أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبدالرضا المادح - درب التبانه















المزيد.....



درب التبانه


عبدالرضا المادح

الحوار المتمدن-العدد: 1763 - 2006 / 12 / 13 - 09:28
المحور: سيرة ذاتية
    


* لسنين طوال وكلما إستذكرت المعركة احداثها،
تعود الروح للجسد المتبقي،
بل انها تسكن هناك لم تغادر.

كانت السماء صافية في بداية الشتاء على غير عادتها، فأستغلت اشعة الشمس غفوة الغيوم على قمم سلاسل كارة ومتين، لتنشر بدفء اشعتها نشاطاً حيوياً في وديان وتلول منطقة الدوسكي، حيث استمر الفلاحون بتقطيع الاشجار وجمع الحطب، استعداداً لشتاء قارص يحل عليهم كل عام في دورة الطبيعة السرمدية.
في احد تلك الوديان بين نهر الخابور وقرية ملهم باني، كان الدخان ممزوجاً برائحة الشاي ينبعث من مواقد متباعدة تحلق حولها الانصار يسردون حكايات الصبا والاهل القادمة من ازقة انتشرت على خارطة العراق، تحمل عطر الصبايا وحلاوة التمر وهدهدة حول مهد، وارتعاشة جسد درويش على ترنيمة لام فقدت إبنها الذي لم يعد من الجامعة في يوم قائظ من صيف عام 1978.
من اعلى التلة صاح ابو سحر (النجفي) متخفياً خلف اغصان شجرة صغيرة:
ـ يارفاق وصلت مفرزة زاخو.
ـ مرحبة يارفاق.
تعانقوا وتبادلوا القبل والابتسامات ترتسم على شفاههم ، حيث لم يلتقوا منذ اشهر فلكل مفرزة منطقة لنشاطها السياسي والعسكري. ثم انتشروا على شكل مجاميع صغيرة وبدؤوا ممارسة طقوس النار، بخفة وسرعة تنم عن خبرة إلتقطوا الاغصان اليابسة المنثورة في امتداد ظل اشجار الجلو (البلوط)، التي إصطبغت اوراقها بحمرة من نور الشمس الباهتة، تكومت الاغصان على شكل هرم دائري تتوسطه قطعة صغيرة مأخوذة من احذية المطاط (السمسون) التركية الصنع، حيث يحرص الانصار على حملها معهم في العليجة ( كيس يحمل على الظهر)، خاصة في الشتاء لتعالج بلل الاغصان، فتطلق دخاناً اسوداً كثيفاً مع رائحة نفاذة ثقيلة، بعد دقائق بدأ يتراقص لهب النار ليحتضن الزمزميات وعلب حليب النيدو الالمنيوم، والتي غيرت لونها لتنسجم مع لون الفحم والرماد المترسب في قعر المواقد اليومية. رفع ابو نضيلة الاصلع يده منادياً رفاق مفرزة زاخو:
ـ تفضلوا يمنة رفاق تغدوا وشربوا جاي.
اجاب من بعيد ابو عثمان:
ـ جاييكم ... جاييكم بلجن تحضرون القوزي.
ـ لا والله عدنه اليوم مسكوف قواطي اذا يصرف. علق الرفيق جيا مبتسماً.
ـ هاي شنو ابو فهد اشو صاير ابيض . قهقه ابو ازدهار غامزا بعينه للرفاق الذين افترشوا الارض حول الموقد.
ـ نعم لان الشمس ماتعبر جبل بخير فصرت اشكر.
ـ ههههههه رنت ضحكات الرفاق عبر الوادي. ثم اضاف ابو ازدهار بخبث:
ـ بلكي تاخذون ابو انتصار يمكم جم شهر تبيضوه.
ـ ملاعين آنه اشكر بس صابغ جسمي بالسخام حتى مايشوفوني حرّاس الربايا. علق ابو انتصار نافخاً صدره، واستطرد:
ـ هذا اخي زهير بياضه يشهد.
ـ شنو تريد تقشمرنه هههههه. علق عمودي.
ـ ولا يهمك ابو انتصار آنه اشوفلك مره شكَرة مثلك. ضاحكةً قالت ام ازدهار.
ـ شنو صار بيهه زواج ديروا بالكم علينه. صاح علاء (البصري) من حلقة اخرى وهو يدير وجهه عن الدخان الابيض.
ـ أييس . اجابته ام هيفاء.
ـ هذا تحيز ضد مفرزتنا. علق ابو رشدي من بعيد.
ـ شباب مفغزتنا يستاهلون، آنه اخطبلهم بنات حلوات بعدين تشوفون. علقت ام طريق بلكنتها المتميزة وهي تناول كأس الشاي لزوجها.
ـ شكَرة.. سودة شمايطلع من ايدكم نعمألله. قال ابو ربيع موجها كلامه لأم طريق وهو يعدل وضع بندقيته على كتفه الايسر.
التفت ابو انتصار الى مجموعة ام طريق قائلا:
ـ اخطبيلهم من منطقتكم ولاتقربون على الدوسكي خاصة قرية بروشكي.
تغامز الرفاق وعلقت ام هيفاء بصوت منخفض ملتفتةً الى الرفيقة سلوى التي علت الابتسامة وجهها:
ـ تره الاكراد ماينطوك مره.
وهو يقترب من المجموعة علّق شورش بلغة عربية ذات لكنة خفيفة:
ـ اذا يصير كردي ننطيه مره.
ـ تجي الايام ونشوف. قال ابو انتصار متحديا وهو يعبث بالجمر المتوهج الضارب الى الحمرة بواسطة غصن صغير.
ـ المهم شنو اخباركم... عملياتكم...؟. استفسر ابو نضيلة وهو ينظر لرفاق السرية الاولى.
