أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أشرف حسن منصور - الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي















المزيد.....



الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي


أشرف حسن منصور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية


الحوار المتمدن-العدد: 1787 - 2007 / 1 / 6 - 11:25
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مقدمة:

تدفعنا الأوضاع الجديدة لتطور الرأسمالية التي يجمعها مصطلح "العولمة" لإعادة قراءة نقد ماركس للاقتصاد السياسي. و يرجع السبب في ذلك إلى أن الأيديولوجيا الليبرالية التي نقدها ماركس و تتبع وجودها و انتشارها عبر نظريات الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يعاد ظهورها من جديد الآن في شكل ما يسمى بالليبرالية الجديدة. فالتوسع العالمي للرأسمالية الذي يتخذ صورة العولمة يعتمد على مجموعة أفكار و نظريات هي إعادة إحياء لليبرالية الكلاسيكية الحاضرة بقوة في الاقتصاد السياسي. و من هنا فعودة الرأسمالية لليبرالية باعتبارها تبريرا فكريا و شكلا في إضفاء الشرعية عليها يجعلنا بالمثل نعيد قراءة نقد ماركس للاقتصاد السياسي.

تناول العديد من المفكرين منذ النصف الأول من القرن العشرين عناصر النقد الماركسي لرأسمالية القرن التاسع عشر، أعني الرأسمالية الليبرالية نظرا لاتخاذها الليبرالية أيديولوجيا و سياسة اقتصادية لها، و رأوا أن ذلك النقد لم يعد يناسب رأسمالية الدولة في القرن العشرين، و من أبرز هؤلاء المفكرين فلاسفة مدرسة فرانكفورت و على رأسهم بولوك و هوركهايمر و ماركيوز. حيث لم تعد رأسمالية الدولة في القرن العشرين بنفس بناء و آليات سابقتها في القرن التاسع عشر، و لم يعد اقتصاد السوق يشكل البناء التحتي للعلاقات الاجتماعية و التنظيم السياسي ، و لم يعد النظام يجد مبررات وجوده و شرعيته في آليات السوق و عدالة التبادل ، بل في علاقته السياسية بمواطنيه و توفيره لاحتياجاتهم الأساسية ، أي في دولة الرفاهية. و بذلك تحولت الهيمنة الاقتصادية غير المباشرة إلى هيمنة سياسية مباشرة ، و تحول الاستغلال من استغلال متخف وراء ما يسمى بقوانين السوق إلى استغلال واضح و صريح ، كان أبرز مثال عليه هو الأنظمة الفاشية . و بعد أن كان اقتصاد السوق هو الذي يقوم بدور الأيديولوجيا السائدة ، أصبحت منظمات و مؤسسات دولة الرفاهية هي التي تقوم بهذا الدور بما فيها النظام التعليمي و وسائل الإعلام و الثقافة. و من هنا تحدث ألتوسير عن "أجهزة الدولة الأيديولوجية" .
أما الآن فقد شهد العالم اضمحلالا واضحا للدور التقليدي للدولة و أزمة شديدة أصابت دولة الرفاهية. فلم تعد الدولة و مؤسساتها تقوم بدور التبرير الأيديولوجي و إضفاء الشرعية ، بل عادت الرأسمالية الآن إلى تبرير توسعها العالمي باستخدام الأيديولوجيا الليبرالية و أفكارها عن آليات السوق و قوانينه الحتمية ، و عادت الأفكار الليبرالية التقليدية للحياة مثل حرية التجارة و التمسك بالتالي برفع الحماية الجمركية ، و عدالة المنافسة بأن تنسحب الدولة من دعم صناعاتها القومية لتخلي المجال لتنافس المستثمرين .

تكشف هذه الظواهر الجديدة أن هناك عودة قوية لتبرير التوسع العالمي للرأسمالية و إلغاء دور الدولة عن طريق الليبرالية الجديدة التي هي إحياء لليبرالية القرن التاسع عشر و التي نقدها ماركس . و الهدف الأساسي لهذا المقال هو توضيح الدلالات المعاصرة للنقد الماركسي للأيديولوجيا الليبرالية السائدة في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ، و صلاحية هذا النقد في فهم و دراسة الليبرالية الجديدة و توظيف العولمة الاقتصادية لها.

الرأسمالية الليبرالية:

تتصف الرأسمالية الليبرالية بوجود مجتمع مدني و اقتصاد سوق مستقلين عن الدولة و السياسة. و مع وجود اقتصاد سوق ذاتي التسيير لا يعود النظام في حاجة إلى أيديولوجيا دينية أو أسلوب في إضفاء الشرعية يعتمد على القيم و المعايير و الأفكار الدينية أو الميتافيزيقية ، بل في حاجة إلى مجرد أخلاق نفعية أداتية و معايير فردية. فالنظام في المجتمع الليبرالي لا يستمد شرعيته من مصدر إلهي أو ديني مفارق ، بل يستمدها من داخله ، أي لكونه يعتمد على آليات السوق و قوانينه الاقتصادية التي تضمن التبادل العادل ، و على أن هذه الآليات و القوانين هي التي ستحقق تلقائيا العدالة و الحرية و المساواة.

قدمت الليبرالية تعريفات للفرد و الحرية و العدالة، و نقدها ماركس لكونها انعكاسا لاقتصاد السوق الرأسمالي. فالفرد هو الشخص الذي يتمتع بحرية إقامة علاقات مع غيره من أفراد المجتمع و يدخل معهم في تعاقدات ، و الحرية هي حرية الفرد في أن يبيع عمله و نتاج عمله ، و حرية البائع و الشاري في الدخول في تعاقدات يضعون شروطها بأنفسهم مع عدم تدخل الدولة في هذه العمليات و ترك آليات السوق تعمل بحرية . أما المساواة و العدالة فتتحققان عن طريق توازن المصالح و المنافسة الحرة في السوق .و يذهب ماركس إلى أن جميع الحقوق الليبرالية تختزل في حق الملكية. فالحرية هي حرية التملك ، و المساواة هي تساوي الأفراد في سعيهم نحو التملك ، و الأمن هو المناخ الذي يضمن للفرد حمايته لملكيته و الحصول على المزيد منها .

