|
آخر الثوريين الحالمين
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8146 - 2024 / 10 / 30 - 20:56
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
قبل بدء حرب الإبادة ضدّ لبنان كنت قد عثرت على ورقة بين أوراقي المبعثرة وراء صفّ من الكتب العتيقة في مكتبتي غير المتناسقة، وأنا أعيد بعض ما استعرته منها لأغراض المراجعة والتدقيق. ابتسمت وأنا أقرأ بعض تدويناتي عن تشي جيفارا، وكأنه نور سحيق أفلت من قبضة زمن مختلف. رحت أفكّر، لبضعة دقائق في حنين غريب، بتلك المرحلة فندّ من تلك الأوراق الطريّة النديّة على الرغم من جفافها صوت أغنية قديمة "جيفارا مات" وهي قصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم، ومع أنه نسيم عذب وريح خفيفة تسبق المطر، لكنه لحن حزين وقاس: جيفارا مات، جيفارا مات، آخر خبر بالراديوهات وفي الكنايس والجوامع... مات المناضل المثال، ياميت خسارة عالرجال... وبدلًا من إعادة أوراقي العتيقة إلى مكانها نفّضت عنها الغبار ووضعتها على طاولتي ولا أدري لماذا دسستها بعد ذلك في حقيبتي، ربما خوفًا عليها من الضياع في زحمة الأوراق والقصاصات والصحف والمجلات، ولعلّ تلك العادة كنت التمست جدواها لفترة زادت عن خمسة عقود من الزمن، حيث كنت أخبئ تلك الأوراق لأعود إليها أحيانًا، وكم تكون مفاجأتي كبيرة حين أجدها راهنية، بل وآنية، وهكذا كنت أحتفظ ببعض القصاصات والأوراق والرسائل في حقيبة اليد، حتى وإن كنت لا أستعملها. عادت بي الذاكرة الملعونة إلى 57 عامًا إلى الوراء يوم وصلنا خبر اغتيال جيفارا في بوليفيا إثر وشاية واندساس، كيف ظلّ الرجل متماسكًا وثابتًا وواجه مصيره بكلّ جرأة وشجاعة، وهو القائل "كن هادئًا وصوّب جيدًا، أنت تقتل رجلًا". يومها بعد 7 أكتوبر / تشرين الأول 1967، وكنت حينها في الصف المنتهي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، نظمنا اجتماعًا مهيبًا في كلية التربية، وتبادلنا التعازي، بل أن الكثير من أصدقائنا كلانوا يخصوننا بذلك، وقد رويت ذلك في كتابي الموسوم "كوبا الحلم الغامض" (دار الفارابي، بيروت، 2011). وعلى الرغم من أننا حينها لم نكن من التيار الذي اقتفى أثر الجيفارية، بل اعتبرناها تجربة غير قابلة للاستنساخ، فضلًا عن أن الدعوة إلى تشكيل البؤر الثورية على حساب العمل المنظم ليست السبيل إلى تغيير الأوضاع، لاسيّما بالزحف من الريف إلى المدينة، لكن ذلك لم يمنعنا من إظهار أنواع التضامن مع أحد أبرز ثوريي عصره، بل أحد أكبر الثوريين في العالم الذين وضعوا أحلامهم قيد التنفيذ، واسترخصوا حياتهم في سبيل تلك الأحلام التي بدت لهم الحقيقة الوحيدة على حد تعبير المخرج الإيطالي فيليني. وبغض النظر إن كان الثوري الحقيقي أخطأ الحساب أو لم يقدّر ظروف المواجهة ويحسب ميزان القوى بدقة، سواءً بالتقليل من قوّة العدو أو بتضخيم قواه الذاتية، لكنه لمجرد اختياره لحظة المجابهة "هذه اللحظة الثورية"، فإن واجب التضامن معه يصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، وقد هلّل ماركس إلى السماء لكمونة باريس يوم اندلعت بقوله "هبوا لاقتحام السماء"، على الرغم من ملاحظاته عليها وشعوره بأنها يمكن أن تذبح، فلم يعد الوقت مناسبًا للنقد أو إبداء الملاحظات طالما أن المعركة بدأت، ولا مجال للتفرّج عليها. من المعروف أن ماركس قد حذر عمال باريس في خريف سنة 1870 قبل الكومونة بعدة أشهر، من أن أي محاولة لإسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع إليها اليأس ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في آذار / مارس 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدت الانتفاضة أمرا واقعا، حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذر السوء. لم يصر ماركس اتخاذ موقف متحذلق وإدانة الحركة "باعتبارها جاءت في غير أوانها". ومثل هذا الأمر يتكرر عادة في التاريخ، منها مواجهة الزعيم العربي جمال عبد الناصر للمخطط الإسرائيلي العدواني في العام 1967، على الرغم من الملاحظات حول الأعداد للمعركة عسكريًا، وحريّة الجماهير للمشاركة فيها، ولعلّ أية معركة حقيقية تحتاج إلى حشد أوسع الطاقات وإطلاقها في مواجهة العدو. لم يكن أدنى شك من أن المواجهة تتطلّب مستلزمات أخرى، لكن الوقت ليس وقت شماتة أو تشفّي أو استقالة عن المشاركة أو تسقّط الأخطاء طالما أن المعركة بدأت، وإلّا سيصبّ مثل هذا الأمر في طاحونة العدو، أمّا النقد والتقييم، وحتى المساءلة بإعادة قراءة التجربة، فيأتي لاحقًا، ولطالما بدأت حرب المواجهة في غزّة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، فلا مجال إلّا بالانحياز لفلسطين وللمقاومة ولمجابهة العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الشاملة، والاساس في ذلك أن هذه الحرب هي حرب عقول وإرادات، وحرب علوم وتكنولوجيا. وهي حرب وطنية وتحرّرية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، استهدف منها العدو الصهيوني، ولاسيّما بوحشيته ولا إنسانيته الخارقة فرض الإذعان، بل وجعله ثقافة وتيئيس الأمل في التحرير، ومحاولته شن حرب نفسية ناعمة موازية للحرب الهمجية العسكرية العنيفة المنفلتة من عقالها، وربما هذه الحرب أكثر خطورة وإيلامًا وخبثًا ودناءة من الحرب العسكرية ومن العدوان الإجرامي. وهكذا أخذت بعض الأصوات ترتفع بحجة "العقلانية" و"الموضوعية" و"تجنب الصراع" لضخ شتّى الاتهامات للسيّد حسن نصرالله، الذي أعاد صورة جيفارا بكلّ رمزيته وكارزميته وجلاله إلى ساحتنا مجددًا، بعد أن نسي أو تناسى كثيرون هذه الأمثلة الرائدة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها في اختيار وتوقيت لحظة المجابهة والإعداد الكافي لها وتحمّل نتائجها، لكننا لا ينبغي أن ننسى أن العدو ووجوده في قلب الوطن العربي هو مشروع "حرب مستمرّة" و"بؤرة توتّر دائمة"، بل و"قنبلة غير موقوتة" لا يمكن التكهّن بأية لحظة ممكن أن تنفجر، وتلك هي حقيقة الصراع التي لا ينبغي أن تغييب عن البال. الثوريون الحقيقيون بلا أحلام يصدأون، فالحلم هو جزء من شخصية الثوري الحقيقي، وطالما ظلّ الثوري ثوريًا فالحلم يبقى طازجًا ولا يتحوّل إلى حلم معلّب، وعلى طريق الحالم الكبير والثوري الكبير والشهيد الكبير نصرالله، سقط حالم آخر هو يحيى السنوار وفي الميدان أيضًا، لكن أرواح الثوريين مثل أفكارهم تتناسل، بل إنها لها أجنحة، هكذا ستطير على حد تعبير ابن رشد، نعم للأفكار أجنحة مثلما للبطولة أجنحة، وأجنحة الثوريين الحالمين لا ترفعهم إلى السماء فحسب، بل تنثر أرواحهم في ربوع تربة الوطن لتنبت ثمّ تزهر وبعدها تثمر ثم تنضج، وهذه الأرض المروية بالدم والشمس والأحلام والمتطلّعة إلى الحريّة والحياة، لا يمكنها إلّا أن تكون كذلك، فليس هناك شعب تحتلّ أراضيه ولا يقاوم إلّا إذا كان شعبًا من العبيد، وأظنّ أن الشعب العربي الفلسطيني هو شعب حرّ توّاق إلى الحريّة والحياة، مثله مثل الشعب اللبناني وشعوب الأمة العربية كافّة. كنت