أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غازي الصوراني - الوضع العربي الراهن وآفاق المستقبل















المزيد.....



الوضع العربي الراهن وآفاق المستقبل


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 1792 - 2007 / 1 / 11 - 11:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمهيد
لعل العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة ، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها ، حيث انتقل النظام العربي بمجمله من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي سابق ، إلى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي كعنوان جديد، بعبارة أخرى لم تعد القضايا العربية القومية عموما ، والقضية الفلسطينية بالذات ، تمثل صراعا مصيريا لا يقبل المصالحة بين طرفيه : الإمبريالية العالمية وإسرائيل من جهة وحركة التحرر الوطني العربية من جهة أخرى ، وتحول التناقض الأساسي إلى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي-الأمريكي-الإسرائيلي ، أوصل معظم بلدان النظام العربي إلى حالة تعبر عن فقدانه لوعيه الوطني وثوابته ومرجعياته سواء بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية الاجتماعية الداخلية أو ما يتعلق بالقضايا الوطنية والقومية .
لقد باتت إشكاليات الواقع العربي العديدة و المتنوعة إشكاليات عميقة ، بسبب اتساع حجم و قوة الضغوط العدوانية الأمريكية/الصهيونية ، التي تحاول تأسيس مقومات مشروع التوسع الامبريالي المعولم ، ببعديه، السياسي والاقتصادي ، الهادف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا العربية وتفكيك كل مقومات النهوض القومي الذاتي في بلدان وطننا العربي، لحساب "المشروع الحضاري الغربي" باسم الليبرالية الجديدة و الخصخصة و السوق الحر و تحرير التجارة و الانفتاح والتطبيع مع العدو الصهيوني.
و لكن رغم إقرارنا بحجم هذه الضغوط الخارجية ، و دورها كتناقض رئيسي ضد مصالحنا الوطنية و القومية ، إلا أن الأوضاع و الضغوط الداخلية العربية تشكل العامل الرئيسي الأول في نجاح أو فشل تلك الضغوط الخارجية فمن غير الممكن تحليل الأوضاع السياسية العربية ، و مسارها ، بمعزل عن مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي الداخلي باعتباره الركيزة الأولى و المدخل الفسيح لخضوع النظام العربي و تبعيته للمراكز الرأسمالية و ضغوطاتها، إذ أن التراكمات البطيئة والمتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي العربي ، و تحولاتها خلال الثلاث عقود الماضية، عبر سيطرة القوى الرأسمالية ، الطفيلية ، و البيروقراطية ، و التجارية ، و العقارية ، و المالية الكبيرة على مجمل البنية الاجتماعية و السياسية العربية في مناخ الاقتصاد الحر و الانفتاح ، أدت إلى تراكم و اتساع التناقضات الداخلية مع الجماهير الشعبية العربية وطموحها للوحدة القومية من جهة ، و إلى تطابق مصالح البنية الطبقية العليا الداخلية الحاكمة ، مع مصالح و شروط المراكز الرأسمالية الخارجية أو العولمة من جهة أخرى .
المسألة الثانية التي تؤكد على أولوية الأوضاع الداخلية العربية كعامل أساسي في تحديد شكل و طبيعة التعامل مع العوامل أو الضغوطات الخارجية ، يمكن إيضاحها عبر تطبيقات شروط العولمة على بلداننا العربية ، التي تتباين أشكال أنظمتها السياسية و دولها بين الدولة القبلية أو المشيخة ، إلى الدولة –العائلة ، إلى نظام الدولة البيروقراطي ، الفردي ، أو الأوتوقراطي ، الأبوي عموماً بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي السائد فيه ، إلا أن مظاهر التفرد و الاستبداد و الفساد و الفقر و الفوضى و عدم الاستقرار تكاد تكون قاسماً مشتركاً من حيث الجوهر ، مع اختلاف درجاتها و أشكالها ونسبيتها في هذه الدولة أو تلك ، ففي مثل هذا المناخ تنمو التراكمات الداخلية التي تصل عند لحظة معينة إلى حدها أو سقفها النهائي الذي يعني القطيعة أو الانفصام بين هذه الدول و شعوبها ، و ما سينتج عن ذلك من شعور عميق لدى الجماهير الشعبية بالخوف من السلطة أو الدولة و العداء السافر أو الكامن ضد ممارساتها ، و هو شعور يعبر عن حاجة هذه الجماهير لمن يحميها من التسلط و الفقر و المرض و البطالة و الحرمان بكل أشكاله من جهة ، و يوفر لها فرصة العمل ، و المسكن و المأكل و العلاج في نظام ديمقراطي تحكمه سيادة القانون و العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، في إطار المشروع القومي التوحيدي العربي .
هذا هو جوهر الإشكالية أو الأزمة السياسية في النظام العربي الراهن ، ببعديهما التحرري على الصعيد الوطني و القومي ، و الديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي المطلبي على الصعيد الداخلي ، اللذان لا يمكن تحققهما بدون توفر النظام السياسي المعبر عن إرادات و تطلعات و مصالح الجماهير الشعبية و يقوم على خدمتها .
و في هذا السياق ، فإن القضية التي يجب أن تستوقف القوى الديمقراطية و التقدمية الساعية إلى عملية التغيير ، تتلخص في السؤال الكبير التالي بدلالاته الخطيرة ، لماذا تميزت هذه القوى بامتلاكها لكثير من عناصر القوة سواء في بنيانها التنظيمي –أحزابها- أو في اتساع الحالة الجماهيرية بهذه النسبة أو تلك من حولها ، في مراحل الأربعينيات و الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، رغم عدم نضوج الظروف الموضوعية آنذاك ؟؟ و كيف تراكمت عوامل الضعف و الانهيار لهذه البنى التقدمية الديمقراطية بكل تنظيماتها في هذه المرحلة ، رغم تراكم و نضج الظروف الموضوعية بصورة لم يشهدها واقعنا السياسي الاجتماعي الاقتصادي العربي من قبل ؟ هذه الإشكالية أو المفارقة ما الذي يمنع أو يحول دون مواجهتها و حلها رغم وعي الجميع من المثقفين الطليعيين العرب بكل ملابسات و مخاطر هذه المرحلة من ناحية، ووعيهم –النظري- بدورهم من ناحية ثانية ؟ خاصة في ضوء فشل النظام العربي في حل الإشكالات أو التناقضات الداخلية أو حل تناقضاته الخارجية مع العدو الصهيوني و النظام الرأسمالي ، إلى جانب فشله في حل إشكالية الثنائية القطرية و القومية و تناقضاتها ، و لم يعد أمامه –كما يبدو بوضوح ساطع اليوم- سوى المزيد من الخضوع لشروط العولمة الجديدة ، على حساب المصالح الوطنية و القومية و على حساب الكثير من مظاهر السيادة الداخلية أيضاً ، و ليس لذلك سوى معنى واحد ، هو بقاء هذا الواقع المهزوم و المأزوم ، بل و استمرار صعود خطه البياني دون أية آفاق بما يعمق حالة الإحباط العام أو الانكفاء أو "الميل نحو الاستسلام" ضمن مناخ عام و أسباب كثيرة موضوعية متعددة الجوانب و المنطلقات ، مفتوحة على كافة الاحتمالات المنذرة بالسوء ، طالما بقيت القوى اليسارية الديمقراطية التغييرية عاجزة عن تأطير نفسها و القيام بدورها وفق رؤية إستراتيجية واضحة ومحددة للمستقبل انطلاقا من وعي الحاضر أو المرحلة التاريخية الراهنة بكل محدداتها وسبل وآليات مجابهتها .


الواقع العربي والمظاهر الرئيسية للأزمة الراهنة
لم يعد ثمة خلاف على أن المتغيرات العالمية ، النوعية المتدفقة ، التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، في السياسة و الاقتصاد و التطور العلمي ، شكلت في مجملها واقعاً تاريخياً معاصراً و رئيسياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة ، في القرن الحادي و العشرين ، لم يعهدها من قبل ، و لم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسارعة أشد الساسة و المفكرين استشرافا أو تشاؤماً و أقربهم إلى صناع القرار ، خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية و منظومة التحرر القومي من جهة ، و الانحسار أو التراجع المريع أيضاً ، و لكن المؤقت للبنية الأيديولوجية أو الفكرية لقوى الاشتراكية و التحرر القومي من جهة أخرى ، الأمر الذي أخل بكل توازنات القوة و المصالح وفق مفاهيم و أسس الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة ، ووفر معظم مقومات بروز الأحادية القطبية أو العولمة ، التي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية التي استطاعت –حتى اللحظة الراهنة- استكمال فرض هيمنتها على مقدرات هذا الكوكب ، بحكم ادعائها أنها المنتصر الوحيد ، و بالتالي صاحبة الحق الرئيسي في رسم و تحديد طبيعة و مسار العلاقات الدولية في المرحلة الجديدة من القرن الحادي و العشرين .

و في ضوء هذه المستجدات و المتغيرات العالمية ، غير الاعتيادية ، بمظاهرها و طبيعتها الأحادية القطبية ، في السيطرة على مقدرات العالم بدواعي القوة و الإكراه ، التي تفتقر –من الناحية الموضوعية- لمقومات الديمومة و الاستمرار ، في هذا المناخ وجدت الإمبريالية الأمريكية فرصتها في التمدد و الهيمنة على كثير من مناطق العالم عموماً ، و على منطقتنا العربية خصوصاً ، لتكريس تبعيتها و تخلفها من جهة ، و إعادة هيكلتها و تكييفها بما يضمن إلحاقها بصورة شبه مطلقة لسياساتها في المنطقة التي تستهدف –بصورة يائسة لا مستقبل لها- تجديد الدور الوظيفي للعدو الصهيوني و دولته بما يتوافق مع مستجدات المصالح الأمريكية المعولمة الراهنة ، بحيث تصبح إسرائيل "دولة مركزية" في المنطقة العربية و الإقليمية يحيطها مجموعات من "دول الأطراف" ، المتكيفة –التابعة مسلوبة الإرادة ، بما يضمن و يسهل عملية "التطبيع" و "الاندماج" الإسرائيلي في المنطقة العربية ، سياسياً و اقتصادياً ، تمهيداً للقضاء على منظومة الأمن القومي العربي كله من جهة و بما يعزز السيطرة العدوانية الإسرائيلية على كل الأراضي الفلسطينية –و العربية- المحتلة أو التحكم في مستقبلها من جهة أخرى .

إلا أن هذه الاستنتاجات –على مرارتها- ترتبط باللحظة الراهنة من المشهد العربي ، و هي لحظة لا تعبر عن الحقائق و مقومات التغيير رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض ، أو القلة المهزومة ، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة ، ان المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن ، يوحي بأن المطلوب قد تحقق ، و أن الإمبريالية الأمريكية و صنيعتها و حليفتها الحركة الصهيونية و إسرائيل ، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية ، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية لهذه الأمة ، في مسارها و تطور حركة جماهيرها الشعبية و تطلعها نحو التحرر و الديمقراطية و التقدم و العدالة الاجتماعية ، لأن هذه الحقائق في تكاملها و ترابطها تمثل المشهد الآخر –النقيض- الذي يقول أن المطلوب أمريكياً و إسرائيلياً لم و لن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار ، لأنه لن يستطيع –مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض و إخضاع شعوب هذه الأمة ، التي صنعت ماضي و حاضر هذه المنطقة ، و ليست جسماً غريباً طارئاً فيها ، و لذلك فإن سكونها الراهن المؤقت هو شكل من أشكال الحركة في داخلها ، يقاوم كل محاولات تطويع إرادتها ، تمهيداً للمشهد القادم ، بعيداً عن السكون ، مشهد الجماهير المنظمة ، أو مشهد ما بعد الأزمة الراهنة الذي سيعيد لهذه الأمة دورها الأصيل في صياغة مستقبل هذه المنطقة .

إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعبنا أو الشعوب العربية كلها –في حسم الصراع العربي الصهيوني بما يحقق أماني و مصالح هذه الأمة ، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان و المكان دوراً رئيسياً و أحادياً فيها ، بل يعني تفعيل و إنضاج عوامل و أدوات التغيير الديمقراطية الحديثة و المعاصرة ، و البحث عن مبرراتها و أسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن ، الذي لم يعد مجدياً لتغييره ، كافة الأدوات و الرؤى و السياسات الرسمية الفلسطينية و العربية الهابطة ، التي تعاطت منذ كامب ديفيد و مدريد و أوسلو ووادي عربة وشرم الشيخ وواي ريفر ولجنة ميتشل ووثيقة جورج تينيت وصولا الى "خارطة الطريق" و "خطة شارون" ، مع حلقات مغلقة ، انتقلنا عبرها إلى مزيد من التفاوض ، و مزيد من المصالح و الصداقات ، و ضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية و القومية ، التي يكاد أن يصبح أمراً طبيعياً بعدها ، أن تتغير الأهداف و جداول الأعمال و المطالب .

في مثل هذا الواقع ، تنضج معطيات و مقدمات عملية التغيير ، بصورة تراكمية ، بطيئة أو متسارعة ، و موضوعية أيضاً ، ليس بالمعنى الذاتي –على أهميته- لهذا الحزب أو ذاك ، و إنما بالمعنى الوطني و القومي العام كآليات أو إرهاصات فكرية تتمحور حول فكرة أو مجموعة أفكار توحيدية تعبر عن تطلعات كل الجماهير الشعبية العربية في التحرر والديمقراطية والانعتاق و الخلاص من كل أشكال المعاناة و الحرمان و الظلم الوطني و الطبقي .

إننا ، حينما نتحدث عن نضوج العوامل الموضوعية ، فإننا نعني بذلك ، و بصورة مباشرة ، هذا المشهد السوداوي الذي تعيشه أمتنا بصورة اكراهية و مؤقتة من جهة ، و الذي أعاق حركة تطور شعوبنا العربية كلها ، و أبقاها أسيرة لأحكام القرن الخامس عشر من جهة أخرى، بعيداً عن المرحلة الجديدة بمتغيراتها الهائلة في القرن الحادي و العشرين الذي نتعاطى معه بمفهوم الوجود في المكان فحسب ،و بعيداً عن أي دور أو تفاعل إيجابي ومؤثر لنا في زمانه و مستجداته ، رغم أن الإمبريالية المعولمة و أداتها الحركة الصهيونية و إسرائيل في بلادنا تضعنا أمام حالة صراع من نوع جديد يستهدف عبر محاولتها اليائسة إلغاء حقوقنا التاريخية وقرارات الشرعية الدولية من ناحية وعبر الخصخصة و اقتصاد السوق و الليبرالية الجديدة ، أو أيديولوجية العولمة من ناحية ثانية ، شطب إمكانية تجدد مشروعنا القومي و إبقاءه مفككاً مشتتاً فاقداً لمقومات التحدي و النهوض .

إن الوضع الراهن ، الذي تعيشه شعوبنا العربية ، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية "سايكس بيكو" وتجزئتها لوطننا العربي عام 1916 ، ووعد بلفور عام 1917 ، والنكبة الأولى لشعبنا الفلسطيني عام 1948 ، ثم انهيار الوحدة العربية بين مصر و سوريا في أيلول 1961 ، و تطورت بعد هزيمة حزيران 1967 ، و تعمقت و امتدت بعد كامب ديفيد 1979 إلى اليوم ، لدرجة أن ربع القرن الأخير وبداية القرن الحادي والعشرين ، حمل معه صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث ، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر و النهوض الوطني و القومي ، تحول هذا الوطن بدوله العديدة و سكانه إلى رقم كبير –يعج بالنزاعات الداخلية و العداء بين دوله- ، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية ، و تحولت معظم أنظمته و حكوماته إلى أدوات للقوى المعادية ، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة و الفعل و المواجهة ، في إطار عام من الخضوع والارتهان والتبعية على تنوع درجاتها و أشكالها السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية والثقافية و السيكولوجية ، في ظروف فقدت فيها القوى و الأحزاب الديمقراطية الوطنية و القومية و اليسارية قدرتها –لأسباب ذاتية و موضوعية- على الحركة و النشاط و النمو ، و تراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها .

و في مقابل هذا التراجع الرسمي العربي الذي يقف سداً مانعاً في وجه تطور و تجدد و صعود المشروع الوطني و القومي في بلدان الوطن العربي كله ، تتجلى هيمنة العدو الصهيوني بصورة غير مسبوقة ، لم يستطع تحقيقها في كل حروبه السابقة مع العرب ، إلى جانب عمليات الترويض الأمريكي للنظام الرسمي العربي ، في السياسة و الاقتصاد و الفكر و الثقافة التي لم تنجح في تغيير الموازين و المعايير العسكرية و السياسية في الصراع العربي –الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب ، بل نجحت في تغيير أسس ما يسمى بعملية التفاوض إلى الدرجة التي يجري التعامل معها الآن على قاعدة أن يعترف العدو الإسرائيلي بحقوقنا و ليس العكس ، كما يتم التعاطي معه اليوم في ظل شروط "خطة شارون" او ما يسمى بالانسحاب من قطاع غزة .

على أي حال ، و مع إدراكنا لطبيعة هذه التراجعات في الوضع العربي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه ، لم تكن معزولة أبداً عما جرى و يجري في العلاقات الدولية المعولمة الراهنة ، إلا أننا ندرك أيضاً أنه لولا هذه التراجعات العربية التي شكلت قاعدة و مناخاً عاماً عبر أدواتها السياسية و شرائحها الاجتماعية و طبقاتها القديمة الجديدة ، لما نجحت العولمة في فرض شروط الاستسلام على بلداننا ، ذلك لأن ظاهرة العولمة إلى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة و تحديات كبرى ، خاصة على بلدان العالم الثالث عموماً و الوطن العربي خصوصاً ، إلا أن هذه الظاهرة تحمل أيضاً كثيراً من الفرص و حوافز الصحوة و النهوض لمن يمتلكون الإرادة ، إذ لا يمكن اختزال العولمة في المخاطر وحدها بعيداً عن فرص النهوض ، كما لا يمكن اختزالها في أنها عولمة التحديات ، أو عولمة الاستسلام ، فكل منهما تمتلك مقوماتها و أدواتها و آلياتها الداخلية . و إذا كان صحيحاً أن العولمة –مهما اشتدت هيمنتها- لا تستطيع بأي حال من الأحوال ، شطب هذا التنوع الحضاري و التاريخي و الثقافي و السياسي بين الأمم و القوميات ، فإن ذلك لا يعني الصمت أو الركون و الاطمئنان ، لأن الصراع المستمر و الحركة الصاعدة في إطاره ، يشكلان القاعدة الأساسية التي تحكم التكتلات الدولية اليوم أكبر بما لا يقاس مما كانت عليه في السابق ، لذلك فإن عدم دخولنا –كعرب- إلى حلبة الصراع متسلحين بالرؤية أو الهدف القومي الوحدوي ، و بالخطط اللازمة لتحقيقه و توفير مقوماتها و آليات تنفيذها ، سيعني مزيداً من التبعية و القهر لشعوبنا ، و مزيداً من التراجع لبلداننا على هامش التاريخ أو خارجه لا فرق .