التعريفات السابقة للفرد و الحرية و المساواة كانت بالفعل تعبيرا عن فكر البورجوازية و أسلوب حياتها و سلوكها. فعندما ظهرت البورجوازية كانت في صراع مع الإقطاع و الأرستقراطية . و لكي تخرج من براثن النظام القديم و تؤسس نظامها الجديد في الإنتاج كان لابد و أن تقدم تعريفات جديدة للفرد و الحرية و المساواة ، و هدفت من ذلك أن تفسح مجالا للفرد كي يعمل و يراكم رأس مال و يستخدم قوى عاملة و يبادل ما ينتجه مع غيره من المنتجين دون الخضوع لإقطاع أو أرستقراطية أو إشراف دولة .

و من نقد ماركس للمفهوم الليبرالي عن الدولة يتضح الطابع الرأسمالي الضيق لهذا المفهوم. ذهبت الليبرالية إلى أن خير حكومة هي حكومة الحد الأدنى Minimal Government . و لأن الاقتصاد ذاتي التسيير و تحكمه قوانين ضرورية ، و لأن الأفراد هم الأقدر على تحقيق مصالحهم بأنفسهم ، فليست هناك ضرورة لحكومة كبيرة أو قوية . و الحكومة تقام لضمان السلام ، و السلام غايته تحقيق الرفاهية العامة. و قد عرفت الليبرالية هذه الرفاهية العامة بصورة اقتصادية بحتة على أنها ثمرة الاستمتاع بالملكية الخاصة، كما فهمت القوانين على أنها داعمة لنظام الملكية الخاصة ، فهي تضمن "ألا يمنعنا الآخرين من الاستمتاع و الاستخدام الحر بما نملك ، و لا نضايقهم نحن في حيازتهم لما يملكون ". كما يتضمن مفهوم "حكومة الحد الأدنى" مفهوم الحكومة المحدودة Limited Government أي المقيدة بقوانين تحد من حريتها المطلقة و تقنن تعاملها مع الأفراد .

يعطي ماركس تفسيرا لهذه القيود الكثيرة على الدولة في الأيديولوجيا الليبرالية بقوله أن البورجوازية في بداية ظهورها كانت في صراع مع الدولة القائمة حينذاك ، و كانت ذات طابع إقطاعي و أرستقراطي ، و ما كل القيود التي فرضتها الليبرالية على الدولة إلا جزءا من استراتيجية البورجوازية في حربها ضد النظام القديم الذي كان يحد من نموها و حريتها.

يتضح الطابع الطبقي للدولة في عصر الرأسمالية الليبرالية في الحدود التي فرضتها البورجوازية على سلطاتها. و كانت أي محاولة لتوسيع نطاق هذه السلطة ينظر إليها على أنها تدخل في الحريات و تقابل بالمقاومة الطاغية من قبل النظم التي أقامتها البورجوازية مثل نظام الملكية الخاصة و القانون المدني و الصحافة. أما الديمقراطية فقد فهمتها على أنها صيغة سياسية تسمح لها بالتخلص من إلزامات الدولة .

أما النظام وفق الأيديولوجيا الليبرالية فيحدث تلقائيا و بدون تخطيط مقصود. فالاقتصاد إذا ما ترك يعمل بحرية فسوف يؤدي إلى إحداث النظام. و السوق يمثل العقلانية الاقتصادية التي هي أساس كل عقلانية و كل نظام. و الصالح العام يتحقق عن طريق سعي كل فرد نحو صالحه الشخصي، فالليبرالية تنظر إلى المجتمع على أنه ليس إلا مجموع أفراده المكونين له، و إذا سعى كل فرد نحو صالحه الشخصي تحققت المصلحة العامة للمجتمع. و ما يجمع جهود الأفراد الجزئية لتحقيق الصالح العام و ينسق بينها و يعمل على توازنها يد خفية أو قانون طبيعي يعمل بتلقائية . و ليست هناك حاجة للتخطيط أو لاقتصاد مخطط طالما أن هناك فرصا متساوية للجميع و منافسة حرة و حرية في الاختيار و في المحاولة و الخطأ أمام الفرد.

استطاع ماركس بتحليله للاقتصاد السياسي أن يكشف عن علاقات القوة و السيطرة في المجتمع الرأسمالي الليبرالي و ذلك لأن البناء الاجتماعي آنذاك كان طبقيا ، أي مستندا على الأسلوب الرأسمالي في توزيع الثروة، و لأن الاقتصاد كان هو الذي يوجه السياسة ، أو بتعبير ماركس كان الاقتصاد هو البناء التحتي الذي أقيم على أساسه النظام السياسي أو البناء الفوقي. فما يختص به المجتمع الرأسمالي الليبرالي أن الوضع السياسي و الاجتماعي للفرد يتحدد بوضعه في العملية الإنتاجية ، أي أن أسلوب تقسيم العمل هو في نفس الوقت أسلوب في توزيع القوة السياسية و تحديد الأدوار السياسية التي يمكن أن يقوم بها أعضاء المجتمع و تحديد نطاق فعاليتهم و تأثيرهم السياسي .


