أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد أراق - نهر الحياة والموت















المزيد.....


نهر الحياة والموت


سعيد أراق

الحوار المتمدن-العدد: 1760 - 2006 / 12 / 10 - 07:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هذه ترجمة لمقال علمي مهم ومثير يحمل عنوان : " fleuve de la vie et de la mort le". وهو مقال نشر بإحدى المجلات الفرنسية الشهيرة " REVUE DES DEUX MONDES "
عدد يونيو/ حزيران 2003. كاتب هذا المقال هو " جون كلود أمايزن" الذي عرف بأبحاثه في مجال علم المناعة والتفاعلات الخلوية. وتكمن أصالة التناول العلمي عند هذا العالم,في قدرته على جعل التحليل العلمي منفتحا على الأسئلة الفلسفية والقضايا الإنسانية وتجربة الحياة والموت, وذلك من منطلق تقاطع البحث العلمي والتأمل الفلسفي. العنوان الإلكتروني للمجلة هو : http://www.revuedesdeuxmondes.com


نهر الحياة والموت

جون كلود أمايزن1 Jean Claude Ameisen
ترجمة : سعيد أراق

إِنَّ مَا كان يَعُودُ لِلتَّكَوُّنِ من جديد,وكل شيء ينساب كما الماء,
ولا شيء جديد يُرَى تحت هذي السماء,
وكل ما في الأمر أن الشكل البالي يتحول إلى شكل جديد,
وهذا التحول في هذه الدنيا يدعى الحياة,
والموت يأتي حين يرحل الشكلُ ويمضي نحو شكل بعيد.

من قصيدة: « Hymne de la mort » (نشيد الموت), للشاعر الفرنسي "رونصار" Ronsard .