في ضوء ما تقدم ، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل و تجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق ، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث وضرورات تطوره المستقبلي من جهة ، و بوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى ، على أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض ، و القيام بوظيفتها و مهماتها التاريخية فلا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية التالية :-
1.أن تكون رؤية وحدوية تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية ، و تعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي و الإنساني العام .
2.أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة الأوروبية ، و ما تضمنته من عقلانية علمية و روح نقدية إبداعية و استكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية و الديمقراطية ، و إدراك واضح لموضوعية الوجود المادي و الوجود الاجتماعي ، و ما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية و سعيها إلى الحركة و التغيير انطلاقاً من أن الإنسان هو صانع التاريخ و القادر على الابتكار و التغيير في حاضره و مستقبله .
3.أن تعتمد الأيديولوجية الماركسية اللينينية بمضمونها ومنهجها العلمي ووعيها وإدراكها ، كركيزة أساسية و قاعدة و منطلقاً للرؤية القومية العربية الجديدة ، بشرط تطوير هذا الوعي وتطبيقه على واقعنا بصورة معاصرة و متجددة ، بما يؤدي إلى وضوح العلاقة الجدلية بين خصائص و مكونات واقعنا العربي بكل تفاصيله من جهة ، و قوانين و منهجية الاشتراكية العلمية و نظريتها المادية الجدلية التاريخية ، كمرشد و دليل في عملية تغيير هذا الواقع و تجاوزه من جهة أخرى. إذ أن هذه العلاقة تمثل الشرط الوحيد لإعادة استنهاض حركة التحرر القومي العربي في زمن الصراع المعولم الذي نعيشه الآن ، ذلك أن عملية التحرر القومي كضرورة تاريخية لمجابهة تناقضات المجتمع العربي الحديث ، لا يمكن تحققها أو ممارسة دورها كنقيض للواقع القائم ، بدون الاشتراكية و برنامجها السياسي الاجتماعي و الاقتصادي ، كضرورة تاريخية أيضاً لعملية التحرر القومي ذاتها ، إذ أن جوهر تناقضاتنا الرئيسة مع الحركة الصهيونية و قوى العولمة الإمبريالية و توابعها المحلية يقوم على الصراع من اجل استرداد الأرض و الموارد و الثروات المادية والبشرية العربية لإلغاء حالة النهب و الاستلاب و الارتهان و الاستغلال التي تعيشها شعوبنا العربية اليوم ، و بالتالي فإننا نؤكد أن حل هذا الصراع لتحرير الأرض و الثروات و الموارد العربية لا يمكن تحقيقه بدون إنضاج الوعي الاشتراكي و برامجه التطبيقية الكفيلة بتغيير بنية العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية التابعة والمتخلفة و المشوهة الحالية ، إلى بنية إنتاجية تنموية حضارية شاملة تضمن توليد علاقات اجتماعية ذات طابع جماعي تعاوني ، يؤكد في جوهره على حق جماهيرنا الشعبية في ملكية هذه الثروات و الموارد عبر مؤسساتها الديمقراطية التي ترى في الحوافز الفردية و الدافعية الذاتية شرطاً للإبداع و البناء و ضمانة للتطور المتجدد و الاستمرار .

إن هذه العلاقة الثنائية الجدلية بين الرؤية القومية و أيديولوجية الاشتراكية العلمية ، و تطابقهما معاً في النظرية و الممارسة بأدوات أو آليات تنسجم مع روح هذا العصر و متطلباته ، هي الصيغة أو المنظومة الفكرية التي نعتقد أنها تشكل المدخل النظري الذي ندعو إلى الحوار العميق فيه من أجل بلورة أسسه و آلياته الفكرية أو المعرفية تمهيداً للوصول إلى آلياته الحركية ، أو مقوماته و أدواته التغييرية الديمقراطية المنظمة ، بصورة عصرية تتوافق مع طبيعة التحولات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، التي نتطلع إليها ، في سياق نضالنا من أجل التحرر الوطني والقومي و التقدم الاجتماعي و مواجهة تحديات العولمة و المشروع الصهيوني و اشتراطاتهما المذلة .إذ لا يعقل أن نستمر في التعامل مع الفكرة القومية من منطلق أزليتها أو خلودها ، و هي ليست كذلك ، أو الركون إلى مكوناتها الأساسية ، اللغة ، و الجغرافيا أو الأرض ، والتاريخ والثقافة والتراث . فبالرغم من أهمية هذه العوامل كمنطلقات أولية و أساسية للفكر القومي العربي إلا أنها تظل عاجزة وحدها عن التفاعل أو التكيف الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية و العالمية المعاصرة نظراً لتعدد خصوصياتها القطرية وألوانها رغم تشابكها في لوحة تاريخية وجغرافية متصلة ، مما يجعلها –وفي الظروف الراهنة بالذات- فاقدة بآلياتها الذاتية المجردة ، القدرة على إنتاج الوعي القومي الاستنهاضي ، أو الفكرة التوحيدية الناظمة للجماهير الشعبية والمعبرة عن مصالحها ، و من هنا تتجلى الأهمية و الضرورة معاً للمحتوى الاقتصادي الاجتماعي التقدمي القادر على إنتاج الآليات النقيضة التي يمكن أن تتجاوز هذا الواقع المجزأ ، التابع ، المتخلف ، المشوه من جهة ، وادواته المتعددة القبلية، الكومبرادورية ،والطفيلية، والبيروقراطية الأحادية المستبدة ، من جهة أخرى .

إن هذه الحالة من السكون الظاهري أو الكمون العربي ، في مناخ تترعرع فيه كل عوامل الإحباط ، تجعل من الحديث عن المبادرة لانتاج و بناء منظومة معرفية قومية تقدمية ديمقراطية ، تتناسب مع روح هذا العصر و مقتضياته ، ضرورة تاريخية استثنائية ملحة تعمل على نقل الواقع الشعبي العربي من حالة السكون أو الركود الراهنة إلى حالة الحركة و التجدد ، يقع عبئ صياغتها و تبنيها و تحمل مسؤولية فعلها و حركتها على عاتق المثقف العربي الديمقراطي التقدمي الملتزم كخطوة أولية ، لإعادة تكريس الوعي القومي بمضامينه و آلياته الحديثة و المعاصرة في التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كأفكار توحيدية للجماهير ، تشكل المحتوى الحقيقي للواجهة العربية الخارجية المتمثلة في اللغة و الأرض و التاريخ و الثقافة ، بمثل ما تشكل أيضاً ، الأساس المادي للمشروع القومي الديمقراطي في الحاضر و المستقبل ، الذي يضمن كسر حلقات التخلف و التبعية و الإلحاق و التجزئة ، و يختصر الطريق الى المعرفة العلمية و الحداثة من جهة ، و صياغة المشروع التنموي الاقتصادي المستند الى مبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات بآفاقه الاشتراكية من جهة أخرى .

إننا ندرك حجم العقبات أو العوامل الموضوعية و الذاتية التي تشكل تحدياً حقيقياً في وجه تجدد المشروع القومي العربي ، الذي حمل –كما أشرنا من قبل- صوراً من التراجع تخطت كثيراً من الثوابت و الحدود و الموانع ، و ما زال رسمها البياني متجهاً في حركته نحو مزيد من التراجع و الهبوط حتى اللحظة ، لم يصب بالضرر الجوانب السياسية الاجتماعية والاقتصادية فحسب ، و إنما أصاب أيضاً الأسس الفكرية أو المفاهيم العامة التي ارتبطت تاريخياً بحقيقة الوعي بمفهوم الأمة العربية ، و مفهوم الوطن العربي مما دفع بقسطنطين زريق –أحد أهم رواد الفكر القومي العربي الحديث- إلى الإقرار بهذا التراجع في كتابه "ما العمل" –الصادر عام 1998- بقوله "عليَّ شخصياً أن أعترف أنني كنت في الماضي أتكلم و أكتب عن الأمة العربية ، فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش" و لجأ –حتى وفاته في صيف عام 2000-إلى استخدام تعبير "المجتمع العربي" بدلاً من "الوطن العربي" الذي لم يتطور بعد ليصبح وطناً عربياً لأمة عربية ، و لم يكن ذلك موقفاً يائساً من مفكرنا الراحل ، بقدر ما كان تعبيراً عن قلقه على مستقبل هذه الأمة ، و عن ضرورات خلق عوامل التحدي الدائم لمواجهة كل أشكال حياتها و ظروفها المعقدة الراهنة ، لتطوير مفهوم القومية العربية و إخراجه من سياقه الرومانسي المألوف أو المتحجر إلى رحاب الواقعية العقلانية الحديثة ، فالقومية الحقة –كما يراها قسطنطين زريق- ليست دعوة سياسية فحسب ، إنما هي حركة علمانية شاملة لحياة الشعب ، تعمل على مواجهة العوامل الرئيسية في أزمة المجتمع العربي حاليا ، والتي لخصها فيما يلي :-
-غياب الشعوب عن المسرح العربي .
-غياب القضايا الكبرى في المجتمع العربي ، وهي الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص .
-غياب العقلانية والنهج العلمي في فهم المشكلات وحلها .
-غياب القيم الاجتماعية الإيجابية ، وانتفاء اعتمادها في السلوك العام والخاص .
-هذه العوامل نتج عنها غياب القدرة –في المجتمع العربي- على التحصن في وجه الانحرافات والمفاسد الداخلية أو في وجه العدوان الخارجي .

لذلك ، فإن حديثنا عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية تقدمية معاصرة ، عبر رؤية وممارسة جديدتين ، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي ، لاعتبارين هامين ، أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية. وثانيهما: أن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي ، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها ، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة ، والتسارع غير العادي ، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي ، الى جانب وضوح وتعمق تبعية "البورجوازية" العربية للمركز الرأسمالي المعولم ، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا ، كل ذلك يجعل من المثقف العربي ، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلا مؤقتا ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي ، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم المشروع النهضوي القومي ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية .

إننا لا نزعم أننا ننفرد بالدعوة الى إعادة تجديد وتفعيل الفكر القومي ومشروعه النهضوي في بلادنا ، ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من القوى والأحزاب والمفكرين والمثقفين في إطار اليسار الديمقراطي على مساحة الوطن العربي كله ، وهي أيضا ليست دعوة الى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة التي تتبدى في العديد من المظاهر والمؤشرات :-
- أولا : مظاهر الأزمة على الصعيد السياسي :-
- ثانيا : مظاهر الأزمة على الصعيد الاقتصادي :-
- ثالثا : مظاهر الأزمة على الصعيد الاجتماعي :-

أولا : المظهر السياسي للأزمة :-
لعل أبرز المتغيرات الدولية المعاصرة أو العوامل الخارجية ، التي دفعت بالبلدان العربية نحو المزيد من التداعي والتراجع ، تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي ، والهجوم الإمبريالي ضد العراق واحتلاله ، وولادة "مشاريع التسوية العربية-الإسرائيلية" وما رافق ذلك من أفكار إسرائيلية-أمريكية حول ما يسمى بالنظام الشرق أوسطي الجديد .

والمعروف أن هذه المتغيرات لم تكن قادرة على التأثير ، بدون استكمال عوامل التبعية والخضوع والتراجع الداخلي في مجمل النظام العربي ، وتراكماتها وتحولاتها النوعية السالبة التي تفاقمت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ، كان من أهم نتائجها ، هذه التحولات الخطيرة في الاستراتيجية السياسية العربية نحو مسار نقيض كما نشهد اليوم في منتصف العقد الاول من القرن الحادي والعشرين ، فبعد أن كان جوهر الاستراتيجية السياسية العربية وقواعدها –للأنظمة الوطنية- في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، يرتكز على التناقض الأساسي التناحري مع النظام الإمبريالي وركيزته الحركة الصهيونية وإسرائيل ، كتناقض أو صراع وجودي وتاريخي وحضاري شامل ، تحول منذ اتفاقية كامب ديفيد 1979 الى شكل آخر يقوم على الاعتراف بإسرائيل ووجودها كدولة مشروعة في المنطقة العربية بدون شرط إقرارها المسبق بالحقوق السيادية للشعب الفلسطيني على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ، المحتلة عام 1967 وكذلك الأمر بالنسبة للأراضي السورية المحتلة في الجولان ، ومنطقة شبعا اللبنانية ، وفق ما عرف بمبدأ "الأرض مقابل السلام" ، ولكن استمرار تراكم الأزمة الداخلية وتبعية و إلحاق النظام العربي بالنظام الدولي "الجديد" ، رغم اتفاقات أوسلو ووادي عربة وما تلاهما من اعترافات وتطبيع ، أفرز حالة من العجز ، بحيث بات النظام العربي غير قادر على المطالبة بتطبيق مبدأ "الأرض مقابل السلام" ناهيك عن قرارات الشرعية الدولية في حدودها الدنيا المتمثلة بقرارات 242 و 338 و194 ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل بات النظام العربي فاقدا للقدرة على مجرد رفض المشاريع الأمريكية-الإسرائيلية ، كما جرى في قبوله لخارطة الطريق و "خطة شارون" واستمرار اقامة الجدار والتوسع الصهيوني في الضفة الفلسطينية ، بما يشير الى أن الحالة العربية الرسمية الراهنة بمجملها أصبحت تستجدي الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية من واشنطن وتل أبيب رغم إدراكها باستحالة تحقيق ذلك الاعتراف خاصة بعد أن تم تكييف و إعادة هيكلة النظام العربي وفق شروط النظام الرأسمالي ، بحيث أصبحت أوضاعه الداخلية كلها رهينة للمقرر الخارجي ، الامريكي/الصهيوني ، وأدواته المتمثله في الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية وشروطها السياسية والاقتصادية .

في ضوء ما تقدم فإن العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة ، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها ، حيث انتقل النظام العربي بمجمله من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي سابق ، الى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي كعنوان جديد منذ نهاية القرن العشرين إلى اليوم ، بعبارة أخرى لم تعد القضايا العربية الداخلية والخارجية عموما ، والقضية الفلسطينية بالذات ، تمثل صراعا مصيريا لا يقبل المصالحة بين طرفيه : الإمبريالية العالمية وإسرائيل من جهة وحركة التحرر الوطني العربية من جهة أخرى ، وتحول التناقض الأساسي الى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي-الأمريكي-الإسرائيلي ، أوصل النظام العربي الى حالة تكاد تعبر عن فقدانه لوعيه الوطني وثوابته ومرجعياته سواء بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية الاجتماعية الداخلية أو ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والحقوق التاريخية أو قرارات الشرعية الدولية ، ولم يكن غريبا في مثل هذه الحالة من التراجع والانكسار ، بروز التناقضات الرئيسة والثانوية الداخلية في إطار التحولات العالمية الجديدة أو العولمة ، لتبدأ دورتها في تفتيت الكيانات العربية ، في السودان بين الشمال والجنوب ، وفي الجزائر بين البربر والعرب من جهة ، وتنامي الحركات السياسية الدينية من جهة أخرى ، وفي مصر عبر محاولات بث الانقسام والفرقة بين أبناء الشعب الواحد من مسلمين وأقباط ، و الانحراف بالصراعات الداخلية من طابعها السياسي الديمقراطي الاجتماعي في إطار الوطن الواحد الى طابعها الديني الشوفيني المتعصب الذي تقوده أيضاً الحركات الدينية الأصولية بمختلف أنواعها و ارتباطاتها ، ثم محاولات خلق عوامل الفرقة و العداء بين سوريا و لبنان التي تقودها الحركات الشوفينية الانعزالية ، و استمرار احتلال العراق والسيطرة على ثرواته النفطية ومقدراته ، إلى جانب المحاولات الجارية لتفكيكه إلى طوائف او دويلات شيعية وسنية وكردية .

لقد باتت إشكاليات الواقع العربي العديدة و المتنوعة إشكاليات عميقة ، بسبب اتساع حجم و قوة الضغوط الخارجية ، التي تحاول تأسيس مقومات المشروع الإمبريالي ، السياسي ، الاقتصادي ، الهادف الى تفكيك كل مقومات النهوض القومي الذاتي في البلدان العربية ، لحساب "المشروع الحضاري الغربي" باسم الليبرالية الجديدة و الخصخصة و السوق الحر و تحرير التجارة و الانفتاح .

و لكن رغم إقرارنا بحجم هذه الضغوط الخارجية ، و دورها كتناقض رئيسي ضد مصالحنا الوطنية و القومية ، إلا أن الأوضاع و الضغوط الداخلية العربية تشكل العامل الرئيسي الأول في نجاح أو فشل تلك الضغوط الخارجية ، فمن غير الممكن تحليل الأوضاع السياسية العربية ، و مسارها ، بمعزل عن مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي الداخلي باعتباره الركيزة الأولى و المدخل الفسيح لخضوع النظام العربي و تبعيته للمراكز الرأسمالية و ضغوطاتها الخارجية ، إذ أن التراكمات البطيئة و المتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي العربي ، و تحولاتها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، عبر سيطرة القوى الرأسمالية ، الطفيلية ، و البيروقراطية ، و التجارية ، و العقارية ، و المالية الكبيرة على مجمل البنية الاجتماعية و السياسية العربية في مناخ الاقتصاد الحر و الانفتاح ، أدت إلى تراكم و اتساع التناقضات الداخلية مع الجماهير الشعبية من جهة ، و إلى تطابق مصالح البنية الطبقية العليا الداخلية الحاكمة ، مع مصالح و شروط المراكز الرأسمالية الخارجية أو العولمة من جهة أخرى .