رأسمالية الدولة:

ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر بدأ الاقتصاد الرأسمالي يعاني من أزمات كبيرة، منها أزمات بطالة و كساد أو فرط إنتاج، أي زيادة كبيرة في الإنتاج مع ضعف كبير في التوزيع، و فوضى شاملة في اقتصاد السوق ، و وصلت هذه الأزمات إلى ذروتها في أوائل ثلاثينات القرن العشرين فيما عرف بالكساد الكبير. و أصبح العالم الرأسمالي مهددا بخطر الشيوعية و بالحركات العمالية العنيفة. و هذا ما أدى إلى ضرورة إحداث تغييرات شاملة اقتصادية و سياسية في بناء الرأسمالية. و كان الفاعل الرئيسي الذي قام بإحداث هذه التغييرات هو الدولة. وانتهت هذه التغييرات إلى أن تحول الاقتصاد الرأسمالي من اقتصاد السوق إلى اقتصاد مخطط و مدار من قبل الدولة. و من هنا اتخذت الرأسمالية خصائص و صفات جديدة يجمعها مصطلح رأسمالية الدولة.

فبينما كان السوق في الرأسمالية الليبرالية يقوم بدور المنظم لعمليات الإنتاج و التوزيع، أسندت هذه العمليات في عصر رأسمالية الدولة إلى الدولة نفسها. فمع استمرار ظهور أزمات اقتصادية حادة في اقتصاد السوق، عملت الدولة على حل هذه الأزمات بتدخلها المباشر في العملية الاقتصادية، فأصبحت تقوم بدور الوسيط و المنظم للمصالح المتعارضة. و بقيامها بدور المنظم للسوق قدمت الدولة خدمة جليلة للرأسمالية، فقد حمت الرأسماليين من بعضهم البعض و منعتهم من أن يحطموا أنفسهم و يدمروا النظام الرأسمالي معهم، و فتحت أسواقا جديدة للتصريف عن طريق حركة الاستعمار، و من هنا ذهب لينين إلى أن الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.

أدت هذه السياسات الجديدة إلى ظهور ما يسمى بدولة الرفاهية Welfare State في الغرب، و لم يكن النموذج الاشتراكي للدولة في الشرق إلا نوعا آخر من رأسمالية الدولة. و يشير مصطلح دولة الرفاهية إلى جملة التنظيمات و السياسات التي تتدخل عن طريقها الحكومة بإيجابية في العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية لمواطنيها من أجل ضمان مقاييس عامة أو حد أدنى من الحياة و أسباب المعيشة. و كانت الشخصية الأساسية وراء هذا التحول هو المفكر الاقتصادي الإنجليزي جون مينارد كينز John Maynard Keynes . فقد كان كينز هو صاحب النظرية الاقتصادية المدعمة لدولة الرفاهية . يقول كينز: " إن أهم برنامج للدولة لا يتصل بتلك الأنشطة التي يقوم بها الأفراد بالفعل (الرأسماليين) بل بالوظائف التي تقع خارج مجال الأفراد، و القرارات التي لن يصدرها أحد إذا لم تصدرها الدولة." فمع كينز توقف الاقتصاد السياسي عن الاعتماد على الأيديولوجيا الليبرالية و الفردية و عن الثقة في فكرة "دعه يعمل" Laissez Faire و في باقي الأفكار الليبرالية حول التسيير الآلي و التلقائي لاقتصاد السوق و حريته من تدخل الدولة، و بدأ عصر الاقتصاد المخطط.

مع ظهور الدولة المنظمة للاقتصاد أصبحت الأولوية للسياسي على الاقتصادي، و لم يعد الاقتصاد هو ذلك المجال المستقل الذي تنبني عليه السياسة، بل أصبحت السياسة هي المتحكمة في الاقتصاد. و بالتالي فالخطاب المبرر و المشرع للنظام القائم لم يعد يستند على اقتصاد السوق الحر، أي على الليبرالية، بل أصبح يستند على الآليات السياسية. و من هنا لم يعد النقد الماركسي للاقتصاد السياسي ذا دلالة لنقد رأسمالية الدولة.

كما استطاعت الدولة استيعاب العمال بالاستجابة لبعض مطالبهم في رفع الأجور و تثبيتها و تقديم الخدمات الاجتماعية لهم، و حتى السماح بإقامة أحزاب لهم و نقابات قوية لها دور سياسي فعال داخل الحكومات نفسها. كل هذه الإجراءات كان هدفها علاج أزمات اقتصاد السوق و القضاء على الصراع الطبقي و على احتمالات الثورة. وبعدما أصبح للعمال أحزاب و نقابات حصلوا عن طريقها على مكاسب و أوضاع أفضل أدركوا أن النضال الطبقي يكون من خلال الدولة لا ضدها كما ذهب ماركس.

و حسب نظرية ماركس في الثورة، يتحقق الانتقال إلى الاشتراكية بسيطرة البروليتاريا على الدولة، و عندئذ تستطيع تغيير علاقات الإنتاج و إعادة تشكيل الاقتصاد بالأسلوب الاشتراكي. أما الذي حدث فهو أن الدولة وضعت عقبات كثيرة أمام البروليتاريا بحيث أن هذه الطبقة لم تعد قادرة على مجرد الاستيلاء البسيط على الدولة، إذ عملت الدولة على تشكيل المجتمع المدني بحيث أصبحت مؤسساته عقبة أمام البروليتاريا. فقد أنشأت الدولة نظما في التعليم العام و أجهزة ثقافة جماهيرية ووسائل اتصال و إعلام عديدة تنشر عبرها أيديولوجيتها و تقضي بها على الصراع الطبقي و على إمكانيات الثورة و ذلك بالسيطرة على وعي الجماهير و توجيهه. فلم تعد البروليتاريا قادرة على الوصول مباشرة إلى الدولة، إذ كان يجب عليها أن تعيد تشكيل مؤسسات المجتمع المدني التي تحولت إلى أجهزة أيديولوجية للدولة، و كان هذا مستحيلا.