منذ أكثر من قرنين,كان "كزافيي بيشا" Xavier Bichat يحدد الحياة باعتبارها : « مجموع الوظائف التي تقاوم الموت ».وقريبا منا في الزمن,كان الفيلسوف "فلاديمير جانكلفيتش" Vladimir Jankélévitchيقول: « إن الموت لا ينطوي على أي بعد إيجابي من أي نوع:فالحي يجد نفسه في صراع مع نقيضه العقيم والمميت,ويدافع عن نفسه باستماتة ضد العدم.إن الموت هو العائق الصرف والمطلق في وجه التحقق ».
هل هذا التعاكس المطلق,وهذا التقابل الجذري وهذا التناقض,يترجمون ويختصرون لوحدهم مجموع العلاقات التي تربط بين الحياة والموت؟.من أجل محاولة الجواب عن هذا السؤال,سوف نبدأ بتغيير المنظور الذي نعتمد عليه عادة في التعامل مع هذه القضية.
طيلة الفترة الزمنية التي يستغرقها وجودنا,نظل نحمل في دواخلنا الإحساس بتوحدنا وبفردانيتنا التي لا تقبل التجزيئ.إلا أننا-مثل سائر الكائنات الحية التي تحيط بنا,ابتداءا من الباكتيريا إلى الفراشات وانطلاقا من الأزهار إلى الطيور- نتكون أساسا من الخلايا,التي تعتبر أصغر الكائنات الحية المستقلة,القادرة على أن تستمد مقومات حياتها من البيئة,والقادرة بالتالي على الإستمرار والتكاثر.إن كل واحد منا يولد من خلية واحدة ووحيدة (الخلية البويضة),التي تولد بدورها من انصهار خليتين,ثم نتحول بعد ذلك تدريجيا إلى تركيب حي متكون من عشرات الآلاف من ملايير الخلايا,التي تؤدي التفاعلات فيما بينها إلى تشكيل جسمنا وفكرنا.ولهذا السبب,فإن كل تساؤل حول الحياة والموت- أي حول حياتنا وموتنا- يحيلنا إلى التساؤل حول حياة وموت الخلايا التي تكوننا.
لمدة طويلة,كان هناك اعتقاد بأن اختفاء خلايانا –مثل اختفائنا نحن كذلك- لا يمكن أن ينتج سوى عن حوادث ومصائب مدمرة وعن عجزنا الجوهري عن مقاومة التلاشي وأضرار مرور الزمن وتحرشات البيئة.لكن تبين بعد ذلك أن الواقع أشد تعقيدا من ذلك بكثير.
التدمير الذاتي في قلب الكائن
لقد ظهرت اليوم فكرة تؤكد أن كل خلايانا تملك -بشكل دائم- القدرة على شن عملية تدميرها الذاتي وموتها المبكر.إن الخلايا التي تكوننا تنتج –انطلاقا من معلومات متضمنة في الجينات المكونة لها- نوعين من الخلايا: خلايا تدعى « الخلايا المدمرة » وهي تملك القدرة على تسريع عملية موت الخلايا,وخلايا تدعى «الخلايا الواقية » وهي خلايا تملك القدرة على القضاء على الخلايا المدمرة.وحياة كل خلية متوقفة ,يوما بعد آخر, على قدرتها-في البيئة الداخلية لجسمنا- على التقاط الإشارات الجزيئية التي تصدر عن خلايا أخرى,وهذه الإشارات الجزيئية هي وحدها التي تسمح لخلايا الجسم بأن تكبح انطلاق عملية دمارها الذاتي .
إن هذه المعطيات بدأت تدخل تعديلات –في ما يخص المستوى الخلوي- على مفهوم الحياة نفسه.فالحياة –التي كانت تعتبر إلى هذا الحين ظاهرة إيجابية في تصور الناس- تَبَيَّنَ بعد ذلك أنها لا تَنْتُجُ سوى عن الكبح المستمر لظاهرة سلبية هي التدمير الذاتي.والحياة التي كانت تعتبر أيضا ظاهرة فردية,تبين -على ضوء هذه المستجدات- أنها تتطلب الحضور المستمر للآخرين,مما يعني أنه لا يمكن تصورها إلا باعتبارها حادثة جماعية.فنحن نمثل مجتمعات أشبه بالمجتمعات الخلوية.وكل مكون من مكونات هذه المجتمعات,يحيا مع « وقف التنفيذ »,ولا يمكنه أن يحيا بشكل منفرد ومعزول.إن وجودنا من حيث كوننا أفرادا,مرتبط بهذه الهشاشة نفسها وبهذه التبعية المطلقة التي تتولد عن هذا الوضع.لكن ينبغي التأكيد مع ذلك بأنه إذا كان حضور الجماعة الخلوية ضروريا لحياة كل خلية,فإن هذا الحضور غير كاف.لأن الإختفاء المبكر لعدد كبير من الخلايا,يسمح لجسمنا بأن يبني نفسه ويعاود عملية البناء هذه بدون توقف.وعلى غرار الصورة القديمة التي تصور الموت مثل منجل أو مِحَشَّةٍ تأتي من الخارج لتقتل وتدمر,تكرست –على المستوى الخلوي على الأقل- صورة جديدة كليا للموت , هي صورة نحات منخرط في عمله –داخل الكائن الحي- من أجل تَجْلِيَةِ شكل وتعقد بنية هذا الكائن.
ابتداءا من الأيام الأولى التي تلي عملية تشكلنا في الرحم –أي في نفس اللحظة التي يبدأ فيها وجودنا- يشرع الإنتحارالخلوي في لعب دور أساسي في جسمنا الذي يكون بصدد الإنبناء,ويقود هذا الإنتحار الخلوي إلى انطلاق عملية نَحْتِ التحولات المتوالية التي تتعلق بسيرورة تشكل هيئتنا.وفي التواصلات التي تقوم بين مختلف الأسر الخلوية التي تكون بصدد التوالد داخل الجسم,يؤدي نوع اللغة والإشارات المستعملة في هذه التواصلات إما إلى الحياة أو الموت.ففي مخططات دماغنا وفي نظامنا المناعي –الذي يمثل العضو الذي يوفر لنا الحماية من الجراثيم- يعتبر الموت جزءا لا يتجزأ من سيرورة غريبة,هي سيرورة التعلم والتنظيم الذاتي,التي لا يتجلى اكتمالها في تشكيل صورتنا وهيئتنا فحسب,بل يتجلى أيضا في تشكيل صورة ذاكرتنا وهويتنا.وبعد مرور مرحلة طويلة من ولادتنا,وعلى المدى الذي يستغرقه وجودنا,تستمر خلايانا –انطلاقا من معلومات متضمنة في الجينات المكونة لنا-في إنتاج الأسلحة التي تسمح لها بالإنخراط -في أي لحظة- في طريق تدميرها الذاتي.إن ممالك الإنتحار الذاتي لا حدود لها.وجسمنا الذي يكون في بدايته طفوليا ثم يصبح بعد ذلك جسما ناضجا,هو أشبه ما يكون بنهر متجدد على الدوام.إن الإحساس الذي يشعرنا بديمومتنا,يعتبر في جزء منه نوعا من الوهم,لأن عشرات الملايير من الخلايا المكونة لنا تدمر نفسها كل يوم,ثم تعوضها خلايا جديدة.ومعنى هذا أننا نموت جزئيا في كل لحظة,وفي كل لحظة أيضا نولد جزئيا من جديد.والنطاقات الخلوية الأخرى التي تستمر على قيد الحياة فينا,لا تقل هشاشة عن تلك التي تختفي أوتظهر للحياة مع مطلع كل يوم جديد.
إن هذه الهشاشة نفسها وقابلية التلاشي وخاصية الأجلية القابلة للإنتهاء في أي لحظة وحين,هو ما يمثل المصدر الحقيقي لقوتنا ولثراء وتعقد بنيتنا,وهو الذي يسمح في كل لحظة لأجسامنا بأن تتشكل وتـنبني من جديد وتعيد عملية تكونها وتكيفها مع المحيط المتغير على الدوام,وذلك دون أن تتعرض لخطر الإنهيار.إن الإنتحار الخلوي هو الذي يمنع نظام دفاعنا المناعي من مهاجمة جسمنا, ويحول بالتالي دون انخراط الخلية -التي تكون قد تعرضت لتلف جيني- في الطريق التي تقود إلى ظهور الأورام السرطانية.
وهكذا تظهر-مثل صورة منعكسة على مرآة بنيتنا المعقدة –هشاشة جديدة لم تكن إلى حد الآن متوقعة.وإلى جانب فخامة مملكة الإنتحار الخلوي الذي يحدث في أجسامنا,ينضاف جانب حالك وخفي يهددنا:أورام سرطانية, سيدا, أمراض الدماغ التحللية, أزمات قلبية, الأمراض المناعية الذاتية, التهابات الكبد, إصابات الأوعية الدماغية...إلخ.لقد تبين أن أغلب أمراضنا لها ارتباط بالخلل الذي قد يصيب عملية الإنتحار الخلوي.والواقع أن كل مجالات البيولوجيا أو الطب توجد اليوم بصدد القيام بإعادة تفسير جديد للأمور,وذلك على ضوء هذه الشبكة الجديدة من القراءة,مما يعلن عن بداية ظهور تحول كبير في ما يخص المفاهيم الطبية.

البحث عن جذور قوة التدمير الذاتي

إن قوة هذه المفاهيم الجديدة وثراء تطبيقاتها,زكيا تدريجيا انتشار لغة علمية غنية بالإستعارات وبالإيحاءات المؤنسنة التجسيمية, ومحملة بالتالي بأفكار غائية تعكسها عبارات من قبيل :"الإنتحار الخلوي", "الموت المبرمج","الإيثار الخلوي","قرار الحياة أو الموت"...إلخ.وهي عبارات تترجم في نفس الوقت الإفتنان الذي تخلقه هذه الظواهر لدى الإنسان,والصعوبة الكبيرة في إدراك وفهم طبيعتها الحقيقية.
لقد كتب "ريشار لوفونتان" Richard Lewontin-وهو اختصاصي في علم الوراثة-قائلا« ليس من الممكن ممارسة العلم دون استعمال لغة مليئة بالإستعارات,لكن الثمن الذي ينبغي تقديمه هو التزام الحذر الدائم ».إن مفهوم كلمة "برنامج"Programme (وهي تعني في أصلها الإشتقاقي: مكتوب مسبقا) هو في حد ذاته مفهوم ملتبس في مجال البيولوجيا,وهو يزكي الخلط بين وجود معلومات وراثية تسمح بتحقق بعض العمليات,وبين الطريقة التي تقوم بها الخلايا –والأجسام- باستعمال هذه المعلومات.إن ما هو "خاضع للبرمجة" في تكوين الخلية ليس هو المصير الفردي للخلايا,بل قدرتها على شن أو كبح عملية التدمير الذاتي,وذلك على ضوء تفاعلاتها الماضية أو الحاضرة مع محيطها,وكذلك على ضوء السياق الذي توجد فيه.كما أن مفهوم "الإنتحار الخلوي" يعتبر بدوره ملتبسا,ويزكي -بفعل هذا الإلتباس نفسه- الخلط بين فعل الموت الإرادي (الذي تقوم به الخلية فعليا من خلال الخلايا المدمرة التي تملكها) و"قرار" تنفيذ هذا الأمر(وهو قرار يرتبط بطبيعة التفاعلات بين الخلية ومجموع الخلايا التي تحيط بها,ولا يرتبط بالخلية نفسها).
لقد كتب عالم البيولوجيا "طيودوزيوس دوبزهانسكي" Theodosius Dobzhansky قائلا : « لا شيء له معنى في البيولوجيا,إن لن يكن محددا على ضوء التطور».ومعنى هذا أننا إذا كنا نريد فعلا إدراك "علة وجود" خاصية غامضة من خاصيات خلايانا وأجسامنا,فالأجذر بنا في أغلب الحالات أن لا نتساءل حول طبيعة "دورها" الظاهري –أي "فائدتها" و"وظيفتها" وما يبدو أنها "تفيدنا" به الآن- بل يجذر البحث عن جذورها,أي البحث عن الطريقة التي تمكنت بها من الظهور أصلا.
وعلى هذا الأساس,يطرح السؤال التالي :كيف يمكن تفسير امتلاك خلايانا لهذه القدرة الغريبة على شن عملية موتها المبكر أو "الموت قبل الأوان"؟
متى ظهرت لأول مرة –خلال تطور الكائن الحي- إمكانية قيام الخلايا بعملية تدميرها الذاتي؟وفي أي جسد ظهر ذلك,وفي أية خلية؟هل كانت هناك مرحلة « قبل الإنتحار الخلوي »,لم يكن للموت خلالها من سبيل سوى أن يأتي من خارج الجسم ومن الحوادث والإعتداءات المحتملة للبيئة؟وهل كانت هناك مرحلة « لاحقة على لحظة ولادة الإنتحار الخلوي »,أي مرحلة أصبحت بعدها القدرة على التدمير الذاتي والقدرة على شن عملية الموت الداخلي,خاصية متأصلة –بشكل مفاجئ-في الكائن؟وإذا كان الأمر كذلك,فأين يتموقع هذا الحد الفاصل بين هاتين المرحلتين؟.
إنه سؤال صعب لأن التاريخ الماضي والحقيقي لتطور الكائن,هو تاريخ لا سبيل إطلاقا لمعرفته.لكن يمكن القول إن في التنوع الشاسع والمدهش للأنواع التي تحيط بنا,ما زالت توجد إلى حد الآن آثارغامضة للتحولات المتتابعة التي كانت وراء ظهور أسلافنا.إن الإنتحار الخلوي يمارس فعله في تشكيل أجسام الحيوانات والنباتات,التي ظهرت أسلافها منذ حوالي مليار سنة.لكن هذا الإنتحار الخلوي يقوم أيضا بتشكيل الثراء والتباين الكبيرين لأشكال المجتمعات –التي لا نراها بالعين المجردة- والتي تبنيها الكائنات الحية الأكثر بساطة (الباكتيريا) ,التي ظهر أسلافها الأوائل منذ حوالي أربعة ملايير سنة.ومعنى هذا أن القدرة على التدمير الذاتي تبدو متجذرة بشكل عميق في قلب الكائن.ومن المحتمل أن جذور هذا التدمير الذاتي, لا علاقة لها بـ"الفائدة" و "الدور" و"الوظيفة" التي يبدو أنها أصبحت تقوم بها اليوم في أجسادنا.
هناك احتمال بأن القدرة على التدمير الذاتي كانت-منذ البداية- نتيجة حتمية للقدرة على التنظيم الذاتي الذي يميز الحياة.إن فعل الحياة والنشوء والتكاثر باستمرار, يعني استعمال الأدوات التي تنطوي على خطر التسبب في التدمير الذاتي, والتي تنطوي أيضا وفي نفس الوقت على القدرة على الحيلولة دون ذلك.وهذه الأدوات التي تساهم في استمرار الحياة,ربما كانت تملك - منذ البداية - القدرة على التسبب في التدمير الذاتي.
لكن في صيرورة تطور الموت, كان هناك بعد آخر بالتأكيد.فكل خلية هي بمثابة خليط من الكائنات الحية غير المتجانسة,إنها مجال للتعايش العارض بين الاختلافات,مما يعني أنه تعايش ما كان له أن يعرف الدوام أو الخلود,لذلك فالحل البديل لاستحالة دوام هذا التعايش كان هو الموت.ومن المرجح أن التشابكات المتتالية بين الخلايا المدمرة والخلايا الواقية-والتي تتحكم الآن في عملية التدمير الذاتي- تنوعت وانتشرت تبعا لوتيرة الصراعات التي استعرت بينها قبل أن تسفر فجأة عن تآلفات تُوِّجَتْ بمراحل من انصهار التغايرات في إطار هويات جديدة موحدة.