بدأ الانصار يشرحون لبعضهم، العمليات العسكرية التي نفذوها في مناطقهم، فمفرزة زاخو السرية الرابعة بقيادة ابو محمود، تتحرك من مناطق مجمع بيكوفة بأتجاه قضاء زاخو حتى سميل والشارع الدولي الذي يربط بينهما. اما مفرزة السرية الاولى بقيادة ابو ليلى فيمتد نشاطها من ناحية كاني ماسي في وادي برواري بالا مروراً بمنطقة صبنة والدوسكي حتى اطراف مدينة دهوك.
لاحظ الرفاق ان آمري السريتين والمستشارين السياسيين ابو لينا وابو ربيع، قد عقدوا حلقة في ظل شجرة مبتعدين عن المجاميع المنتشرة في الوادي الضيق، الذي ارتسمت في قعره حفر مملوئة ببقايا نهر ارتحل في نهاية الصيف نحو الجنوب مع تيار نهر الخابور.
ارتفع صوت شجي اطرب العصافير التي حطت على الاغصان فبدأت تزقزق وتتلفت لمصدر الصوت وهي تهز بذيولها، فجاء الغناء الريفي الجنوبي عذباً مع هزّة معتادة برأسه وهو يفرك سبحته البنية اللون.
ـ تعيش ابو السوم. قالها ابو قصي لسامي دريجه وهو يعدل الجمداني (اليشماغ) على رأسه. ثم جاء صوت نجاح من بعيد:
ـ كوم ابزخ عمودي شنو بس كاعد:
ـ ههههه... قهقه عمودي ولم يحرك ساكناً. فدفعه ابو نضيلة من كتفه برفق وهو يحثه:
ـ كــوم...كــوم.. هاي اشبيك...؟
ثم علق زهير:
ـ هو تغدّه اليوم جبن جاجيك وخبز وصارت عنده دوخه.
ـ يعني متهبهب. اضاف ابو شذى.
ـ هههههه. ضحك الجميع.
صاح الحرس ابو قيس من اعلى المرتفع وهو ينظر بأتجاه مدينة زاخو:
ـ رفــاق... طيران هليكوبتر بعيد.
سرت همهمة بين الانصار وتحرك بعضهم ليربطوا احزمة القابوريات الجلدية على ظهورهم.
التفتت ام هيفاء الى الجهة التي تواجد فيها ابو ليلى مستفسرةً:
ـ شنو رفاق نطفي النار وننتشر.
ـ لا ماكو داعي، بس كونوا حذرين وجاهزين.أجاب ابو ليلى.
كان حذر رفاق مفرزة زاخو يعبر عن نفسه بشكل اكثر وضوحاً، لانهم يعملون في مناطق يتردد عليها الطيران وتمتاز بتلال اقل وعورة ، مما يزيد درجة الخطورة في مواجهة الهلكوبتر التي اشتهرت بقدرتها على التحرك بين زوايا الطبيعة كالجرادة باحثةً عن اي اثرٍ للمقاتلين، واحياناً يفرغ طاقم الطائرات بعضاً من حمولتها بشكل عبثي في الوديان، لتنشر الرعب بين القرى، وتفرّ الاحياء من مخابئها بأتجاهاتٍ لاتعرف كيف تحددها.
بدأ قرص الشمس ينساب رويدا رويدا بأتجاه المثلث العراقي ـ السوري ـ التركي، تاركاً خلفه اشعته الحمراءـ البنفسجية لتصبغ صفحة السماء الملساء كبطانة محارة استخرج منها اللؤلوء ليُنثر قطعاً صغيرةً من الغيوم فوق سهل صبنه بين سرسنك وبامرني.
قال ابو ليلى بصوت مسموع لاغلب الانصار:
ـ رفاق بعد ساعة نتحرك للقرية.
بدأت الطيور تلوذ بسكون الاغصان وهي تتسامر بزقزقة خفيفة لتعبر عن رغبتها للخلود الى الراحة بعد عناء البحث عن الطعام الذي بدأ الحصول عليه يسبب مشقةً لها، خمدت النيران في المواقد وسكنت الزمزميات في جعبها، و نثر بعض الرفاق حزام الظهر ( البشتين) على الارض ليعيدوا لفه حول الخاصرة، ليستقر عليه الحزام الجلدي مع مخازن الكلاشنكوف الاضافية. الجميع اصبح جاهزاً للتحرك الى إحدى القرى حيث يستضيفهم الفلاحون، كما درجت العادة منذ عشرات السنين، فالجماهير الكردية احتضنت الحركات المسلحة بما تيسر بدون كلل.
اقترب ابو ليلى من الرفيق نوزاد دليل المفرزة في تلك الفترة وهو من ابناء المنطقة هامساً باذنه:
ـ رفيق نحن نتوجه الى قرية آرادن العليا ومفرزة زاخوا الى آرادن السفلى. ثم إلتفت الى آمري الفصيلين مكملاً:
ـ يلله تحركوا رفاق.
وكرر الرفيقين ابوقيس و نجاح ( ابو الهيجا ) الامر بصوت مسموع الى الرفاق، ليبدأ المسير برتلً فردي تاركين مسافة مترين بين كل واحدً منهم ، صعودا مع اخدود الوادي، بينما انحدرت سرية زاخو بأتجاه الغرب حيث تقع القرية هناك على تلة طويلة مسطحة. اقتربت السرية الاولى من قمة الوادي حيث يضيق، لتبدأ المسير على ارض منبسطة لعشرات الامتار ثم تهبط في وادٍ آخر يصعدبها تدريجياً نحو القرية مباشرة.
كان ابو ليلى يسير في الثلث الاول من الطابور فالتفت الى الرفيق الذي خلفه وهمس في اُذنه سر الليل:
ـ بغداد.