لم تؤد تناقضات الرأسمالية و أزماتها إلى ثورة اشتراكية كما تنبأ ماركس بل إلى ظهور شكل جديد من الرأسمالية و هو رأسمالية الدولة، و هذا ما أدى إلى اضمحلال أهمية النقد الماركسي للاقتصاد السياسي و للرأسمالية الليبرالية و ذلك حتى لدى التيارات الماركسية ذاتها مثل التيار النقدي لمدرسة فرانكفورت. فمع فريدريك بولوك أحد أشهر الأعضاء الماركسيين في المدرسة بدأت في فقدان الثقة في نقد ماركس للاقتصاد السياسي .14 ذهب بولوك إلى أن ماركس كان يؤكد دائما على أن إمكانات الثورة تكمن في القوانين الاقتصادية للرأسمالية، فما بها من تناقضات هو الذي سيؤدي إلى الثورة.15 أما بعد التحول إلى رأسمالية الدولة فقد تم القضاء على هذه التناقضات و ذلك لأن القوانين الاقتصادية للرأسمالية تفقد وظيفتها المحفزة و المعجلة بالثورة بعد أن علت الدولة على الاقتصاد و أصبح مدارا من قبلها. و لم تعد الهيمنة الطبقية على العمال من وظيفة النظام الاقتصادي بل من وظيفة النظام السياسي، و بذلك تحولت علاقات السيطرة الاقتصادية إلى علاقات قوة سياسية.

ومن هنا تحولت كثير من التيارات الماركسية إلى نقد البناء الفوقي، أي السياسة و الثقافة و الإعلام و التكنولوجيا، و تخلت عن نقد الاقتصاد السياسي في سبيل أنواع أخرى من النقد مثل نقد العقلانية الأداتية و النقد الأدبي و الثقافي.

الليبرالية الجديدة و العولمة:

استمر عصر رأسمالية الدولة فترة طويلة من القرن العشرين، تمتد من بداية الحرب العالمية الأولى في نظر البعض، أو من بداية الحرب العالمية الثانية في نظر البعض الآخر، و حتى أواخر السبعينات، و ذلك عندما أخذت الرأسمالية منعطفا كبيرا و اتخذت طابعا مختلفا. فمنذ السبعينات انتهى عصر رأسمالية الدولة و الديمقراطية الاشتراكية و ذلك بإعادة إحياء الأفكار الليبرالية التقليدية في صورة ما يعرف بالليبرالية الجديدة التي بدأ ظهورها في الغرب في السبعينات و انتقلت إلى العالم الثالث منذ أواسط الثمانينات، و كانت بداية لشكل جديد من الأيديولوجيا المدعمة و المبررة للتوسع العالمي للرأسمالية و هي العولمة. فما أسباب هذا التحول الذي حدث؟

يجمع كثير من المفكرين على أن أسباب هذا التحول تتمثل في أزمات عديدة تعرضت لها دولة الرفاهية في الغرب و برامج الديمقراطية الاشتراكية. فقد كان البرنامج الأصلي لدولة الرفاهية يتمثل في إمكانية تحقيق التوظف الكامل و القضاء على مشكلة البطالة نهائيا، و إمكانية أن تكون الدولة طرفا أساسيا في الطلب الكلي، أي عميلا رئيسيا لرأس المال، يوظفه في مشاريع قومية و يخلق له قنوات جديدة للاستثمار و فرصا جديدة للربح. استطاعت الدولة أن تقوم بهذه الوظائف لفترة طويلة، إلا أن ما جد منذ السبعينات أن تفاقمت مشكلة البطالة و زاد الكساد و لم يجد رأس المال فرصا جديدة للاستثمار. و على جانب آخر زاد حجم و تعقد آلة الدولة البيروقراطية حتى أصبحت عبئا على الجميع.

الأسباب السابقة لأزمة رأسمالية الدولة ليست أسبابا رئيسية بل ثانوية مباشرة. أما السبب الرئيسي و غير المباشر فهو القانون الذي استنتجه ماركس و صاغه بدقة و هو ميل معدل الربح نحو الهبوط كلما تقدمت وسائل الإنتاج و التكنولوجيا و كلما زاد توسع الاستثمار الرأسمالي. و من الأسباب الحقيقية لأزمة رأسمالية الدولة في الغرب أن نجاحها كان يتزامن تماما مع الحربين العالميتين و سلسلة الحروب الصغيرة التالية لهما و التي خاضتها الدول الرأسمالية: كوريا، فيتنام، الجزائر، العدوان الثلاثي. فقد شكلت هذه الحروب مناخا مناسبا لازدهار رأسمالية الدولة، فرأسمالية الدولة هي اقتصاد حرب في الدرجة الأولى.16 فالإنتاج الحربي الموسع أنعش الرأسمالية، و انصراف عدد كبير من السكان إلى التجنيد كان علاجا لمشكلة البطالة. أما بعد انتهاء هذه الحروب فقد واجهت الدول الرأسمالية الأزمة على نحو صريح.

و من هنا ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج الأزمة يتمثل في عودة اقتصاد السوق و تركه يعمل بحرية، و التخلص من العبء الثقيل للدولة و أجهزتها البيروقراطية التي تم النظر إليها على أنها من أسباب الأزمة، و التخلي عن كل الالتزامات السابقة للدولة مثل برامج الرعاية الاجتماعية و التأمين و إعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزتها و دينها الوطني.17 و مع الليبرالية يعود مبدأ حرية المنافسة في الظهور، و تعود الفكرة القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح بفعل قوانين السوق الضرورية، و يعود من جديد مبدأ "دعه يعمل" Laissez Faire

و بالفعل خففت الدولة في الغرب من التزاماتها الاجتماعية السابقة و بدأت عملية الخصخصة، أي في بيع الكثير من المشروعات التي كانت مملوكة لها. ففي بريطانيا بدأت هذه السياسات مارجريت تاتشر في أواخر السبعينات، و ريجان في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينات، و سرعان ما طبقت باقي الدول الرأسمالية نفس السياسات. لقد عادت الفكرة الليبرالية القديمة عن حكومة الحد الأدنى.