من الانتحار الخلوي إلى شيخوخة الأجسام

هل يمكن أن نفترض أن العلاقات التي تقيمها الحياة مع الموت الذي يحدث قبل الأوان« قبل الأوان », تتدخل أيضا في تحديد طول أعمارنا؟
ما هي الشيخوخة؟ ومتى تبدأ؟ وما هو سبب موتنا بالضبط حين نموت بفعل الشيخوخة؟هل هذا الحد الحاسم والأخير الذي يفصل بين الصحة والمرض, ناتج فقط عن البِلَى الحتمي وعن التراكم التدريجي للأخطاء على مدى الزمن؟ أم أن موتنا –مثل موت الخلايا التي تكوننا- يمكن أن يكون ناتجا بالأحرى عن شكل من أشكال التدمير الذاتي؟.
إن الحدود المتحكمة في طول العمر « الطبيعي»,والتي تبدو ظاهريا متعذرة التجاوز,بدأت في الكشف –عند بعض أنواع الحيوانات- عن ليونتها المذهلة.فهذه الحدود تشكلت –على ما يبدو- بطريقة حتمية عبر المواجهات المتتالية جيلا بعد جيل,بين الأفراد وبين البيئة التي يحيون فيها.إنها حدود تبدو بمثابة نقط توازن وبمثابة أشكال من التوافقات بين الصراعات القائمة داخل أجسامنا نفسها,وهي صراعات تحتدم –من جهة-بين ظواهر « واقية » توفر الاستمرارية للأفراد و-من جهة أخرى- ظواهر« مدمرة » تقلص مدة حياتهم بنفس القدر الذي تزكي به تطورها الذاتي وقدرتها على إنتاج سلالتها من أجل الاستمرار.إن ارتفاع مدة العمر التي ترتبت –بطريقة لافتة للنظر- عن التعديلات التي لحقت بعض جيناتنا أو لحقت البيئة, لا تتجلى في ارتفاع المدة الزمنية للشيخوخة,بل تتجلى في تمديد فترة الشباب والخصوبة.ويبدو أن بعض الإواليات التي تساهم في ضبط التدمير الذاتي لخلايانا,يمكن أن تلعب أيضا دورا في ضبط سيرورة شيخوختنا ومدة أعمارنا.
إن بقاء أجسامنا ودوامها ينبني على تحقق توازن مستمر بين قدراتها على الهدم وقدراتها على إعادة البناء, أي أنه ينبني على تحقق التوازن المستمر بين القدرة على التدمير الذاتي من جهة وإعادة تجديد الخلايا من جهة أخرى.وهنا نصل إلى ملامسة مظهر آخر من المظاهر المذهلة للكائن:قدرة بعض من الخلايا المكونة لنا(الخلايا الأصلية التي تمثل السلف الذي تولدت منه سلالة الخلايا الأخرى) على إنجاب هذه الخاصية الغامضة التي نطلق عليها اسم "الشباب".ولنا أن نتساءل:ما هي طبيعة الإواليات الجزيئية التي تتحكم في تشريط هذه القدرة الكامنة في هذه الخلايا؟
إننا نعلم اليوم بأن القدرة على التقدم في السن ثم الموت بفعل الشيخوخة-من خلال إنتاج نقيضها الذي هو الشباب- هي قــدرة حاضرة في بعض الجسيمات ذات التكوين الأحادي الخلية,وربما كان أصل الشيخوخة على الأرجح,قديم قدم أصول الانتحار الخلوي نفسه.
في بعض الخمائر-التي يسهل فيها التمييز بسهولة بين «الخلية الأم » و « الخلية-البنت »- تقوم كل خلية بولادة عدد محدود من الخلايا-البنات,ثم تشيخ بعد ذلك وتصبح عقيمة ثم تختفي وتموت.وهكذا فإن القدرة اللامحدودة للخمائر على التكاثر,لا ترتبط بخاصية الشباب الدائم لكل خلية من الخلايا التي تُكوِّن هذه الخمائر,بل ترتبط بخاصية الإنجاب المتتالي لخلايا سريعة الزوال.وكلما قامت خلية ما بإنجاب خلية جديدة,فإنها لا توزع مكوناتها بطريقة متساوية ومتوازية بينها وبين خليتها-البنت:بل تقوم على وجه التحديد بالاحتفاظ في كيانها ببعض المكونات المتمثلة أساسا في الجزيئيات « المدمرة », التي يؤدي تراكمها التدريجي داخل هذه الخلية إلى انطلاق سيرورة عقمها ثم موتها بعد ذلك.وفي سياق من هذا النوع,فإن مفاهيم الشيخوخة الخلوية والتدمير الذاتي الخلوي,تبدو مفاهيم متطابقة بشكل كبير.