المسألة الثانية التي تؤكد على أولوية الأوضاع الداخلية العربية كعامل أساسي في تحديد شكل و طبيعة التعامل مع العوامل أو الضغوطات الخارجية ، يمكن إيضاحها عبر تطبيقات شروط العولمة على بلداننا العربية ، بكل صورها السياسية و المجتمعية و الاقتصادية التي لم تواجه أية عقبات أو صعوبات تعترض طريقها بحكم طبيعة و مكونات البنية الطبقية و السياسية الحاكمة في هذه البلدان التي تتباين أشكال أنظمتها السياسية و دولها بين الدولة القبلية أو المشيخة ، إلى الدولة –العائلة ، إلى نظام الدولة المحكوم كليا للمحتل الامريكي كما في العراق وغيره من دويلات الخليج ، إلى نظام الدولة البيروقراطي ، الفردي ، أو الأوتوقراطي ، الأبوي عموماً بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي السائد فيه ، إلا أن مظاهر التفرد و الاستبداد و الفساد و الفقر و الفوضى و عدم الاستقرار تكاد تكون قاسماً مشتركاً من حيث الجوهر ، مع اختلاف درجاتها و أشكالها و نسبيتها في هذه الدولة أو تلك ، نلاحظ ذلك بوضوح في غياب التوازن بين الانفتاح و السوق الحر و حرية المنافسة و الخصخصة من جهة ، و بين ما تتطلبه هذه الآليات من حريات أو تعددية سياسية أو ديمقراطية أحادية ، بما يعني استمرار هيمنة الدولة بكل أشكالها و مظاهرها القديمة و الحديثة ، و تمسكها بتطبيق مبدأ التعامل مع السلطة كمصدر للثروة ، في خدمة البنية الطبقية الفوقية أو الشرائح الاجتماعية العليا ، القديمة و المستحدثة التي تفرض على شعوبنا –عبر أجهزتها و مؤسساتها الإكراهية المتنوعة- أن تتحول إلى "خادم" للسلطة أو الدولة بدلاً من أن تكون هذه الأخيرة هي الخادمة لمصالح شعوبها ، و في هذه العلاقة يتجلى دور الدولة أو النظام أو السلطة كعامل داخلي متحكم في صياغة شكل العلاقة مع العوامل الخارجية ، حيث يتغيب الجزء الثاني من معادلة العولمة أو مفاهيم الليبرالية الجديدة والتعددية السياسية عند تطبيقها في بلادنا دون أن يعني ذلك أن الدولة في بلادنا تتخذ مساراً نقيضاً لشروط هذه العولمة ، بل بالعكس ، الموافقة عليها و الخضوع و التماهي مع شروطها ، الأمر الذي سيتطلب المزيد من الإجراءات و الوسائل الإكراهية في مواجهة القوى السياسية المعبرة عن مصالح الجماهير الشعبية، و ردود أفعالها المحتملة ضد سياسات التوافق و الانسجام مع النظام الإمبريالي المعولم و ما يتطلبه ذلك من التطبيع مع العدو الصهيوني من جهة ، و للخلاص من مظاهر الحرمان و المعاناة الناتجة عن تزايد مساحات الإفقار و البطالة من جهة أخرى ، ففي مثل هذا المناخ تنمو التراكمات الداخلية التي تصل عند لحظة معينة إلى حدها أو سقفها النهائي الذي يعني القطيعة أو الانفصام بين هذه الدول و شعوبها ، و ما سينتج عن ذلك من شعور عميق لدى الجماهير الشعبية بالخوف من السلطة أو الدولة و العداء السافر أو الكامن ضد ممارساتها ، و هو شعور يعبر عن حاجة هذه الجماهير لمن يحميها من التسلط و الفقر و المرض و البطالة و الحرمان بكل أشكاله من جهة ، و يوفر لها فرصة العمل ، و المسكن و المأكل و العلاج في نظام ديمقراطي تحكمه سيادة القانون و العدالة الاجتماعية من جهة أخرى .
هذا هو جوهر الإشكالية أو الأزمة السياسية في النظام العربي الراهن ، ببعديهما التحرري على الصعيد الوطني و القومي ، و الديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي المطلبي على الصعيد الداخلي ، اللذان لا يمكن تحققهما بدون توفر النظام السياسي المعبر عن ارادات و تطلعات و مصالح الجماهير الشعبية و يقوم على خدمتها .

و في هذا السياق ، فإن القضية التي يجب أن تستوقف القوى الديمقراطية و التقدمية الساعية إلى عملية التغيير ، تتلخص في السؤال الكبير التالي بدلالاته الخطيرة ، لماذا تميزت هذه القوى بامتلاكها لكثير من عناصر القوة سواء في بنيانها التنظيمي –أحزابها- أو في اتساع الحالة الجماهيرية بهذه النسبة أو تلك من حولها ، في مراحل الأربعينيات و الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، رغم عدم نضوج الظروف الموضوعية آنذاك ؟؟ و كيف تراكمت عوامل الضعف و الانهيار لهذه البنى التقدمية الديمقراطية بكل تنظيماتها في هذه المرحلة ، رغم تراكم و نضج الظروف الموضوعية بصورة لم يشهدها واقعنا السياسي الاجتماعي الاقتصادي العربي من قبل ؟ هذه الإشكالية أو المفارقة ما الذي يمنع أو يحول دون مواجهتها و حلها رغم وعي الجميع من المثقفين الطليعيين العرب بكل ملابسات و مخاطر هذه المرحلة من ناحية ووعيهم –النظري- بدورهم من ناحية ثانية ؟ خاصة في ضوء فشل النظام العربي في حل الاشكالات أو التناقضات الداخلية أو حل تناقضاته الخارجية مع العدو الصهيوني و النظام الرأسمالي ، إلى جانب فشله في حل إشكالية الثنائية القطرية و القومية و تناقضاتها ، و لم يعد أمامه –كما يبدو- سوى المزيد من الخضوع لشروط العولمة الجديدة ، على حساب المصالح الوطنية و القومية و على حساب الكثير من مظاهر السيادة الداخلية أيضاً ، و ليس لذلك سوى معنى واحد ، هو بقاء هذا الواقع المهزوم و المأزوم ، بل و استمرار صعود خطه البياني دون أية آفاق بما يعمق حالة الإحباط العام أو الانكفاء أو "الميل نحو الاستسلام" ضمن مناخ عام و أسباب كثيرة موضوعية متعددة الجوانب و المنطلقات ، مفتوحة على كافة الاحتمالات المنذرة بالسوء ، طالما بقيت القوى الديمقراطية التغييرية عاجزة عن تأطير نفسها و القيام بدورها .
ثانياً : المظهر الاقتصادي للأزمة :-
ويتجلى في فشل السياسات الليبرالية الاقتصادية التي صاغها الصندوق والبنك الدوليين في ثمانينيات القرن الماضي ، والتي عرفت باسم برامج التثبيت والتكيف الهيكلي أو ما يسمى ببرامج التصحيح ، ولم يكن هذا الفشل مفاجئا للعديد من خبراء الاقتصاد في العالم الثالث ، بسبب أن هذه البرامج أو التوجهات الليبرالية الجديدة التي انساقت لتطبيقها غالبية دول العالم الثالث ، طمست أو غيبت بشكل مرسوم ومتعمد ، كل مصطلحات "التنمية" و"التحرر الاقتصادي" و"التقدم الاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية" ، التي كادت أمام هذا الزحف الكاسح لمصطلح "برامج التصحيح والتكيف" التي رأى فيها المفكر الراحل د.رمزي زكي "أول مشروع أممي تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من موقع ضعيف وإخضاعها لمقتضيات عودة الحيوية لتراكم رأس المال في المتروبلات (البلدان) الصناعية ، عن طريق ما توفره من آليات وشروط جديدة لنهب موارد هذه البلاد" .

والآن ، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على استجابة بلدان العالم الثالث ، ومعظم بلدان الوطن العربي ، في تطبيق السياسات ، تحصد هذه البلدان ، مع بداية القرن الحادي والعشرين ، النتائج الوخيمة التي لم تتوقف عند العجز عن مواجهة تحديات التنمية فحسب ، بل أدت الى تفاقم المديونية الخارجية والداخلية ، وعجز بعض الدول عن سداد فوائد هذه الديون الى البنك الدولي صاحب تلك السياسات والبرامج ، كما أدت أيضا الى تباطؤ وتراجع حركة النمو الاقتصادي ، وتزايد حالات الفشل والانكسارات في مسيرة الاقتصاد الوطني ، وأوقعت الاقتصاد والمجتمع في مآزق عديدة كما يؤكد الخبير الاقتصادي د.إبراهيم العيسوي :-
المأزق الأول : تخلت الحكومات عن مسئوليات التنمية ، لحساب القطاع الخاص –حسب شروط الصندوق والبنك الدوليين- الذي أثبت عجزه وعدم قدرته على سد الفراغ التنموي ، وذلك في تقديرنا أمر طبيعي حيث أن الهدف الوحيد للقطاع الخاص هو الربح فقط .
المأزق الثاني : العجز عن زيادة الادخار المحلي ، والفشل في اجتذاب الاستثمار الأجنبي .
المأزق الثالث : العجز عن التصدير ، مع فتح الباب لتسرب الموارد على نطاق واسع من خلال الاستيراد وخروج رؤوس الأموال .
المأزق الرابع : بالرغم من تراجع دور الحكومات –حسب شروط برامج التكيف- فقد عجزت عن تدبير الموارد لتمويل الإنفاق العام المحدود ، بسبب غياب الإيرادات التي توقعها أو افترضها الصندوق والبنك الدوليين .
المأزق الخامس: التغني أو المباهاة بالحديث المجرد فقط عن ما يسمى بالتنمية البشرية ، وهو مصطلح أو شعار من إنتاج خبراء البنك الدولي ، لم يحقق سوى الأوهام والمزيد من الفشل والعجز في إصلاح نظم التعليم والصحة ، الى جانب العجز الذي أصبح مزمنا بسبب هذه السياسات ، في محاصرة تزايد الفقر والتفاوت المريع في توزيع الدخل والثروة .
المأزق السادس: بسبب هذه السياسات ، فقد تم تهميش دور التخطيط بعد أن أصبح دور الحكومات مقتصرا فقط على الإشراف أو التوجيه عن بعد ، وبالتالي غابت الأدوات الفعالة لتنفيذ الخطط التنموية وغيرها .
المأزق السابع : ثبت بالملموس ، أن الانفراج السياسي أو الديمقراطية الليبرالية وتطبيقاتها حسب توجيهات الصندوق والبنك الدوليين ، لم يكن سوى عملية مدروسة استهدفت تآكل القاعدة الاجتماعية للديمقراطية ، ونقصد بذلك الجماهير الشعبية الفقيرة ، بعد أن تعرضت لمزيد من التهميش والإفقار والمعاناة والحرمان بكل صورهما ، في مقابل فتح الباب على الغارب لسيطرة رأس المال الطفيلي البيروقراطي والكومبرادوري والشركات والوكالات الأجنبية على الحكم ومؤسساته والتحكم بقراراته السياسية الخارجية والداخلية .
إن هذه المآزق ، وغيرها الكثير من الأمثلة الفاضحة ،التي تشير بوضوح صارخ على حجم التراجعات والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية ، التي أودت بجماهيرنا الشعبية العربية الى أشكال من الفقر والمعاناة والذل لم تعرفها من قبل ، عدا عما أوقعته هذه التطبيقات ، في بلادنا العربية ، وبلدان العالم الثالث من أزمات عميقة ، كشفت عمق التناقضات الجسيمة في بنية هذه السياسات الليبرالية الاقتصادية وأساليبها الهادفة الى إضعاف دور الدولة وإلغاء الدعم المقدم منها للسلع الأساسية ، وإلغاء القطاع العام ، والتقليل المستمر للفائض الاقتصادي الذي تملكه الدولة ونقله للقطاع الخاص المحلي والأجنبي في إطار الانفتاح الليبرالي والخصخصة وآليات السوق الحر .

وبالرغم من ذلك ، فقد تبين بوضوح ، حجم الخسائر والانهيارات التي أصابت الاقتصاد الوطني في بلادنا وبلدان العالم الثالث ، والتي تركت آثارها التدميرية على القطاعات المتوسطة والفئات الفقيرة والكادحة بالذات ، وكشفت أيضا فقدان هذه الليبرالية الاقتصادية لمصداقيتها المزعومة ، عبر نتائجها وآثارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية :-
1-إضعاف قوة الدولة –في البلدان العربية والعالم الثالث- وإبعادها عن أية مشاريع تهدف الى التحرر من التبعية والاعتماد على الذات من جهة ، وإلغاء القطاعات الاقتصادية والاجتماعية فيها ، وقد كان إضعاف دور الدولة هو المدخل الأساسي لإعادة دمج الاقتصاد المحلي في السوق الرأسمالي المعولم .
2-لقد ثبت –كما توقع المفكر الراحل رمزي زكي- أن إضعاف قوة الدولة ، بإبعادها عن التدخل في النشاط الاقتصادي ، والاعتماد على آليات السوق المشوهة ، وخفض إنفاقها العام الجاري والاستثماري ، أدى –كما نلاحظ اليوم- الى إضعاف رأس المال المحلي ، بحيث يكون هذا الأخير عرضة للابتلاع من جانب رأس المال الأجنبي المعولم ، وإزاء ذلك يلجأ رأس المال الخاص المحلي الى الخارج أو العمل كشريك تابع أو ممثل للشركات الأجنبية طالما هناك ضمانة لتحقيق مزيد من الأرباح .
3-إن الليبرالية الاقتصادية التي طبقت في بلادنا وفق سياسات التكيف والخصخصة ، لم ترتبط بالديمقراطية كما حصل في الغرب الرأسمالي ، بل ارتبطت بالدكتاتوريات على تنوع أشكالها وأنظمتها وحافظت على بقائها .
وفي هذا السياق فإننا
ننطلق من فرضية أن تطبيق الديمقراطية بصورة حقيقية ومتكاملة في بلادنا يتناقض تناقضا جذريا مع مصالح العولمة والنظام الرأسمالي ، ذلك أن التطبيق الفعال للديمقراطية في أوساط الجماهير الشعبية ، سيدفع ببلداننا نحو الخلاص والانعتاق من أسر التبعية والتخلف والفقر وكل شرور الرأسمالية ، والتوجه الجاد نحو تقديم البديل الشعبي ، بديل التنمية المستقلة المعتمدة على الذات العربية ، والقائمة على أسس المشاركة الشعبية الواسعة . وبالتالي فإن الادعاء بأن سياسات الليبرالية الاقتصادية والتكيف والخصخصة ، تهدف الى توسيع الهامش الديمقراطي ليس سوى كذبة رخيصة وتلفيق لحقائق الحياة والتطور المعاصرة ، إذ أنها لا تستهدف سوى تحقيق مصالح القطاع الخاص عموما والشرائح الرأسمالية العليا بوجه خاص ، يؤكد ذلك ، هذه الحالة من التدهور الاقتصادي العام في كافة البلدان العربية ، والفقيرة منها بالذات ، التي قامت بتطبيق سياسة الخصخصة وما أفرزته من نتائج أعادت توزيع الثروات الوطنية لصالح البورجوازية المحلية والأجنبية ، ونزعت –أو كادت- ملكية الدولة ونقلت أصولها الإنتاجية للقطاع الخاص بغض النظر عن هوية جنسيته .

وفي ظل هذا التدهور الناتج عن الاستجابة لسياسات الصندوق والبنك الدوليين ، ومنظمة التجارة الدولية WTO ، الى جانب عوامل أخرى داخلية وخارجية متنوعة ، كان لا بد لمجرى الأزمة الاقتصادية العامة أن يشق طريقه في صلب النظام العربي نحو مزيد من التراجع في الاقتصاد والتنمية والمجتمع والسياسة ، باعتباره المجرى أو الخط المهيمن في حركة الرسم البياني العربي حتى اللحظة ، والمؤشرات على ذلك كثيرة :-
1-استفحال مظاهر التبعية بكل أشكالها ، بما يستجيب لأهداف العولمة التي تسعى الى نفي القاعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة القطرية العربية ، عبر تحطيم العلاقة بين الدولة والشعب ، بحيث يصبح المسار الرئيسي للدولة موجها في خدمة استحقاقات العولمة والسوق العالمي والشركات المتعددة الجنسية أو الديكتاتورية الجديدة . إن ما يعزز هذا الاستنتاج ، طبيعية التحولات النوعية السالبة التي أصابت معظم أقطارنا العربية وجعلت منها دولا رخوة بالمعنى السياسي والاقتصادي المعاصر .
2-تزايد حجم ومعدلات البطالة والفقر، وما ينتج عنها من أزمات خانقة ، فالعمالة العربية ، كما في العام 2004 ، تبلغ حوالي 110 مليون عامل (تمثل النساء 29.3% منهم) ، منهم 13.2 مليون عامل عاطل عن العمل[1] ، أي بنسبة 12% من مجموع القوة العاملة العربية، ويتوزع العاملين بنسبة 50.6% في قطاع الخدمات، و31.7% في الزراعة، و17.7% في الصناعة، ويتركز معظمهم في البلدان العربية غير النفطية، بما يعني تزايد مساحات الفقر وانتشاره بحيث يزيد مجموع الفقراء، ومن هم دون خط الفقر (أقل من دولار واحد للفرد يوميا) عن 90 مليون نسمة، معظمهم في مصر والأردن والمغرب والسودان وسوريا وفلسطين واليمن وموريتانيا .
3-استمرار تراكم عوامل العجز في توفير مقومات الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي، فالمعروف أن الطلب على الغذاء ينمو بمعدل 6% سنويا في حين أن الإنتاج ينمو بمعدل 2% فقط ، فقد بلغ العجز التجاري الزراعي العربي 21.4 مليار دولار، وتقدر قيمة الفجوة الغذائية في الدول العربية بنحو 14.7 مليار دولار في عام 2002 [2] . ومن المتوقع ارتفاع فاتورة الواردات العربية بدون زيادة الكميات خلال السنوات القليلة القادمة بعد رفع الدعم عن المنتجات الزراعية في أوروبا والولايات المتحدة – والذي كان أحد أسباب المظاهرات ضد العولمة في سياتل وغيرها- وما سينتج عن ذلك من ارتفاع في رغيف الخبز والسلع الغذائية الضرورية الأخرى، وهبوط في مستويات المعيشة، واتساع دائرة الفقر وما دونه بدرجات حادة .
4-تعرض التجارة البينية العربية لمزيد من التراجع والانخفاض، علاوة على ضعفها المزمن منذ إعلان تأسيس السوق العربية المشتركة عام 1964 ، فقد ارتفعت نسبة التجارة البينية العربية من مجمل التجارة الخارجية العربية من 4.6% في عام 1964 الى 9.1% عام 2003 [3]، الا انها ستتأثر مع انتهاء الفترة الزمنية المحددة لرفع كافة القيود وتحرير التجارة والانفتاح الكامل بداية عام 2006 حسب برنامج منظمة التجارة الدولية WTO ، والى جانب ذلك فإن 90% من الاستثمارات العربية –كما تشير معظم الدراسات في السنوات العشر الأخيرة- هي خارج البلدان العربية، عدا عن تزايد حجم الإنفاق غير المبرر على الخدمات الترفيه والإنشاءات والطرق والمعدات والأسلحة –التي لم تستعمل قط (في السعودية ودول الخليج)- خلال العشرين سنة الماضية ، حيث بلغ حجم هذا الإنفاق 2 تريليون دولار ، بمعدل 100 مليار دولار سنويا ، تصرف لحساب الشركات الرأسمالية الكبرى المنتجة لهذه السلع والخدمات العسكرية وغيرها ، دون أي اعتبار للنمو الاقتصادي للفرد في البلدان العربية الفقيرة ، الذي بقي خلال العقدين الأخيرين يتراوح بين الصفر والسلبي حسب تقارير ألاسكوا ، والتقرير الاقتصادي العربي الموحد .
5- هبطت مساهمة الناتج الإجمالي العربي في إجمالي الناتج الإجمالي العالمي من 3.1% (650 مليار $) سنة 1993 إلى 2.1% سنة 1997 (599 مليار $)،وظلت منخفضة عام 2003 حيث بلغت نسبتها 2% ، بالرغم من ارتفاع قيمة الناتج المحلى الاجمالي العربي الى 723 مليار دولار[4]، ويرجع ارتفاع الناتج الإجمالي نتيجة للزيادة الملحوظة في ناتج الصناعات الاستخراجية، علاوة على ارتفاع أسعار النفط) ، رغم التراجع في حجم الإنتاج الزراعي حيث لا نزرع سوى أقل من ثلث الأراضي الصالحة للزراعة [5]و البالغة 135 مليون هكتار وعدم استغلال الفائض المالي العربي الذي يزيد عن 800 مليار$ في الاستثمار الصناعي والزراعي الداخلي، وإيداعه في بلدان النظام الرأسمالي الغربي، خاصة في ظل وعي دول الصحراء أو النفط –التي لا تستوعب أكثر من 20% من عدد سكان الوطن العربي في حين أنها تستحوذ على 50% من الناتج الإجمالي- إلى حاجة الدول العربية الأخرى في مصر و بلاد الشام بصورة خاصة ، التي تستوعب حوالي 45% من مجموع السكان-إلى هذه الفوائض للاستثمار من جهة، ولتخفيف ضغوط الديون و فوائدها التي تزيد في تقديرنا عن 500 مليار$ في 2005 ، وما سيعنيه ذلك من المزيد من الخضوع لشروط العولمة المذلة، ومزيد من النزاعات والانقسامات الداخلية والإفقار لشعوبها، خاصة مع تراجع نصيب الفرد العربي، في هذه الدول الفقيرة، من الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 500 دولار أو أقل في السودان واليمن وموريتانيا و إلى ما يتراوح بين 1000-1500 دولار سنوياً في مصر وسوريا ولبنان والجزائر والأردن وفلسطين، في حين أن نصيب الفرد العربي في قطر والكويت و الإمارات يتراوح بين 15 ألف إلى 22 ألف دولار سنوياً و في البحرين و السعودية و عُمان و ليبيا من 9-15 ألف دولار سنوياً .
6- إن هذه النتائج السالبة أو المؤشرات التي تدل على هبوط و تراجع الاقتصاد العربي وارتهانه للآخر الأجنبي، بسبب قبول بلدان النظام العربي لسياسات الصندوق و البنك الدوليين و شروط منظمة التجارة الدولية أو العولمة ، كانت –وما زالت- السبب الرئيسي الأول لهذا الانهيار السياسي الذي نعيشه اليوم في صراعنا مع الولايات المتحدة و إسرائيل ، ففي الوقت الذي يتعرض فيه الاقتصاد العربي، والسياسة العربية، لهذه الضغوط و التراجعات المستمرة، توالت بالمقابل، مؤشرات الصعود والتقدم في الاقتصاد والسياسة الإسرائيلية عبر تراكمات وتحولات نوعية غير اعتيادية على أثر اتفاقيات كامب ديفيد 1979، وأوسلو 1993، ووادي عربة 1994، وما تلاها من اتفاقيات وصولا الى "خارطة الطريق" و"خطة شارون" وما سينتج عنهما من عملية تطبيع اقتصادي وسياسي كبير ستؤدي لمزيد من التوسع والنمو والقوة في بنيان الاقتصاد الاسرائيلي، الذي تطور بصورة ملموسة خلال الاحد عشر عاما الاخيرة، ونورد فيما يلي بعض المؤشرات والأرقام المقارنة بين العرب و إسرائيل كما في عام 2004 :
1. ارتفع عدد الدول المعترفة بإسرائيل من 62 دولة عام 1992 إلى اكثر من 160 دولة عام 2005.
2. حسب العديد من المصادر، فقد وفّر إنهاء المقاطعة الاقتصادية، العربية والإسلامية، لإسرائيل حوالي 45 مليار دولار سنوياً، بعد إزالة كافة العقبات من وجه الشركات العالمية في التعامل مع إسرائيل، و بعد أن نجحت إسرائيل في دمج اقتصادها بالاقتصاد العالمي عبر حرية حركة صادراتها ووارداتها دون أية قيود أو عوائق، وهي تسعى الآن إلى أن تتحول إلى مركز إقليمي رئيسي في اقتصاد العولمة .
3. ارتفع الناتج الإجمالي السنوي لإسرائيل من 65 مليار$ عام 1993 إلى أكثر من 110 مليار$ عام 2004.
4. ارتفع دخل الفرد السنوي فيها من 12 ألف دولار عام 1993 إلى ما يقرب من 19 ألف دولار عام 2004 ، و المفارقة المذهلة أن دخل الفرد في الضفة و القطاع لا يتجاوز 1000 دولار رغم توحد الأسعار لجميع السلع في السوق الإسرائيلي و السوق الفلسطيني في الضفة و القطاع .
5. ارتفعت كافة فعاليات الاقتصاد سنة 2004 بعد هبوط حاد على مدى ثلاث سنوات سابقة حسب تقرير بنك اسرائيل، ويعكس هذا الارتفاع بالاساس الارتفاع الحاد في فعاليات التجارة الخارجية والداخلية والتي ارتفع الجدول الملائم لفحصها بنسبة 13.9% . اما فيما يتعلق بالصناعة، فقد ارتفع الانتاج الصناعي بنسبة سنوية تصل الى 10.4%، وارتفع تصدير البضائع والخدمات بنسبة 23.4% سنويا، ويعكس الارتفاع في التصدير الصناعي عام 2004 التحسن الحاصل في العالم ، حيث زاد الطلب على البضائع والخدمات الاسرائيلية في فروعها المختلفة وبالذات فروع التكنولوجيا المتطورة، وبالاضافة لذلك فان تخفيض قيمة العملة المحلية وهبوط الاجر الفعلي ميز الاقتصاد خلال السنوات 2002-2003[6].
6. بالرغم من تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 4.2% وارتفاع مستوى المعيشة للسكان بمعدل 3.8% نهاية عام 2004، الا ان هذا النمو لم يحسن الظروف الحياتية للطبقات الضعيفة، خاصة بعدما اظهر تقرير مؤسسة التامين الوطني عن ارتفاع عدد الفقراء الى 1.5 مليون شخص من اصل 6.5 مليون نسمة يعيشون في اسرائيل [7]. ورغم ذلك فان اسرائيل" تعتبر دولة رفاه، أي انها تزيد اهتمامها دائما بضمان حد ادنى للمعيشة، وبالاساس رفاهية ابناء الطبقات الضعيفة اقتصادياً والذين يعيشون تحت خط الفقر، هذا المجال يشمل موضوعين رئيسيين : الاول هو المستحقات الاجتماعية، والثاني سياسة الدخل وتوزيعه وتقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية ، فالمستحقات الاجتماعية شكلت 10% من الناج القومي، اما اليوم فهي تشكل حوالي 24% من الناتج القومي . كما أن مخصصات التأمين الوطني ارتفعت من 2% من الناتج القومي سنة 1967 الى 7% سنة 1975 والى 8.2% سنة 1988 ، اما اليوم فهي تشكل حوالي 11% وهذا الازدياد يرافقه ارتفاع المصاريف العامة على التربية والتعليم والصحة والتي تشكل احد مركبات سياسة الرفاه. فقد تميزت دولة العدو الاسرائيلي بظاهرة الارتفاع في معدل الاجور الفعلية للفئات العمالية، اذ وصلت الزيادة في معدل الاجور الى ارقام خيالية قد تصل الى 30 % او اكثر. تغير هذا الاتجاه مع منتصف سنة 2005 وبداية سنة 2004"[8].
7. تدفقت الاستثمارات الخارجية –بصورة غير عادية- على "إسرائيل" ، والتي لم تتجاوز 400 مليون دولار عام 1991 ارتفعت إلى 2.9 مليار دولار عام 1996 و إلى 3.6 مليار دولار عام 1997 ، ووصلت عام 1999 الى 8.3 مليار دولار وارتفعت عام 2004 بنسبة 5% عما كانت عليه في السابق[9]، في حين أن الاستثمارات المحلية والخارجية في الضفة و القطاع لم تتجاوز 300 مليون دولار كمعدل عام منذ عام 1994 حتى عام 2003 أي حوالي 3.5% فقط من حجم الاستثمارات المتدفقة على "إسرائيل" !؟ ، وكذلك الأمر بالنسبة لدولة عربية مثل مصر فبالرغم من عقد معاهدة كامب ديفيد 1979 ، لم تتجاوز الاستثمارات العالمية فيها 700 مليون دولار فقط ، أما بالنسبة للاستثمارات الإسرائيلية في الدول العربية فقد بلغت 100 مليون دولار .
8. ارتفع دخل العدو الإسرائيلي من السياحة إلى 3 مليارات دولار، رغم تراجعه في سنوات الانتفاضة (2001-2005) .
9. بالرغم من ضعف التجارة العربية مع إسرائيل، إلا أنها في حالة صعود بطيء ومستمر، حيث سجلت قيمة التبادل التجاري بين اسرائيل والدول العربية صعودا مطردا منذ مطلع العام 2004، فقد بلغت قيمة الصادرات الاسرائيلية للدول العربية حوالي 170 مليون دولار بنسبة زيادة قدرها 78% مقارنة بالعام الماضي تتركز مع مصر والاردن –اللتين تربطهما علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل- اضافة لدول منطقتي الخليج وشمال افريقيا التي زادت نسبة الصادرات اليها بنسبة 147% و160% على التوالي، كما ان السلع الاسرائيلية تخطت لاول مرة دول لبنان وتونس وغيرهما، فيما بلغت قيمة الواردات الاسرائيلية من الدول العربية 64 مليون دولار بنسبة زيادة قدرها 37% [10]. وتستدعي ظاهرة زيادة حجم التبادل التجاري الاسرائيلي – العربي وقفة متأملة ، بسبب المتغيرات الراهنة التي طرأت على الشرق الاوسط والتي خدمت "اسرائيل" بشكل كبير . وفي هذا السياق احرزت اسرائيل انجازا مهما في علاقاتها مع مصر من خلال توقيع اتفاقية لانشاء (4) مناطق صناعية مؤهلة للتبادل التجاري الحر المعروفة باسم (كويز QUIZ) في 14 كانون اول 2004 أسوة بالمناطق الصناعية المشتركة الاسرائيلية الاردنية .
لعل في هذه المؤشرات ما يستدعي المزيد من الوعي بالأزمة وتشخيصها من جهة، للتأكد من علاقة الترابط بين العولمة والتبعية و التخلف من جهة أخرى، وصولاً إلى صيغة البديل القومي الديمقراطي العربي كطريق وحيد للخلاص من كل هذه القيود التي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده ، فبالرغم من أننا نعيش أزمة اقتصادية في الوطن العربي، لكن هذه الأزمة -كما يقول المفكر العربي الشهيد مهدي عامل- غير كافية لتوليد أزمة سياسية تنتقل فيها المبادرة داخل الصراع الاجتماعي العام من الطبقة المسيطرة إلى الطبقات صاحبة المصلحة في البديل الديمقراطي، فما دامت "الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة، فإن هذه الطبقة ليست في أزمة سياسية بالرغم من أزمتها الاقتصادية والأيديولوجية، ولكي تكون الطبقة المسيطرة في أزمة سياسية فعلية ، فلا بد أن تكون السيطرة في الحقل السياسي للصراع الطبقي، أي للممارسة السياسية الديمقراطية للطبقة النقيض، فالأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني والديمقراطي العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها البرجوازية التابعة ، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة .

و في هذا السياق فإن الحديث عن كسر نظام الإلحاق أو التبعية الراهن سيكون ضرباً من الوهم إذا لم نمتلك وضوح الرؤيا للمخاطر الجدية التي تفرضها ظاهرة العولمة على الوطن العربي منذ نهاية القرن العشرين والعقد الاول من القرن الحادي و العشرين ، و ما تسعى إليه من تفكيك أواصر الأمة باسم الفردية أو الليبرالية الجديدة ، بما يعزز تراخي دور الدولة الوطنية و تراجع السيادة السياسية ، خاصة و أن العولمة بمثل ما أدت إلى عولمة التحديات فإنها قد عززت ما يمكن أن يسمى بعولمة الاستسلام في بلادنا و في العالم الثالث عموماً .
من هنا فإن الدعوة إلى مقاومة عولمة الاستسلام تتطلب إدراكنا لذاتنا وهويتنا القومية بكل المعاني و الأبعاد الاقتصادية و السياسية والاجتماعية ، تمهيداً لتحديد ملامح مستقبلنا بعيداً عن الإلحاق و التبعية و التزاماً بقواعد الاعتماد العربي على الذات … عندئذ فقط يمكن إيجاد الآليات القادرة على مواجهة الآثار الضارة للعولمة والخروج منها، مدركين إن أحد أهم شروط التحدي العربي لهذه الظاهرة هو في امتلاك وضوح اسس واهداف المشروع القومي الوحدوي الاشتراكي العربي من ناحية وامتلاكنا لـ "تقنيات العصر ومعلوماته وفق مفاهيم العقل و العلم و الحداثة" من ناحية ثانية .

إذن ، فالمسألة الأساسية الأولى على جدول أعمال "البديل الديمقراطي ، داخل القطر الواحد أو على الصعيد القومي العام ، هي مسألة كسر نظام الإلحاق أو التبعية الراهن صوب الاستقلال الفعلي السياسي و الاقتصادي ، و التنمية المستقلة الهادفة إلى خلق علاقات إنتاج جديدة تقوم على مبدأ الاعتماد على الذات ، تنمية تهدف إلى رفع معدل إنتاجية العمل ، إذ أن هذا الشرط –كما يقول د.إسماعيل صبري عبد الله- هو "نقطة البداية ، فالمقياس الأشمل و الأكمل لأداء الاقتصاد القومي هو معدل ارتفاع إنتاجية العمل من سنة إلى أخرى ، على أن هذه الإنتاجية ترتبط بمفهوم الدافعية كمبدأ رئيس في عملية التنمية ، إذ أن المواطنين الأحرار الذين يعرفون أن بالإمكان تغيير الحاكم أو الرئيس من خلال الديمقراطية و الحياة الحزبية ، يعرفون بأن ثمار جهودهم تعود عليهم و على أولادهم ، و أن أحداً لن يستطيع سلبهم حقوقهم" ، هذه الفكرة سبق أن أشار إليها مؤسس الاقتصاد الرأسمالي آدم سميث بقوله "أن العمل السنوي لكل أمة إنما هو رصيدها الذي يمدها أصلاً بما تستهلكه من ضروريات الحياة و كمالياتها" .

أما المسألة الثانية ، التي لا تنفصم عن الأولى ، بل ترتبط بها ارتباطاً جدلياً فهي تتلخص في إعادة تفعيل مشروع النهضة القومية الوحدوية العربية بأفقها التقدمي الديمقراطي ، كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي ، و نقلها من حالة السكون أو الجمود الراهنة الى حالة الحركة و الحياة و التجدد ، و هي مهمة لا تقبل التأجيل يتحمل تبعاتها –بشكل مباشر الاحزاب والقوى القومية الديمقراطية اليسارية، علاوة على دور المثقف الديمقراطي التقدمي الملتزم في فلسطين وكل أقطار الوطن العربي ، انطلاقاً من أن الدولة القطرية العربية مهما امتلكت من مقومات ، فإنها ستظل عاجزة عن تلبية احتياجات مجتمعاتها ، و إن أية عملية تطوير سياسي أو تنموي داخل القطر الواحد ستدفع بالضرورة نحو استكشاف عمق الحاجة إلى التوجه نحو تواصل ذلك التطور عبر الإطار القومي الديمقراطي الموحد كمخرج وحيد من كل أزماتنا التي نعيشها اليوم و في المستقبل .

إن التحدي الذي تواجهه شعوب و بلدان الوطن العربي هو تحد حقيقي على جميع المستويات السياسية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها ، لكنه قبل كل شيء تحدٍ اقتصادي في المقام الأول .

و هذا يتطلب وعي المثقف الديمقراطي العربي لأبعاد و تفاصيل الصورة الاقتصادية القطرية و القومية ، تمهيداً لإنضاج الفكرة التوحيدية السياسية-الاقتصادية القومية في مواجهة العولمة و سياساتها الهمجية من جهة ، و من أجل تعزيز مقومات البديل الديمقراطي العربي كخيار وحيد على طريق التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية من جهة أخرى .



ثالثاً : الأزمة الاجتماعية :
في مقدمة الطبعة الأولى من "رأس المال" ، كتب ماركس في عام 1867 يقول: "إلى جانب الشرور الحديثة ، أو الآلام في العهد الحالي ، علينا أن نتحمل سلسلة طويلة من الأمراض الوراثية الناتجة عن بقاء أساليب إنتاج بالية ، تخطاها الزمن ، مع ما يتبعها من علاقات سياسية و اجتماعية أضحت في غير محلها زمنياً ، و التي تولدها تلك الأساليب ، ففي مثل هذه الأحوال ، ليس علينا أن نعاني فقط الآلام بسبب الأحياء ، و إنما بسبب الموتى أيضاً : فالميت يكبل الحي"[11] ، هذا التحليل الذي قصد به ماركس الدولة الألمانية آنذاك ، ينطبق على الوضع العربي الداخلي (دويلات الخليج والسعودية وسلطنة عمان) عموماً ، و على جوهر الأزمة الاجتماعية فيه بشكل خاص .

و الإشكالية الكبرى أن المجتمع العربي يتعرض اليوم لهذه الأحوال المأزومة بكل أبعادها ، في اللحظة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة الى المرحلة الجديدة أو العولمة ، بتسارع غير مسبوق ، و بمتغيرات نوعية تحمل في طياتها ، في الحاضر و المستقبل تحديات غير اعتيادية ، لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها العلمية و المعرفية أولاً عبر أحكام سيطرة الحي على الميت ، "فالاستلاب الأيديولوجي بشكليه السلفي و الاغترابي هو أبرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر ، و تعيد إنتاج الاستبداد ، و تحافظ على البنى و العلاقات و التشكيلات القديمة ما قبل القومية ، فالعلاقة بين المستوى الأيديولوجي السياسي ، و المستوى الاجتماعي الاقتصادي ، هي علاقة جدلية ، تحول كل منهما الى الآخر في الاتجاهين ، آخذين بالحسبان أيضاً أن المستوى السياسي محدد و محكوم بطابع الوعي الاجتماعي السائد"[12] .

بهذا المدخل ، نبدأ في الحديث عن أزمة المجتمع العربي التي نرى أنها تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً ، و لا تنتسب له جوهرياً ، و ذلك بسبب فقدانها ، بحكم تبعيتها البنيوية ، للبوصلة من جهة ، و للأدوات الحداثية ، الحضارية و المعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي و مساره و علاقته الجدلية بالحداثة و الحضارة العالمية أو الإنسانية .

فبالرغم من اننا اليوم في النصف الثاني من العقد الاول للقرن الحادي و العشرين ،إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة ، أو في زمان "ما قبل الرأسمالية" ،رغم تغلغل العلاقات الرأسمالية في بلادنا ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير ، بمنطلقاتها العلمية و روحها النقدية التغييرية ، و إبداعها و استكشافها المتواصل في مناخ من الحرية و الديمقراطية ، ففي غياب هذه السمات يصعب إدراك الوجود المادي و الوجود الاجتماعي و الدور التاريخي الموضوعي للقومية أو الذات العربية في وحدة شعوبها ، ووحدة مسارها و مصيرها ، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي العربي ، و لعلنا نتفق أن السبب الرئيسي لهذه الإشكالية الكبرى ، لا يكمن في ضعف الوعي بأهمية التنوير العقلاني ، أو ضعف الإدراك الجماعي بالدور التاريخي للذات العربية ، فهذه و غيرها من أشكال الوعي ، هي انعكاس لواقع ملموس يحدد وجودها أو تبلورها ، كما يحدد قوة أو ضعف انتشارها في أوساط الجماهير ، و بالتالي فإن الواقع العربي الراهن ، بكل مفرداته و أجزاءه و مكوناته الاجتماعية و أنماطه التاريخية و الحديثة و المعاصرة ، هو المرجعية الأولى و الأساسية في تفسير مظاهر الضعف و التخلف السائدة بل و المتجددة في مجتمعاتنا ، إذ أن دراسة هذا الواقع ، الحي ، بمكوناته الاجتماعية و الاقتصادية تشير بوضوح إلى أن العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية السائدة اليوم في بلداننا العربية هي نتاج لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية و عشائرية و شبه إقطاعية ، و شبه رأسمالية ، تداخلت عضوياً و تشابكت بصورة غير طبيعية ، و أنتجت هذه الحالة الاجتماعية /الاقتصادية المعاصرة ، المشوهة .