فحملت الشفاه بحرص السرّ لينتشر على شكل موجة متوالية ليصل أول اُذن وآخر اُذن في الرتل، دون ان تسرقه آذان الافاعي المنتشرة بين الاحراش المتربصة الى كل حركة تقترب منها. بدأت اضواء فوانيس القرية تتراقص مع اهتزازات اجساد الرتل، التي بداْ عرقها يبلل اطراف أوراق الاشجار المتصادمة معها، محدثة خرخشة تداعب سكون الفضاء المظلم إلا من نور باهت، يتسرب مع امتداد التلة المرتفعة التي تفصل بين كَلي (وادي ) الدوسكي وكَلي مانكيش. تعالى نباح كلاب القرية معلنةً قدوم غرباء، حيث تقف مُباعدةً بين اقدامها وماطةً رأسها بأتجاه مَقدم المفرزة، ليزداد سعير نباحها كلما اقترب الرتل، وتبدأ بالتراكض مرتبكةً باتجاهات مختلفة، لشعورها بالعجز من مواجهة انسياب الاجساد بين بيوت القرية، ذات الجدران الحجرية المتماسكة بالطين والمعقودة سقوفها بجذوع اشجار السبيندار الابيض ( شجر القوق ). في وسط ساحة القرية الصغيرة، وقف بعض الرجال يحمل احدهم فانوساً وآخر انشغل بطرد الكلاب ملوحاً بعصاً خفيفةً مردداً:
ـ برو...برو...(إذهبي).
انتشر ضوء الفانوس على جسد ضخم تجاوز الخمسين يتوسط الرجال، له قامة طويلة تنتهي في الاعلى بلفة مزدوجة للجمداني (يشماغين) لتعبر عن ثراء صاحبها وتأريخ اقطاعي ارتبط بالعمالة لنظام بغداد، فبترت ارنبة اُذنه وانفه من قبل احد مسؤولي الحركة الكردية عقاباً له. تقدم المختار خطوتين سانداً جسده المترهل الضخم على عصاً غليظةً بيده، حركها بشكل متناسق مع حركة قدميه، قائلا بكلمات مزج بهما بين العربية والكردية:
ـ اهلا...اهلا...سرجافا.
اجابه ابو ليلى ماداً يده لمصافحته:
ـ السلام عليكم...جواني برا (شلونك أخي ).
ـ اهلا وسهلا...
تجاذبا الحديث قليلا واستفسر آمر المفرزة عن احوال القرية وإذا كان لديه اخبار عن تحرك الجيش في المنطقة، وهل لاحظ اهل القرية مجيء آليات اضافية لمعسكر الفوج في ناحية مانكيش.
ـ قط نينا ( لايوجد ابدا ) اجاب المختار، ثم اردف:
ـ كم عددكم.
ـ اربعين.
ـ يعني كل اربعة في بيت.
ـ تمام شكراً.
اشار المختار على الفلاحين ان يصطحبوا المقاتلين لبيوتهم . ثم التفت ابو ليلى لنجاح قائلا:
ـ هل نظمتم الحراسة.
ـ نعم رفيق.
تحرك المختار بهدوء بأتجاه بيته وبجنبه ابو ليلى وابو لينا وجيا وابو انتصار. في حين لا زالت الكلاب تعبر عن قلقها، مما اثار قطيع الماعز في الزريبة محدثة ضجة باظلاف اقدامها وهي تضرب الارض بأضطراب. دفع المختار باب غرفة انفتح على مساحة واسعة نسبياً، فجاء صوت زوجته مرحباً:
ـ اهلا ...تفضلوا.
قالتها بلغة عربية جيدة ، حيث يقال انها من مدينة الموصل وكانت تعمل راقصة في احد الملاهي التي كان يتردد عليها الاقطاعي فاُعجب بها وتزوجها. وجه المرأة الاربيعيني المدور ذو البشرة البيضاء لازال يحتفظ بمعالم جمال يلفت النظر. جلس الضيوف على افرشة صفت الى جانب الجدران حول الغرفة، ساندين ظهورهم الى وسائد عدة انسجمت الوانها مع البساط الذي غطى نصف الارضية، والتي توسطها برميل معدني ذو فتحة من الجانب لها باب صغير، واخرى في الاعلى لها غطاء ينتصب بجنبها انبوب يخترق السقف لينفث الدخان بعيداً في برد الشتاء.
تحركت المرأة باتجاه باب غرفة اخرى لتعدّ العشاء للضيوف. كان جسدها الممتليء، تلتف حوله ملابس ذات الوان عدة، ويتدلى من ذراعيها نهايات الثوب الخفيف، لتعقده خلف ضهرها مشكلا قوس قزح مقلوب، يترنح بتناسق مع اهتزاز ردفيها.
أنطلق الحديث بين الجالسين ووجوههم مليئة بضوء المصباح النفطي ( اللوكس ) المنتصب على طاولة صغيرة على يمين المدفئة، حيث اجاب صاحب البيت على سؤال ابولينا، مستعرضاً احوال الفلاحين ومحصول الموسم الهزيل، محاولاً ان يبرر بؤس الفلاحين المتوارث من آبائهم، وعلى عكس مايقول، فالملاحظ ان فلاحي قرى الدوسكي الاخرى، يعتبرون من الاغنياء قياساً بفلاحي برواري بالا، وذلك لتوفر اراضي زراعية اوسع تمتد على ضفتي الخابور، مع دفء الجو وقربها من الطرق المعبدة التي تسهل لهم نقل محصولاتهم للمدن القريبة.
دلفت زوجته الى وسط الغرفة راسمة بظل جسدها على وجوه الحاضرين، خطوطاً تماوجت برقة مع هفيف ثيابها، محتضنةً بين ذراعيها صينية كبيرة، توزعت عليها اطباق الطعام، الذي تسربت منه رائحة طيبة عبر ثوبها الشفاف لانوف الجياع المتلهفة. تراجعت خطوات الى الوراء لتجلس على يمين زوجها قائلةً:
ـ تفضلوا...
ـ تفضلوا... ردد زوجها.
ـ شكرا...
شعروا بخدر لذيذ يسري في اجسادهم بعد ان امتلأت بطونهم بطعام، يعتبر فاخراً قياساً لليالٍ عديدة امضوها في برواري بالا، حيث تحجرت بطونهم بالبرغل الذي يصادفهم كل ليلة تقريباً، مع بعض التغييرات احياناً في طريقة إعداده. بدأت المرأة بسكب الشاي من ابريق كبير تستخدمه في هكذا مناسبات، كان الشاي مُعدا على الطريقة الكردية، ذو لون باهت وطعم خفيف، ليس كما ابناء الجنوب، فهم يرغبون الشاي الثقيل و ذو لون غامق.
ـ دشلمة...؟ استفسر صاحب الدار.
ـ لا...لا...شكرا. اجاب الجميع ماعدا جيا الذي تناول قطعة سكر مكعبة ليضعها تحت لسانه اثناء شربه الشاي. واصل الحضور حديثهم، فعرجوا على الحرب العراقية الايرانية، وكيف ان الجنود من الاكراد بدؤوا بالهرب من جبهات القتال، واللجوء الى المناطق الآمنة البعيدة عن متناول السلطة، ولكن هذه الظاهرة لاتزال في بدايتها، وهي مرتبطة بشدة المعارك على الجبهات. وشاركت المرأة حديثهم، بأستفسارها معبرتاً عن اعجابها ودهشتها لوجود مقاتلين عرب مع البيشمركة وخاصة الفتيات بنات المدن البعيدة، وهل يشاركن حقاً في العمليات القتالية. اجابها الرفيق جيا، شارحاً لها صمودهن وتضحياتهن في ظروفٍ ليست باليسيرة على الرجال.
فعلقت قائلةً:
ـ أري والله... زيركن. (نعم والله... حقاً بطلات ).
ثم طلبت من الضيوف اكياس النايلون والتي كانت معهم، لكي تضع فيها بعض من الخبز والسكر والشاي وما تيسر من طعام لنهار اليوم التالي. كما جلبت لهم بعض الافرشة، فحملوها وبرفقة صاحب الدار الذي ارشدهم الى غرفة واسعة تعود لدار يقع في طرف القرية، حيث تجمع الانصار قادمين بجلبتهم وقعقعة بنادقهم، ففرشوا ارضية الغرفة متراصين حتى استوعبتهم، متكدسين كالتمر المكدوس في صندوق خشبي. أطلّ زهير من الباب الصغير قائلا:
ـ سلوى... وكاوة... رفاق دوركم بالحراسة.
ـ حاضر رفيق .
ـ ديري بالج رفيقه لايخطفج واوي. مبتسماً ومعلقاً قال ابو نضيلة الاصلع.
ـ لا...لا...لاتخاف نام برغد. اجابت سلوى وهي تضحك.
ـ اذا زهير الدعلج سلم منهه، فالليلة سلامات. علّقت ام هيفاء مع لكنة بصرية واضحة.
بدأ النعاس ينتشر مع انتشار الفانوس على الجدران، ليتسرب الى الوسادات التي احتضنت ملمسها المتخشن بفعل البرد والشمس المباشرة في السماء العارية طول النهار. تعالى شخير في الزاوية القريبة من كوة صغيرة محفورة في الجدار استقر فيها مصدر النور، تحرك جسد ليعدل وضعه مع الحزام ومخازن الكلاشنكوف المتمددة في جعبها الجلدية. كل حركة تصدر من الحراس في طرف القرية، تتلقفها اصوات الكلاب لتحملها مسافات بعيدة، فيأتي الصدى واضحاً من قرية أرادن السفلى حتى مطلع الفجر. دخل آخر الحراس الى الغرفة ولا يزال خيط الظلام يجرجر اذياله.
ـ رفاق صباح الخير.
نهض الجميع بتثاقل ورغبة في البقاء في احضان الدفء، تأخر احدهم على وسادته وجاء صوته ليُشخّصوه:
ـ خلوني اكمّل الحلم.
ـ عيني ابو ازدهار كمل حلمّك بالكلي (الوادي). اجابه كاوة وهو يتثائب.
تسربت المفرزة كالافعى تتلوى مع منحنيات الطريق الضيق، الذي رسمته على الارض اقدام القرية ودوابها، منحدرةً باتجاه نهر الخابور. بدأ الضوء يرسم ملامح الاشجار والوديان وما تبقى من الانهر بشكل واضح، التقت المفرزتان في الوادي الذي اتفقوا عليه والذي لايختلف كثيراً عن جيرانه.
ـ صباح الخير...
ـ صباح النور...
تبادلت الوجوه المتشبثة بآخر الاحلام التحايا، وتفرقت على شكل مجاميع تبحث بين الاحجار والاشجار عن فسح تصلح لاجسادهم واسلحتهم والموقد القادم. تسلق احد مقاتلي مفرزة زاخو اعلى تلة للحراسة، ولم يتضح وجهه حين غاب بين شجيرات الجلو (البلوط) المبعثرت هناك. لم يستعجل الرفاق النار بل اغلبهم احتضن دفء الارض ورطوبتها ليخلد الى غفوة، بأنتظار قرص الشمس ليبدد اضواء المواقد ويمنعها من التسرب لاعين الحراس في الربايا او اعين المندسين في بطون الوديان او نهايات التلول في غفلة من الليل.
ـ دمــــ....دمــــــ.....إنفجاران تلتهما اصوات رشقات رصاص من بعيد، حملهم ضباب الفجر المترسب بين ثنايا التلول الباهته.
ـ اصوات معركة رفاق. صاح الحرس.
ـ وين..؟ من ياجهه..؟ صاح ابو محمود موجهاً كلامه للحرس.
ـ من جهة شارع زاخو ـ كاني ماسي.
ـ طيب رفيق انتبه لاية حركة في المنطقة او طيران.
ـ يبدو إنضربت ربية. علّق ابو شذى.
