أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - إبرة لخيط الذكريات














المزيد.....

إبرة لخيط الذكريات


سعاد الراعي

الحوار المتمدن-العدد: 8249 - 2025 / 2 / 10 - 00:15
المحور: الادب والفن
    


في لحظة إشراق، استيقظت روحها، لتختلس وقتًا لها من مشاغل الأمومة اليومية، رغبة في استعادة وهج موهبتها الدفينة. كانت الخياطة نغمة قديمة تعزفها أناملها منذ نعومة أظفارها، والآن حان وقت عودتها للرقص على أوتارها. بخيوط من حرير الأحلام وإبرة مغموسة في عطر الطموح، فكرت في خياطة فستان يليق بليلة التخرج المرتقبة.
في أروقة الذاكرة، تتراقص خيوط الماضي، حيث نسجت أنامل الطفولة براعة الخياطة. كانت جارتهم بوابة سحرية إلى عالم يفيض بالجمال والإبداع، حيث كانت تحول الاقمشة الملونة إلى قصائد حية ترتديها الأجساد. كانت عيناها تلتهمان كل حركة وغرزة من انامل جارتها الخياطة، لتثبّت داخل روحها جذور هذا الفن الجميل. وها هي اليوم تستعيد نداوة تلك اللحظات الثمينة.
في لحظة إلهام سامية، انبثق الشغف من أعماق روحها كنبع صافٍ. بعين ثاقبة وقلب خفاق، انتقت قطعة قماش متواضعة الثمن، لكنها غنية بالوعود. كانت ألوانها أشبه بألحان فرح تعزفها أصابع الربيع على أوتار الحياة، ونقوشها حكايات صامتة تروي قصص البساطة المتوهجة بوهج الأناقة.
حين غفا طفلها، مستسلماً لأحلام الطفولة البريئة، جلست في محرابها المتواضع، غرفتها الصغيرة، محولةً ساعات الفراغ إلى ملحمة إبداعية تتحدى الملل وتعانق الشغف. بين يديها، تحولت الإبرة إلى عصا سحرية، والخيط إلى شعاع من نور يرسم على القماش أحلاماً وآمالاً. انكبت متلهفة على تجسيد إرادتها، مستخدمة ولعها كوقود لرحلة الابتكار رغم مواردها البسيطة ومحدودية ظروفها. كانت هذه اللحظة ليست مجرد بداية لصنع ثوب، بل هي ولادة جديدة لذاتها التائهة، التي كادت تذوب تحت أعباء الأيام، وتأكيد لقدرة الروح على الازدهار حتى في أكثر الظروف عناءً.
بدأت تخيط بخطى وئيدة، وكأنها ترمم نسيج حياتها الممزق. كل غرزة كانت وشماً تحاكي غربتها الصامتة، ووحدتها الثقيلة. بأصابعها، كانت تنسج أحلاماً جديدة لمستقبلٍ ضلّ مجهولًا.
وحين اكتمل الفستان، بدا كأنه لوحة نسجتها أنامل الحلم، تفيض رقةً وجمالاً، تحمل في طياتها نبض الروح ودفء الذكريات.
عندما ارتدته لأول مرة، شعرت وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها التي كادت تتلاشى في زحمة المسؤوليات. كان الفستان أكثر من مجرد قطعة قماش، بل هو عمل فني، يعكس بساطتها الممزوجة بحكاية تُروى بلا كلمات، وشهادة على قدرتها بتحويل الخيوط البسيطة إلى تفاصيل نابضة بالحياة، كأنها شهادة على رحلتها العميقة من الوحدة إلى الإبداع، ومن الإرهاق إلى البهجة، ومن عتمة العزلة إلى انعتاق الروح، فكل غرزةٍ فيه كانت نبضاً يعبر عن شغفها، وكل طيّة نسجتها بيدها تؤكد عزيمتها التي لم تدعها تخضع لليأس، بل قاومته بنبض الحلم وإصرار الروح. فهو لم يكن مجرد مظهر خارجي، بل كان انعكاسًا لجمال داخلي وأمل متجدد يرفض أن ينطفئ.
حينما سارت في أروقة الأكاديمية تدفع عربة طفلها، كانت كأنها قصيدة تتجسد أمام الأعين، يتراقص حولها عبق الإبداع وسحر الأناقة. خطواتها هادئة، لكنها تروي قصة نسجتها بخيوط الإصرار والصبر.
كل من رآها بالفستان شعر وكأنه أمام لوحة فنية تتحدث عن خفاياها. عيون الحاضرين كانت تلاحقها بدهشة وإعجاب، وكأنها نجمة في سماء تزداد بريقًا كلما تقدمت. وبين كل تلك النظرات، بدت عينا إحدى الأستاذات، تتألقان بشعورٍ صادق من الانبهار، وتساءلت بلهفة يشوبها الإعجاب: "من صمم هذا الفستان الجميل؟"
وبابتسامة تحمل مزيجًا من التواضع والاعتزاز بعملها، وبصوت هادئ تنساب منه نبرة فخرٍ خجول: اجابت: "لقد صنعته بيدي."
رفعت الأستاذة حاجبيها وسألت مستفسرة: "ودون ماكينة خياطة؟"
أومأت برأسها، قائلة بثقةٍ: "أجل... غرزةً إثر غرزة."
تأملته بإمعان وكأنها تحاول فك شيفرة الإبداع المنغرزة بين ثناياه، ثم سألتها بنبرة يتخللها رجاء خفي: "هل يمكنك أن تخيطي لي مثله؟"
ابتسمت مرة أخرى، مختارة أن تجيبها بعملها، طلبت منها أن تنتظر بضع دقائق. كانت تلك اللحظات تحمل في طياتها أكثر مما يبدو على السطح. لم تكن مجرد دقائق عابرة، بل كانت امتدادًا من الغرز التي خاطتها بحب لرحلة طويلة من العزيمة والكفاح، ومع ذلك، لم ترى في طلب الأستاذة مجرد فرصة لإظهار موهبتها أو تحقيق مكسب مادي، لقد كان شيئًا أعمق من ذلك بكثير.
حين عادت قدمت الفستان هدية، وعلى ثغرها ابتسامة تحكي عن قلب طيب ونفس كريمة. وهي تعلم انها قد تخلت عن ثوبها لحفل التخرج.
**



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة :-لظى في خاصرة الطفولة-
- في حضرة الأم ووداعها.
- بين غربتين
- الخيانة الزوجية: أبعادها، دوافعها، وسبل التعامل معها
- التبني كخيار انساني


المزيد.....




- كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا ...
- إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
- سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال ...
- الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
- من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام ...
- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - إبرة لخيط الذكريات