كان هذا جزءا من السياسات الليبرالية الجديدة و الذي يختص بالدول الرأسمالية. أما دول العالم الثالث فقد أعدت لها الليبرالية الجديدة برنامجا آخر. المشكلة الرئيسية التي واجهت الدول الرأسمالية كانت مشكلة زيادة حجم رؤوس الأموال غير الموظفة و فرط في الإنتاج مع نقص في الطلب. و كان الحل الذي طرحه البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و كثير من المؤسسات المالية التابعة للرأسمالية العالمية هو ضرورة انتقال رؤوس الأموال من الدول الرأسمالية إلى دول العالم الثالث في شكل استثمارات أو قروض، و أن تبيع تلك الدول مؤسساتها في سبيل علاج مشكلة الديون.18 و لن يتم ذلك إلا إذا طبقت هذه الدول نفس السياسات الليبرالية الجديدة. و من هنا اتخذ التطبيق العالمي لهذه السياسات طابع العولمة.

يتم استخدام الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة بنفس شروط استخدام ليبرالية القرن التاسع عشر.فقد استخدمت ليبرالية القرن التاسع عشر للتخلص من القيود الدينية و الإقطاعية و الأرستقراطية على رأس المال، و من قيود الدولة أيضا و التي كانت في يد هذه القوى آنذاك. و الآن أيضا يعاد استخدام نفس المبادئ الليبرالية و لنفس الأهداف تحت عباءة العولمة، أي للتخلص من كل ما يقف في طريق رأس المال العالمي من دولة أو قومية أو خصوصية ثقافية. فللأيديولوجيا الليبرالية دائما طابع تصادمي مع النظم و التقاليد التي تريد أن تحل محلها.

عندما كانت مجتمعاتنا لا تزال تأخذ بمبادئ رأسمالية الدولة و الاقتصاد المخطط لم نكن بحاجة للتفكير في الأيديولوجيا الليبرالية و لا في النقد الموجه لها مثلما تدعو الحاجة الآن. الحقيقة أن العولمة التي تحدث حاليا، أو بتعبير سمير أمين الرأسمالية المعولمة، تدخل إلى مجتمعاتنا أشكال التفكير المبررة لاقتصاد السوق و التي يجمعها مصطلح الليبرالية، و هذا ما يجعلنا نعيد البحث في الكتابات التي تناولت التاريخ الاستعماري و الإمبريالي للرأسمالية و لجميع الانتقادات التي وجهت لليبرالية و أهمها نقد ماركس و ما كتبه عن الطابع العالمي للتوسع و التراكم الرأسمالي و السوق العالمية. إن دعوة العولمة الآن إلى السوق الحر و إلغاء الحمايات و الأخذ بمنطق الربح ما هي إلا دعوة أيديولوجية سوف تؤدي إلى زيادة تبعية العالم الثالث لرأس المال العالمي و الحفاظ على وضعيته باعتباره هامشا للمراكز الرأسمالية في الغرب، و دعوة لأن يقوم النظام الاقتصادي الجديد بنفس الوظائف السلطوية و الاستغلالية التي كانت تقوم بها الرأسمالية الليبرالية و التي كانت محل نقد ماركس.




الدلالات المعاصرة للنقد الماركسي:

1- أسلوب الإنتاج و علاقات الإنتاج : من أهم النقاط الهامة التي كانت محل نقد ماركس مسألة عدم التناسب بين تطور قوى الإنتاج و ما يقابلها من علاقات إنتاج. فقد كشف ماركس عن أن الإنتاج الحديث بفضل تطور العلم و التكنولوجيا أصبح عالمي النطاق و مجردا، أي أصبح نشاطا يدخل فيه كل أفراد المجتمع و لم يعد يناسبه الشكل السائد من تبعية العمل لرأس المال و التراكم الرأسمالي القائم على أساس استحواذ الرأسمالي على القيمة الزائدة التي يضيفها العمل على المنتج.19 فتطور قوى الإنتاج يسير نحو شكل أكثر جماعية أو اشتراكية من حيث دوران رأس المال و الإنتاج و التوزيع و الاستهلاك، أما علاقات الإنتاج مثل نظام الملكية و الإدارة فلا يزال خاصا و مقيدا باعتبارات الربح الشخصي. و الحقيقة أن هذا هو بالضبط ما يحدث الآن. فأسلوب الإنتاج الرأسمالي أصبح يعم العالم مع ثبات علاقات الإنتاج على حالها و التي تتمثل الآن في علاقات تبعية الجنوب للشمال. الإنتاج الآن أصبح نظاما متكاملا، و نستطيع أن نقول اشتراكيا، فالسلعة الواحدة يشترك في صنع أجزائها عدة دول، لكن لا يزال المتحكم في هذه العملية منطق الربح الخاص و لا تزال علاقات التبعية باقية.