ـ ربما كمين على الشارع. اضاف ابو سحر وهو يحاول ان يلملم قمصلته حول جسده المتكور حول نفسه.
لم يكترث الانصار كثيراً، فقد تعودت آذانهم على لعلعة الرصاص، وخصوصاً في لحظات ترنّح نهايات المسافات بين الظلمة والنور.
غيرُ آبهةٍ بما يجري في باطنها وفوق قشرتها، إستمرت الارض بالتدحرج نحو الشرق، لتحتضن اشعة الشمس، فتغادر طيور القبج ( الدجاج البري ) مكامنها، لتعيد بريق ريشها وتنفث عنه حبات الندى المتساقطة من سقوف اوكارها. افترش الانصار موائدهم ونثروا ما إحتوت خزائن اكياسهم، من رقائق الصاج، وبعض من الجبن المجفف ( الجاجيك ) ذو الرائحة النتنة والسكر والشاي وربما بقايا اطباق مرّوا عليها في آخر ليلة، إنعقدت من جديد حلقات الذكر والاحلام، واخبار السياسة وبغداد. مرت السويعات، لتختلي لجنتي المفرزتين بمسؤوليها العسكريين والسياسيين، في اجتماع لم يدم طويلا لينادي ابو ليلى على ابو انتصار ونوزاد الدليل ابن المنطقة، وكذلك فعل ابو محمود فاستدعى ابو فهد، وإنفردت المجموعة عن بقية الانصار ليعلن ابو ليلى:
ـ رفاق سنذهب بعد ساعة من الان لغرض الاستطلاع فكونوا جاهزين.
ـ صار رفيق.
ـ ما اريد اي حديث حول الموضوع امام الرفاق.
ـ نعم رفيق.
تحركت المجموعة بأتجاه الشرق لتختفي بعد قليل بين ثنايا الارض، ثم تظهر لتختفي حتى ابتلعتها خضرة المكان، مارةً جنوب اطراف قرية بروشكي الممتدة على منبسطٍ واسع، تحت ظل التلة الفاصلة مابينها وناحية مانكيش حيث تقبع السلطة بجنودها المنتشرين في مقر الفوج، والربايا ( مواقع عسكرية صغيرة محصنة ) اللعينة المغروزة في القمم، المتطاولة على القرى المجاورة لتقع في مرمى هدفها. توقفوا في منخفض يطرز قاعه انسياب جدول، اصيب بالنحول الخريفي، ولم يكن وحيدا بل استأنس برفقة الحشائش،ورفع رأسه عالياً من خلال النسغ الصاعد في السيقان البيضاء الفارعة الطول لشجر السبيندار.
ـ سنرتاح هنا قليلا. قال ابو ليلى وهو يلهث انفاس الطريق المتعب.
اخرج علبة سكائره ( النيدو) من العليجة الصوفية الحمراء اللون ذات الخيوط والخطوط المنسوجة بأصابع ترفة منثورة بين جدران الطين والماعز الجبلي، نفث الدخان مع كحة مكبوتة واستفسر ابو انتصار:
ـ هل القرية تبعد كثيراً من هنا يارفيق.
ـ نه خير .. بنج دقّه..نزيكه. (لا.. خمس دقائق ..قريبه) اجاب نوزاد الدليل.
نظر الى سيكارته وهو يحركها بين اصابعه، محاولا ان يقدر المسافة للقرية المعنية، فحساب المسافات بمقياس اهل القرى، لاينطبق على حسابات اهل المدن، مضافاً لها خداع البصر في الحواضن الجبلية. مفاجأة لم تكن سارة حيث اقترب فلاح بزيه الكردي الازرق ـ الابيض المخطط بقميصه وسرواله معتمرا الجمداني بشدته البهدينية المميزة، مبادراً بالتحية:
ـ السلام عليكم...برا. (اخوتي).
ـ وعليكم السلام... برا.
ـ من اي قرية برا (اخي). سأله ابو ليلى.
ـ من قرية بروشكي...أحوال جاوايه ( كيف احوالكم ) موجهاً سؤاله للجميع.
ـ كلكـَ باشين..سباس.( جيدة جدا..شكراً ). اجابه ابو ليلى بنبرة تدلل على رغبته في انهاء الحديث، لكي لايسترسل الفلاح بفطرته وفضوله، فيطرح اسألة تؤدي الى كشف سبب وجودهم في تلك البقعة القريبة من الاحتكاك بأعوان السلطة. رفع الفلاح يده مودعاً وحث الخطى بعد ان شعر بالموقف لينصهر في شق الارض الصاعد الى القرية الكبيرة بروشكي . استجمع الرفاق قواهم وتنكبوا بنادقهم ليتبعوا الدليل بأتجاه قرية كرَيمة، التي يتمترس فيها الجأش ( مرتزقة النظام من الاكراد )، وقيل انهم ستة الى ثمانية وكلهم اقارب العميل المدعو عزّو كرَيمة. الذي تحدى قوات البيشمركة (مقاتلي الاحزاب المعارضة ) واعلن بقائه في المنطقة الخالية تقريباً من امثاله. اقترب نباح يدلّ على حركة راعٍ يهوى جمع الحليب من بقايا النباتات في اضرع قطيعه. توقف الدليل وقال:
ـ رفيق ابو ليلى مانكَدر نتقرب اكثر هناك راعي من القرية اخاف يشوفنه.
ـ طيب رفيق وين القرية.
ـ اللعنة على الكلاب وين مانروح تفضحنه. علق ابو محمود بأستياء.
ـ تشوفون ذيج التلة وبجانبهه الى الامام قليلا مقبرة القرية، ويظهر الى شمالها احد بيوت القرية والبقية تختفي في منخفض خلف المقبرة. قالها بلغة عربية مرتبكة.
ـ البيوت بعيدة عن المقبرة ؟. استفسر ابو فهد.
ـ لا.. لا.. قريبة ، البيوت مباشرة بعد تلة المقبرة.
ـ يعني البيوت المستهدفة،( واستدرك ابو انتصار) بيت عزّو مكشوف امام المقبرة..؟.
ـ أري... أري. (نعم...نعم). اجاب نوزاد مؤكداً.
ـ هل يتجمع الجأش في بيت واحد. سأله ابو ليلى وهو يقترب من المشهد من خلال ناظوره الطويل نسبياً و ذو العدسة الواحدة، وكأنه مصمم خصيصاً لعينه اليمنى السليمة.
ـ بلي .. يجتمعون مساءً في بيت عزّو الواقع في الطرف العلوي من القرية، لينظموا الحراسات.
ـ واين شارع السيارات المؤدي الى مانكَيش. سأل ابو محمود.
ـ انه يمتد من آخر بيت في اعلى القرية بأتجاه التلة مروراً بربية الاسناد ليعبر الى مانكيَش.
ـ وكم تبعد الربية عن القرية. سأل ابو انتصار.
ـ حوالي خمسمئة متر. اجاب نوزاد واثقاً من تقديره، بعد ان لاحظ بريق الشك في عيون رفاقه.
لازالت الكلاب تحرك انوفها، لتلتقط في الهواء بقايا ذرات رائحة غريبة، فتطلق عواء ذو نغمة خاصة، تترجمها خبرة الفلاحين والماعز ودجاج القرية لتنتشر العدوى الى جنود الربية، بأن هناك على مبعدةٍ تتحرك اشباح لم تألفها. بدأ عوائها يبتعد تدريجياً خلف ظهور الانصار المتوالية نحو الظلام.
سرت همهمة في القرية بأن الاشباح ملؤوا الوديان، لهم عيون ملوّنة فيها الزرق والسود والنرجسية ومن كل الالوان، يظهرون ويختفون في القمم والوديان، وقيل عن آبائنا ان لهم ذيول طويلة وقرون كالثيران. فاختلطت الاقاويل بالخوف وبالحذر وروايات الجان.
إلتقت المجموعة بالمفرزتين عند صعودها الى قرية ملهم باني، والتي تقع الى الغرب من بروشكي، في سلسلة تتناثرُ فيها حبات القرى كمسبحة رمادية اللون تطوق عنق التلة التي تفصل مابين الجند والجان. توزع الانصار حاملين اسرارهم ويقظتهم، فالهمس لغتهم والظلام انوارهم والمسافات لوحاتهم، فالربية تنصت بآذانها من فوق التلة، على مبعدة يطالها النظر عند انعكاس الاضواء مابين زوايا الجدران. في غرفةٍ دار الحديث حول المواشي والمدن والبستان، فأجاب صاحب الدار ذو الوجه الممتليء والهندام الحسن، بأنهم في احسن حال واخذته النشوة ليفصح عن مكرمة، فيمد يده اليسرى ليكشف عن ساعة يد طبعت عليها صورة " القائد"...! إلتفت اليه ابو انتصار وابو شذى في نظرة عتاب وحيرة، وعبثاً حاولا اقناعه. اطل شاب من خلف الباب والقى بالتحية، ثم اختلى به ابو انتصار في باحة القرية، حيث جرى بينهم في اكثر من لقاء احاديث طويلة حول الظلم والطغيان ، وعرض عليه الالتحاق بالانصار ، فافصح الاخير عن مطمعه في حصوله على زمالة دراسية الى البلدان البعيدة، فأدرك ابو انتصار انه اخطأ الهدف. كان المبيت في مدرسة القرية، وهي بناء حديث يضم غرفاً قليلة وفيها معلمتان، اعتادتا على مفارز الانصار، بعد ان نزعتا الخوف الذي البسهما، حديث السلطة عن وحوش الغابة وتعطشها لدماء الفتيان. تبضّع الانصار، السكائر والبسكويت وبعض الحلوى، من دكان صغير إنزوى في غرفة بيت في وسط القرية، ليودعوها في الفجر قبل ان تغفوا النجوم على وسادة السماء ، لم يدرك اهل القرية في اي اتجاه ابتلعت الظلمة طابور الانصار. جاء النور ليكشف عن ارنب تمزقت اقدامه الخلفية بفكي مصيدة محاولا عبثاً الافلات فتزداد بقعة الدم حوله لتغير لون فرائه البني ـ الرمادي.
ـ خوش صيد. قال احدهم من وسط الرتلِ.
ـ اتركوه سيأتي صاحبه ليأخذه. اجاب الدكتور ابو ظفر.
في هذا اليوم السادس من ديسمبر في عام 1981 كان القرار، الحذر من العيون، لتحطّ المفرزتان رحالهما في باطن الارض قرب دمع يسيل رقراقاً ماء صافيةً، فتروي الزمزميات عطشها للشاي الذي بارك بعطره ولونه اجساد الثوار.
ـ ها ابو لينا (ولد سالك ) أشو بَسّطت الكَهوة من وكت. قال ابو رشدي مبتسماً.
ـ والله الزباين اليوم كثار... هههه. أجابه وههو ينفخ في النار مستعجلا ازيز الزمزميات والعلب الممتلئة بالماء.
ـ شنو الجاي اللي عندك ابو لينا. استفسر ابو عثمان من بعيد.
ـ اصلي سيلاني...هسّه جابوه من مراكب الهنود بشط العرب.. تفضلوا.
ـ شكراً نجيك بعدين.. تدري آنه ما افوت عزيمة الجاي وخاصة من ايدك الطيبة. اجابه ابو رشدي.
ـ هلة بيكم..
بعد الرابعة عصراً انتشر الخبر، بين دفء المواقد، ليجتمع الانصار الذين سيشاركون في العملية، وعيون الاخرين ترنوهم بالحسد والخوف عليهم. طوقت الانصار حلقة الصمت في فسحة صغيرة امتدت مابين إلتقاء تلتين.
ـ راح ننفذ عملية اليوم رفاق. استهل كلامه ابو ليالى واستطرد.