فبالرغم من تطور بعض أشكال العلاقات ذات الطابع الرأسمالي في بعض المجتمعات العربية ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عموماً ، و بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بشكل خاص ، إلا أن هذه العلاقات الرأسمالية الجديدة لم تستطع إزاحة العلاقات شبه الإقطاعية ، و القبلية السائدة ، و المسيطرة ، و بقيت حيازة و امتلاك الأراضي الزراعية ، مصدراً أساسياً للوجاهة و المكانة الاجتماعية و السلطة السياسية في بلدان الوطن العربي حتى منتصف القرن العشرين ، حيث "تدنت هذه المكانة ، بتدني أهمية ملكية و حيازة الأرض باعتبارها العمود الفقري للتكوينة الطبقية ، و ذلك بسبب تتابع الانقلابات العسكرية ( و أهمها حركة 23 يوليو 1952 في مصر) في العديد من البلدان العربية … و قيام الأنظمة الوطنية و ما تبع ذلك من تصفية للإقطاع ، و تطبيق الإصلاح الزراعي من ناحية ، و بسبب اكتشاف النفط و بروز أهمية رأس المال (التجاري و الخدمي) في التكوين الطبقي"[13] ،من ناحية ثانية و أشكاله الجديدة التي تداخلت بدورها مع الأنماط القبلية ، شبه الإقطاعية السابقة ، بل إننا لا نبالغ في القول بأن هذه الأشكال أو التكوينات الطبقية شبه الرأسمالية الجديدة ، انبثقت في جزء هام منها –كما أشرنا في هذه الدراسة من قبل- من رحم التكوينات الاجتماعية القديمة ، وهذه بدورها استطاعت التكيف مصلحيا مع "العلاقات الرأسمالية الجديدة" ، من حيث الشكل أو التراكم الكمي الرأسمالي فقط ، دون أن تقطع علاقاتها مع جوهر التشكيلات الاجتماعية القديمة ، و موروثاته القيمية و المعرفية المتخلفة ، التي وجد فيها الاستعمار الغربي ، مناخاً مهيئاً و جاهزاً لتحقيق أهدافه و مصالحه في بلادنا ، فلم يتعرض لأي من هذه الموروثات و رموزها الطبقية ، التي شكلت في معظمها سنداً للظاهرة الاستعمارية و لرأس المال الأجنبي في عملية دمج بلداننا العربية و تكريس تبعيتها للنظام الرأسمالي العالمي أثناء و بعد الحرب العالمية الثانية و إلى اليوم ، دون أن نغفل بالطبع ، مرحلة النهوض الوطني و القومي في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي ، التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، منفرداً عبر شخصيته و دوره الكاريزمي و إيمانه الشديد بالمبادئ التحررية ، و القومية ، و لاحقاً بالاشتراكية ، دون الاستعانة بالمؤسسات الديمقراطية ، و التعددية الحزبية ، و تفعيل العمل السياسي في أوساط الجماهير التي عاش حياته من أجلها ، و لذلك كانت هزيمة حزيران 1967 بداية النهاية لمرحلة التحرر القومي الديمقراطي ، خلقت المناخ العام ، و المقومات اللازمة لإعادة إحياء التشكيلات و التكوينات الاجتماعية الطبقية القديمة و المستحدثة ، بصور و أشكال معاصرة ، تتوافق مع شروط الانفتاح و التحالفات السياسية العربية الرسمية التي تولت قيادتها أو توجيهها الأنظمة الأكثر رجعية و تخلفاً و تبعية في بلادنا .

و اليوم و نحن في مطلع الألفية الثالثة ، تتعرض مجتمعاتنا العربية ، من جديد ، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد ، رغم مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح و الفئات الرأسمالية العليا ، بكل أشكالها التقليدية و الحديثة ، التجارية و الصناعية و الزراعية ، و الكومبرادورية و البيروقراطية الطفيلية ، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي ، و تحول دون أي تحول ديمقراطي حقيقي في مساره ، عبر اندماجها الذيلي التابع للنظام الرأسمالي المعولم الجديد من جهة ، و تكريسها لمظاهر التبعية و التخلف و الاستبداد الأبوي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى ، من خلال التكيف و التفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح و الخصخصة وما يسمى بالاصلاح الديمقراطي خلال العقود الثلاثة الماضية ، و بين النمط القبلي /العائلي ، شبه الإقطاعي ، الريعي ، الذي ما زال سائداً برواسبه و أدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث، التي باتت اليوم محكومة وخاضعة –في معظم النظام العربي- لتوجهات وسياسات وشروط المقرر الخارجي ، الأمريكي/الاسرائيلي، ما يعني أن اتحولات الراهنة في اطار الاصلاح أو الديمقراطية السياسية (التي لا تعدو أن تكون شكلا باهتا من الانفراج السياسي) قد ارتبطت إلى حد كبير بعامل التدخل الخارجي، الذي وصل إلى درجة الاستخدام المباشر والمتوحش للقوة العسكرية كما حدث في العراق الشقيق، والى درجة الضغوط الاكراهية كما يجري في سوريا وفلسطين، والتلويح بتغيير أنظمة التخلف (الخاضعة والمرتهنة اصلا) كما يجري في الجزيرة العربية (السعودية) وما يسمى ببلدان الخليج العربي وغيرها من بلدان المغرب العربي، علاوة على ما افرزته هذه المتغيرات "الديمقراطية" في بعض البلدان من نزعات انفصالية ومشكلات معقدة طائفية ومذهبية كامنة ستدفع إلى مزيد من التفكك والانقسام في هذه الدولة العربية أو تلك، والعراق شاهد على ذلك.
إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية و اتساعها الأفقي و العامودي معاً ، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة ، و أشكال "الثراء السريع" كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح و الخصخصة ، و الهبوط بالثوابت السياسية و الاجتماعية الوطنية ، التي وفرت مقومات ازدهار اقتصاد المحاسيب و أهل الثقة ، القائم على الصفقات و الرشوة و العمولات بأنواعها ، حيث يتحول الفرد العادي الفقير إلى مليونير في زمن قياسي ، و هذه الظاهرة شكلت بدورها المدخل الرئيسي لتضخم ظاهرة الفساد بكل أنواعه في السياسة و الاقتصاد و الإدارة و العلاقات الاجتماعية الداخلية ، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة ، هي القاعدة في التعامل ضمن إطار أهل الثقة أو المحاسيب ، بعيداً عن أهل الكفاءة و الخبرة ، و دونما أي اعتبار هام للقانون العام و المصالح الوطنية .

و مما هو جدير بالحس بالمسؤولية ، أو بالتأمل –كحد أدنى- ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب ، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدد مسار و طبيعة العلاقات الاجتماعية و السياسية في مجتمعاتنا العربية ، حينئذ تصبح "مؤسسة" الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك ، و توجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة ، و هنا ينتقل الحس بالمسؤولية إلى ضرورات التغيير الديمقراطي المطلوب في مواجهة هذا الوضع المأزوم الذي تفرضه طبيعة أزمة التحرر الوطني ، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية ، حسب تعبير المفكر الشهيد مهدي عامل –بحيث "تصبح الطبقة المسيطرة أو نظامها في تناقض بين السير في منطق الحركة التحررية الديمقراطية ، و هو منطق معادٍ لها و بين السير ضده (و النتيجة واحدة) ، حيث بات السير في منطق التحرر يضع هذه الطبقة (أو التحالف أو النظام) في تناقض مع مصالحها الطبقية ، فيقتضي بالتالي بضرورة زوال سيطرتها الطبقية ، و كذلك الأمر بالنسبة لسيرها ضد منطق الحركة التحررية حيث تفقد هذه الطبقة التي هي البورجوازية الكولونيالية كل مبرر لوجودها في موقع القيادة" [14] .

و لكن الإشكالية الكبرى ، أنه في موازاة هذه الأحوال و المتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية المحلية الداخلية المأزومة ، تراجعت قوى التغيير الديمقراطي في بلداننا ، إلى الخلف بصورة مريعة ، خاصة القوى القومية و اليسارية منها ، التي لم تستطع –حتى اللحظة- بلورة أو إنتاج صيغة معرفية ، سياسية اقتصادية اجتماعية ، علمية وواقعية ، قادرة على رسم مستقبل المجتمع العربي و الخروج من أزمته ، و قد ترك هذا التراجع آثاره الضارة في أوساط الجماهير ووعيها العفوي ، الذي وجد في الحركات السياسية الدينية ملاذاً و ملجأ يكاد يكون وحيداً ، يدفعها الى ذلك نزوعها الى النضال ضد العدو الرئيسي إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية من جهة ، و النضال من أجل الخلاص من كل مظاهر المعاناة و الحرمان و الفقر و مواجهة الظلم الطبقي و الاستبداد السياسي الداخلي من جهة أخرى .

ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم ، زمن الحداثة و العولمة و ثورة العلم و المعلومات و الاتصال ، يشهد مجتمعنا العربي عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه ، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد ، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية و الحمائلية و الطائفية ، و الأصولية و التعصب الديني ، يوصف اليوم بحق على أنه "مجتمع شديد التنوع في بنيته و انتماءاته الاجتماعية ، أبوي ، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد ، مرحلي ، انتقالي ، تراثي ، تتجاذبه الحداثة و السلفية ، شخصاني في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية و التكنولوجية ، و بالتالي مرحلة ما قبل الحداثة"[15] .

أما على الصعيد الداخلي الاجتماعي ، فإن "الفجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة ، تزداد اتساعا وعمقا ، وفي ظل هذه البنية الطبقية الهرمية التي تحتكر فيها القلة السلطة وثروات البلاد ، وتشغل الطبقة الوسطى وسط الهرم ، وتتكون القاعدة من غالبية السكان (الجماهير الشعبية الفقيرة) ، يعاني الشعب حالة تبعية داخلية شبيهه بالتبعية الخارجية ومتممة لها ، فتمارس عليه وضده مختلف أنواع الاستغلال والهيمنة والقهر والإذلال اليومي"[16] .

وفي ظل هذه الأوضاع أو السمات الاجتماعية "يعيش الإنسان في المجتمع العربي على هامش الوجود والأحداث لا في الصميم ، مستباحا معرضا لمختلف المخاطر والاعتداءات ، قلقا حذرا باستمرار من احتمالات السقوط والفشل والمخاطر ، تحتل السلع والمقتنيات والاهتمامات السطحية روحه وفكره ، يفكر ، إنما ليس بقضاياه الأساسية أو العامة ، ينفعل بالواقع والتاريخ أكثر مما يعمل على تغييرهما ، إنه إنسان مغَّرب ومغترب عن ذاته ، ولأن إمكانات المشاركة نادرة وضيقة ، لا يجد من مخرج سوى بالخضوع أو الامتثال القسري أو الهرب"[17].

هذا التعميم في وصف حياة الإنسان العربي ، والقريب من الواقع الى درجة كبيرة ، تكمن قيمته –من وجهة نظرنا- في تحفيز القوى القومية التقدمية العربية لدراسة واقعها الاجتماعي ومسار تطوره الاجتماعي وخصوصياته التي اختلفت من حيث النشوء التاريخي للشرائح والفئات الرأسمالية بين هذا القطر أو ذاك ، ولكن هذا الاختلاف في ظروف النشأة لهذه الشرائح ومنابعها وجذورها ، لم يعد قائما في لحظة معينة من التطور المعاصر للبلدان العربية ، الذي بات متشابها الى حد كبير في كافة هذه البلدان .

فبالرغم من الاختلاف في ظروف النشأة التاريخية للشرائح الرأسمالية العربية العليا وتباين أشكالها كما يقول د.محمود عبد الفضيل "حيث نشأت في مصر من أصول زراعية وإقطاعية واضحة ، بينما نشأت في سوريا عبر ارتباطها أساسا بالتجارة في المناطق الحضرية والمدن الكبرى ، وفي السودان ارتبطت نشأتها بنمو التجارة القافلية البعيدة المدى في أفريقيا ، ونشأت في العراق من تداخل التجارة والإقطاع معا" [18]، إلا أن "تزاوج رأس المال الأجنبي مع الدولة الكولونيالية وكذلك مع دولة "ما بعد الاستقلال" ، لعب أدوارا مهمة في تسهيل عملية توسع ونمو البورجوازيات المحلية في معظم البلدان العربية ، الى جانب الدور الهام الذي لعبه رأس المال الأجنبي تاريخيا ، "ورأس المال الدولي" حديثا ، خاصة فيما يعرف بحقبة البترودولار التي شكلت العنوان الأبرز لتبلور العلاقات البرجوازية المشوهة ، وكل هذه العوامل هيأت الظروف الموضوعية لنشأة جناح مهم (وخطير) من أجنحة الرأسمالية العربية ، المعروف بجناح "البورجوازية الكومبرادورية"[19] التي بات التداخل بينها وبين أجهزة الدولة البيروقراطية –في كل بلدان النظام العربي- ، وثيقا وعضويا الى درجة أن بعض التحليلات تقول بظهور "الدولة الكومبرادورية" ، التي تحكمها "بورجوازية الصفقات" أو اقتصاد المحاسيب والأقارب أو ما أطلق عليه الاقتصادي الإنجليزي المعروف "جون ماينارد كينز" "اقتصاد الكازينو" في إشارته الى الفساد الذي ساهم في تفجير الأزمة الرأسمالية العالمية عام 1929 .

إن ظهور هيمنة البورجوازية الكومبرادورية والطفيلية وتحالفها مع البيروقراطية المدنية والعسكرية الحاكمة ، ورموز الأنماط القبلية وشبه الإقطاعية في بلادنا العربية ، في الظروف الراهنة ، يشير الى الدور الثانوي للاختلاف التاريخي في نشأة الشرائح الرأسمالية العربية العليا ، التي توحدت اليوم في شكلها ومضمونها العام وأهدافها المنسجمة مع مصالحها الأنانية الضارة ، عبر نظام استبدادي أو ليبرالي جديد لا فرق ، تابع ، ومتخلف ، يسود ويتحكم في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية ، كظاهرة عامة ، تتجلى فيها بوضوح ، الأزمة الاجتماعية العربية الراهنة، بتأثير هذا التداخل العميق والمعقد لرموز الأنماط القديمة و الحديثة ، ومصالحهم المتشابكة في إطار من العلاقات الاجتماعية الفريدة التي تمتزج فيها أشكال الحداثة و أدواتها مع قيم التخلف و أدواته ، ساهمت في إضفاء شكل و مضمون خاص و متميز للواقع الاجتماعي العربي وتركيبته و خارطته الطبقية ، بحيث بات من المفيد مراجعة استخدامنا للمصطلحات الغربية ، مراجعة موضوعية ونقدية كي لا نعيد تطبيقها على واقعنا بصورة ميكانيكية ، كما فعلنا في المرحلة السابقة ، خاصة مصطلح "البورجوازية" ، عند تناول الشرائح و الفئات الرأسمالية العربية التي تشكلت تاريخياً –و إلى الآن- من هذا المزيج أو التنوع الاجتماعي غير المتجانس أو الموحد سواء في جذوره و منابعه القديمة ، أو في حاضره و مستقبله ، فمصطلح "البورجوازية" و غيره من المصطلحات التي تحدثت عن تطور التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وتسلسلها من المشاعية الى العبودية الى الإقطاع الى الرأسمالية ، والتي تطابقت مع مضمون التطور الرأسمالي في البلدان الصناعية الغربية ، تكاد تكون مصطلحات غريبة في واقعنا و شكل تطوره المشوه ، خاصة و أنها لم تتغلغل في الوعي العفوي أو الاعتيادي للجماهير ، و كذلك في صفوف القواعد الحزبية كمفاهيم تحفيزية أو رافعة للوعي السياسي والطبقي ، لكون هذا المصطلح أو المفهوم مصطلحاً يكاد يكون وافداً ، غريباً ، نظراً لعدم تبلور الإطار أو الطبقة في بلادنا بصورة محددة ، التي يمكن أن يجسدها أو يعبر عنها أو يشير إليها ذلك المصطلح من جهة ، و نظراً لما ينطوي عليه أو يتضمنه هذا المفهوم من إعلان ولادة وتشكل طبقة جديدة هي "البورجوازية" كطبقة قائدة لمرحلة جديدة ، حملت معها مشروعا نهضويا حضاريا عقلانيا تطوريا ماديا هائلا ، عجّل في توليد التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية و مفاهيمها المتطابقة معها من جهة أخرى ، وفي هذا السياق نؤكد أن المطالبة بمراجعة المصطلحات ذات الطابع التطبيقي لا يعني مطلقا التطرق الى النظرية الماركسية ومنهجها ، والتي نشعر بالحاجة الماسة الى إعادة دراستها وتعميق الالتزام بها في هذه المرحلة وفي المستقبل .




















- أهمية التطابق الجدلي بين المفهوم المعرفي والواقع الاجتماعي:
إن تناولنا لهذه الرؤية التحليلية لا يعني أنها دعوة إلى وقف التعامل مع هذه المصطلحات ، بقدر ما هي دعوة للبحث عن مصطلحات و مفاهيم معرفية أخرى إضافية تعكس طبيعة و مكونات التركيب الاجتماعي /الطبقي في بلادنا العربية ، بما يلغي كل أشكال الغربة أو الاغتراب في المفاهيم التي سبق استخدامها بصورة ميكانيكية أو مجردة ، بحيث نجعل من التحليل النظري و الاجتماعي لواقعنا في سياق العملية السياسية أمراً واضحاً و متطابقاً في كل مفاهيمه و مصطلحاته مع هذا الواقع الشديد التعقيد ، الذي يشير إلى ان التطور في بلادنا –كما يقول د. برهان غليون- "ليس بنياناً عصرياً بالرغم من قشرة الحداثة فيه ، و هو أيضاً ليس بنياناً قديماً بالرغم من مظاهر القديم ، و لكنه نمط هجين من التطور قائم بذاته ، فقد عنصر التوازن و أصبحت حركته مرهونة بحركة غيره" ، لذلك لا بد من إزالة اللبس و الخلط في المفاهيم ، الذي ساد طويلاً في الكتابات العربية ، و ساهم –إلى حد ما- في تكريس حالة الإرباك الفكري في أوساط القوى اليسارية العربية و عزلتها عن الجماهير ، و ليس معنى ذلك ، أننا ندعو إلى تكيف الوعي الطليعي العربي المنظم ، لمتطلبات الوعي العفوي الجماهيري ، بالعكس ، إنها دعوة –أو وجهة نظر- تستهدف التعامل مع الوعي العفوي بمنهجية و مفاهيم تعكس تفاصيل الواقع المعاش و تعبر عنه بصورة جدلية تدفع به الى التطور و النهوض ، انطلاقاً من قناعتنا بمقولة ماركس "قل كلمتك و امشي و دع الناس يقولوا ما يقولون".

