حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8178 - 2024 / 12 / 1 - 10:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن الفكر الإسلامي حافلٌ في عمومه بالقضايا الجدلية التي شغلت عقول العلماء والمتكلمين عبر العصور، ومن أبرزها مسألة علم الله الأزلي وما يرتبط بها من أسئلة فلسفية عميقة حول العلاقة بين صفات الله وأفعاله. هذه الإشكالية لا تقف عند حدود التأمل النظري فحسب، بل تتقاطع مع قضايا جوهرية في العقيدة الإسلامية، مثل التوحيد والتنزيه، ومسألة الحرية والمسؤولية الإنسانية، وصولًا إلى الخلاف الكبير حول خلق القرآن، الذي كان محورًا لصراع فكري حاد بين الفرق الإسلامية الكبرى.
إن القول بعلم الله الأزلي يثير تساؤلات فلسفية عميقة: كيف يمكن لله، وهو الأزلي العالم بكل شيء، أن يحيط علمه بأفعال وأحداث لم تحدث بعد؟ وهل يتعلق علم الله بمستقبل المخلوقات كحقائق محددة سلفًا، أم أنه علم يتجدد مع وقوع الأحداث؟ ومن جهة أخرى، تبرز قضية خلق القرآن باعتبارها من المسائل التي حملت أبعادًا عقائدية شديدة الحساسية، حيث ربط المعتزلة القول بخلق القرآن بمبدأ التوحيد الخالص، مؤكدين أن أزلية القرآن تتناقض مع هذا المبدأ، وتؤدي إلى إثبات وجود شريك لله في الأزلية.
هذا النقاش لم يكن مجرد جدل تجريدي، بل كان جزءًا من صراع أكبر حول طبيعة الله وصفاته وعلاقته بالعالم المخلوق. ولعل أكثر الفرق الإسلامية جرأةً في مواجهة هذه الإشكاليات كانت فرقة المعتزلة، التي سعت إلى تقديم تصور عقلاني يوفق بين نصوص الوحي ومتطلبات العقل. لقد رأى المعتزلة أن التنزيه المطلق لله يقتضي القول بأن صفاته – ومنها الكلام الإلهي – حادثة وغير أزلية، وبالتالي فإن القرآن، بصفته كلام الله، هو مخلوق. ومن هنا، برزت الإشكالية الكبرى: كيف يمكن الجمع بين علم الله الأزلي ومبدأ خلق القرآن؟ وهل يؤدي هذا الجمع إلى تقييد حرية الإنسان أو الإخلال بمبدأ التوحيد؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة قادت المعتزلة إلى بناء منظومة فكرية شديدة التعقيد، تقوم على التفريق بين علم الله الأزلي بذاته وعلمه بأفعاله المخلوقة، وعلى إعادة صياغة العلاقة بين الإرادة الإلهية والحرية الإنسانية. هذا الموقف لم يكن دون ثمن؛ فقد جلب عليهم معارضة شرسة من مدارس فكرية أخرى، مثل أهل الحديث والأشاعرة، الذين رأوا في موقف المعتزلة تفريطًا في بعض ركائز العقيدة.
وعليه، فإن هذه القضية ليست مجرد نزاع تاريخي في الفكر الإسلامي، بل هي نموذج حي لتفاعل العقل الإسلامي مع الأسئلة الوجودية الكبرى. ومن خلال تحليل موقف المعتزلة من إشكالية علم الله الأزلي في ضوء تأكيدهم على مبدأ خلق القرآن، تتضح ملامح هذا التفاعل، الذي يتسم بالتوازن الدقيق بين مقتضيات الإيمان ونطاقات العقل.
