أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة العتابي - قناديل شهرزاد














المزيد.....


قناديل شهرزاد


فاطمة العتابي

الحوار المتمدن-العدد: 8190 - 2024 / 12 / 13 - 22:11
المحور: الادب والفن
    


في الغرفة المضاءة بعدة مصابيح كهربائية حيث كانت عيناي متسمرتين على الرغم من أنَّ أضواءها تتآمر مع الدموع التي جللتاهما فتعشيهما... أجهد نفسي لتبقيا مفتوحتين في الوقت الذي كانت تلك المصابيح تتراقص أمام عيني كأنها قناديل من ألف ليلة وليلة توقدها شهرزاد؛ لتنير ليل بغداد الطويل. أراها الآن تحوم حولي بردائها الأبيض الفضفاض، وهي تهمس لي بحكاياتها التي كانت تنسجها للملك السعيد. أسمع صوتها الخفيض يغرد في أذني: هل تسمعيني؟
تأوهت هذيانا وراحت شفتاي تتوسلان لتبقى عيناي مفتوحتين، وتظل أذناي مصغيتين، فما أشد حاجتي إلى تلك القناديل الأسطورية التي كانت شهرزاد تضيئها وهي تدور حول مصاير الفتيات الصغار فتنقذهن. ما أشدُّ حاجتي إلى كلماتها السحرية التي صيغت لتكوِّن جسورا ذهبية تعبر فوقها أولئك الصبايا نحو الحياة.
كان قرارا قاسيا ومرا اتخذه زوجي وهو يصرخ بي قائلا بعد أن أظهرت الصور جنس المولود:
- سأقتلك إن ولدت هذه الطفلة، لن تولد فتاة من هذا العرق الفاسد أبدا.
كلماته هذه كانت كافية لتنهي النقاش في هذا الأمر وإلى الأبد،
فما كنت سأقول له وأنا أرى أنه محقٌّ في ظلمه هذا، على الرغم من شعوري بالمرارة تعصر روحي.
ربما هي سخرية القدر التي جعلت الحقَّ بالظلم متلبسا حتى يكادا يمتزجان ويكونان شيئا واحدًا لا انفصال له. وربما هو العرف الذي جعل هذا التناقض العجيب مقبولا ومسوَّغا.
أول مرة حدث ذلك حينما كنت طفلة صغيرة، يومها فتحت باب دارنا وولجت مسرعة والفرحة تجلل وجهي، وأنا أحمل شهادتي بعلاماتها العالية، حينما فوجئت بتلك الوجوه الكالحة المهمومة جالسة في الصالة وحولها أمي وأبي وإخوتي الكبار؛ تراجعت ظنا مني أنهم غرباء غير أن أمي نادتني قائلة:
- تعالي...
ثم أردفت، وهي مازالت تحمل تعبير الحزن نفسه:
- سلمي على خالك.
كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها هذا الرجل الذي تسميه خالا، وليتها لم تكن تلك المرة.
همٌّ كبيرٌ يجلل وجهه الكالح، الذي بدا لي يحمل تعبيرا لم أكن أعي ما حقيقته، ولم يخفَ على أحد حتى أنا الطفلة الصغيرة، هذا التعبير الذي عرفت فيما بعد أنه يسمى عجزا وفقدا للحول والقوة.
كان قد جاء من الريف محمَّلا بهمه وذله وعاره باحثا عن تلك البنت التي هربت، مخلفة وراءها تلك المآسي الكبيرة التي طالت الأسرة كلها من دون استثناء.
ومرت سنون خلت وخال معي الجميع أنَّ مثل هذا الأمر لن يحدث مرة أخرى، وستبقى تلك البنت كبشا أسود في قطيعٍ أنصع بياضا من الثلج، غير أنَّ ظني لم يكن في محله، فها هي ذي الأيام حبلى بعار جديد، الوجوه الكالحة نفسها، التي تحمل كما هائلا من الذل والعجز والحيرة هي التي دخلت علينا فجأة فصعقتنا... لا ريب في أنَّ التأريخ يعيد نفسه مرارا وتكرارا فلِمَ نغفل عن قراءته والاعتبار به، ولا سيما إذا كان تاريخنا نحن؟
شعرت عند رؤيتهم أنَّ الدنيا قد توقفت في تلك اللحظة، فعجلة الزمن ليس لها معنى، إذ هي تدور وتدور وتدور ولكن في دوامة الحاضر، وعلى وجه التحديد في دوامة تلك اللحظة فتطحننا وأحلامنا، فلا يبقى منا سوى قشور تتطاير مع الريح؛ فأول ما يفقد المرء حينما تحلُّ المصائب شعوره بالزمن ماضيا ومستقبلا؛ ليبقى حبيس تلك اللحظة التي تظل حاضرة، والتي تلتف حول عنقه كحبل يضيق ويضيق ويضيق من دون توقف...
وعلى الرغم من كل هذا التشابه بين اللحظتين اللتين عشتهما معا كان للمرارة طعمٌ آخر هذه المرة، طعم وعيته، وأدركته، وتمنيت أن يفهمه كل الناس من حولي، كيف لا وأنا وما أحمل في أحشائي من وقع عليه الظلم وأخذنا بجريرة غيرنا، أردت أن أصرخ في الدنيا قائلة الشرف مثله مثل سائر الذنوب لا يتحمل وزره إلا صاحبه،
هو وحده من يحمل عاره وشناره، وهو وحده من يعاقب به، لهذا صرخت به متوسلة:
- يا معوَّد كل لشة تتعلك من كراعها .
ولكنه لم يكن يفهم، أو لم يرد ذلك. كنت أدرك أنه شعر بمرارة ما يشعرون به، لم يرد عيش التجربة المرة التي عاينها مرتسمة على وجوههم، وتذوق علقمها الملجم، فقال وهو يشير إلي مهددا:
- لا أستطيع فهم ما تقولين ...لن تلدي هذه البنت من هذا العرق الفاسد أبدا...لن أقبل بهذا لأجد نفسي يوما كالح الوجه مثلهم أكابد عاري.
أمرر يدي على بطني، أتحسسها، أكاد أشعر بروحها البريئة تنتفض في داخلي... ثمة شيء يقودني للتفكير بأن الظلم لن يكون حقا أبدًا مهما حاولت الأعراف الترويج له، شيء ما يأز روحي، يهتف بي، لا أحد في هذا الكون يستطيع أن يحملني وزر غيري أبدا، فكيف بهذا الكائن الصغير الذي لم يأت للحياة بعد؟ كيف له أن يحمل وزرا لا يعلم حتى به ولا من اقترفه؟
ها هي ذي من جديد... ألمحها تحوم حولي، وقناديلها تتراقص أمام عيني المواربتين... الرغبة في المقاومة تغريني وتؤلمني، ولذة الاستسلام تجتاحني وتأسرني... أسمع صوتها كأنه يأتي من مغارة بعيدة، اسمعها تهمس للأشباح التي انتشرت حولها كفراشات حول نار مناياها: (بدأ المخدر يأخذ مفعوله فلنستعد للعمل).
أجهد نفسي لأقاوم الغيبوبة التي راحت تداعب رأسي وأنا أسمع همسها الذي بدا لي الآن كعزيف مخيف... ألمحه أخيرا ...آخر قنديل وهو يلوح لي من بعيد؛ فتتراقص أضواؤه الخافتة بين جفوني المواربة قبل أن يطبق عليها الظلام.



