السياسة النقدية والليبرالية الجديدة: قراءة شاملة في فكر ميلتون فريدمان

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8217 - 2025 / 1 / 9 - 10:51
المحور: الادارة و الاقتصاد
    

د.حمدي سيد محمد محمود

ميلتون فريدمان، ذلك الاسم الذي أصبح مرادفًا لتحولات كبرى في الفكر الاقتصادي والسياسي في القرن العشرين، يعد أحد أبرز العقول التي أسهمت في صياغة الأطر النظرية لاقتصاد السوق الحر وفتح المجال أمام إعادة تشكيل علاقة الدولة بالاقتصاد. وُلد فريدمان في لحظة تاريخية شهدت تفاعلات اجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة، من الكساد الكبير إلى الحرب العالمية الثانية، مما شكّل منظوره الاقتصادي الجريء الذي تحدى الاتجاهات السائدة في عصره، خصوصًا الفكر الكينزي الذي كان يهيمن على السياسات الاقتصادية في منتصف القرن الماضي.

على مدار حياته المهنية، لم يكن فريدمان مجرد أكاديمي أو باحث منعزل في أبراج المعرفة، بل كان صوتًا قويًا يدعو إلى ثورة فكرية واقتصادية، ترى في الأسواق الحرة والحرية الفردية أساسًا لتحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي. من خلال أطروحاته في السياسة النقدية، وتحرير الأسواق، والحد من التدخل الحكومي، قدم فريدمان أفكارًا غيرت معالم الاقتصاد الحديث، وجعلت من مدرسة شيكاغو للاقتصاد أحد أهم مراكز التأثير الفكري في العالم.

لكن إرث فريدمان لا يقتصر فقط على الإنجازات الأكاديمية والنظرية؛ فقد امتد تأثيره إلى ميدان السياسة، حيث ألهم قادة مثل رونالد ريغان ومارجريت تاتشر، وساهمت أفكاره في صياغة سياسات اقتصادية كانت لها آثار عميقة على الاقتصاد العالمي، سواء بالإيجاب أو بالسلب. وفي الوقت نفسه، كان فريدمان شخصية مثيرة للجدل، فقد انتقده الكثيرون بسبب تطبيقاته المثيرة للانقسام، سواء في دعمه لسياسات النيوليبرالية التي اعتبرها البعض مفرطة في تجاهلها للعدالة الاجتماعية، أو في علاقته المثيرة بالأنظمة الديكتاتورية التي طبقت رؤاه الاقتصادية.

في هذا السياق، فإن الحديث عن ميلتون فريدمان لا يعني مجرد سرد لسيرة مفكر اقتصادي، بل هو استكشاف لفترة تاريخية معقدة من التحولات الفكرية والسياسية والاقتصادية، ودراسة لنموذج فكري أثار إعجاب الكثيرين وأثار حفيظة آخرين. فما هي أبرز إسهاماته وإنجازاته؟ وكيف استطاعت أفكاره أن تشكل ملامح الاقتصاد الحديث؟ وما هي الانتقادات التي واجهها، سواء على المستوى النظري أو العملي؟ هذا ما سنتناوله في هذا البحث، عبر تحليل معمق وشامل لفكر فريدمان وإرثه، وصولاً إلى تقييم أثره المستمر على عالمنا اليوم.

ميلتون فريدمان

ميلتون فريدمان (1912-2006) كان واحدًا من أكثر الاقتصاديين تأثيرًا في القرن العشرين، ويعتبر أحد أبرز رواد الفكر الليبرالي الجديد (Neoliberalism) وأحد أعمدة مدرسة شيكاغو للاقتصاد. حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 لدراساته حول تحليل الاستهلاك، التاريخ والنظرية النقدية، وتعقيد السياسات النقدية. يمكن تسليط الضوء على فكره وإنجازاته وأبرز الانتقادات الموجهة إليه كما يلي:

السيرة الذاتية والخلفية الفكرية
وُلد فريدمان في بروكلين، نيويورك، لأسرة يهودية مهاجرة من أوروبا الشرقية.
حصل على درجة البكالوريوس من جامعة روتجرز، ثم أكمل دراسته العليا في جامعة شيكاغو، وحصل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا.
عمل أستاذًا في جامعة شيكاغو بين عامي 1946 و1977، حيث أسس مدرسة شيكاغو للاقتصاد التي ركزت على أهمية الأسواق الحرة والحد الأدنى من تدخل الدولة.

