رشا أرنست
(Rasha Ernest)
الحوار المتمدن-العدد: 1770 - 2006 / 12 / 20 - 09:49
المحور:
المجتمع المدني
جئتُ إلى الإسكندرية لزيارة صديقة لي ، و الواقع أن منزلها يقع بمركز كفر الدوار . و مدينة كفر الدوار هي مدينة تجارية كبرى تقع ما بين محافظتي الإسكندرية و دمنهور و بغض النظر عن الصراع المستمر بين المحافظتين على تلك المدينة الضخمة الزاخرة بكل شيء من حيث التجارة و عدد السكان ، لفت نظري من خلال تاريخ البلد انه رغم هذا الصراع إلا أن البلد لم يدخل بها تطورات كثيرة و الأغرب من ذلك أن هناك كوبري داخل المدينة بدأ إنشائه منذ أكثر من خمسة و ثلاثون عاماً أي أن هناك أجيال و أجيال مرت على هذا البلد و الكوبري مازال تحت التنشئة هذا بالإضافة للحوادث الناجمة عن استعماله رغم حالته المتدهورة و بنائه الغير مكتمل .
اندهشت جدا بما رأيته و سمعته من أهل كفر الدوار البحراوية الذين يعيشون بالقرب من الإسكندرية طالين من خلالها على ثقافة البحر المتوسط بكل حضاراته . اكتشفت من خلال أحاديثهم أنهم لا يعلمون الكثير عن مصر و خاصة الصعيد فيها . للوهلة الأولى عندما رأوني لم يتصورا أبداً إنني قادمة من الصعيد ، أو بالأحرى قادمة من قلب الصعيد أسيوط . دهشتهم زادت عندما سمعوا كلامي و طريقة حديثي و كأن المفروض حسب ما يعلموه أنني إذا بالفعل قادمة من الصعيد لابد أن أكون مرتدية ملابس غير ملابسهم و أتكلم بلهجة صعيدية . و ما رأوه هو أنني مثلهم و ربما أكون مودرن أكثر من بعضهم . و للحقيقة أخذت الموضوع في بادئ الأمر بسخرية ليس إلا . و لكن عندما تكرر اندهاش معظم من رأوني و تحدثوا معي أثارني الموضوع بشدة . هل نحن في نظرهم مختلفين عنهم و ما وجه هذا الاختلاف ؟ هل نحن سكان الصعيد نعيش عصراً غير العصر الذي يعيشونه أهل القاهرة و الإسكندرية ؟ هل نحن الآن في صدام بين ثقافتين إحداهما بحرية و الأخرى قبلية ؟
و تذكرت زيارة إحدى الأشخاص المثقفين الذين ندعوهم من القاهرة لإلقاء محاضرات لنا في مراكزنا الثقافية بأسيوط ، إذ انه فور وصوله إلى محطة القطار بأسيوط و بدا عليه الاندهاش مما شاهده من مباني و محلات فخمة و مطاعم على احدث طراز و ملابس عامة الناس بالشارع و خاصة الفتيات . و قال لنا بشيء من الإحراج : اعزرونى لم أكن أتصور أنكم وصلتم لهذا الحد من التطور في بلدكم .
تذكرت تلك الجملة التي اسمعها الآن من اناس لم يروا أسيوط أو إحدى محافظات الصعيد و لكن رددوها لمجرد أنهم رأوا فتاة مرتدية على الموضة و تتكلم بلهجة المصريين و ليس الصعايدة .
و السؤال الذي يطرح نفسه الآن : من الذي صنع هذه الهوة بين شمال مصر و جنوبها ؟ فقط اللهجة و الملابس هي التي تفرق بين أهل القاهرة و أهل الصعيد !!. نعم إنها كذلك ، فلتشاهدوا مسلسلات التليفزيون التي تدور أحداثها في الصعيد ، فمهما كانت الأحداث غير منطقية و غير هادفة للمشاهد يبقى التركيز على اللهجة و مخارج الألفاظ و الديكور و الملابس هم الأشياء الأساسية لنجاح مسلسل صعيدي . فحتى الآن و نحن بالألفية الثالثة مازلنا نُصور الصعايدة بالجلاليب و العمامة و الفساتين المتعددة الألوان بجانب كلمات خاصة بهم و بلهجتهم . و مازالوا كل مخرجينا العظام لم يتعرفوا على صعيد مصر حتى لو هذا جزء من عملهم لان ثقافاتهم توقفت عند سنة 1950 و لم يروا الجانب الجديد من الصعيد الذي هو و بشاهدة من عرفوه و يُعاصروا أحداث التطور به هو أرقى من مناطق كثيرة بالقاهرة . بالإضافة أن شباب الصعيد معروف بثقافته الغير محدودة و بحثه الدءوب على كل جديد و متطور ، كما ان جامعات محافظات الصعيد من أرقى الجامعات .
هؤلاء الذين مازالوا يصورون الصعيد بأنه عالم آخر داخل مصر و للأسف لديهم طريق التليفزيون الأسرع و الأسهل للوصول لكل مصري هنا و كذلك الوصول لمشاهدين كافة دول الوطن العربي لم يكتفوا بجهلهم بالصعيد و لكن مُصرين على تكرار نموذج الصعيدي الساذج و الصعيدية المقهورة في كل أعمالهم و كتاباتهم . و صوروا لكل من يُشاهد أعمالهم أن هذا هو صعيد مصر . حتى أن إخواننا العرب في كل الدول العربية أضحت لديهم نفس الفكرة القديمة عن الصعيد و أهله و كأننا مازلنا نعيش عصر الطرابيش و لم يصل إلينا أي من الاختراعات الحديثة .
أتساءل .. ألم يقرءوا التاريخ !؟ ، ألم يعلموا أن بلاد طيبة كانت عاصمة لمصر في عصر من العصور ، ألم يعرفوا حتى الآن كيف اخرج الصعيد مئات من العظماء من كتاب و فنانين و علماء في الأزهر !! ، ألم يروا أعظم الآثار في متاحفه الموجودة في كل محافظاته !! ألم يدركوا ما بأرضه من كنوز القدماء !! .
أتصور بعد زيارتي هذه المرة إلى الإسكندرية أنني أدركت فعلا كم هي المسافة الثقافية و التربوية بين أهل شمال مصر الذين يكتفون بالسمع و بين أهل الجنوب الذين يبحثون و يعرفون دائماً إلى أي مدى وصلت ثقافـــــــة و حضارة بلدهم باحثين عن الثقافة و التطور بكل جوانبه .
و أتوجه بدعوة كل من يعيشون بالقاهرة و الإسكندرية أن تتعرفوا أكثر على بلدكم العظيمة مصر ، تعرفوا على كل بلادها ليس فقط القريب منكم . لن يكون الصعيد كله متطور فمازل يحتفظ بحضارة الزراعة أقدم الحضارات التي عرفها المصريون و هذا ليس بعيب . و بجانب حضارة الزراعة يوجد أيضاً حضارة التعليم و التطور و حضارة الدش و الموبايل و معظم أهالي الصعيد قد زاروا محافظات الوجه البحري . فتعالوا انتم و زورا و تعرفوا على هذا الجزء الذي مازال يحتفظ برائحة وادي النيل . لا تكتفوا بالقراءة أو السمع عنه . و لكن تعالوا و انظروا انتم إلى أين وصل صعيد مصر في الألفية الثالثة . و أهلاً بكم بيننا في الصعيد .
#رشا_أرنست (هاشتاغ)
Rasha_Ernest#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