2- البطالة: احتلت مشكلة أخرى مركز اهتمام نقد ماركس و هي العمالة، فتحليله لمشكلة البطالة لا يزال فعالا.20 عاد الاقتصاديون منذ أوائل الثمانينات إلى نفس منطق الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في تبرير أزمة البطالة. فالبطالة ناتجة في نظرهم عن عدم قدرة العمال على التوافق مع التطور التكنولوجي الحديث. فالعامل يعاني من البطالة نتيجة لنقص في قدراته و ذكائه و كفاءته. أي أن الفكر الاقتصادي السائد يحول البطالة، التي هي أزمة بنائية بتعبير السوسيولوجيين، أو أزمة هيكلية بتعبير الاقتصاديين، إلى عيوب فردية. ولماركس نقد لاذع لهذا التبرير الفردي للبطالة و يفسرها تفسيرا آخر يأخذ في الاعتبار طابعها الهيكلي و البنائي، أو الطبقي بتعبيره.

أدت الآلات التكنولوجية الحديثة إلى عودة ما يسمى بجيش العمال الاحتياطي، و هو نسبة كبيرة من العمالة العاطلة تكمن أهميتها بالنسبة للرأسمالية في أنها تمكنها من توظيف عمالة بشرط خفض أجورها، فطالما ظل هذا الجيش موجودا تمكن رأس المال من خفض الأجور كما يشاء. و هذا هو نفس ما حدث في القرن التاسع عشر عندما تم اختراع آلات البخار و انتشارها على نطاق واسع. فالرأسمالية لا يمكن أن تتوسع بدون هذا الجيش. و الجديد الذي ظهر نتيجة انقسام العالم لمركز رأسمالي و أطراف نامية أن جيش العمال الاحتياطي أصبح جزء كبير منه موجود في العالم الثالث. و لذلك يفضل الاستثمار في هذه المناطق لانخفاض الأجور. فانخفاض أجور عمالة العالم الثالث ليس إلا نتيجة للانقسام إلى مركز و أطراف، أو الاستقطاب كما يسميه سمير أمين.21 فانخفاض الأجور علامة على النمو اللامتكافئ للرأسمالية و الذي يغني دولا و يفقر أخرى.

3- الزيادة السكانية : يرتبط تحليل ماركس لمشكلة البطالة بتحليله لموضوع آخر و هو الزيادة السكانية. ينظر ماركس إلى مشكلة الزيادة السكانية على أنها مشكلة زائفة و ناتجة عن خطأ فكري من جانب الاقتصاد السياسي الذي يذهب إلى أن رأس المال لا ينتج إلا القيمة الزائدة، أي القيمة التي يضفيها العمل على المادة الخام بتحويلها إلى منتج أو سلعة. و الحقيقة أن رأس المال لا ينتج قيمة زائدة فقط، بل ينتج عمالة زائدة في نفس الوقت، فمع زيادة التنافس و زيادة تكاليف الإنتاج ينزع الرأسمالي إلى إنقاص عدد العمال و تزيد البطالة. ينظر الاقتصاد السياسي إلى هذه العمالة الزائدة على أنها زيادة سكانية، و ينظر إلى هذه الزيادة السكانية على أنها تثير مشكلة لأنها تؤدي إلى اختلال التوازن بين السكان و الموارد.و ينقد ماركس هذه النظرة و يوضح أنها مشكلة زائفة بذهابه إلى أن الزيادة السكانية ليست إلا عمالة زائدة لا يستطيع أسلوب الإنتاج الرأسمالي تشغيلها نتيجة لبنيته ذاتها. كما أنها ليست مشكلة نقص في الموارد بل في عدم قدرة أسلوب الإنتاج على توفير موارد أخرى. أسلوب الإنتاج هو الذي لا يستطيع إقامة التوازن بين السكان و الموارد، أما الزيادة السكانية فليست السبب في عدم وجود هذا التوازن.

يعود الفكر الاقتصادي السائد حاليا إلى النظر للعمالة الزائدة على أنها زيادة سكانية أو نتيجة لها، و إلى الحديث عن مشكلة عدم التناسب بين السكان و الموارد باعتبارها من المشكلات الأساسية للدول النامية. و من هنا تلقي المؤسسات المالية الغربية باللوم على الدول النامية مرجعة عجزها و تخلفها في تنفيذ برامج التنمية إلى زيادتها السكانية. و استجابة لذلك تطبق الدول النامية سياسات تنظيم الأسرة و ترى أنها هي الحل لمشكلاتها، مع أن الحل يكمن في تغيير أسلوب الإنتاج نفسه. و الدليل على أن الزيادة السكانية ليست مشكلة في حد ذاتها حالة اليابان و الهند و الصين. فاليابان يتجاوز عدد سكانها المائة مليون مع عدم وجود موارد كافية، إلا أنها من أكبر الدول الصناعية و تشهد معدل بطالة منخفض بالنسبة لباقي الدول. والصين يتجاوز سكانها المليار إلا أنها تشهد معدلات نمو عالية.

خرافة أخرى ناتجة عن خرافة الزيادة السكانية و هي القول أن الزيادة السكانية في بلد معين تؤدي إلى انخفاض الدخل القومي و نقص في معدل الأجور و متوسط مستوى المعيشة و دخل الفرد. صحيح أن هذه مشكلات حقيقية و قائمة بالفعل إلا أن الزيادة السكانية ليست السبب الرئيسي فيها. السبب الرئيسي يكمن في أسلوب الإنتاج الذي لا يستطيع تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان و ذلك نتيجة لسيادة علاقات الإنتاج القائمة على أساس السعي نحو الربح الشخصي و الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج. لا يزال الخطاب الاقتصادي السائد ينقل الأزمات الهيكلية و البنائية إلى المستوى الفردي. فهو يقيم نوعا من المماثلة بين ما يحدث على مستوى الأسرة و ما يحدث على مستوى الاقتصاد القومي.فمن الطبيعي أن يهبط مستوى معيشة الأسرة مع زيادة عدد أفرادها، إلا أنه لا يمكن أن نفكر ينفس هذه الطريقة على مستوى الاقتصاد القومي. فقد نشأ الاقتصاد السياسي باعتباره علما بعد أن تحرر من مقولات و أسلوب تفكير الاقتصاد المنزلي، إلا أنه يعود مرة أخرى إلى استخدام هذا الأسلوب.