و في سياق الحديث عن طبيعة و مكونات التركيب و المتغيرات الطبقية في البلدان العربية ، و ضرورات إزالة الخلط أو اللبس في مصطلحاتها أو مفاهيمها ، نتوقف أمام طروحات اثنان من المفكرين العرب هما د.حليم بركات ، و الراحل د.رمزي زكي ، فالأول يطرح في كتابه "المجتمع العربي في القرن العشرين" المشار إليه في هذه الدراسة ، مسألة التكون الطبقي في المجتمع العربي و يعيدها إلى "الأصول الرئيسية المتشابكة التالية : ملكية الأراضي و العقارات ، و التجارة و ملكية رأس المال ، النسب العائلي المتوارث ، المنصب أو الموقع في السلطة ، مع الإشارة الى عدم تساوي هذه العوامل في الأهمية"[20]،و مع تقديرنا لصحة هذا التحليل و انسجامه مع الواقع ، إلا أن د. بركات في تصنيفه للطبقات الاجتماعية العربية المعاصرة يقر بوجود ثلاث طبقات رئيسية : "الطبقة البورجوازية ، الطبقة الوسطى ، الطبقة الكادحة" ، وهي قضية بحاجة الى النقاش ، نظرا لشدة التنوع في البنية والانتماءات الاجتماعية العربية التي أشار إليها في مقدمة كتابه .
أما المسألة الثانية فهي ترتبط بتعريف "الطبقة البورجوازية" التي تتضمن كما يشرح د.بركات "شرائح اجتماعية قديمة من الأرستقراطية وكبار الملاك وشيوخ القبائل وكبار علماء الدين ، الى جانب كبار الرأسماليين التجاريين والصناعيين والأثرياء الجدد"[21] ، وهو في تقديرنا ، تعريف ملتبس يتناقض مع مصطلح "البورجوازية" المتعارف عليه ، كمصطلح حديث ، عبّر عن طبقة جديدة تكونت في التاريخ الحديث في سياق صراعها مع الطبقات والشرائح القديمة الأرستقراطية وكبار الملاك ورجال الدين ، وبالتالي ، لا يجوز القفز عن كيفية تكون الطبقة البرجوازية ، وسياقها التاريخي في مرحلة محددة ، وكذلك في إطارها العام كطبقة لا مكان فيه للرموز والشرائح القديمة .

المسألة الثالثة ، التي ندعو الى تأملها والتفكر فيها ومناقشتها بصورة موضوعية ، فهي مسألة "الطبقة الوسطى" ، و الالتباس حول مفهوم هذه الطبقة و شكل تطورها ووجودها و دورها ، و ذلك على ضوء كتاب المفكر الراحل د.رمزي زكي "وداعاً للطبقة الوسطى" ، و نتناول هنا هذه المسألة عبر الملاحظتين التاليتين :
الملاحظة الأولى : لا بد من تحديد المقصود بالطبقة الوسطى و ماهيتها منعاً للالتباس و الإرباك ، تحديداً و إيضاحا للمفهوم و مغزاه أو دلالاته الاجتماعية و السياسية ، حيث أننا نعتقد في ضوء قراءتنا لكتاب "وداعاً للطبقة الوسطى" ان موضوع الكتاب يتناول الطبقة البورجوازية الصغيرة بصورة مباشرة ، التي تختلف بكل مكوناتها عن "الطبقة الوسطى" أو ما يعرف عندنا "بالرأسمالية الوطنية" التي لم يعد لها دوراً رئيسياً أو مركزياً في مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي في البلدان العربية أو في العالم الثالث ، ارتباطاً بطبيعة التطور الرأسمالي المعولم الراهن ، و شروطه و ضغوطاته على بلدان العالم الثالث و احتكاره لأسواقها المحلية المفتوحة بلا أية قيود أو ضوابط ، لذلك ، فإننا نرى أن استخدام مصطلح "البورجوازية الصغيرة" بشرائحها الثلاث : العليا ، و المتوسطة ، و الدنيا . هو الأكثر دقة و اقتراباً و تمسكاً للواقع الاجتماعي في بلادنا ، لا سيما و أنه يتفق مع التحليل الماركسي للمجتمع البورجوازي ، و هو تحليل يستند –كما هو معروف- إلى المقولة التالية : "في المجتمعات البورجوازية ثمة طبقتان رئيسيتان متناحرتان : البورجوازية ، و البروليتاريا ، و تشمل البورجوازية على ثلاثة أقسام هي :البورجوازية الكبيرة ، و البورجوازية المتوسطة و البورجوازية الصغيرة ، و هذه الأخيرة تتوزع على ثلاثة شرائح : العليا ، و المتوسطة ، و الدنيا ، و هي الطبقة الأقدم في التاريخ ، و الأكثر تعقيداً في أوضاعها الداخلية و تركيبتها ، و قد تناولها بالتعريف و التشخيص ماركس و انجلز و لينين و غيرهم من المفكرين الماركسيين ، نذكر منهم في بلادنا ، المفكر الماركسي الراحل د. فؤاد مرسي الذي أكد على أن "الحرفيين و صغار المنتجين و أصحاب الحوانيت و صغار الفلاحين و الموظفين ، يشكلون جميعاً ما يسمى بالبورجوازية الصغيرة ، أكثر الطبقات عدداً و أوسعها نفوذاً و أبعدها أثراً في مجتمعنا"[22] ، و المفارقة هنا ان هذا التعريف لا يختلف من

حيث المضمون مع ما قدمه د. رمزي زكي الذي ينبهنا في كتابه إلى أنه "يستخدم مصطلح الطبقة الوسطى تجاوزاً ، لأنه مصطلح هلامي و فضفاض يفتقد للدقة العلمية ، و لأن هذا المصطلح يضم في الواقع كتلة واسعة من الفئات الاجتماعية التي تتباين في حجم دخلها ، و هي طبقة غير منسجمة ، يسودها مختلف ألوان الفكر الاجتماعي و السياسي ، حيث أنها تضم مختلف الشرائح الاجتماعية التي تعيش بشكل أساسي على المرتبات المكتسبة في الحكومة و القطاع العام و الخدمات و المهن الحرة ، و يطلق على أصحابها : ذوي الياقات البيضاء يتوزعون على ثلاثة شرائح : عليا و متوسطة و دنيا"[23] .

إن تسجيلنا لهذه الملاحظة ، شكل من الاجتهاد يستهدف العودة بمفهوم كل من "الطبقة الوسطى" و "البورجوازية الصغيرة" ووضعه في إطاره الصحيح ، منعاً للإرباك في تحليلنا للأوضاع الاجتماعية و مكوناتها و أزمتها في بلادنا .

الملاحظة الثانية : و تتناول الفرق الجوهري بين الطبقة البورجوازية المتوسطة ، و الطبقة البورجوازية الصغيرة ، حيث تتميز الأولى ، بضعف بنيتها و حجمها و دورها ، و بتماسك موقفها الأيديولوجي الأقرب إلى أيديولوجية البورجوازية الكبيرة ، بحكم توافق المصالح و تداخلها بينهما . أما البورجوازية الصغيرة فهي الطبقة الأكثر عدداً و اتساعاً و شمولاً في كل مجتمعاتنا العربية ، و البلدان النامية عموماً ، و قد لعبت هذه الطبقة دوراً مركزياً في الإطاحة بالبنية المجتمعية العربية التقليدية القديمة أو الأرستقراطية ، في العديد من الدول العربية ، و فرضت بديلها الوطني و القومي المعادي للاستعمار و الصهيونية من جهة ، إلى جانب بديلها الاجتماعي الداخلي ضد الإقطاع و الرأسمالية الكبيرة ، و أحدثت تحولاً نوعياً في حياة الفلاحين و العمال و الفئات الفقيرة ، لا يمكن تخطيه أو القفز عنه ، خاصة في المراحل الأولى من تولي الطبقة للحكم أو السلطة .
المسألة الهامة الأخرى ، أن البورجوازية الصغيرة شكلت دوماً ، و ستظل إلى مدى بعيد قادم ، الوعاء أو المصدر الأول لتأسيس المؤسسات و الجمعيات و الأحزاب اليسارية و القومية و الدينية بمختلف أيديولوجياتها و أساليب عملها و أهدافها و حجم حركتها و اتساعها حسب هذا الظرف أو هذه المرحلة و طبيعة الطبقة السائدة فيها ، المهم أن هذه الطبقة ما زالت قادرة على التأثير الإيجابي في مجرى التطور الاجتماعي العربي ، إذا وجدت التنظيم أو الحزب القادر على إثبات وجوده و تأثيره ووضوح أهدافه ، إذ أنها طبقة ذات طبيعة مزدوجة نتيجة لوضعها المزدوج و تأرجحها بين الارتفاع و الهبوط ، و بالتالي فهي حين تشكل لنفسها تنظيماتها ، لا تنجح عادة في الاحتفاظ باستقلالها السياسي حيث تترعرع فيها المظاهر الضارة من الشللية و التكتلات و الانشقاقات و عدم التجانس أو التوحد الفكري و السياسي فهي "حين تحارب ضد البورجوازية الحاكمة ، فإنما تحارب بوسائل المجتمع البورجوازي نفسه" [24] ، و لذلك يسهل قيادتها من خارجها –في ظروف محددة- عبر حركة منظمة ، أو حزب قوي بغض النظر عن أيديولوجيته و هويته السياسية و الفكرية ، و المثال الصارخ على ذلك ، ما يجري الآن من اتساع غير اعتيادي ، من حيث حجم و عدد عناصر البورجوازية الصغيرة الذين يشكلون الأغلبية الساحقة في الجسم التنظيمي للحركات الدينية السياسية و تنظيماتها في بلداننا العربية ، في المرحلة الحالية ، نظراً لتراجع قوة و حضور و تأثير الأحزاب القومية اليسارية الديمقراطية فيها .

أمام كل ذلك ، ليس بإمكان القوى الديمقراطية اليسارية العربية تخطي واقع ووجود هذه الطبقة بالرغم من تقلبها و عدم ثباتها ، و ذلك لاعتبارين ، أولهما ، أن أوضاع هذه الطبقة عموماً ، و الشرائح المتوسطة و الدنيا فيها خصوصاً ، تواجه الآن في الدول العربية غير النفطية بالذات ، حالة من التدهور الكبير الذي أودى بأوضاعها الاجتماعية و الاقتصادية إلى الحضيض بسبب انخفاض مستويات دخولها و مستويات معيشتها انخفاضاً كبيراً ، و الانتشار الواسع للبطالة في صفوفها الذي أدى إلى هبوط أعداد كبيرة منها الى عداد الطبقة العاملة أو الشرائح الفقيرة عموماً ، و ذلك على أثر تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة و الخصخصة و بيع القطاع العام و إلغاء الدعم ، و ثانيهما ، يتمثل في الضرورة الموضوعية التي تفرض على كافة قوى اليسار الديمقراطي العربي ، أن يجدد قواه ، و يستعيد دوره الطليعي على الصعيد الاجتماعي و السياسي الداخلي ، في ظل هذه الظروف المتردية التي تعيشها جماهيرنا الشعبية اليوم ، و التي استطاعت الحركات الدينية السياسية ، عبرها ، أن تتفاعل معها بما أدى الى اتساع أطرها ، وضخامة تأثيرها السياسي ودورها رغم عدم وضوح برامجها الاقتصادية والاجتماعية من جهة ، وعدم تناقض هذه البرامج مع جوهر الليبرالية الرأسمالية وأنظمتها من جهة أخرى .

إن وجوب تفاعل قوى اليسار الديمقراطي مع الشرائح المتنوعة للبورجوازية الصغيرة ، يفرضه حجمها ووجودها الكمي الذي تزيد نسبته عن 50% من مجموع السكان في بلداننا من ناحية ، كما يفرضه شكل وطبيعة الصراع الطبقي وضعف تبلور الوعي به من ناحية ثانية ، خاصة في أوساط العمال والكادحين الذين لم يتبلوروا بعد "كطبقة بذاتها" ، تعبر عن وجود متبلور ومحدد المعالم أو حالة موضوعية ، فعمالنا وكادحينا ما زالوا يشكلون "طبقة لذاتها" تمكنهم من التعبير عن وجودهم الذاتي ، وليس الطبقي العام ، إن الفرق هنا هو فرق بين الموضوعي والذاتي ، وبكلام آخر ، إنه الفرق بين الوعي الطبقي ، أي الإحساس بالظلم ومقاومته ، والوعي الزائف الذي لا يدل ويكشف عن حقائق الواقع ، ويلجأ الى الأسباب الشكلية أو التراثية أو القدرية أو الاقتصادية على أحسن تقدير ، وهنا تكمن الحاجة الماسة ، أو الحتمية في ضرورة إعادة تجديد واستنهاض دور القوى اليسارية الديمقراطية العربية ، التي تملك وضوحا في الرؤية الأيديولوجية ، ووضوحا في البرنامج الاجتماعي/الاقتصادي ، ووضوحا في الموقف القومي والسياسي العام ، بما يحول دون تأثير المظاهر والصفات الضارة ، من تذبذب وتردد ونزوع نحو التكتل والشللية من جهة ، ويضمن لهذه القوى وأطرها قيادة ملتزمة بقضايا الجماهير الشعبية الفقيرة وإخراجها من هذه الأزمة الاجتماعية التي تكاد تعصف بوجودها ومستقبلها .

المسألة الأخيرة التي نتناولها في سياق الحديث عن الأزمة الاجتماعية في الأوضاع العربية الراهنة ، تتعلق بمفهوم "المجتمع المدني" الذي انتشر في بلادنا خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين .

فبالرغم من تداول هذا المفهوم في الأوساط النخبوية الحكومية و غير الحكومية ، في بعض البلدان العربية ، إلا أن هذه الظاهرة لا تعني وجود أو تبلور مجتمع مدني عربي كما يروج البعض ، إذ أننا ما زلنا في مرحلة ما قبل الحداثة أو ما قبل المجتمع المدني ، رغم كل ما يتبدى على السطح ، في الواقع المادي أو في المفاهيم ، من مظاهر حداثية لا تعدو أن تكون شكلاً فقط دون أي محتوى حقيقي يعبر عنها و الشاهد على ذلك بصورة حية ، مسار التطور الاجتماعي العربي في سياقه التاريخي العام ، القديم و الحديث ، هذا المسار لم يستطع حتى اللحظة ، بسبب عوامل خارجية و داخلية مهيمنة ، فرز أو بلورة طبقات بالمعنى الحقيقي ، و الواسع للكلمة ، أي "طبقات بذاتها" تستطيع التعبير عن مصالحها الاقتصادية و السياسية ، و تدافع عنها ككتلة طبقية موحدة مدركة لوجودها الموضوعي ، ففي غياب هذا التبلور الطبقي ، و استمرار سيطرة الأنماط القديمة ، تشكلت في بلادنا حالة طبقية مشوهة ، امتزجت فيها ، كل العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالأنماط القديمة و الحديثة معاً ، تبدو واضحة اليوم عبر ما نشاهده في كل مجتمعاتنا من استمرار وجود و تأثير العلاقات البدوية القبلية و الحمائلية و العائلية ، و العلاقات شبه الإقطاعية التي اختلطت بالعلاقات الاجتماعية الرأسمالية الحديثة ، و كونت هذا المزيج أو التشكل الطبقي المشوه و السائد –حتى اليوم- في كل مكونات البنية المجتمعية ، الفوقية و التحتية بهذه الدرجة أو تلك ، و بالتالي فإن الحديث عن مجتمع مدني ، في إطار هذا المزيج أو الشكل المرقع من "الجماعات" ما قبل الحداثة أو المدنية ، مسألة تحتاج إلى المراجعة الهادئة التي تستهدف تشخيص الواقع الاجتماعي العربي ، و أزمته المستعصية الراهنة ، تشخيصاً يسعى إلى صياغة البديل الديمقراطي القومي وآلياته الديمقراطية وصولاً إلى تفعيل مفاهيم و أدوات ومؤسسات المجتمع المدني في إطار النضال الوطني و القومي ، التحرري و الديمقراطي المطلبي معاً ، ففي هذا السياق وحده ، نستطيع نفي الطابع الطارئ و المستحدث الوافد لمفهوم المجتمع المدني من جهة ، و نستطيع أيضاً نفي واقع الإبهام و الغموض الذي يشوب الحديث عنه في هذا المناخ المهزوم و المأزوم ، حيث ترعرع مفهوم "المجتمع المدني و الديمقراطية الليبرالية" و بات مألوفاً من كثرة تداوله في معظم "الحوارات و الندوات وورش العمل التي تعقدها بعض القوى السياسية و تروج لها المنظمات غير الحكومية ، و هي "حوارات و ورشات عمل" استطاعت الانتشار و التوسع في العديد من الدول العربية في أوساط نخبة يتكرر حضورها في هذه الندوة أو الورشة أو تلك بصورة شبه دائمة ، و هي ظاهرة تدعو إلى إثارة الانتباه و التأمل ، و ليس الاستغراب ، من حيث أن هذه "الورش و الندوات" التي "نجحت" في القفز بمفاهيم المجتمع المدني و الديمقراطية الليبرالية ، و الوصول بها إلى أعلى سلم الأولويات في الإطار الضيق "للنخبة السياسية" التي تخلى معظم رموزها عن مواقفهم اليسارية السابقة ، لم تنجح –بالمقابل- في الوصول أو التغلغل بأي شكل من الأشكال إلى الأوساط الجماهيرية الشعبية ، و إن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل على غربة هذه المفاهيم بطابعها و جوهرها الليبرالي عن الواقع من جهة ، و غرابة صيغها و عناوينها الفرعية المتعددة ، و شكل عباراتها المركب بصورة لا يمكن للجماهير أن تستوعبها ، نورد بعضاً منها على سبيل المثال :"التمكين في المشاركة" "الشراكة الجديدة بين الدولة و الأسواق" ،"تنمية قدرات الإنسان" ،"تقدير الفقر بمشاركة الفقراء في وضع استراتيجيات تخفيف فقرهم!" "تنمية المبادرات المحلية" ،"المنظمات الأهلية و الديمقراطية و التنمية المستدامة" ،"دور المنظمات الأهلية مع القطاع الخاص" ،"التنمية البشرية من منطلق الأطفال" ،"الجندر" ،"عمليات التشبيك" ،"الليبرالية و الخصخصة و اقتصاد السوق" …. الخ . و هي عبارات غريبة في معظمها عن واقعنا ، نظراً لكونها مترجمة ترجمة حرفية ميكانيكية عن لغتها الأم مما جعل منها عبارات عامة و مبهمة و "جديدة" حلت محل المفاهيم المعادية للإمبريالية و الصهيونية و مفاهيم التحرر القومي و الوحدة و العدالة الاجتماعية و الاشتراكية و أضيفت إلى مفردات اللغة و الخطاب السياسي الهابط ، الذي حدد النظام الرأسمالي المعولم الجديد ، أسسه و منطلقاته الليبرالية ، الفكرية و السياسية العامة ، و ترك هامشاً للمنظمات غير الحكومية في العالم العربي ، و العالم الثالث لتمارس دورها أو قناعاتها الجديدة في إطار تلك الأسس و المنطلقات بما يضمن استمرار تمويل مشاريعها من المؤسسات الغربية التي يرتبط بعضها علناً بالأجهزة الأمنية في بلدانها ، عدا عن دور معظمها في تشجيع ما يسمى بـ "عملية السلام" و التطبيع مع العدو الصهيوني بصورة سافرة و مكشوفة ، إن ما يدفعنا إلى هذا الاستنتاج ، تلك الازدواجية أو المفارقة الغريبة ، التي تمارسها دول النظام الرأسمالي الغربي ، فهي من جهة تساند و تدعم كافة الأنظمة و المؤسسات الاستبدادية المتخلفة في بلادنا بصورة منهجية واضحة ، و تقوم عبر هذا الزيف الليبرالي الجديد بدعم المنظمات غير الحكومية دفاعاً عن الديمقراطية و حقوق الإنسان من جهة أخرى !؟ أية ديمقراطية هذه ؟ إنها الديمقراطية المغربة النخبوية الفوقية و المعزولة عن الجماهير ، يؤكد على ذلك أن جميع المنظمات الغير حكومية –في البلدان العربية- لم يستطع أي منها الاعتماد في تمويل مشاريعه على المجتمع المحلي و لو بنسبة 20% فقط ؟! بسبب اعتماد هذه المنظمات على الآخر الأجنبي من جهة ، و فشلها في إقامة أي شكل من أشكال العلاقة الواسعة و الثابتة مع الجماهير أو المجتمع المحلي ، رغم أن عدد هذه المنظمات يبلغ حوالي (70) ألف منظمة تنتشر في بلدان الوطن العربي على السطح بلا أي جذور أو تمدد .