كيف واجه المعتزلة إشكالية القول بعلم الله الأزلي ؟
إشكالية القول بعلم الله الأزلي وعلاقتها بمبدأ خلق القرآن هي واحدة من القضايا الأكثر تعقيدًا في الفكر الكلامي الإسلامي، وخصوصًا عند المعتزلة الذين كانوا يعطون أهمية كبيرة للتوفيق بين العقل والنقل. لفهم هذه القضية بشكل مفصل، لا بد من التطرق إلى ثلاثة محاور رئيسية:
المحور الأول: الخلفية العامة لإشكالية علم الله الأزلي ومبدأ خلق القرآن
علم الله الأزلي:
يقصد به العلم المطلق الذي يتصف به الله سبحانه وتعالى منذ الأزل، أي أنه عالم بكل شيء، قبل حدوثه وبعده، دون بداية أو نهاية لهذا العلم.
يُثار هنا التساؤل: هل هذا العلم الأزلي مستقل بذاته أم متعلق بأفعال المخلوقات؟ إذا كان متعلقًا بأفعال المخلوقات، فهل يعني هذا أن هذه الأفعال محددة مسبقًا؟ وهنا يُثار التساؤل حول الحرية الإنسانية.
مبدأ خلق القرآن:
اعتقد المعتزلة أن القرآن مخلوق وليس أزليًا، أي أن الله خلقه في وقت معين كجزء من أفعاله.
الدافع وراء هذا الموقف كان رفض فكرة وجود شيء أزلي مع الله، لأن ذلك يناقض مبدأ التوحيد الذي يصرون عليه.
الإشكالية الجوهرية:
إذا كان القرآن مخلوقًا، وكان علم الله يتضمن تفاصيله قبل خلقه، فهل يعني هذا أن علم الله بالأشياء المخلوقة، ومنها القرآن، يسبقه زمانيًا؟
كيف يمكن الجمع بين علم الله الأزلي وحقيقة أن القرآن حادث ومخلوق؟
المحور الثاني: موقف المعتزلة وحججهم العقلية
التوحيد والتنزيه أساس الموقف:
اعتبر المعتزلة أن القول بأزلية القرآن يتناقض مع مبدأ التوحيد، إذ يجعل القرآن شريكًا لله في الأزلية.
بالتالي، رأوا أن القول بخلق القرآن يحمي عقيدة التوحيد من أي شائبة.
علم الله الأزلي عند المعتزلة:
ميز المعتزلة بين علم الله بذاته وعلمه بأفعاله.
علم الله بذاته أزلي وغير متغير، لأنه متعلق بجوهر الله ذاته.
أما علمه بالأفعال المخلوقة (ومنها القرآن) فهو حادث مع حدوث هذه الأفعال، ولكنه ليس علمًا مستجدًا أو متغيرًا بالنسبة لله، لأنه علمٌ "يتبع المعلوم" وليس سابقًا له في الزمان.
مفهوم الحدوث والاستناد إلى الإرادة الإلهية:
رأى المعتزلة أن أفعال الله، ومنها خلق القرآن، هي أفعال حادثة بناءً على إرادة الله.
أكدوا أن القرآن هو كلام الله، ولكنه حادث ومخلوق، لأنه فعل من أفعاله، والله يخلق أفعاله بإرادته في الزمن الذي يختاره.
تأكيد حرية الإرادة الإنسانية:
كان المعتزلة حريصين على تأكيد مسؤولية الإنسان عن أفعاله، لذا رفضوا أي تصور يجعل علم الله الأزلي يؤثر على حرية الاختيار الإنساني.
قالوا إن علم الله بالأفعال لا يعني إجبارًا أو سبقًا للأحداث على نحو يحدّ من حرية المخلوق.
المحور الثالث: الردود على الانتقادات والنتائج الفكرية
رد المعتزلة على القائلين بأزلية القرآن:
اعتبروا أن القول بأزلية القرآن يؤدي إلى القول بتعدد القدماء، وهو ما يناقض التوحيد الخالص.
أكدوا أن القرآن، وإن كان كلام الله، فإنه لا يحمل صفة الأزلية التي تخص الذات الإلهية وحدها.
الحفاظ على التوازن بين العقل والنقل:
حاول المعتزلة معالجة هذه الإشكالية بالاستناد إلى نصوص الوحي وتفسيرها تفسيرًا عقليًا.