وإذا كان كل تجسيد لكل كيان حي, مجبر على مواجهة البِلَى والتقادم وتحرشات المحيط في إطار معركة خاسرة سلفا,فمن المحتمل أن بقاء واستمرارية الحياة نفسها, كانا صادرين -منذ الأصول الأولى- عن قدرة كل جسم وكل خلية على استعمال جزء من الموارد التي يملكانها من أجل بناء تجسيدات جديدة أكثر شبابا وأكثر خصوبة,وذلك رغم أن عملية البناء هذه كان ثمنها هو الاختفاء المبكر لهذا الجسم أو هذه الخلية نفسها.
« لقد كان "كزافيي بيشا" يقول في ما مضى : " إن الحياة هي مجموع الوظائف التي تقاوم الموت",أما اليوم فهناك ميل بالأحرى إلى القول بأن الحياة هي مجموع الوظائق القادرة على استعمال الموت » وفق الصيغة التي اقترحها "هنري أطلان" Henri Atlan .
إن ظاهرة تعرض كل خلية للشيخوخة التدريجية كلما توالت عملية إنتاجها لخلايا أخرى أكثر شبابا وأكثر خصوبة,وكذلك ظاهرة التدمير الذاتي المباغت لجزء من الخلايا وذلك لصالح استمرار الخلايا الأخرى في الحياة,ثم ظاهرة شيخوخة الجسد لصالح القدرة على إنجاب أجساد جديدة أكثر شبابا وأكثر خصوبة,كل هذه الظواهر تعتبر بمثابة ظواهر موت « قبل الأوان », و تسمح بولادة كائنات جديدة ,وتمثل بالتالي تنويعات مختلفة لكنها تنويعات تدور كلها حول محور واحد هو الموت من أجل إخراج كيانات جديدة إلى الحياة.
وإذن هل بإمكاننا محاولة فهم سلوك خلايانا وأجسامنا ثم محاولة تعديل هذا السلوك,إن نحن لم ندرك أن السبب الذي يجعلنا نشيخ ونختفي ربما كان هو نفس السبب الذي جعلنا نولد انطلاقا من أجساد عاشت قبلنا؟
ينبغي لنا أن نحاول أن ندرك إلى أي حد تمكنت هذه الصيغة -العمياء,الطارئة والمعقدة أكثر فأكثر والمتمثلة في اللعب مع الموت-من أن تصبح مُحَدِّدًََا جوهريا حاسما في سيرورة السفر الطويل الذي أنجزته الحياة إلى حد الآن عبر الزمن,ومُحَدِّدًا جوهريا حاسما أيضا في التنوع المذهل للكائنات الجديدة التي ظهرت للحياة.
إن معنى هذا أننا نولد ونحيا ونموت وفق قواعد لعبة استمرت في الزمن وخضعت للتعديل والتشذيب منذ ملايين السنين,منذ مئات الملايين,بل منذ الملايير من السنين: إنها لعبة الحياة مع الموت.
ومن دون شك,فعبر رضانا بالنظر إلى الموت مباشرة بدل حجبه وإخفائه,وعبر محاولة فهم وإدراك الإواليات التي تضبطه بدل محاولة مقاومته, عبر هذا السبيل فقط يمكننا تطوير فهمنا للكائن الحي يوما ما,وربما التمكن أيضا من اكتساب القدرة على إعادة بناء وتمديد فترة شبابنا ووجودنا.وبدون أدنى شك, فإن هذا السبيل هو ما سيشكل إحدى أكبر مغامرات علم البيولوجيا والطب في هذا القرن الحالي.
لكن هناك بعد آخر لهذه القضية,وهو بعد يتجاوز سياق البيولوجيا والطب.