#فاطمة_العتابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحليق بعيدا في فضاءات الحلم
- حكاية شموئيل وحلم إيشو الرباب
- مقطوعة
- الإمام علي رائد الوحدة الإسلامية
- مقطوعتان
- قصة قصيرة


المزيد.....




- نظرة على ترشيحات جوائز الأوسكار لـ 2025.. -Emilia Pérez- الأ ...
- إيلاف تحتفي بإشادة عرفان نظام الدين... شهادة تقدير في حق عثم ...
- تردد روتانا سينما 2025 أفلام زمان رجعت بجودة عالية الان
- مصر.. تحديد موعد افتتاح المتحف الكبير بعد طول انتظار
- عبد الله عيسى: الكلمة تواجه الطلقة والشعر الفلسطيني صوت المق ...
- فؤاد مطر يوثق نصف قرن من العمل الصحافي في 17 مجلداً
- أمير سعودي يرد على الفنانة الإماراتية أحلام وما قالته عن تعا ...
- الدار البيضاء تحتفي بإبداعات الفنان الروسي يوري فاسنيتسوف في ...
- من ديك واحد ودجاج كثير إلى مجتمع من الديكة.. معالم في عهد ال ...
- مسقط تستضيف معرضا للفن الطليعي الروسي


المزيد.....

- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة العتابي - قناديل شهرزاد