رأوا أن اللغة القرآنية ذاتها تدل على الحدوث، حيث يذكر القرآن أفعالًا وأحداثًا تتغير بمرور الزمن.
النتائج الفكرية:
أسهم موقف المعتزلة في دفع النقاشات الفلسفية الإسلامية إلى مستويات أعمق، حيث أصبحت مسألة صفات الله وأفعاله محورية في الفكر الكلامي.
عُدّ هذا الموقف من أبرز القضايا التي أثرت في الفكر الإسلامي التقليدي، وأدى إلى صدام المعتزلة مع التيارات الأخرى، خاصة أهل الحديث والأشاعرة.
وهكذ يمكن القول أن المعتزلة واجهوا إشكالية علم الله الأزلي من خلال التفريق بين علمه بذاته (الأزلي والثابت) وعلمه بالأفعال المخلوقة (الحادثة والمتغيرة). رأوا أن القول بخلق القرآن هو ضرورة عقلية للحفاظ على التوحيد الخالص وتنزيه الله عن أي شريك في الأزلية. في الوقت ذاته، تمسكوا بمبدأ حرية الإرادة الإنسانية، مما جعلهم ينظرون إلى علم الله كعلم يتبع المعلوم في وقوعه، لا يسبق إرادة الإنسان ولا يحد منها.
هذا الموقف يعكس منهجهم العقلاني الذي حاول المزج بين مقاصد الشريعة ومتطلبات العقل، لكنه أدى أيضًا إلى صراعات فكرية مع المدارس الأخرى التي رفضت هذا التفريق.
في ختام هذا الطرح حول إشكالية علم الله الأزلي وموقف المعتزلة من هذه المسألة في ضوء تأكيدهم على مبدأ خلق القرآن، يمكن القول إن هذه القضية ليست مجرد جدل كلامي بين فرق إسلامية، بل تمثل مواجهة فكرية معقدة بين النصوص المقدسة وأسئلة العقل البشري المتجددة. لقد سعى المعتزلة إلى تقديم تصور عقلي متماسك يحافظ على صفاء العقيدة الإسلامية، مؤكدين على تنزيه الله من أي شائبة تشبيه أو تعدد في القدماء، وهو ما دفعهم للقول بخلق القرآن كجزء من أفعال الله الحادثة، وليس كوجود أزلي منفصل.
ومع ذلك، فإن تناولهم لهذه المسألة كشف عن التحديات التي واجهت العقل الإسلامي في محاولته فهم العلاقة بين صفات الله وأفعاله من جهة، وعلاقته بالعالم المخلوق من جهة أخرى. من خلال تفريقهم بين علم الله بذاته وعلمه بأفعاله، ومحاولتهم التوفيق بين علم الله الأزلي وحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، قدم المعتزلة نموذجًا فكريًا يعكس الجرأة العقلية التي ميزت مسيرتهم، وإن أثار جدلًا كبيرًا مع التيارات الأخرى.
إن عمق هذا النقاش يكمن في كونه يعبر عن محاولة للإجابة عن أسئلة لا تزال حاضرة في الوجدان الإنساني: كيف نفهم صفات الله المطلقة في ظل عالم متغير ومحدود؟ وكيف نوازن بين حرية الإنسان وعلمه المسبق؟ إن موقف المعتزلة، رغم انتقاده من خصومهم، يشكل أحد أعمق التجارب الفكرية التي حاولت الموازنة بين العقل والإيمان، مما يجعل دراستها ضرورة لفهم تطور الفكر الإسلامي واستيعاب فاعليته عبر العصور.
ختامًا، يظل هذا الجدل شاهدًا على قدرة الفكر الإسلامي على التعامل مع القضايا الأكثر تعقيدًا دون التخلي عن جوهر العقيدة، ويدعو إلى استلهام روح الاجتهاد العقلي التي ميزت تلك الحقبة، لعلها تسهم في مواجهة تحديات الفكر والعقيدة في عالمنا المعاصر.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