4- السوق العالمية: لماركس أيضا تحليلات هامة للسوق العالمية، التي إذا تأملناها تبينت دلالاتها المعاصرة. و الأكثر من ذلك أن ماركس كان يستبق ظاهرة العولمة، إلا أنه كان يسميها بالكوزموبوليتانية Cosmopolitanism. يقول ماركس في كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" A Contribution to the Critique of Political Economy " عندما يتحول النقد (العملة) إلى نقد دولي، يتحول مالك البضائع إلى كوزموبوليتاني. ( و هذا هو الذي يحدث الآن، فالدولار هو هذا النقد الدولي) لا تتضمن العلاقات الكوزموبوليتانية بين الناس إلا علاقاتهم باعتبارهم مالكي بضائع. فالبضائع لا تعرف حدودا سياسية أو دينية أو قومية أو لغوية. و لغتها العالمية هي السعر و رابطها العام هو النقد. و مع تطور النقد الدولي في مقابل العملات المحلية يتطور أيضا الطابع الكوزموبوليتاني لمالك البضائع، و ذلك في مقابل التعصبات الدينية و القومية التقليدية التي تعوق عملية توحيد البشرية. يكتشف مالك البضائع أن القومية ما هي إلا طابع بريد (أي يقتصر دورها على كونها صورة خارجية تطبع البضاعة ذات الجوهر الواحد وسط تعدد القوميات و طوابع البريد) . فالغاية السامية التي يتوحد من أجلها العالم في نظر الرأسمالي هي فكرة السوق العالمي."22

5- عودة التراكم الأولي: إذا كان النظام الرأسمالي يعتمد على العمل المأجور و على أدوات إنتاج هي في أصلها عمل سابق متراكم، فكيف ظهر هذا النظام في الوجود؟ إن وجود رأس مال في صورة نقد لا يكفي في حد ذاته لإقامة أسلوب إنتاج رأسمالي، فهذا الأسلوب يحتاج إلى عمالة مأجورة. يذهب ماركس إلى أن أول تراكم لرأس المال يكمن في ظهور العمالة المأجورة، فهي التي مكنت البورجوازيين من تحقيق أول تراكم رأسمالي. لكن كيف ظهرت العمالة المأجورة؟ ظهرت عندما تم القضاء على الملكيات الزراعية و الإقطاعيات الكبيرة في أوروبا الغربية مما أدى إلى تحول جموع غفيرة من الفلاحين و الأقنان الذين تم تحريرهم إلى عمال مأجورين. كما صاحب حركة الإصلاح الديني نزع ملكية الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا و كثير من المناطق الأخرى في غرب أوروبا، و تحويل مستأجريها أيضا إلى عمال مأجورين و بيعها بأسعار بخسة. و كانت البورجوازية صاحبة النصيب الأكبر من هذه الأراضي. هذا بالإضافة إلى أراض أخرى كانت مملوكة للدولة في إنجلترا تسمى أراضي التاج و متروكة للعامة من الفقراء لزراعتها ووضعت البورجوازية عليها يدها و طردت من فيها، و هؤلاء أيضا تحولوا إلى عمال مأجورين.23

يثبت ماركس من ذلك أن ظهور الرأسمالية استلزم القضاء على أشكال كثيرة سابقة من الملكية. و أهم هذه الأشكال تلك التي تمثلت في ملكية مشتركة للأراضي الزراعية مثل أراضي الكنيسة و التاج. و القضاء أيضا على أشكال تقليدية من العمالة مثل مزارعي الإقطاعيات و تحويلهم إلى عمال مأجورين. و الحقيقة أن الخصخصة التي تحدث الآن ما هي إلا تكرارا لنفس عمليات نزع الملكية التي وصفها ماركس و أدت إلى ظهور العمل المأجور و بالتالي أسلوب الإنتاج الرأسمالي. الخصخصة هي قضاء على شكل في الملكية المشتركة و هي ملكية الدولة و تحويلها إلى ملكية خاصة، تماما كما قضي على ملكية الكنيسة و الإقطاعيات الكبيرة و أراضي الدولة في إنجلترا في القرن السادس عشر. الرأسمالية لا يمكن أن تظهر في مكان و تثبت دعائمها فيه إلا بعد القضاء على الأشكال التقليدية من الملكية في هذا المكان، و أكثر أشكال الملكية التي تحاربها الرأسمالية الملكية المشتركة أو ملكية الدولة.

عودة الأيديولوجيا:

وجه ماركس عددا من الانتقادات للاقتصاد السياسي الكلاسيكي باعتباره شكلا من أشكال التبرير الفكري والأيديولوجيا المضفية للشرعية على النظام الرأسمالي. و الحقيقة أن الخطاب المعاصر لليبرالية الجديدة و العولمة يكشف عن تشابه كبير بينه و بين الأيديولوجيا السائدة في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي مما يجعل نقد ماركس لا يزال دالا و فعالا لنقد الفكر الرأسمالي المعاصر. لنرى الآن إلى أي مدى تصدق هذه الأطروحة:

1- نظر الاقتصاد السياسي إلى أسلوب الإنتاج الرأسمالي على أنه مطلق Absolute أي أنه هو أسلوب الإنتاج الأكثر تطورا و كمالا، و هو تتويج لكل أساليب الإنتاج السابقة. و لأنه كذلك فقد أخذ الاقتصاد السياسي يبحث عن عناصر الرأسمالية في العصور القديمة و نظر إلى العمل المأجور و الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و السوق على أنهم موجودون في هذه العصور لكن في صورة بدائية و أقل تطورا. و من هنا نظر إلى كل أساليب الإنتاج السابقة على أنها كانت تسير في طريق أسلوب الإنتاج الرأسمالي الذي وجد بدايته الحقيقية في غرب أوروبا، و لذلك فهو يمثل نهاية التاريخ. الحقيقة أن الخطاب الرأسمالي المعاصر عاد إلى فكرة نهاية التاريخ، و أبرز مثال على ذلك المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما الذي يقوم فكره على النظر إلى الديمقراطية الليبرالية باعتبارها نهاية التاريخ.