ـ راح نضرب بيت عزّو في قرية كرَيمة، وهذا من المتعاونين ويّه السلطة وعنده مجموعة مسلحين من اقاربه، راح ننقسم الى ثلاث مجاميع، المجموعة الاولى، الاحتياط وموقعها اسفل التلة الكبيرة المشرفة على القرية، والمجموعة الثانية للاسناد فوق التلة، ومعهم رامي العفروف ابو همسة يساعده ابو رشدي وتضم رفاق آخرين، والمجموعة الثالثة لاقتحام القرية ويكون موقعها تلة المقبرة ومعها سلاحي ـ الآر بي جي ـ وسأكون معهم وأنا اعطي إشارة البدأ، وسيكون سر الليل واحداً مع بقية المفرزتين وسيتوجهون الى قرية مسكة.
بعد ان اكمل شرحه وإجابته على الاسئلة، انتقلت النظرات في صمت العيون وهي تتسائل، هل سنعود سالمين..؟ فالمعركة ليست مع الجيش والربايا المكشوفة لفوهات البنادق، وهي الاولى من نوعها، حيث سيتصارع فيها من لم يخبْر ارض القرية مع ساكنيها وجهاً لوجه. إلتقت عيني ابو انتصار وابو سرمد فأرتسمت ابتسامة فراتية خجولة على وجه الاخير، الذي يحلم بهدوئه في العودة لصفوف التدريس، لينثر ورود المعرفة على طلابه الذين تركهم هناك مُكرهاً.
توادع الرفاق وعانقت النصيرات ازواجهن وهمسن باحلامهن القديمة، التي تركوها في الازقة وعلى مصطبات حديقة الزوراء وكورنيش ابو نؤاس وشط العرب، عودوا لنلملم الذكريات ونمسح عنها تراب الزمن.
بدأت تبتعد المجموعة القتالية عن الانظار، سلكت طريقاً إلتفافياً اكثر جهدا للابتعاد عن إضاءات المصابيح الكهربائية لبيوت بروشكي، التلال المحيطة بقرية كرَيمة تقترب بصمت، بين لحظة واخرى يطلب آمر المفرزة من الدليل ان يتوقف للتصنت وتقدير المسافة، ثم سلكت المجموعة طريقاً منبسطاً يمتد بين القريتين لتهبط في منعرج وتهدأ الحركت هناك، تحت اشجار السبيندار العالية، كان نباح الكلاب قد بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة.
ـ كَندي..كَلكَـ..نزيكَه..( القرية جداً قريبه ). قالها الدليل يصوت خفيض حذر.
سحب بعض الرفاق زمزمياتهم من مُستقراتها ليبللوا شفاههم ويستعدوا للحركة، جاءت الاشارة لتنطلق مجموعة الاسناد فتلحقها مجموعة الاقتحام، تاركين مسافات بينهم، كان نباح الكلاب ينتشر في الفضاء فيملء الآذان من كل صوب، ليتحول الى حالة هستيرية عندما بدأت مجموعة الاقتحام تتوجه الى موقعها فوق المقبرة، ارعب النباح الانوار فخرست، انطلقت رصاصة تحذير في الهواء من بندقية في آخر القرية كانت تتنصت لإرتجافات الحجر التي تسبق الزلزال، عيون المقاتلين تقرأ في الظلام المشوش بأطلالات النجوم كل الزوايا والاحجار والاشجار واشباح الهواء، ظهرت انصاف جدران منزل الى يسار الممر الضيق، بين الاموات المسجيين والاحياء المرعوبين في زرائب تشبه البنيان. انبسطت التلة الصغيرة تحت اقدامهم لتعلن لهم،عن اسماء ساكنيها بنقوش رتبت على عجل فوق شواهد تبعثرت في ظل اشجار معمرة من غابر الزمان. إتخذ ابو إنتصار موضعاً له خلف شاهدة، فقرأ في ارتفاعها عجزها عن صد الرصاص الذي سوف ينهمر، انحدر مع سفح التلة الى الامام ليجد ضالته في شجرة انتصب جذعها عالياً. إلتفت الى اليمين فتعرف على اشباح ابو فهد وابو ظافر، الى خلفهه تعرف على صوت ابوهيفاء وابوعلى (حسين)، الاخرون توزعوا في الخلف بين القبور واجسادهم، فكانت تلك الشاهدة تحتمي بنصف ظل شبح لابو سرمد. من قاذفة ابو فهد انفجر اللهب، ليبرق السهم، ويلحقه الرعد المدوي فيأتي صداه من بطن الجدار، انهال الكون، رصاص .. رصاص..رصاص.. من كل صوب، انطلق صاروخ يزمجر من قاذفة ابو انتصار، فإنتشر الضوء خلفه ليكشف عن وجوه القبور التي نسيت طعمه، عوعوت الكلاب وقبعت لتبلل جحورها، إصطدمت الاصداء بالسلاسل الجبلية لتنقل ريحها بين القرى والمواقع العسكرية فتلوذ بالصمت. خلف جدار بعيد كان رشاش كرينوف هناك، يصب حممه لتمزق الاجساد في القبور، ارسل ابو انتصار له قذيفة اخرى لتنحرف باسلاك امتدت بين العمدان، ازيز رصاص ..شظايا تتطاير. وابو سرمد مشغول بعطب رشاشه لتتسلل رصاصة بين الشاهدة والظل، فتنطلق حشرجة من الجسد الذي تكوم على القبر.
ـ إنــه...إنــه.. صوت ..لا..لا... إعتصر قلب ابو انتصار وتفجر غضباً.
ـ يارفاق..لدينا رفيق جريح. نادى احدهم من وسط التلة.
ـ رفيق إنطيني قذيفة. قال ابو انتصار موجهاً كلامه لمن بعده.