وأنا أقابل آخر الثوريين الحالمين بعد تحرير الجنوب اللبناني، وانسحاب العدو الإسرائيلي "خانعًا" قلت له "أرى القمر هذه الأيام أكثر إشعاعًا، وكأنني أراه لأول مرّة، ربما هو قمر بني هاشم الذي زاده ضياءً"، فبادرني "إنه منكم..." إنه "نور النجف"، واستوقفني حيث كان قد درس في مدرستها التي مضى عليها ألف عام، ومرة أخرى في اجتماع لدعم المقاومة، كنت أتأمله بابتسامته الخجولة ونظرته الحالمة، يوم اجتمعت جميع فصائلها الفلسطينية واللبنانية وشخصيات فكرية وثقافية حين كانت روحه هناك، إلى حيث الحلم الليموني، إلى التحرير. وفي كلّ مرّة كنت أتطلّع إليه أو أشاهده في التلفزيون تقصر المسافة عندي بين الحلم والواقع، بل يتداخل الحلم مع الواقع في قصيدة أو لوحة أو سمفونية هي التي تجمع الحياة بالحريّة والإنسان بالقيم والثوري بالأمل.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديبلوماسية الاقتصادية والعلاقات الدولية
-
الكاتب والصحافي يحيى علوان في ذمة الخلود
-
روح غاندي وفلسفة التسامح
-
-ترست الأدمغة- جديد عبد الحسين شعبان
-
عقوبة الإعدام بين العدالة والانتقام
-
شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الثالثة والأخيرة)
-
المفكّر العربي الكبير عبد الحسين شعبان محاضرًا في كردستان: ن
...
-
هارفرد أم هوليود أيهما الأكثر تأثيرًا؟
-
أحمد الحبوبي الكبرياء والضمير في تجلياتهما
-
زرع ثقافة السلام
-
الديبلوماسية الثقافية والتأثير في الرأي العام
-
المفكر العربي الكبير عبد الحسين شعبان: -أمراء الطوائف- يسيطر
...
-
الجواهري وطه حسين و-رهين المحبسين-
-
مُهدى إلى -غسان كنفاني- - الطبعة الانكليزية من -مذكرات صهيون
...
-
المرأة والطريق إلى الحداثة
-
Memoirs of a Zionist كتاب جديد لعبد الحسين شعبان
-
إلى أين؟ غزّة والاحتلال -الدائم-
-
وسام التميّز لعبد الحسين شعبان
-
عبد الستار الدوري السياسي العصيّ على التصنيف(الحلقة الرابعة
...
-
شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الثانية)
المزيد.....
-
جنيفر لوبيز تغالب دموعها خلال مشاركتها في تجمع انتخابي داعم
...
-
الأكثر دموية منذ عقود.. مشاهد مروعة لفيضانات إسبانيا المدمرة
...
-
السعودية: القبض على مواطنين اثنين ومقيم مصري و25 إثيوبيا لهذ
...
-
إعلام عبري: تحقيقات حول احتمال تسريب -المعلومات الحساسة- من
...
-
إصابة قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي خلال جولة عم
...
-
رامي مرتضى في بلا قيود: التفاوض تحت النار غير ممكن
-
لمن سيصوت أفراد مجتمع الميم-عين في الانتخابات الأمريكية؟
-
بايدن: أدليت بصوتي مبكرًا وهذه الانتخابات هي الأكثر أهمية ف
...
-
بيونغيانغ تؤكد التزامها بدعم موسكو: -ندعم رفاقنا حتى تحقيق ا
...
-
المغرب ـ الإفراج عن المعارض عبد المومني مع استمرار ملاحقته
المزيد.....
-
علاقة السيد - التابع مع الغرب
/ مازن كم الماز
-
روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي
/ فاروق الصيّاحي
-
بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح
/ محمد علي مقلد
-
حرب التحرير في البانيا
/ محمد شيخو
-
التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء
/ خالد الكزولي
-
عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر
/ أحمد القصير
-
الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي
/ معز الراجحي
-
البلشفية وقضايا الثورة الصينية
/ ستالين
المزيد.....
|