من البيولوجيا إلى الأخلاق

لقد حقق عَالَمُ الكائنات الحية –منذ بداياته الأصلية الأولى- تغيرات كثيرة جدا تمحورت كلها حول موضوع واحد : بناء المجتمعات.وهذه المجتمعات العديدة المتراكب بعضها ضمن بعض, تقدم صورة بنية تبدو فيها كل خلية عبارة عن مجتمع غير متجانس,يولد ثم ينجب سلالة ويشيخ ثم يموت ويختفي.إن هذه الخلايا نفسها هي عبارة عن أجزاء لا تتجزأ من مجتمعات مركبة وسريعة الزوال,فالزهرة مثلا أو الطائر أو الفراشة أو الكائن الإنساني,أو أي فرد يأتي للحياة, لابد أن يخضع لسيرورة محددة هي إنجاب الخَلَفِ ثم الضمور والموت.وكل واحد من هؤلاء الأفراد يساهم بدوره في عملية بناء مجتمعات متباينة إلى أقصى حدود التباين,انطلاقا من عشائر الذئاب إلى أسراب السمك,ومن أَوْكَاِرالَأرَضِ* العملاق إلى قبائل المَرْمُوطْ**.إن حضاراتنا الإنسانية لا تمثل سوى أحد التجليات الأكثر تطورا والأكثر تغيرا من تجليات هذا النزوع الطبيعي الجوهري الذي يدفع الكائنات الحية إلى خلق مجتمعات ثم الاندماج فيها.
ولنا أن نتساءل:هل هذه العلاقات الغريبة –التي قامت في قلب المجتمعات الخلوية بين « الموت قبل الأوان » والهشاشة وعلاقات التبعية المتبادلة والبنية المعقدة للكائن- تستمر تحت أشكال أخرى,على مستوى الجماعات التي يكونها الأفراد؟.
إن تطور الكائن الحي تأسس على أنماط من الحروب والتعالقات التبعية بين الحياة والموت, وتأسس أيضا على الهشاشة والاختفاء « قبل الأوان »,إلا أن هذا التطور الذي تتابع منذ أربعة ملايير سنة,يمثل نمطا عجيبا ورائعا للطريقة التي نشأ بها تعقد وثراء بنية الكائن الحي.لكن هذا النمط الرائع,يكشف لنا أيضا عن ثمن فعاليته الساطعة المتمثلة في: اللامبالاة العمياء والمطلقة تجاه مصير الكائن الحي وتجاه حرية ومعاناة كل مكون من مكوناته.إن مخاطر وانحرافات وفخاخ علم البيولوجيا الاجتماعية,تتولد من الإغراء الذي يجذبها نحو البحث –في طريقة سلوك الخلايا-عن استنباط نموذج للإقتداء يكون بمثابة «قانون طبيعي » قادر على تأسيس وتبرير نمط اشتغال مجتمعاتنا نفسها.لكن إذا كانت هناك من مساهمة يمكن لعلوم الإحياء أن تقدمها من أجل تطوير مجتمعاتنا,فإن هذه المساهمة تتمثل بالأحرى في تنشيط التأمل الأخلاقي وليس في تنصيب نفسها كبديل له,وتتمثل أيضا في تزويدنا بالقصة الصاخبة لأصولنا,ولكن ليس من أجل الإقفال علينا داخلها,بل من أجل السماح لنا بصنع واختيار وبناء مستقبلنا بحرية ,وذلك في إطار احترام اختلاف وكرامة كل كائن إنساني



#سعيد_أراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- lieu communالمرأة من حيث هي موضع مشترك
- المعرفة أو الشغب المتوج جنونا
- جينيالوجيا الإرهاب المعاصر


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد أراق - نهر الحياة والموت