2- ينزع الاقتصاد السياسي دائما إلى اختزال التاريخ إلى الطبيعة و تقديم النظام الاجتماعي السائد على أنه جزء من نظام الطبيعة، و ينظر إلى طبيعية النظام بحسبانها علامة على عقلانيته و ضرورته. ومن هنا يرى في الرأسمالية النظام الذي يتفق مع الطبيعة البشرية، و بالتالي تستمد شرعيتها من هذا الأساس. الحقيقة أن هجوم الليبرالية الجديدة على الاشتراكية و الاقتصاد المخطط و مناداتها بالسوق الحر يعتمد على نفس هذا الأساس الأيديولوجي. و المثال على ذلك فريدريك فون هايك الذي ذهب إلى أن من طبيعة النشاط الاقتصادي أن يكون حرا، أي متحررا من أي إشراف أو تخطيط، و هذا هو مصدر عقلانيته. أما الاشتراكية فهي نظام مصطنع و يقضي على تلقائية الإبداع و دافعية الفعل.

3- من بين العناصر الأيديولوجية السائدة في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي و التي لا تزال موجودة حتى الآن القول بأن أسلوب الإنتاج الرأسمالي هو الذي أتاح، و يتيح دائما، تقدم أدوات الإنتاج و التكنولوجيا. يعد هذا القول تبريرا أيديولوجيا للرأسمالية، و الدليل على بطلان ذلك أن الاتحاد السوفييتي السابق شهد تقدما صناعيا و تكنولوجيا يوازي مثيله في الغرب.

إن الخصائص العامة التي كانت تميز أيديولوجيا الاقتصاد السياسي الكلاسيكي هي نفسها التي تميز الآن خطاب الليبرالية الجديدة و العولمة. فالرأسمالية هي المتفقة مع الطبيعة البشرية و مع النظام الطبيعي للأشياء، و هي التي تمثل العقلانية ذاتها، أما ما عداها فهو غير طبيعي و غير عقلاني. و هي أيضا نهاية التاريخ الذي كان مسيرة كبيرة من الصراع و التطور المتجه نحو ظهور الرأسمالية و سيادتها، و الديمقراطية الليبرالية هي النظام السياسي الأمثل لأنها تستجيب للطبيعة البشرية و تناسب الرأسمالية التي هي أسلوب الإنتاج الأمثل. و من هنا نرى أن الأيديولوجيا المبررة للرأسمالية واحدة، سواء ظهرت في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في أوائل القرن التاسع عشر، أو في الليبرالية الجديدة و العولمة في أوائل القرن الحادي و العشرين.

ليس أسلوب الإنتاج الرأسمالي إلا أحد أساليب الإنتاج التاريخية، أي العابرة و الزائلة. إنه أحد طرق تنظيم عملية الإنتاج المادي في المجتمع، و ليس هو الطريقة الوحيدة. فهذا الأسلوب قائم على أساس الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج و السعي نحو الربح الشخصي و استغلال العمل المأجور ، و لا يمكن أن تناسب هذه الأسس مجتمعاتنا النامية. فطبيعة التراكم الرأسمالي لا تناسب مشاريع التنمية، كما أن تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة هو تخل ضمني عن هذه المشاريع. تجعلنا أيديولوجيا العولمة المنتشرة الآن نعتقد أن الانفتاح على السوق العالمي هو سبيلنا إلى النهوض باقتصادنا و تنميته، إلا أن ذلك ليس صحيحا، فهذا في حقيقته سوف يؤدي إلى زيادة التبعية. يجب أن نتذكر دائما أن أسلوب الإنتاج الرأسمالي نفسه لم يظهر في غرب أوروبا إلا بفضل العزلة الرائعة التي تمتعت بها أوروبا في العصور الوسطى و استطاعتها فك ارتباطها عن الأسلوب الآسيوي في الإنتاج، و بذلك تطور اقتصادها نحو أشكال مختلفة عن أساليب الإنتاج السائدة في الشرق. إذا لم تكن أوروبا قد انعزلت عن أسلوب الإنتاج الآسيوي منذ وقت مبكر لظلت تابعة لأحد أشكال هذا الأسلوب. و بالمثل فالنهوض بمجتمعاتنا يتطلب منا فك الارتباط عن الرأسمالية العالمية.



#أشرف_حسن_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد هيجل لليهودية ودلالاته السوسيولوجية
- حسن حنفي والقراءة الفينومينولوجية للتراث الديني
- الرجل الشرقي والمرأة الشرقية: استبطان المرأة للهيمنة الذكوري ...
- نظرية الارتكاس الثقافي
- مقدمة في سوسيولوجيا التاريخ الإسلامي
- الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي: المدرسة النمساوية
- آدم سميث والليبرالية الاقتصادية
- هل الحجاب فريضة؟


المزيد.....




- انتشار التعبئة الطلابية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية
- بيلوسي للطلبة المتظاهرين: انتقدوا إسرائيل كما شئتم لكن لا تن ...
- فرنسا: القضاء يوجه اتهامات لسبعة أكراد للاشتباه بتمويلهم حزب ...
- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أشرف حسن منصور - الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي