم بلا قيمٍ قد يبني قنبلةً نووية، والتكنولوجيا بلا أخلاقٍ قد تُحوّل الإنسان إلى ترسٍ في آلة، والمادية بلا روحٍ قد تصنع عالمًا ثريًا، لكنه خاويٌ من الداخل، وانه من غير المنطقي تجاهل القيم امام المادة، وتجاهل الشرق امام الغرب، والسعي لاحلال القيم الغربية بقوة المال و السلاح والاحتلال والاستعمار بانواعه ، نحن أبناء حضارةٍ لا ترى في الحياة سباقًا نحو المال، بل رحلةً نحو المعنى،ولا تزال قيمنا هي المنارة التي تنير لنا الدرب، في زمنٍ تاه فيه الغرب بين ناطحات السحاب، لكنه أضاع الطريق إلى روحه وقلبه و وجدانه.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