و في هذا المشهد الملتبس داخلياً ، في إطار النظام العربي المأزوم و المهزوم ، و خارجياً على الصعيد العالمي ، خاصة بعد انهيار الثنائية القطبية و معادلاتها و ضوابطها السابقة ، يصبح الحديث عن مفاهيم المجتمع المدني ، نتاجاً مباشراً لهذا المشهد الجديد ، و عوامله و محدداته الخارجية ، و ليس نتاجاً لمعطيات و ضرورات التطور الاجتماعي –الاقتصادي-السياسي في بلادنا ، إذ أن الحديث عن المجتمع المدني العربي ، هو حديث عن مرحلة تطورية لم ندخل أعماقها بعد ، و لم نتعاطى مع أدواتها و معطياتها المعرفية العقلانية التي تحل محل الأدوات و المعطيات المتخلفة الموروثة ، مثالنا على ذلك صارخاً في وضوحه لمن يريد أن يستدل عليه ، فالبورجوازية الأوروبية –التي كانت ثورية في مراحلها الأولى- في عصر النهضة أو الحداثة ، جابهت الموروث السلفي اللاهوتي الجامد ، بالعقل و العقد الاجتماعي ، و جابهت الحكم الثيوقراطي و الأوتوقراطي الفردي بالعلمانية و الديمقراطية ، و جابهت الامتيازات الأرستقراطية و الطبقية بالحقوق الطبيعية ، كما جابهت تراتبية الحسب و النسب و اللقب بالمساواة الحقوقية و المدنية ، بين جميع المواطنين ، فأين نحن العرب من كل ذلك ؟ و نجيب بوضوح ، ان مجتمعنا العربي اليوم ، هو "مجتمع بلا مجتمع مدني" ، فطالما أن بلادنا ليست في زمن حداثي/حضاري و لا تنتسب له ، بالمعنى الجوهري ، فإن العودة إلى القديم أو ما يسمى بإعادة إنتاج التخلف سيظل أمراً طبيعياً فيها ، يعزز استمرار هيمنة المشروع الاستعماري المعولم على مقدراتنا و استمرار قيامه فقط بإدارة الأزمة في بلادنا دون أي محاولة لحلها سوى بالمزيد من الأزمات .


- حول مفهوم وتطبيقات المجتمع المدني في بلادنا
أمام هذا الواقع المعقد والمشوه ، و في مجابهته ، ندرك أهمية الحديث عن المجتمع المدني و ضروراته و لكن بعيداً عن المحددات و العوامل الخارجية و الداخلية ، المستندة إلى حرية السوق و الليبرالية ، لأننا نرى أن صيغة مفهوم المجتمع المدني وفق النمط الليبرالي ، فرضية لا يمكن أن تحقق مصالح جماهيرنا الشعبية ، لأنها تتعاطى وتنسجم مع التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية التابعة و المشوهة من جهة ، و تتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة و مصالحها المشتركة في إطار الحكم أو خارجه.

و يكفينا للتدليل على صحة ما تقدم ، أن الأنظمة التسلطية في العالم الثالث ، تبدو مكرهة اليوم ، في ظل سيادة آليات العولمة ، على الأخذ ببعض أشكال "النمط الليبرالي الديمقراطي" أو الانفراج السياسي بصورة متفاوتة و جزئية بما ينسجم مع ضرورات الخصخصة وآليات السوق ومنظمة التجارة الدولية من جهة ، و بما يخدم مصالح المركز الرأسمالي المعولم أو لا يتعارض معه من جهة أخرى .

المسألة الأخرى التي ندعو إليها في هذا السياق ، هي وجوب الإدراك بطبيعة الفرق الجوهري بين نشأة "الرأسمالية" في العالم الثالث ، و الرأسمالية في البلدان الغربية ، فالمعروف أن الرأسمالية الغربية ، بنت قوتها الاقتصادية أولاً ، ثم استولت على السلطة السياسية ، في حين أن دول العالم الثالث ، تم الاستيلاء على السلطة أولاً ثم يجري الحديث عن "بناء القوة الاقتصادية" ، بما يعزز القاعدة المتبعة في هذه الدول عموماً ، و التي تقوم على أن السلطة مصدر للثروة ، و بالتالي فإن الفجوة بين الإطار الضيق لأصحاب السلطة و الملتفين حولها من جهة ، و الإطار الواسع للجماهير الشعبية الفقيرة من جهة أخرى ، ظاهرة قابلة للتزايد و الاتساع و التفاقم ، عبر التراكم المتصاعد للثروة ، الذي يؤدي –كنتيجة منطقية أو حتمية- إلى تزايد أعداد الجماهير الفقيرة المقموعة و المضطهدة تاريخياً ، و تعرضها إلى أوضاع غير قابلة للاحتمال أو الصمت ، مما يضعها أمام خيارين : إما الميل نحو الإحباط أو الاستسلام و اليأس ، أو الميل نحو المقاومة و المجابهة السياسية الديمقراطية ، أو العنيفة ، تحت غطاء اجتماعي أو ديني ، أكثر بما لا يقاس من ميلها نحو الاقتناع بالهامش الليبرالي و شكله المحدود ، للخلاص من وضعها و أزماتها المستعصية ، إن إدراكنا لهذه الفروق الجوهرية ، يدلنا على كيفية التعامل مع مفهوم المجتمع المدني ، و أية مفاهيم أخرى ، وفق خصوصية تطورنا الاجتماعي التاريخي و المعاصر ، المختلفة نوعياً عن مجرى و طبيعة التطور في البلدان الغربية ، و ما يتطلبه ذلك الإدراك من تحويل في المفاهيم بحيث تصبح مقطوعة الصلة مع دلالاتها السابقة ، التي تمحورت فقط عند الإشارة إلى المجتمع المدني كضرورة في خدمة عمليات التنافس الاقتصادي بين الأفراد على قاعدة حرية السوق ، كما يقول "انطونيو جرامشي" الذي "صاغ مفهوماً جديداً للمجتمع المدني" ، بحيث أصبح جزءاً من البنية الفوقية ، يشير به إلى المؤسسات الطبقية و الاجتماعية التي تختص بالوظائف الأيديولوجية ، فقد عالج جرامشي موضوعات البنية الفوقية بوصفها تعبيراً عن إرادة جماعية و طبقية ، فالسيادة الطبقية التي تمارسها الطبقات الحاكمة في الغرب (و يتم تطبيقها في بلداننا العربية اليوم) لا تقوم على قمع الأجساد فقط ، بل على أسر العقول أيضاً ، من خلال إشاعة أنماط معينة من الثقافة و القيم و التقاليد ، و على هذا الأساس نفهم اهتمام جرامشي بقضايا الثقافة و المثقفين في الحزب أو المثقف الجمعي ، كما نفهم رؤيته للعمل السياسي الذي يجب أن يكون هدفه إخراج الجماهير من حالة الركود و الاستنقاع التي تعيشها ، و ذلك عبر رفع هذه الكتلة الجماهيرية إلى مستوى البنية الفوقية ، كميدان للفعل الجماعي و الإرادة الخّلاقة"[25] ، في هذا السياق وحده يصبح مفهوم المجتمع المدني مطلباً أساسياً لكافة القوى الوطنية و التقدمية الديمقراطية العربية ، من أجل تحقيق المجتمع المدني العربي ، الذي تنتظم فيه العلاقات بين أفراده على أساس الديمقراطية السياسية و الاجتماعية معاً ، المجتمع الذي يقوم فيه النظام السياسي أو سلطة الدولة نتيجة اتفاق أفراد هذا المجتمع بإرادتهم الحرة الواعية ، بحيث يكون قادراً بصورة ديمقراطية على مواجهة مظاهر الخلل و الفساد و التعسف و الاستبداد ، و محاسبة رموزها و أدواتها في السلطة أو الدولة ، هذا هو فهمنا أو تعريفنا لمضمون المجتمع المدني ، إنه مجتمع الحداثة الفكرية و روحها النقدية و علميتها و إيمانها بدور الإنسان و محوريته ، المجتمع الذي تقوم فيه دولة المؤسسات الديمقراطية بالمعنى الحديث للمؤسسة : برلمان ، و انتخابات دورية ، و قضاء مستقل ، و أحزاب و نقابات و جمعيات و اتحادات في فضاء واسع من حرية المواطن و حرية المجتمع في إطار الالتزام الواعي لضرورات التداخل و الوحدة الجدلية بين مهمتي التحرر القومي و الديمقراطي معاً عبر التصدي للعدوانية الصهيونية –الإمبريالية على بلادنا من جهة ، و التحرر الديمقراطي الاجتماعي على قاعدة الاعتماد الجماعي العربي على الذات للخلاص من التبعية و التخلف و تحقيق العدالة الاجتماعية و تكافؤ الفرص و الديمقراطية وفق أسس ومنطلقات الروح النقدية والعلمانية والتقدم من جهة أخرى .
فالمشروع القومي الديمقراطي ذو الافق الاشتراكي ، الذي نناضل مع كافة القوى التقدمية والديمقراطية العربية، من اجل تحقيقه، يقتضي "ضرورة اطلاق مشروع معرفي ملازم. والعلمانية عنصر بناء أساسي في المشروع السياسي وفي المشروع المعرفي على السواء. ذلك لأنها مدخل ضروري إلى العقلانية وجذر للديمقراطية، وأساس في بناء الدولة القومية. وتشكل مع الديمقراطية مضمون القومية الحديث"[26].
على اننا بالقدر الذي نؤكد فيه على التزامنا بضرورات تطبيق المنهج العلمي وآلياته كشرط رئيسي لخروج مجتمعاتنا العربية من حالة التخلف والتبعية والاستلاب والخضوع، الراهنة، صوب النهوض والتحرر القومي والتقدم، الا أننا أيضا، نؤكد بوضوح ووعي والتزام موضوعي، أن موقفنا هذا لا يتعارض أبدا مع احترامنا للوعي الديني العفوي الصادق ، الممتد بجذوره وتفريعاته مع العديد من الجوانب الايجابية المشرقة في تراثنا العربي في اوساط جماهيرنا الشعبية من أجل تحقيق أهداف هذه الجماهير في التحرر والانعتاق، والعدالة الاجتماعية. لكننا إزاء الموقف الديني لهذه الفصائل والحركات من السياسة ، لا بد من تحديد موقف سياسي من الدين يتقوم –كما يقول الجباعي- بإخراج الدين من اطار الممارسة الاجتماعية/السياسية إلى اطار الممارسة الشخصية ، وضمان حرية الفكر والاعتقاد، وحرية ممارسة الشعائر والعبادات، ولما كانت الممارسة الفردية غير ممكنة الا في اطار جماعة أو مجتمع ، فإن المؤسسة الدينية هي الشكل الجماعي لهذه الممارسة الفردية.
على أن نأخذ بعين الاعتبار أن عملية الانتقال ، الجارية الآن في الوطن العربي ، من الدين- المعتقد ، إلى الدين - الملجأ او الملاذ، وبروز الدين الإحتجاجي والأيديولوجية الكفاحية بسبب من الهزائم المذلة التي منيت بها الأمة، وتنامي الاستبداد، وتراجع الحركة القومية الديمقراطية والاشتراكية، وإخفاق الأيديولوجيات الليبرالية والقومية والماركسية الستالينية، وتنامي الهيمنة الإمبريالية، واشتداد وطأة التبعية والنهب والاستغلال.. وازدياد حدة التناقضات الاجتماعية ـ السياسية مع غياب الوعي المطابق بهذه التناقضات وبحاجات التغيير.. عملية الانتقال هذه –كما يضيف الجباعي بحق- تحاصر التوجهات العلمانية وتقلص أكثر فأكثر حظوظ العقلانية وتحول حركة الاحتجاج السلبي على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى حركة ارتداد معادية للتقدم والعلمانية وحرية الفكر والإبداع ، تقودها الجماعات الدينية المتطرفة التي هي الوجه الآخر لعملة النظم القطرية المستبدة لخدمة مصالح وأهداف الفئات والقوى الاجتماعية السائدة والحاكمة، والتي تخدم في نهاية المطاف الحفاظ على البنى والعلاقات والأوضاع القائمة وخصوصاً الدولة القطرية .
إن نقد هذه المواقف ، ونقد الحرب الأهلية المتفجرة في لبنان والعراق وجنوبي السودان والكامنة في أقطار عربية أخرى ، و الكشف عن عواملها وأسبابها الثانوية في بنى وعلاقات المجتمع التقليدي التابع والمستباح، ونقد واقعة نقص الاندماج القومي ، وتشظي الوعي العربي وتأخره ، يستحضر العلمانية ويجعلها ضرورية وراهنة ، ضرورة وراهنية المشروع النهضوي نفسه .
إن التناقض الاجتماعي - السياسي بين قوى المحافظة والتقليد الرجعية من جهة، والقوى الثورية من جهة أخرى، والذي ينعكس، على الصعيد الثقافي، تناقضاً بين القومية التقليدية ذات المضمون الديني والقومية الحديثة والثورية ذات المضون العلماني - الديمقراطي، يؤكد أن ضرورة العلمانية وأهميتها وراهنيتها تتناسب طرداً مع عداء القوى التقليدية المحافظة لها، وذعرها منها.
لذلك كان لابد من تقديم العلمانية –وفق قوانين وآليات المنهج الدياليكتيكي الماركسي-، والكشف عن منطوياتها السياسية والاجتماعية والمعرفية والثقافية، والكشف كذلك عن علاقاتها الجدلية بالعقلانية والديمقراطية والقومية، وموقعها في المشروع النهضوي العربي، مشروع الثورة القومية الديمقراطية.
إن الذين يتحدثون عن التناقض بين الدين (مطلقاً) و العلمانية إنما يقيمون تعارضاً مصطنعاً واشكالية زائفة لا تخدم إلا في تبرير وتسويغ الأوضاع القائمة والدفاع عنها.
فالتعارض –كما نتفق مع الجباعي- قائم واقعياً بين العلمانية و السلطة الدينية سلطة النص، والمقدس، بين العلمانية والاستبداد الديني - السياسي وسلطة رجل الدين وتدخله المباشر في حياة الإنسان، بين العلمانية وكل سلطة أو مؤسسة أو رأي يرى أن كافة الأفكار والتصورات الميتافيزيقيية والسياسية والحقوقية والأخلاقية السائدة أو التي كانت سائدة هي محض أفكار وتصورات دينية، وينظر بالتالي إلى الإنسان على أنه إنسان ديني، وإلى جميع العلاقات الإجتماعية والسياسية والحقوقية والأخلاقية على أنها علاقات مكرسة دينياً ولا فرق في ذلك بين رؤية رجال الدين والتيولوجيين أو رؤية أيدولوجيين "علمانيين" يستمدون مناهجهم وأدواتهم المعرفية ورؤاهم من الدين نفسه ويعزلون جانباً أوجوانب منه لمعارضتها مع جوانب أخرى، لأن رجال الدين و هؤلاء الأيديولوجيين يلتقون في نقظة مركزية واحدة هي معارضة الكلام بالكلام وخوض معارك وهمية ضد طواحين الهواء[27].
فالعلمانية بالنسبة لنا ليست ، ولا ينبغي أن تصبح ، مذهباً أو عقيدة أيديولوجية تمارس سلطة الضبط والتدخل والحجر، ومصادرة حرية العقل . بل هي حرية العقل وحقه في ارتياد الفضاءات الفكرية المباحة والمحظورة أوالمحرمة واقتحام سائر ميادين العمل والمعرفة ، سائر ميادين الحياة ... العلمانية تعني أيضاً نزع طابع القدسية عن الأفكار وطابع العصمة عن البشر ، وترى أن مناقب الرفعة والشرف والأخلاق والكرامة.. مرتبطة بما يقدمه الفرد لمجتمعه ووطنه ومواطنيه ، إن حبلها السري موصول بالعقل والعقلانية التي هي أشمل وأعمق من الوضعية الوضعانية والتجريبية والبرغماتية ، العقلانية بما هي عقل الواقع وجدله .
أما فيما يتعلق بالترابط بين العلمانية والاندماج القومي ، فإننا نؤكد على أن العلمنة التي تكشف عن الروابط الجدلية بين السيادة العليا والسلطات السياسة وتفسر ظاهرة الانشقاق ونقص الاندماج القومي بأسبابها الموضوعية، التاريخية، وتؤسس لتاريخية العقل وتاريخية الفكر، وتخرج الدين من دائرة العلاقات الاجتماعية والسياسية ، "المدخـل الضروري لتحقيق الاندماج القومي، الشرط اللازم لتحقيق تحررالأمة وتقدمها وبناء وحدتها القومية ودولتها الديمقراطية وتحقيق سيادة الشعب وبناء مواطنيه حديثة . العلمنة في هذا المجال هي الشرط الضروري لإطلاق تناقضات المجتمع وصراعاته الأفقية،الطبقية، التي توحد وتبني وتطور في إطار المشروع القومي الديمقراطي" [28] . فالعلمنة هي مشروع الأكثرية (الفقراء والكادحين من العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة باعتبارهم روح هذه الامة ومحرك مشروعها القومي) ، التي تتحول من أكثرية دينية أومذهبية أو قومية الى أكثرية سياسية ، أكثرية يرقى وعيها إلى درجة تعي معها مسؤليتها المباشرة عن الأقلية أو الأقليات ، وتعي قانون جدلية القهر أوجدلية الظلم حيث الظالم هو المظلوم ، لأن الأكثرية ، عندما تضطهد الأقلية أو تتخلى عن مسؤوليتها التاريخية إزاءها ، عندما تغمطها حقها وتصادر حريتها ، عندما ترفض حقها في الاختلاف والمغايرة والمعارضة إنما... تضعف نفسهاوتعيد إنتاج شروط تأخرها وتحاجزهاو تزرع بذور شقاقها وضعفها وعوامل تدميرها الذاتي ، فالعلمانية هنا هي مشروع أكثري بقدر ما هي مشروع عقلاني .
اخيرا نؤكد على انه خارج اطار مشروع سياسي ، قومي تقدمي ديمقراطي ، وخارج اطار رؤية استراتيجية منفتحة وعقلانية ، نعني واقعية ثورية ، تبدو مسألة الديمقراطية فاقدة جوهرها وتبريرها ، مفقرة وهزيلة تخدم كغطاء أيديولوجي "حديث" لأهداف سياسية هابطة تستجيب لمتطلبات وشروط المقرر الخارجي ، الامريكي الاسرائيلي كما يجري في بلادنا اليوم .
بهذا التصور ، لمشروعنا القومي الاشتراكي الديمقراطي، يصبح تعاملنا مع مفهوم المجتمع المدني بعيداً عن المشروع الرأسمالي و حرية السوق و الليبرالية الجديدة ، و بالقطيعة معها ، دون أن نتخطى أو نقطع مع دلالاتها المعرفية ، العقلانية ، و الديمقراطية و العلم ، و المفاهيم الحداثية الأخرى و تكاملها مع أهدافنا في التحرر القومي و البناء الاجتماعي بآفاقه الاشتراكية كمخرج وحيد لأزمة مجتمعنا العربي المستعصية .
فعلى ضوء إنهيار المشروع القومي العربي، بعد أن فشل في تحقيق الوحدة القومية و الإستقلال و التطوّر و الحداثة. و بعد تزايد التوسّعية الصهيونية التي باتت تهدِّد الدول المحيطة بفلسطين بعد أن بدا لها أنها حسمت السيطرة عليها. و بعد إحتلال العراق، و الدور الإمبريالي الأميركي الذي يسعى للسيطرة المباشرة على دول عربية أخرى، لإعادة تشكيل المنطقة إنطلاقاً من السيطرة العسكرية المباشرة، و عبر تمكين الدولة الصهيونية و تحويلها إلى إمبريالية فرعيّة تكمِّل الدور الإمبريالي الأميركي في بلادنا.
و إنطلاقاً من تفكّك معظم حركات اليسار العربي، و الأزمة العميقة التي أوجدها إنهيار المنظومة الإشتراكية على صعيد الفكر الماركسي و الحلم الإشتراكي، و إنجراف قطاعات هامة من اليساريين في طريق الليبرالية الجديدة، و إعتناقهم للخيار الرأسمالي بأكثر أشكاله بشاعة، و تكيّفهم مع العولمة الإمبريالية، و مراهنتهم على تطوّر " قَدَريٍّ " تحقّقه الرأسمالية التابعة المحليّة، أو تنجزه عملية الإلتحاق بالعولمة.
و إستناداً إلى الأزمات العميقة التي باتت تعيشها الطبقة العاملة العربية، و مجمل الطبقات الشعبية. و حالة الإفقار التي باتت تُدفع إليها، حيث عززت تفاقم الصراع الطبقي ضد الرأسمالية التابعة التي نهبت المجتمع خلال العقود الماضية، و كانت جسر النهب الذي مارسته الطغم المالية العالمية و الشركات الإحتكارية الإمبريالية. و أيضاً إستناداً إلى حالة الإحتقان العميق الذي أوجدته الغطرسة الصهيونية و الإحتلال الإمبريالي، و التي أدت إلى الشعور بالحاجة إلى استعادة دور القوى اليسارية في النضال السياسي والديمقراطي من اجل تجاوز هذا الواقع وتغييره.
وانطلاقاً من ان الإحساس بأن المصلحة الطبقية باتت جزءاً من المصلحة القومية، و أن إنهاء نظم الرأسمالية التابعة هو جزء من مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني، و أن تحسين أوضاع الطبقات الشعبية مرتبط بتحقيق التطوّر الإقتصادي ( و هنا في الصناعة و الزراعة و في البنية التحتيّة و العلميّة )، و التطوّر المجتمعي. و هما مرتبطان بتحقيق الإستقلال و التوحيد القومي.
وفى مواجهة هذا الواقع فان البديل الذى يمكن ان يوفر الأساس الموضوعي والقاعدة المادية لمجابهة المخطط الأمريكي الصهيوني ، يتجلى فى ضرورة وعي كافة القوى اليسارية العربية للعلاقة العضوية المترابطة والجدلية فى آن معاً ، بين مفهومي القومية والماركسية ، تمهيداً لتوليد آليات المشروع القومي النهضوي العربي ، وفق رؤية ديمقراطية تقدمية وانسانية واضحة ومحددة ، تقوم على أن صراعنا ضد التحالف الإمبريالي الصهيوني المعولم ، هو فى جوهره صراع عربي ـ قومي فى أساسه دون استبعاد خصوصية وحجم الدور الطليعي المميز للقوى الوطنية والديمقراطية التقدمية فى هذا القطر العربي أو ذاك ، وفق موقعه او تماسه مع مكامن الخطر الداخلي أو الخارجي فى اطار الصراع العام واهدافه وشعاراته التوحيديه على المستوى القومي العربي كله ، بحيث يتوجب استناد هذه الأهداف الى تحليل ظاهرة استشراء العدوانية الصهيونية التوسعية العنصرية باعتبارها حلقة مركزية للامبريالية المعولمة فى بلادنا ، بما يفرض على كافة أطراف حركة التحرر القومي العربي فى صراعها التناحري مع العدو الاسرائيلي من ناحية ، وفى صراعها السياسي الديمقراطي فى داخل اقطارها من ناحية ثانية أن تنطلق من كون الصراع مع الحركة الصهيونية هو صراع ومجابهة بالضرورة للامبريالية الامريكية والنظام الرأسمالي المعولم برمته.
وفي هذا السياق فإن رؤيتنا في تطبيق المفاهيم والمنهجية الماركسية في بلادنا ، تتجاوز حالة التجزئة القطرية لاي بلد عربي –رغم ادراكنا لتجذرها- كما تتجاوزها كوحدة تحليلية قائمة بذاتها ، نحو رؤية اشتراكية ديمقراطية قومية ، تدرجية ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الامة-المجتمع العربي ، وتتعاطى مع الاطار القومي كوحدة تحليلية واحدة ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، مدركين ان الشرط الاساسي للوصول الى هذه الرؤية-الهدف ، يكمن في توحد المفاهيم والاسس والاليات التنظيمية والسياسية والفكرية لاحزاب وقوى اليسار العربي داخل اطاره القطري/الوطني الخاص كخطوة اولية ، تمهد للتوحد المعرفي والسياسي العام الذي يسبق التوحد التنظيمي المطلوب تحققه كضرورة عاجلة في مجابهة نظام العولمة وهيمنته واستغلاله لمقدراتنا .
على ضوء كل ذلك ندعو جميع الماركسيين المعنيين بمصير الوطن العربي، و بهزيمة الرأسمالية و التحالف الامبريالي الصهيوني، و بتحقيق التطوّر و الحداثة. ندعوهم إلى التفاعل و الحوار من أجل إعادة بناء التصوّرات الماركسية، و إعادة الإعتبار للحلم الإشتراكي. و كذلك ندعوهم إلى البحث الجاد في الواقع العربي من أجل بلورة المشروع القومي الديمقراطي، مشروع الإستقلال و الوحدة القومية و التطوّر و الديمقراطية و الحداثة.

و من أجل إعادة بناء الحركة الماركسية العربية بما يسمح بأن تتحوّل إلى قوّة فِعل حقيقيّ، و تأسيس مقدرتها على تفعيل الحركة المجتمعيّة، التي بها يمكن مواجهة الإحتلالين الصهيوني و الأميركي، عبر تعميم روح التحرّر. و إسهامها العالمي ضد الرأسمالية المتوحّشة، الإمبريالية المتجدِّدة.
و بالتالي فاننا نرى أن إعادة بناء الحركة يفرض إعادة صياغة الرؤية العامة التي تسمح بتبلور الافكار والرؤية اللازمة لتاسيس حركة جديدة. الأمر الذي يجعل للمسألة النظرية أهمية كبيرة، و يُقرّر أنها ضرورة لا بدّ منها، و مقدّمة ضرورية لتفعيل الحركة المجتمعيّة و تطويرها، و تنظيم إحتقانات الطبقات الشعبية لكي تصبح قوّة تغيير حقيقية، حيث لا يمكن للحركة المجتمعية أن تخرج من وضعيّتها الراهنة دون رؤية، و دون أهداف واضحة، و دون بديل لما هو قائم. وكذلك دون امل بتحقيق التغيير.
من أجل ذلك نعتقد بضرورة الحوار و التفاعل و الترابط . ملاحظين أن قضايا مهمة تحتاج إلى التأمّل و البحث، من أجل أن تسهم في تكريس رؤية ماركسية جديدة، تعبِّر عن الواقع القائم، وتؤسس لتجاوزه، ويمكن تلخيص هذه القضايا بالتالي:
1) إن إنهيار المنظومة الإشتراكية قد أفضى إلى الشكّ بالماركسية بمجملها، و ليس بالتصوّرات التي عمَّمتها الماركسية السوفييتية فقط . الأمر الذي وضع الماركسية بمجملها على المحكّ،هذا اللبس الكبير يفرض أن نعيد بناء الموقف من الماركسية، الأمر الذي لن يتحقّق إلا عبر إعادة بناء الماركسية ذاتها، من خلال إعادة بناء الرؤية المنطلقة من وعي الواقع و وعي آليات تغييره.
إننا في لحظة تفرض أن تؤكّد الماركسية أهليتها، و هذا هو دورنا النظري و السياسي و العملي.
2) و إذا كان المشروع القومي العربي قد حُمل على أكتاف الفئات الوسطى خلال النصف قرن السالف، فإن النتائج التي أوصلتنا إليها هذه الفئات، حيث و إن كانت قد أنهت البنية الإقطاعية و حاولت تحقيق التطوّر الإقتصادي و التحديث، فقد جلبت النهب الذي أدى إلى إعادة إنتاج الرأسمالية التابعة، و الإستبداد الذي كبت الصراع الطبقي و هشّم الحركة السياسية و شوّه الثقافة، دون أن تتحقّق الوحدة أو تسترجع فلسطين.
لهذا سيكون على الماركسية أن تعيد صياغة المشروع القومي الديمقراطي العربي في أهدافه العامة، و بما يحقِّق الترابط الضروري مع مصالح الطبقات الشعبية، و بما يجعله مشروع ممكن و يمثِّل البديل الراهن في سياق تحقيق البديل الإشتراكي.
3) ثمّ أن العالم قد تغيّر و تطوّر، و باتت هناك أوضاع جديدة تحتاج إلى البحث و التحليل، لأننا نعيش في عالم واحد، و نخضع أكثر من أيّ وقت مضى لسطوة الإمبريالية و لهيمنة الشركات الإحتكارية الإمبريالية، و لهمجيّة العسكرية الإمبريالية.
و نعاني من أنياب العولمة المتوحّشة التي تُفرض على العالم كلّه، و خصوصاً على الأمم المخلّفة و المفقرة و المهمّشة، و التي تعاني الجوع و الأوبئة و الأميّة و الموت. نعاني من تحكّم القلّة بالغة الغنى بعالم يغرق في الجوع و المرض و الجهل. و من إخضاع العالم لمنطق الربح الأعلى على حساب البشر و رغماً عنهم. و كذلك من إغراق العالم بالحروب الإمبريالية و الحروب الدينية و الإثنيّة و الطائفيّة و القبَليّة و القوميّة.
و بالتالي نعاني من إحتجاز التطوّر، لأن إستمرار هيمنة الشركات الإحتكارية الإمبريالية يفرض منع " باقي العالم " من أن يمتلك قوّة الإنتاج الأساسية في هذا العصر، التي هي الصناعة. حيث أن " الحرب الإستباقيّة " في مجال الإقتصاد تفرض أن تُحرم الأمم المخلّفة من وسيلة التطوّر الأساسية التي هي الصناعة، و أن تبقى أمماً ريفيّة أو مهمّشة أو تعتمد على " هبة الطبيعة " التي هي المواد الأوّلية.
كل ذلك يفرض أن ينفتح الحوار و البحث، من أجل أن تتقاطع الرؤى، و يتبلور ما يمكن أن يشكِّل أساساً لحركة تغييرٍ ماركسية جديدة. إننا معنيّون بمواجهة الحرب الإمبريالية الأميركية، وركيزتها المتمثّلة في الدولة الصهيونية ، و كذلك مواجهة نهب الأنظمة الرأسمالية التابعة و إستبداديّتها. معبّرين عن روح الطبقات الشعبية و عن حلمها في التطوّر و الحياة الكريمة و المساواة.
لهذا يجب أن يعود لليسار دوره الحقيقي، و أن تعود الماركسيّة منهجيّة تحفر في الواقع، و تؤسّس لتجاوزه نحو المستقبل، أي نحو استكمال مهمات التحرر الوطني والقومي الديمقراطي وبناء الصناعة و تحقيق التنمية الإقتصادية، و الإرتقاء في وضع الطبقات الشعبية، و في تأسيس الدولة العربية الديمقراطية القائمة على أساس فيدرالي، و التي تقرُّ بحقوق الأقليات القومية و بالخصوصيات المناطقيّة، و تكون قوّة عالمية في مواجهة النمط الرأسمالي، من أجل تجاوزه نحو الإشتراكيّة.
هذا الدور لليسار و للماركسية، هو الذي يفتح الأفق لتجاوز التخلّف و التجزئة و التبعيّة و الإستبداد، و تحقيق المشروع القومي الديمقراطي العربي.
نحن معنيّون بتأسيس حركة ماركسيّة عربية جديدة، تعمل لأن تكون قوّة فِعلٍ حقيقية، لكن دون أن نتجاهل دور الطبقات الأخرى و الأحزاب الأخرى. لكننا الآن معنيّون بالحوار من أجل أن يصبح نشوء تلك الحركة ممكناً. هذا ما يحظى بالأولويّة الآن، لكن دون تجاهل المعارك اليوميّة، و التحالفات التي تفرضها.
بناء على ما تقدم فإن الدعوة الى الحوار بهدف ايجاد آلية حوار فكري من على ارضية الحداثة والماركسية ، حول كل القضايا السياسية والاقتصادية والمجتمعية القومية والانسانية ، بما يخدم ويعزز الدور الطليعي لقوى اليسار العربي عموما ، والفلسطيني خصوصا، بكثير من الهدوء والتدرج والعمق- الهادفة الى توفير العوامل المؤدية الى ولادة واعلان الحركة اليسارية القومية العربية الموحدة ، في الزمان والمكان المناسبين ، سواء في المرحلة الراهنة ، او في المستقبل ، رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تفرضها الهجمة العدوانية الصهيونية الامبريالية على امتنا من جهة ، ورغم ما يعتري هذه المرحلة من ادعاءات القوى الليبرالية الهابطة تجاه ضرورات الماركسية وراهنيتها .


________________________________________
[1]جامعة الدول العربية، التقرير الاقتصادي العربي الموحد، 2004 ، ص(د) .
[2] المصدر السابق، ص(ك).
[3] المصدر السابق، ص(ز).
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق، (ي).
[6] . اسعد غانم واخرون، تقرير "مدار" الاستراتيجي 2005 ، المشهد الاسرائيلي في العام 2004 ، المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، رام الله، ص180
[7] د. اسعد غانم واخرون، مصدر سبق ذكره، ص27
[8] د. اسعد غانم واخرون، مصدر سبق ذكره، ص25.
[9] د. اسعد غانم واخرون، مصدر سبق ذكره، ص181.
[10] د. اسعد غانم واخرون، مصدر سبق ذكره، ص196.
[11] كارل ماركس-رأس المال –الجزء الأول –ترجمة محمد عيتاني-مكتبة المعارف-بيروت –1975 –ص7 .
[12] جاد الجباعي –التبعية و إشكالية التأخر التاريخي- كتاب جدل – العدد الثالث-مؤسسة عيبال-قبرص-1992 –ص145 .
[13] د. محمود عبد الفضيل –التشكيلات الاجتماعية والطبقية في الوطن العربي- مركز دراسات الوحدة- بيروت-1988 - ص99 .
[14] مهدي عامل –النظرية في الممارسة السياسية-دار الفارابي-الطبعة الثالثة-بيروت-1990-ص356 .
[15] د. حليم بركات –المجتمع العربي في القرن العشرين –مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت-تموز 2000-ص19 .
[16] د.حليم بركات –المصدر السابق- ص24 .
[17] د.هشام شرابي-البنية البطريركية-سلسلة السياسة والمجتمع-دار الطليعة-بيروت-1987-ص30.
[18] د.محمود عبد الفضيل –مصدر سبق ذكره- ص137/138 .
[19] المصدر السابق – ص140 .
[20] د. حليم بركات – مصدر سبق ذكره- ص327 .
[21] د.حليم بركات-المصدر السابق-ص .
[22] د. فؤاد مرسي –البورجوازية الصغيرة .. الوضع الطبقي .. و الموقف الفكري- الطليعة-القاهرة-يوليو 1969 –ص10 .
[23] د. رمزي زكي –وداعاً للطبقة الوسطى-دار المستقبل العربي-القاهرة-1997 –ص84/85 .
[24] د. فؤاد مرسي –مصدر سابق – ص16 .
[25] يسري مصطفى –المجتمع المدني في فكر جرامشي –مجلة اليسار-القاهرة-فبراير 1996 –ص67 .
[26] جاد الكريم الجباعي-دراسة بعنوان العلمانية في المشروع القومي الديمقراطي
[27] المصدر السابق.
[28] المصدر السابق



يناير 2006
المحتويات

الموضوع الصفحة
-تمهيد 3
- الواقع العربي والمظاهر الرئيسية للأزمة الراهنة: 4
-المظهر السياسي للأزمة 11
-المظهرالاقتصادي للأزمة 16
-المظهر الاجتماعي للأزمة 27
-أهمية التطابق الجدلي بين المفهوم المعرفي والواقع الاجتماعي 35
-حول مفهوم وتطبيقات المجتمع المدني في بلادنا 43



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة والعلاقات الدولية الراهنة
- ورقة حول -الحصار وانعكاساته على الأوضاع الاقتصادية- مقدمة إل ...
- مداخلة حول ورقة أ. تيسير محيسن - آفاق التحولات البنيوية في ا ...
- ورقة أولية : حول فشل اليسار ... وسبل نهوضه - وجهة نظر للحوار
- دراسة حول الخيارات والبدائل المتاحة للتشغيل بعد الانسحاب من ...
- الاقتصاد الفلسطيني .. الواقع والآفاق
- المفكر الفلسطيني غازي الصوراني ل -الخليج-: الأمة العربية قاد ...
- التداعيات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة في المجتمع الفلسطين ...
- التحديات والمخاطر السياسية والاقتصادية -لخطة شارون- وسبل الم ...
- دراسة حول/ المشروعات الصغيرة في فلسطين: واقع ورؤية نقدية
- الإصـــــلاح الاقتصـــــادي ضرورة تنموية وطنية
- حوار مع أ.غازي الصورانـي حــول : قضايا الثقافة الفلسطينية وا ...
- ورقة/ تعقيب على مداخلتين حول: أثر التطورات المحلية والعالمية ...
- أي تنميـــة لفلســطيــن ؟ الواقـــع والآفـــاق
- القصور والعجز الذاتي في أحزاب وفصائل اليسار العربي ... دعوة ...
- الآثار الاقتصادية الناجمة عن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة
- حول مفهوم الثقافة ... وأزمة الثقافة في فلسطين
- المأزق الفلسطيني الراهن
- الدستور الفلسطيني ومفهوم التنمية
- كلمة غازي الصورانـي في : المهرجان الجماهيري التضامني مع بيت ...


المزيد.....




- جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك ...
- احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي ...
- هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام ...
- الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست ...
- استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ ...
- -رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
- روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
- رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
- هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غازي الصوراني - الوضع العربي الراهن وآفاق المستقبل