لم يستلم جواباً، فأنسحب امتاراً للخلف زاحفاً على مؤخرته، ليأخذ قذيفة من ابوهيفاء ويعود لموقعه خلف الشجرة، ادرك ان الاسلاك ستحرمه من هدفه، فخرج الى يساره كاشفاً عن جسده للرصاص ورأسه للخلف مع انحدار الارض... رصــــاص...رصــــاص...رصــــاص.
ـ ماذا تفعل يارفيق. صرخ ابو فهد.
ـ يجب ان اقضي على الكرينوف وصاحبه.
ولكن الكرينوف اختفى في عتمة جدارٍ، فعاد لموقعه خلف الشجرة وإذا برشقة من خمس نيازك حمراء، تتجه نحو صدره متوالية كعنقود مصابيح اعراسٍ فيشعر بلهيب اذيالها لتنطفيء في التربة مابينه وابوعلي.
بعد دقائق جاء الامر بالانسحاب، وكان بعض الرفاق قد سحبوا الرفيق الجريح الى منحدر التلة الخلفي، ناول ابو انتصار القاذف لاحدهم ومد يده ليرفع رأس ابو سرمد، فشاغت روحه لتلتقي بروح الجسد التي تحاول التسلل من ثقب تركه مخرج رصاصة في مؤخرة الرأس، ضغط بأصابعه على الروح الطرية الدافئة، واحتضن الجسد ليلقيه على ظهره مهرولاً، انساب دم الحياة ليخضب جسد ابو انتصار بطوله، واحس بالرعشة الاخيرة، فصرخ الكون وانشقت السماء فهبطت الملائكة تحمل الرايات والشموع والاجراس، يتقدمهم الملاك الأكبر ليحتضن بصدره النور الصاعد من الجسد الراعش في العتمة، سار الركب بلحنه الإلاهي ليطوف فوق ارض السواد ويصعد بعيداً... بعيداً... بعيداً...، فتتلألؤا نجوم درب التبانة للفرح القدم.
احسّ ابو انتصار بثقل على ضهره يتعاظم، وصل خلف تلة الإسناد، انحنى برفق فتلقف الرفاق الجسد، مدّ الدكتور ابو ظفر يده يتحسس عسى ان يفعل شيئً.
ـ إستشهدَ يارفيق.. فات الوقت. قالها ابو انتصار والصدمة تخق عبراته.
فإنهارت دموع ابو ظفر وتهدّج صوته.
ـ ليس وقت البكاء يارفيق. قالها ابو انتصار تفادياً لإنفلات العواطف، وهرول بإتجاه المنخفض ليقطع شجرتي سبيندار بحربته ويلف حولهما البشتين لصنع حمالةً، فيُسجى الجسد عليها لتتلقفها الاكتاف وتتدافع طول الطريق لتحضى بنصيب في حملها.
مرّ الموكب المهيب بصمت في قرية بروشكي، لم تنبح الكلاب وانكفأت الاضواءُ، وخلسةً قرأ حرس الربية الفاتحة. توقف الموكب عند مقبرة القرية في الطرف الجنوبي منها. احس ابو ليلى أنْ لاطاقة للرفاق في المواصلة ومنتصف الليل قد اعلن حضوره.
ـ سندفن الشهيد هنا. والتفت الى الرفيق نوزاد مكملا:
ـ رفيق نحتاج اداة حفر من القرية.
شدّت ايادي الرفاق على الادوات، وبهمة وضعوا الجسد في القبر المؤقت، وحاولوا ان لا يتركوا اثرا خلفهم. ثم انحدروا نحو قرية أرادن السفلى.
إنبلج نور الصباح، كان الحزن عنوانه فخيم صمت رهيب على الوادي، لم تشدوا العصافير الحانها، ومر خرير النُهير خلسةً بلا صوت، انحبست الكلمات حائرةً في الصدور.
ـ روح اخسل ملابسك رفيق ابو انتصار. قالتها ام إزدهار وماء الساقية يترقرق في مقلتيها.
ـ هسّه اروح. قالها وهو يكبح جماح عواطفه وتسلل ببطءٍ نحو الماء.
غمس ملابسه المتيبسة وشعر ببرودة الماء، فإنتشرت الصبغة القانية وتسربت لما تبقى من الحيوات والخضرة لتبث فيها الحياة من جديد. تهيأت مجموعة لنقل الشهيد الى مثواه الاخير، ليدفن بين الماء والاشجار في منحدر تلة، في وادي بالقرب من قرية كوسه التى طالما تحدث لها ابو سرمد عن احلامه وعشقه وشوقه الدافء لاهله.

**************************

* هذه القصة التسجيلية ، واقعية بشخوصها ومواقعها وقد كتبت في الذكرى الخامسة والعشرين لاستشهاد النصير الشيوعي البطل علي منصور والقصة مهدات لروحه الخالدة.



#عبدالرضا_المادح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي والتطبيق
- مشروع النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي ملك الشعب
- بجرّة قلم ألغى العلم
- !... ألقطط ألسمان وألشحمة ألنفطية


المزيد.....




- كيف تمكنّت -الجدة جوي- ذات الـ 94 عامًا من السفر حول العالم ...
- طالب ينقذ حافلة مدرسية من حادث مروري بعد تعرض السائقة لوعكة ...
- مصر.. اللواء عباس كامل في إسرائيل ومسؤول يوضح لـCNN السبب
- الرئيس الصيني يدعو الولايات المتحدة للشراكة لا الخصومة
- ألمانيا: -الكشف عن حالات التجسس الأخيرة بفضل تعزيز الحماية ا ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان
- انفجار هائل يكشف عن نوع نادر من النجوم لم يسبق له مثيل خارج ...
- مجموعة قوات -شمال- الروسية ستحرّر خاركوف. ما الخطة؟
- غضب الشباب المناهض لإسرائيل يعصف بجامعات أميركا
- ما مصير الجولة الثانية من اللعبة البريطانية الكبيرة؟


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبدالرضا المادح - درب التبانه