الأفكار والمبادئ الأساسية

ركز فريدمان على تعزيز النظام الرأسمالي والسوق الحر كوسيلة لتحقيق الكفاءة الاقتصادية. أبرز مبادئه:

السياسة النقدية (Monetarism):

اعتقد أن التحكم في المعروض النقدي هو الأداة الرئيسية لضمان استقرار الاقتصاد.
رفض السياسات الكينزية التي تركز على الإنفاق الحكومي للتحكم في الدورة الاقتصادية.
حرية الأسواق:

دعا إلى تحرير الأسواق من أي قيود حكومية، معتبرًا أن التدخل الحكومي يؤدي إلى نتائج عكسية.
رأى أن السوق الحر هو الطريق لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

الخصخصة:

طالب بتقليص دور الحكومة في الاقتصاد من خلال خصخصة الشركات والمؤسسات العامة.
اقترح نظام القسائم التعليمية (Voucher System) في التعليم لتوفير حرية اختيار المدارس.

الحد من التضخم:

اعتبر أن التضخم هو "العدو الأول" للاقتصاد، ورأى أن التحكم في كمية النقود هو الحل الفعال له.

السياسة الاجتماعية:

دافع عن الحرية الفردية وأيد إلغاء التجنيد الإجباري وتقنين المخدرات وحرية التجارة الدولية.
أهم الإنجازات والتأثيرات

جائزة نوبل في الاقتصاد (1976):
تقديرًا لتحليلاته التي أثرت على الاقتصاد النقدي.

كتابه "الرأسمالية والحرية" (1962):
ناقش فيه أهمية الأسواق الحرة، وكان له تأثير كبير في تشكيل سياسات الدول.

التأثير على السياسات الاقتصادية العالمية:

ألهمت أفكاره إدارات مثل حكومة رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارجريت تاتشر في بريطانيا.
أثرت أفكاره في سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي خلال الثمانينيات والتسعينيات.

استشارات سياسية:

عمل مستشارًا اقتصاديًا للعديد من الرؤساء الأمريكيين، وللحكومات الأجنبية مثل حكومة تشيلي بقيادة أوغستو بينوشيه.

التعليم والبحث:

درّب العديد من الاقتصاديين الذين أصبحوا قادة في الفكر الاقتصادي، وترك إرثًا فكريًا يمتد لعقود.

أبرز الانتقادات الموجهة إلى ميلتون فريدمان

تجاهل الأبعاد الاجتماعية:

- ركز بشكل مفرط على الفعالية الاقتصادية دون مراعاة العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
- تعرض لانتقادات بسبب تجاهله لتأثير السياسات النيوليبرالية على الفقر والتفاوت الاقتصادي.

الارتباط بالدكتاتورية في تشيلي:

كان مستشارًا لحكومة بينوشيه، واتُهم بالتواطؤ مع نظام استبدادي قمعي لتطبيق سياساته الاقتصادية.
اعتبره البعض رمزًا لاستغلال الليبرالية الجديدة للأنظمة غير الديمقراطية لتحقيق أهدافها.

الآثار السلبية للخصخصة:

انتقدت خصخصة الخدمات الأساسية (مثل الصحة والتعليم) لكونها زادت من عدم المساواة وأثرت على الفئات الأقل حظًا.

النظرية النقدية وتطبيقها:

رغم نجاحها النظري، فشلت السياسات النقدية في معالجة بعض الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل الكساد الاقتصادي في اليابان خلال التسعينيات.

التبسيط المفرط للسوق الحر:

اتهم بتجاهل أن الأسواق ليست دائمًا عقلانية أو فعالة كما افترض، خاصة في حالات الفشل السوقي أو الأزمات المالية.

الأزمات المالية العالمية:

اعتبرت بعض أزمات العقود الأخيرة، مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008، نتيجة مباشرة لتطبيق سياسات فريدمان التي قللت من دور الدولة في تنظيم الأسواق.

التأثير المستمر لفكره

- ما زالت أفكار فريدمان محور جدل بين الاقتصاديين وصناع السياسات.
- يتجدد النقاش حول مدى صحة فلسفته، خاصة في ظل تزايد الدعوات إلى تدخل أكبر للدولة لمعالجة قضايا مثل تغير المناخ وعدم المساواة.

ومما سبق يتضح لنا أن ميلتون فريدمان كان اقتصاديًا فذًا أثر بشكل عميق على الفكر والسياسة الاقتصادية في القرن العشرين، لكنه لم يخلُ من النقد والجدل. إن إرثه الفكري يظل حيًا ومحل نقاش، حيث يستمر العالم في محاولة تحقيق التوازن بين حرية الأسواق ودور الدولة.

في ختام هذا العرض الشامل لفكر ميلتون فريدمان وإرثه، يتضح أننا أمام شخصية فكرية فذة تركت بصمة لا تمحى على الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية. كان فريدمان أكثر من مجرد اقتصادي؛ فقد كان رمزًا للتغيير الجذري، وداعية للحرية الاقتصادية كوسيلة لتحقيق الرخاء والاستقرار. من خلال نظرياته الجريئة وسعيه الدؤوب إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والفرد، بين الأسواق والسلطة، رسم ملامح رؤية اقتصادية أثرت على مصائر دول وشعوب، وأعادت تشكيل خارطة السياسات الاقتصادية في العالم.

ومع ذلك، فإن إرثه لا يخلو من الجدل والتساؤلات. ففي حين أن أفكاره كانت بمثابة الأمل لمن أرادوا كسر قيود الدولة المركزية والبحث عن ديناميات السوق الحرة، كانت أيضًا مصدر قلق لمن رأوا في هذا التحرر المفرط تهديدًا للاستقرار الاجتماعي وزيادة للتفاوت الاقتصادي. لقد أظهرت التجارب الواقعية أن النظريات الاقتصادية لا تعمل في فراغ، بل تتشابك مع تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي، ما يجعل تقييم تأثيرها مسألة مستمرة ومفتوحة للنقاش.

يبقى ميلتون فريدمان شخصية إشكالية بامتياز، محط إعجاب مناصري الليبرالية الجديدة، ونقطة خلاف لمن يرون أن السوق الحر ليس حلاً سحريًا لكل مشاكل العالم. وبين هذا وذاك، تبرز أهمية فريدمان كمفكر شكل صميم النقاش الاقتصادي الحديث، ليس فقط بما قدمه من نظريات وأفكار، بل أيضًا بما أثاره من حوار عالمي حول مفاهيم الحرية، والمساواة، ودور الدولة في حياة الإنسان.

إن فهم إرث فريدمان يتطلب تجاوز الأحكام السطحية إلى الغوص في عمق تعقيداته، فهو مرآة تعكس التحديات والتناقضات التي تواجه البشرية في بحثها عن نموذج اقتصادي أكثر عدلاً وكفاءة. وبينما يمضي الزمن، سيبقى فكر فريدمان مصدر إلهام ودعوة إلى التفكير النقدي حول مستقبل الاقتصاد والسياسة، مما يجعل إرثه حيًا ومتجددًا في قلوب وعقول الباحثين وصناع القرار حول العالم.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات