أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سعيد أراق - جينيالوجيا الإرهاب المعاصر















المزيد.....



جينيالوجيا الإرهاب المعاصر


سعيد أراق

الحوار المتمدن-العدد: 1715 - 2006 / 10 / 26 - 10:02
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


في الوقت الراهن, في عدد متزايد من البلدان,يجد عدد متزايد من الناس أنفسهم يواجهون الإرهاب بوتيرة متصاعدة أكثر فأكثر وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
لقد ظل الإرهاب لمدة طويلة ظاهرة هامشية.ويمكن أن نؤرخ - بدقة نسبية – اللحظة التي تداعى فيها كل شيء : ما بين سنوات 1968و1972 حيث وقعت سلسلة من العمليات الإرهابية ( إننا نتذكر المجازر التي حدثت في ميونيخ وفي مطار "لود" Lod الإسرائيلي في سنة 1972),وعمليات اختطاف الطائرات التي نفذتها جماعات فلسطينية. ومنذ ذلك التاريخ , تصاعدت بقوة وتيرة وعنف العمليات الإرهابية. وإذا كانت أحداث 11سبتمبر قد سجلت بفعل طابعها الاستثنائي – على الأقل إلى يومنا هذا – نوعا من الطفرة الكيفية في العنف, فإنها تمثل أيضا نتيجة ظهرت بوادرها من خلال عمليات إرهابية سابقة ,إحداها وقعت في نيويورك سنة 1993 والأخرى في "أوكلاهوما سيتي" عامين بعد ذلك التاريخ. وهكذا أصبح الإرهاب عنصرا مألوفا في المشهد المعاصر.إننا جميعا نعلم اليوم وبكيفية عميقة, ما هو الإرهاب. ورغم ذلك فليس من اليسير ترجمة هذه المعرفة المباشرة إلى تعريف محدد قادر على إلقاء الضوء على الفوارق التي تجعل هذا الإرهاب مختلفا عن الأشكال الأخرى من العنف , وقادرا بالتالي على توفير إمكانية رصد مظاهر الاستمرار والقطيعة والتحول في مسار الإرهاب. إن الملاحظات التالية تندرج في إطار المساهمة في الكشف عن جينيالوجيا الإرهاب المعاصر.
البنية المنطقية للإرهاب
من أجل الإمساك بخصوصية الإرهاب , يجدر بنا أن نحترس من التعامل معه من منطلق واقعه " المادي", ومعنى هذا أنه ينبغي –مبدئيا- صرف النظر عما يثير انتباهنا عادة لأول وهلة في العمليات الإرهابية : السياق الذي يغذيها , منفذوها, وسائلها وأهدافها المعلنة.والتوجه بدل ذلك إلى التركيز على توجيه الاهتمام إلى "البنية المنطقية" التي تؤثر في جميع الأفعال التي يمكن أن نعتبرها إرهابية.
إنني اقترح في هذا الإطار تعريفا " شكليا" بحتا للإرهاب : إنه استراتيجية تفرز قدرا من العنف الذي يتميز بدرجة من القوة القابلة للتغير, وذلك بهدف إحداث درجة الرعب الضرورية الكفيلة بتحقيق الأهداف التي يبدو للإرهابي أنه لا يمكنه تحقيقها بواسطة وسائل أخرى.
إن مزية هذا التعريف تتمثل في قدرته على تجميع مختلف السمات التي تحدد مفهوم الإرهاب : بعده المرتبط بطبيعة الوسائل المستعملة, عقلانيته الإستراتيجية , التمييز الذي يقيمه بين ضحاياه وأهدافه, نزعته « التواصلية » , وأخيرا المنطق – أو بالأحرى غياب المنطق – الذي يتحكم في اختيار الضحايا.
والواقع أننا حين نستحضر مفهوم الإرهاب, تتبادر للذهن بشكل طبيعي, كلمة « العنف». ومعنى هذا أن هناك علاقة وطيدة بين هذين المفهومين, لكن سيكون من الخطأ الخلط بينهما. لأنه حتى لو كانت كل الأفعال الإرهابية عنيفة, فليست كل أفعال العنف إرهابا. ففي الأعمال الإرهابية , يمثل العنف وسيلة.أما في أعمال العنف, فإن الرعب هو النتيجة.
وحتى نظل في مجال السياسة, دعونا نستحضر – على سبيل التوضيح - مثالين للعنف: إعدام تعسفي وجريمة قتل. فالإعدامات التعسفية تندرج في إطار أعمال العنف الشعبية التي تقترف بشكل جماعي وبطريقة تلقائية عموما. وفي هذا النمط من أعمال العنف,لا تهيج الجموع أبدا ضد شخص وقع تحت أيديهم بالصدفة , بل تهيج ضد شخص يعتبر في نظرها مسؤولا – بطريق الصواب أو بطريق الخطأ – عن وضعية لا تطاق في رأي هذه الجموع. إن هذا النوع من العنف قد يصل في الغالب إلى درجات قصوى من الوحشية , لكن الأمر يظل متعلقا في مثل هذه الحالات بعنف محلي (مرتبط بالمكان الذي تجتمع فيه هذه الجموع ) وظرفي على وجه الخصوص : لأنه ينطلق فجأة ويتوقف فجأة, وذلك بالنظر إلى أن موت الضحية يفرغ هذا العنف من معناه ويحول دون استمراره بعد حصول الجريمة الجماعية.
وعلى غرار حالة الإعدام التعسفي, فإن منفذ الجريمة السياسية يوجه فعلته ضد ضحية محددة بشكل مسبق. لكن على عكس الحالة السابقة, تتطلب عملية القتل سبق الإصرار والترصد , والتهيؤ والحساب, والأكثر من ذلك أنها يمكن أن تستهدف – بالإضافة إلى الضحية المستهدفة أصلا – هدفا مغايرا : مثلا , فرض تغيير سياسي عبر تنحية مسؤول حكومي معارض لهذا التغيير, وذلك ليصبح موت هذا الأخير عنصر ضغط كفيل بالتأثير على غيره من الممسكين بزمام السلطة , لكي يرضخوا – تحت طائلة الخوف من التعرض لنفس المصير – لمطالب القاتل. إننا في هذه الحالة غير بعيدين كثيرا عن الإرهاب.
والواقع أن الإرهاب يتميز فعلا عن أشكال العنف السياسي الأخرى , بطبيعته الواعية : إن العنف الإرهابي محدد بحسابات معينة وبتوجه إلى إحداث بعض الآثار من أجل تحقيق غاية محددة.ولا يهم أن تكون هذه الغاية عقلانية أو غير عقلانية, كما لا يهم أن لا يؤدي الإرهاب أبدا إلى تحقيق الهدف المقصود.فالإرهاب عقلاني بصرف النظر عن آثاره الواقعية, ويتمثل طابعه العقلاني في كون الإرهابي يختار وسيلة الإرهاب بشكل مقصود, وذلك على ضوء حساب – ولو خاطئ – حول كلفة الوسائل المتوفرة لديه والموظفة من أجل تحقيق الغاية التي يرمي إليها.
إن الفرق بين العنف والإرهاب يستشف بطريقة أخرى أيضا من المعطيات التالية : العنف (إعدام تعسفي, مذبحة, اغتيال) يفترض مشهدا يضم فاعلين اثنين,القاتل ( فردي أو جماعي) وضحيته (واحدة أو متعددة).أما الإرهاب فيتطلب دائما ثلاثة فاعلين على الأقل:
الإرهابي والضحية المستهدفة وأخيرا الغاية التي يتعلق الأمر بتحقيقها.إن الإرهاب يمثل استراتيجية ترمي إلى خلق الرعب لدى شخص معين,وذلك من أجل إجباره أو إخضاعه عبر تعطيل كل قدرة على الفعل أو المقاومة لديه,وهذا يتحقق ليس عبر المعاناة أو الموت,بل عبر مشهد المعاناة والموت الذينِ يتجرعهما عدد من الضحايا الذين وقع عليهم الاختيار عن طريق الصدفة. ومعنى هذا أن الإرهاب يفترض دائما وجود ثلاثة عناصر.ووجود العنصر الثالث المتمثل في الجمع بين الضحية والهدف المتوخى من العملية الإرهابية,هو الذي يؤسس عقلانية هذه الإستراتيجية.
وبالإضافة إلى عقلانية الإستراتيجية الإرهابية,يتميز الإرهاب أيضا بخاصية أخرى تتمثل في كونه استراتيجية للتواصل :لأن توظيف العنف في هذه الإستراتيجية يعتبر دوما بمثابة رسالة موجهة إلى الجهة المستهدفة بالعملية الإرهابية,حتى ولو أن من المحتمل أن جزءا من الجمهور- بدءا بالضحايا أنفسهم- قد لا يكون في إمكانهم أبدا إدراك مضمون هذه الرسالة.
والواقع أنه توجد فضلا عن ذلك, علاقة وثيقة بين تاريخ الإرهاب وتاريخ وسائل الاتصال.فمنذ نهاية القرن التاسع عشر,تماشى تاريخ الإرهاب مع التطورات التـقنية التي سمحت أولا بالانتشار الواسع والسريع للصحافة,وسمحت بعد ذلك بدمج الرسوم ثم الصور الفوتوغرافية التي تسمح بتضخيم صدى العمليات الإرهابية.وقد أدى اختراع التلفاز ثم الربورتاج المباشر في بداية سنوات 1970,وكذلك اختراع شبكات الاتصال العالمية,إلى تقوية هذه الظاهرة المتمثلة في كون الإرهاب والصحافة يستعمل كل واحد منهما الآخر من أجل الوصول إلى أهدافهما الخاصة : درجة إشهار قصوى للعملية الإرهابية من ناحية, ونسبة مشاهدة قصوى للبرامج الصحافية من جهة أخرى.وكلا المنطقين يلتقيان في السعي نحو البحث عن أقصى درجة ممكنة من الإثارة والتأثير.لهذا يمكن القول إن كونية انتشار الخبر وتزامنه مع لحظة تحققه في اللحظة والحين,يمثلان جزءا لا يتجزأ من أحداث 11سبتمبر.إن هذه الأحداث لا تكتسي دلالتها إلا في عالم تتاح فيه للمشاهدين إمكانية معايشتها مباشرة,وإذا كان مصرع عشرة أشخاص يعتبر مأساة,فإن الموت الآني لثلاثة آلاف من الأشخاص يعتبر نوعا من الصور التجريدية.إن بزوغ مجتمع التواصل المُعَوْلَم يلعب دورا هاما في الترسيخ الحالي للعنف الإرهابي,لأنه يمده بـ « الوسائط » التي يحتاجها من أجل تحقيق أهدافه, والأدهى من ذلك أنه يضاعف من خطورة الأضرار التي يتسبب فيها هذا العنف : فالوسائط السمعية البصرية تحول المآسي الفردية إلى مآسٍ جماعية وتضفي على الإرهاب حصته من الفعالية.وعلى هذا المستوى,يبدو من الوارد الحديث عن وجود تواطؤ بين الإرهاب والصحافة, على الأقل من زاوية التقاء المصالح بينهما
معنى إثارة الرعب

إن هذا التحليل الذي ينصب هنا على البنية المنطقية للإرهاب يبدو رغم ذلك غير كاف.فهو يظل تحليلا واسعا جدا, لأنه إذا كان الإرهاب ليس سوى استراتيجية هدفها هو التخويف عن طريق العنف, ففي هذه الحالة ليس هناك أي شيء يميزها- مثلا- عن الحرب.وعلى هذا الأساس يمكن أن نصف عمليات قصف مدينة " دريسد" Dresde الألمانية أو عملية تدمير "هيروشيما" بكونها عمليات « إرهابية », لأنها لم تكن تستجيب لأي هدف استراتيجي, بل كان المراد منها هو إلحاق أضرار نفسية بقوات "دول المحور" بشكل يقود إلى تعطيل إرادتها وقدرتها على المقاومة, وذلك من أجل تسريع عملية استسلام هذه القوات.وهي عملية لم يكن بإمكان "الحلفاء" تحقيقها بدون معارك طاحنة وبدون تعريض عدد كبير من جنودهم للموت.ورغم ذلك لا يمكن أن تستعمل مثل هذه الأمثلة لتبرير الإرهاب , ما دام أن "الحلفاء" لم يكونوا يحملون الرعب للدول التي تعيش في سلام, بل يحملونه للدول التي تحاربهم والتي كان حكامها رافضين للاستسلام وعازمين في المقابل على جر بلدانهم نحو الدمار الشامل ,لأنهم كانوا رافضين تماما لكل إمكانية للتفاوض بشأن السلام.
إن التحديد المغرق في العمومية لمفهوم الإرهاب,يمكن أن يقود إلى حصول مفارقات أخرى, مثل تلك التي أثارها الاعتقال (غير الشرعي) للمئات من السجناء في السجن العسكري لـ " غوانتنامو" بعد أن ألقي عليهم القبض عقب 11سبتمبر.دعونا نذكر إذن بأننا لا يمكن أن نطلق صفة « الإرهاب » على الإجراءات الاستثـنائية التي يمكن "لحكومة شرعية" معينة أن تتخذها حين يتبين أن النظام الذي تتولى مسؤولية الحفاظ عليه, يتعرض للتهديد.إن "الدولة" حين تسعى – عبر بعض الأمثلة الصارخة - للقضاء على أعدائها بشكل أسرع أو الحيلولة دون تكرار الجريمة, فإنها تكون بصدد تطبيق ذاك المبدأ القديم المستمد من القانون الروماني, والذي أقرته كل الحكومات منذ ذلك التاريخ, وهو مبدأ يقوم على أن « الضرورة تتجاهل القانون ».
إن الفرق بين الإرهاب والإجراءات الاستثنائية, يتمثل في أن هذه الأخيرة توجه ضرباتها-عبر الأشخاص- إلى أفعال محددة,أما الإرهاب فيوجه ضرباته إلى الأشخاص بصرف النظر عن أفعالهم أو آرائهم : ألم يتسبب مجرمو 11 سبتمبر في موت العديد من المسلمين الذين كانوا يعملون في برجي التجارة العالمية ؟.
إن العنف الإرهابي يشيع خوفا شاملا لأنه يمثل مبدئيا الانتـشار الأعمى للقوة :فما دام أنه يهدد كل شخص, فمعنى هذا أنه يهدد جميع الناس, وفي جميع الأوقات.إنه يوجه ضرباته بدون سبب وبدون دليل.لذلك يمكن القول إن الإرهاب يمثل السيادة الشاملة والمطلقة للتعسف,وذلك لأنه يجعل من كل الناس ضحايا بالقوة.وهناك سبب منطقي لذلك, وهو أن الإرهاب لا يكون فعالا إلا بالنظر إلى أجواء الخطر والخوف التي يثيرها لدى أولئك المستهدفين بعمليات العنف.ومعنى هذا أن الإرهاب لا يقتصر فقط على اللجوء إلى العنف ,والعنف الأعمى في غالب الأحيان,بل يتطلب اللجوء أيضا إلى التهديد بمعاودة تنفيذ عمليات العنف,وذلك من أجل نشر أجواء الخوف والشك,التي تعتبر أجواء ضرورية لشيوع الرعب, والهدف من ذلك هو (شل) كل إرادة و(تعطيل) كل قدرة على الفعل والمبادرة.إن الرعب ( يمكن اعتبار الإرهاب الموجه ضد "الدولة",مجرد مظهر من إرهاب الدولة) يسعى إلى تدمير المجتمع الذي يمثل ضحية عملياته الإرهابية.إن هدفه هو قطع الصلات التي تجمع بين الناس في إطار مجتمع عادي, أي قطع تلك العلاقات التي تسمح لهؤلاء الناس بالاتفاق فيما بينهم,والتي تتيح لهم الصمود عند الاقتضاء.إن الرعب « يفتت العلاقات المجتمعية» بين الأفراد,وذلك لأنه –عبر تعطيل العقل والإرادة - يردهم إلى وضعيتهم الأولى,أي يرجعهم إلى طبيعتهم المرتبطة بالنوع,أي المرتبطة بحالة القطيع.وعلى هذا الأساس,فالرعب يقوم بتسطيح المجتمع بهدف تحويله إلى كتلة بدون ملامح محددة,أي كتلة طيعة وبدون مقاومة.وانطلاقا من "الخْمِيرْ الحُمْرْ" إلى الإرهاب الإسلامي الحالي, يمكن القول إن منطق الإرهاب يظل هو نفسه في كل الحالات.والواقع أن هذا الوضع يرتبط بالبعد التعسفي للعنف,الذي يسعى إلى إشعار كل شخص بأنه مهدد على الدوام بخطر لا يراه ولا يفهم أسبابه.مما يجعل عدم التمييز بين الضحايا, أي "القتل المتعمد للأبرياء" هو المعيار المركزي المادي "والمعنوي" -في نفس الوقت- للإرهاب.
وهذا هو ما يفسر أن الإرهابيين – وعلى عكس ما يدَّعون- ليسوا « مناضلين »,بل وليسوا « مقاومين » على الإطلاق.فالإرهاب ليس هو ذلك المفهوم الضبابي والنسبي والذاتي الذي نتمثله أحيانا حين نحتج بكون « من يعتبر إرهابيا بالنسبة للبعض,قد يكون مناضلا أو مقاوما بالنسبة للبعض الآخر ».ومن أجل توضيح هذه الفكرة, يمكن أن نقارن بين مثالين اثنين : المثال الأول يتمثل في المقاومة الفرنسية للمحتل الألماني,أما المثال الثاني فيتمثل في مقاومة "جبهة التحرير الوطني" في الجزائر ضد المستعمر الفرنسي.فالمقاومة الفرنسية ضد الألمان,كانت تقرن العمليات العسكرية التي تتخذ شكل حرب العصابات,مع عمليات أخرى مستمدة من وسائل ومنطق الإرهاب,من قبيل :التصفية الجسدية للجنود الألمان أو المتعاونين مع المحتل, عمليات الاغتيال,عمليات التخريب,إلخ.وكان الهدف من كل ذلك هو إشاعة الفوضى والاضطراب في الآلة العسكرية المعادية ,وإجبار المحتل على سحب قواته من مسارح العمليات الأخرى وتركيز جهوده العسكرية وتعبئتها ضد هؤلاء المقاومين الذين يمثلون« جيشا من الأشباح».إن التصفيات الجسدية والاغتيالات التي كانت تلجأ إليها المقاومة الفرنسية,كانت تتيح تعويض ما كانت تعاني منه بسبب النقص في الوسائل المادية,وهذا النقص في الوسائل هو الذي كان يبرر اللجوء إلى استعمال وسائل يبدو أن هؤلاء المقاومين ما كانوا ليقبلوا بها أو يقروا استعمالها لو كانوا في زمن السلام.وكما هو الأمر في كل الحروب,تسببت حرب التحرير هذه بدورها, في موت أناس لم يكونوا من الألمان ولا من أعضاء المقاومة ولا من المتعاونين مع العدو,بل كان كل ذنبهم إما أنهم وجدوا – لسوء حظهم- في المكان واللحظة غير المناسبين, أو أنهم وقعوا ضحايا في أيدي المحتل بعد الحملات التي كان يقوم بها إثر كل عملية من عمليات المقاومة.لقد كان موت المدنيين يعتبر – بالنسبة للمقاومين – بمثابة إمكانية قابلة للوقوع, بل وبمثابة احتمال لا يمكن فصله عن العملية الفدائية نفسها.لكن هؤلاء الضحايا المحتملين لم يكونوا بأي حال من الأحوال هم المستهدفين بالعملية الفدائية.وهنا يكمن كل الفرق بين هذه المقاومة وبين الحركة الجزائرية من أجل التحرير.فـ"جبهة التحرير الجزائرية" كانت تقوم بدورها بحرب غير نظامية,تتكون من مناوشات وكمائن.وكان هدف المقاومة الجزائرية,هو السعي – عبر هذه الحرب - إلى تعويض ضعف وسائلها العسكرية أمام الوسائل الكبيرة التي تملكها فرنسا.لكنها سرعان ما سقطت في الإرهاب الحقيقي حين بدأت "جبهة التحرير الجزائرية" – في سنوات 1956/1957 – حملة من عمليات الاغتيال في الأماكن العامة,أو حين قام فدائيوها – في 30 ماي 1957- باستعمال الساطور للإجهاز على 315 شخصا من سكان قرية قبائلية متهمة بموالاة الحركة الوطنية الجزائريةM.N.A .وقد كان الهدف من ذلك, من جهة بث الرعب في الجالية الفرنسية لإجبارها على الرحيل عن الجزائر, ومن جهة أخرى بث الرعب في الشعب الجزائري بهدف إخضاعه لسلطة "جبهة التحرير" دون غيرها.
ورغم هذا الذي قلته هنا,فأنا أعلم أن الحرب التي خاضتها "جبهة التحرير الجزائرية" لم تكن تقتصر على عمليات الاغتيالات وحدها,بل كانت تعتمد أيضا على العمليات العسكرية المستمدة من حرب العصابات.فالمناضلون في صفوف "جبهة التحرير" كانوا تارة إرهابيين,وتارة أخرى مناضلين, ويمكن أن نقول نفس الشيء بخصوص الحركة الصهيونية في سنوات 1940,وكذلك بخصوص العملية التي قام بها الاستقلاليون القبارصة,أو التي تقوم بها اليوم الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
إن الإرهاب القومي يمثل الحالة الوحيدة التي يصطدم فيها تفسير مفهوم الإرهاب بصعوبات كبيرة.لأن في مثل هذه الحالة, يصعب رسم الحد الفاصل بين الحرب النظامية وبين الإرهاب.والواقع أنه يوجد في مثل هذا النوع من الصراعات, ميل إلى اعتبار المواطنين البسطاء موالين ومتضامنين مع مصالح الدولة التي توجه ضدها العمليات الإرهابية,وذلك إما لأن هؤلاء المواطنين ينتمون لهذه الدولة (كما هي الحالة في الصراع ضد الاستعمار),أو لأن هؤلاء المواطنين ينتمون للشعب الذي يصارع من أجل استقلاله أو تحرره,لكن استسلامهم وعدم مشاركتهم في حرب التحرير,يجعلهم يبدون بمثابة متواطئين مع "المحتل".إن الحرب بطبيعتها,تتجاهل الفوارق الدقيقة بين المقاتلين وغير المقاتلين,وهي تميل بطبيعتها أيضا إلى ترجمة الصراع عبر التمييز المبتسر بين « أصدقاء » و«أعداء », وبين « هم » و« نحن ».أما في الحرب بين الدول,فتتدخل المعاهدات الدولية ومصالح الدول من أجل التخفيف من حدة المواجهة والصراع : فحتى أثناء الحرب,تظل الدول ممثلة كاملة العضوية للنظام الدولي,وغالبا ما يكون عدوها الحالي هو شريك المستقبل, بل قد يكون حليفَ المستقبل,وهذه الأسباب تدعو هذه الدول المتصارعة إلى التخفيف من حدة العنف الملازم للحرب,وذلك من أجل تجنب ضياع فرص المستقبل.أما الحرب التي تنشب بين كيانين ليست لهما صفة الدولة, أو التي تنشب بين جيش غير نظامي وبين دولة ما,فإنها لا تخضع إطلاقا لهذا النوع من العقلانية التي تخضع لها الحرب القائمة بين دولتين,بل تتشابه بالأحرى مع نمط الحرب الأهلية أو مع هذا الابتكار الذي جاء به القرن العشرين والمتمثل في « الحرب الكلية » التي تنحو فيها الحرب نحو نموذجها الخالص,أي نحو العنف اللامحدود الذي لا يلتزم بالاعتبارات الأخلاقية التي تحرم استعمال بعض الوسائل.
فعالية الإرهاب
غالبا ما نقول إن الإرهاب لا يجدي,لأنه قد يكون عقلانيا من الناحية الإستراتيجية لكنه غير فعال من الناحية السياسية.وقد يكون هذا صحيحا,لكنه ليس صحيحا في كل الحالات.وهكذا يمكننا القول إن فعالية الإرهاب تصل إلى حدها الأقصى حين يقترب هذا الإرهاب من نموذج الحرب التي تنشب بين الدول, وحين يقترب من العقلانية التي تحد – في نطاق الممكن- من فداحة « الخسائر الجانبية ».لكن لكي يكون ذلك ممكنا ,يجب أن يكون العدو – بصرف النظر عن قوته العسكرية – ضعيفا من الناحية السياسية,وأن يكون في كل الحالات مترددا بشأن الحسم حول ما إذا كان رهان الصراع يستحق فعلا تحمل تضحيات كبيرة.وفي هذا الإطار يمكن أن نذكر المثال التالي :إذا كان القوميون اليهود والقبارصة, قد تمكنوا من الوصول سريعا إلى أهدافهم وبأقل كلفة ممكنة, فلأن إنجلترا وحكومتها ورأيها العام كانوا قد تخلوا قبل ذلك – في أعماقهم – عن التمسك بإمبراطوريتهم.ويمكن التأكيد أنه لم يسبق أبدا لأي حركة تحرير وطنية أن انتصرت عبر القوة العسكرية ,ولا حتى عبر الإرهاب.لقد كان انتصار حركات التحرر الوطني على الدوام, انتصارا سياسيا ومرتبطا بالأحرى بالضعف السياسي والمعنوي لعدوهم أكثر من ارتباطه بالقوى الذاتية لهذه الحركات نفسها.
وكلما كانت إرادة الخصم قوية – بصرف النظر عن قوة أو ضعف وسائله المادية – كلما أدى ذلك إلى إفراغ الإستراتيجية الإرهابية من فعاليتها.إن الطابع اللاعقلاني للإرهاب في مجال الفعالية السياسية, يصبح مطلقا حين يصطدم -من جهة- بخصم يتميز بالتصميم , وحين لا يجد من جهة أخرى أي دعم في أوساط السكان أو على الأقل حين لا يجد هذا الدعم سوى عند أقلية صغيرة جدا.ونجد هذا الأمر حاضرا بشكل عام,في حالة الإرهاب « الداخلي » الذي -بدل أن يخلق المواجهة بين خصمين « غريبين عن بعضهما البعض » كما هو الأمر في الإرهاب القومي- يتوجه في المقابل إلى خلق الصراع غالبا بين مجموعة صغيرة من سكان بلد معين وبين حكومة هذا البلد أو النظام الاجتماعي بشكل عام.إنني أشير ضمنيا هنا إلى المنظمات الإرهابية المنتمية لليسار المتطرف واليمين المتطرف, التي انتشر صدى عملياتها في وسائل الإعلام في أوربا الغربية خلال سنوات 1970 و1980.إن هذه المجموعات الصغيرة –بدءا بمجموعة "باعدير" * BAADER وصولا إلى مجموعة " العمل المباشر" Action directe – لم تكن تسعى فقط إلى قلب الأنظمة السياسية وتغيير المجتمعات الديمقراطية المتجذرة بقوة,بل كانت تسعى للقيام بذلك باسم البروليتاريا,رغم أن هذه الأخيرة كانت قد تخلت في ذلك الوقت عن دورها كفاعل تاريخي ذي وزن,بل وقامت بالتعبير عن موقفها هذا أثناء الحركة الثورية –في سنة 1968و1969- وذلك حين عبرت عن أن فكرة إقامة بديل للديمقراطية لم تعد بالنسبة لها فكرة مرغوبة ولا حتى مقبولة.والواقع أن اللحظة التي تخلت فيها الطبقة العمالية عن الثورة, هي بالضبط اللحظة التي تورطت فيها حفنة من اليساريين في الإرهاب,بعد أن عجزت عن « التوقف» عن أسلوبها الثوري.
إرهاب مفرط ؟
إن قصة هذا النوع من الإرهاب,تبدو بعيدة عنا اليوم.فقد خمدت جذوته أو تحول إلى عنف إجرامي بحت,بالمعنى الجنائي للكلمة (ابتزاز الأموال,عمليات تجارية غير مشروعة).
أما اليوم فإن الإرهاب يتميز بتصاعد وتيرة العنف وبالطابع الفرجوي للعمليات الإرهابية : إنه نوع من السباق نحو الدمار الشامل الذي يصل فيه عدد الضحايا إلى المئات بدءا بـعملية "بومباي" في شباط 1993 إلى عملية "بالي" في تشرين الأول 2002 .أما عملية 11 سبتمبر فهي تظل من هذه الزاوية, عملية استثنائية وغير مألوفة (لكن إلى متى؟).
صحيح أن عمليات إرهابية أخرى أفضت في الماضي إلى كوارث مماثلة لتلك التي تسببت فيها عمليات العقد المنصرم : العملية الإرهابية التي تمت بتفجير قنبلة في كاتدرائية مدينة "صوفيا" في 17 نيسان 1925 ,تسببت في مقتل 150شخصا,وتفجير طائرات شركة"بانام" وشركة "يوطا" أثناء تحليقهما في الجو,الأولى فوق مدينة "لوكيربي" في كانون الأول 1988 ,والثانية فوق "التشاد" في أغسطس 1989,مما أسفر بالتوالي عن مقتل 270 و171 شخصا.لكن هذه المجازر كانت ناتجة في أغلب الأحيان عن حالات تفجير طائرات في الجو,وذلك في وقت كانت تتجه فيه هذه العمليات لتصبح قاعدة تسري أيضا على الطائرات التي توجد على مدارج المطارات.أما اليوم فإن عدد الضحايا لا يحد منه سوى الفشل النسبي الذي تمنى به العمليات الإرهابية : وهكذا فإن العملية التي تعرض لها برجا التجارة العالمية في شباط 1993( ستة قتلى وألف جريح),كان هدفها طموح جدا (تدمير البرجين) لكن الوسائل المستعملة (شاحنة مفخخة),كانت ضعيفة بالمقارنة مع ضخامة الهدف مما أدى إلى فشل العملية,ونفس الشيء بالنسبة للعملية التي قامت بها طائفة « أوم » Aum حين أطلقت الغاز السام في ميترو الأنفاق في مدينة طوكيو( 12قتيل و4000 جريح).وإذا كانت هذه العملية قد فشلت,فبسبب عجز منفذي هذه العملية عن التحكم التقني الفعال في السلاح المستعمل.
إن هذا هو الذي يدفعنا للحديث عن « الإرهاب المفرط »,الذي يجعل الرغبة في إحداث أكبر عمليات التدمير الممكنة,متماشية مع « ثورة » التقنيات (تحويل الطائرات إلى صواريخ,محاولة امتلاك أسلحة الدمار الشامل,والأسلحة الكيماوية والباكتيرولوجية,بل وحتى الأسلحة الإشعاعية,استعمال الكوماندوهات الانتحارية التي ترفع بقوة من القدرة على القتل) ومتماشية أيضا مع ابتكار سيناريوهات معقدة أكثر فأكثر لأنها تتطلب تخطيطا وتنسيقا دقيقين.
لكن حقيقة هذا « الإرهاب المفرط », لا تذهب إلى حد الإيمان المفرط بأن العدو الذي يقوم بعملياته في كل مكان وبقوة غير مسبوقة, يستمد هذه الفعالية من قدرته الكبيرة على إخضاع هذه العمليات إلى درجة عالية من التنظيم.والواقع أن العديد من المعلقين يقدمون (القاعدة) في صورة تشبه المنظمة الإجرامية التي تسمى (الشبح Spectre ),والتي كان يحاربها بدون هوادة بطل روايات الكاتب البريطاني الشهير "إيان فليمينغ" Ian Fleming .لكن الحقيقة التي ينبغي تأكيدها هي أن العدو يكون أكثر فعالية وأكثر قدرة على الإفلات,كلما كان أقل تنظيما.لذلك يمكن القول إن الإرهاب العالمي يتكون من عدد كبير من المجموعات الصغيرة التي لا تقيم فيما بينها روابط قوية ولا تخضع لإدارة مركزية موحدة.إن هذا الإرهاب العالمي يمثل المنتوج الخالص للأنترنت, والنظير التام للحركة المناهضة للعولمة,ويمثل كذلك نوعا من الكونفدرالية غير الرسمية للجماعات الصغيرة, التي تستمد قدرتها العجيبة على التعبئة,من توظيفها للهواتف الخلوية ومواقع الإنترنت والرسائل الإلكترونية.لكن الفرق بالنسبة لمنظمة (القاعدة),يكمن بدون شك في الموارد المالية التي تتوفر عليها والتي تمنحها دور الممول البنكي للإرهاب,والتي تقودها بالتالي إلى المشاركة في عدد كبير من العمليات التي تهيئها وتنفذها جماعات أخرى.
ومن جهة أخرى يمكن القول إن مفهوم « الإرهاب المفرط », ينطوي أيضا على سمة سلبية أخرى تتمثل في المبالغة في تقدير حجم فعالية الحركات الإرهابية.والواقع أنه مهما كان نوع الوسائل المستعملة والأضرار الحاصلة بسبب العمليات الإرهابية,فإن الإرهاب الموجه للمجتمعات الحديثة,يعتبر بمثابة حرب « ضعيفة الضغط ».فأحداث 11 سبتمبر رغم فداحتها,لا يمكن أن تقبل المقارنة –مثلا-مع معركة « ستالينغراد ».لكن يمكن أن نحتج على هذا, بالقول إن الصدمة التي تسببت فيها أحداث 11 سبتمبر,كانت تفوق بكثير حجم الوسائل المستعملة في العملية,مما جعل الإرهاب يعطي الدليل في ذلك اليوم على قدرته على إلحاق أشد الأضرار بمجتمعاتنا.لكن الفعالية الإرهابية تتمثل في الجانب النفسي أكثر مما تتمثل في الجانب العسكري.وهذا هو ما يمثل بالتأكيد هدف الإرهاب.والحقيقة أن حساسية المجتمعات الحديثة التي تتميز بالتعاطف مع الضحايا والاستعداد المفرط للرد على الإرهاب,تمنح –من هذه الزاوية- لهذا الأخير إمكانيات غير مسبوقة في مجال التأثير على هذه المجتمعات , وذلك عبر ما يقوم به هذا الإرهاب من عمليات.ولهذا السبب أيضا أصبح الإرهاب جزءا لا يتجزأ من العالم المعاصر.فهو لا يتطور إلا في حضن المجتمع الحديث,حتى حين يدعي الرغبة في تدمير هذه المجتمع.وإذن فهل معنى هذا أنه يمكن للمجتمعات الديمقراطية أن تتهاوى تحت ضغط هجمات إرهابية متكررة ؟.إن الجواب هو: لا,وذلك لأن مشاعر (الهشاشة) التي يجذرها الإرهاب في قلوب أفراد المجتمعات الحديثة,تتداخل مع مشاعر (القضاء والقدر), التي تلغي جزءا كبيرا من الفعالية المحتملة للإرهاب.وإذا كان بالإمكان اعتبار العنف الإٍرهابي بمثابة تذكير بالحقائق البشعة المرتبطة بالحرب في المجتمع الحديث,المقتنع إلى حد ما بأنه قد دخل في زمن التراجع الحتمي للحرب,فإن هذا لا يمنع من أن تجربة الحرب ,وخاصة حروب القرن العشرين التي ما زالت ذكراها تعيش إلى الأبد في اللاوعي الجمعي,قد رسَّخت في الأذهان بأن الحرب الحديثة تمثل « تجربة حتمية وقدرية ».ومنذ حرب 1914 لم يبق في الحرب مجال للبطولة,بل اقتصرت فقط على مشاعر القضاء والقدر.هذه المشاعر التي جعلت الأمير "أندري" André في رواية (الحرب والسلم),يقف جامدا وشبه مستسلم تحت وابل القذائف التي تحصد جنوده,وكأنه ينتظر القذيفة التي تسقطه بدوره صريعا.إن الفرنسيين بالضبط يعلمون ذلك جيدا :السلسلة الرهيبة من العمليات الإرهابية التي أغرقت مدينة "باريس" في الحداد سنة 1995, شوشت العقول فعلا لكنها لم تمنع الناس من الانصراف بشجاعة إلى الاهتمام بأعمالهم,وهم مؤمنون بأن المأساة التي ربما قد تصيبهم من باب الاحتمال,ستكون من قبيل الصدفة ومن قبيل القضاء والقدر أكثر من كونها لعنة من لعنات الأزمان.بل إن هذه الأحداث لم تصرف النقابات الفرنسية عن إعلان حركة إضراب عامة رغم أن حالة الطوارئ كانت في أقصى درجاتها.وإذا كان هذا السلوك يكشف بشكل واضح ارتباط هذه النقابات بالدفاع عن الصالح العام,فإنه كان أيضا يبعث على العزاء والتشجيع : فاستمرار الحياة على نهجها المألوف (على الطريقة الفرنسية),كان بمثابة تأكيد لفشل المجرمين الذين نفذوا تلك العملية الإرهابية.
من الحرب الباردة إلى الإسلام
من أجل تقديم نظرة عن التصاعد الحالي للعنف,ينبغي التذكير في المقام الأول بأن الإرهاب يميل "بطبيعته" إلى العنف اللامحدود.وإذا كان هناك من تشابه بين الإرهاب والحرب,فإنه تشابه لا يرتبط بحقيقة الحرب نفسها ,بل يرتبط بـ"المبدأ ",أي "مبدأ" الحرب كما حدده "كلاوسفيتز" Clauswitz ,حين قال عنه إنه مبدأ يخضع لمنطق « التضخم إلى الحدود القصوى ».ففي واقع الحرب,تكون للعنف حدود مستمدة من الحسابات الإستراتيجية والسياسية للأطراف المتحاربة,ومستمدة أيضا من انتماء هذه الأطراف إلى المجتمع الدولي وموافقتها على القواعد التي سنتها الدول من أجل الحد من العنف الحربي.لكن الإرهابيين لا يحترمون أي قاعدة من هذه القواعد,لأن الحرب بينهم وبين أعدائهم ليست « علاقة اجتماعية» كما هو الأمر بالنسبة للحرب بين الدول,بل هي ارتداد للحرب وللسياسة نحو العنف البدائي.ومعنى هذا أن الإرهاب يفرز منطقين اثنين ويدفع بهما إلى أقصى درجاتهما الممكنة :منطق "كل شيء أو لا شيء" ومنطق " نحن وهم".وهذان المنطقان يقصيان مسبقا كل توافق ممكن وكل تمييز بين المدنيين والمقاتلين ويقصيان أيضا كل اعتدال في اختيار وسائل العنف.لكن إذا كان واقع الحرب الحقيقية مختلفا عن « مفهوم » الحرب (على الأقل إلى حدود الحروب الكلية التي عرفها القرن العشرين,والتي كانت بمثابة الصيغة الحكوماتية étatique للإرهاب),فإن واقع الإرهاب كان بدوره مختلفا ولمدة طويلة عن « مفهوم » الإرهاب نفسه.
إن تاريخ الإرهاب من سنوات 1950 إلى سنوات 1970 ,كان على مستوى واسع جدا, بمثابة فصل خاص من تاريخ الحرب الباردة.فالقوتان العظميتان اللتان كانتا تعلمان أن المواجهة المباشرة بينهما تنطوي على خطر دمارهما المشترك,توجهتا نحو المواجهة العسكرية غير المباشرة على مسارح جانبية تقع خارج حدودهما القومية,واعتمد الاتحاد السوفياتي على سلاح الإرهاب كوسيلة لتوجيه ضرباته إلى العدو دون أن يعرض نفسه لعمليات انتقامية مباشرة.ونحن نعلم اليوم أن غالبية الحركات الإرهابية التي كانت تنتمي لتلك الفترة التاريخية,كانت تتلقى الدعم اللوجيستيكي الذي تحتاجه, من أجهزة المخابرات التابعة لبعض الدول الاشتراكية.لكن هذا لا يعني أن هذه الحركات كانت تتلقى أوامرها من الخبراء الإستراتيجيين التابعين للـ"كرملين".بل كان هناك استغلال متبادل,لأن الجماعات الإرهابية كانت تحتفظ باستقلالها وكانت تسعى لتحقيق أهداف غالبا ما تكون مناوئة من الناحية الإيديولوجية للاشتراكية السوفياتية.
والواقع أن الضعف السياسي والإستراتيجي للإتحاد السوفياتي انطلاقا من سنوات 1970,لم يؤد إلى إعادة النظر في هذا السلوك: ببساطة لأن بعض الدول التي كانت من أشياع السياسة السوفياتية,تحررت وأصبحت بدورها تحتضن الإرهاب,مثل سوريا أو ليبيا,ثم إيران بعد ذلك.وقد أدت نهاية الحرب الباردة في سـنة 1989,إلى إحداث تحول حاسم في مسار الإرهاب.فبعد أن كان العالم منقسما إلى قطبين وخاضعا على كل المستويات لمظاهر ومقتضيات هذا الانقسام,أصبح يعيش وضعية أخرى تتميز بالفوضى,مما جعل الإرهاب يتحرر في إطارها من كل وصاية حكومية ليصبح بالتالي « مُخَوْصَصًا » إن صح القول,كما يشهد على ذلك مثال "القاعدة ".إن ترسيخ العنف يعتبر في المقام الأول نتيجة مباشرة لخوصصة الإرهاب.وذلك لأن نهاية "الاحتضان" الحكومي للإرهاب يؤشر في نفس الوقت إلى نهاية العقلانية التي تميز دائما- وأحيانا رغم المظاهر الخادعة- الاستراتيجيات الحكوماتية.
وإذا كان السبب الأول في تصاعد وتيرة الإرهاب هو "خوصصة" الإرهاب,فإن السبب الثاني يكمن في انهيار الإيديولوجيات العلمانية التي ألهمت خلال القرن العشرين,أغلبية الحركات الإرهابية.إن المساحة التي أهملتها هذه الإيديولوجيات وتركتها فارغة, سرعان ما ملأتها النظم الإيديولوجية شبه الدينية المجردة من المرجعية العقلية التي كانت تميز الإيديولوجيا اللينينية.ومن غير المجدي التركيز طويلا على تبعات الدوافع « الدينية» التي ا ستحضرها الإرهابيون المعاصرون : بالنسبة لذلك الشخص الذي يستدعي الدافع الديني,يصبح العنف بمثابة أمر ديني يتيح له التحرر من احترام الممنوعات التي تفرضها الأخلاق والعقلانية السياسية.ومعنى هذا أن العنف يكون كبيرا جدا كلما كان الهدف مطلقا,كما هو الأمر بالنسبة للأهداف الدينية.إن الإرهابي «الديني »- وهو في ذلك يختلف عن الإرهابي « العلماني » - لا يسعى إلى إقناع الآخرين,لأنه ليس له من مخاطب سوى نفسه : وكل ما يوجد خارج ذاته فهو كافر أو مشرك, وبالتالي فهو هدف محتمل للعمليات الإرهابية.
إنني لن أغامر بالتساؤل حول معنى الجهاد بدعوى قياس درجة إخلاص أو عدم إخلاص الإرهاب الإسلامي لتعاليم القرآن,وذلك لأنني مثل العديد ممن سبقوني في هذه المحاولة,لا أملك الكفاءة للخوض في هذا النوع من التساؤل.والواقع أن بعض المتخصصين البارزين حذروا بالضبط من التأويلات المتسرعة ومن المفاهيم الخاطئة التي يمكن أن تسفر عنها مثل هذه التأويلات, وذلك من خلال تأكيدهم على صعوبة الإمساك المباشر بمعنى النصوص الدينية الإسلامية.إن التحليلات التي تستنتج الإرهاب استنتاجا ميكانيكيا من القرآن,لا تقوم سوى بتقليد طريقة الإيديولوجيين الإسلاميين والإيديولوجيين عامة.هذه الطريقة التي تتمثل في تحويل قضايا فلسفية أو دينية معقدة ,إلى شعارات عملية مباشرة,أو تحويلها -كما قالت الكاتبة الفرنسية "مدام دوستايل" – « إلى أفكار هي أشبه ما تكون بأسلحة حرب وذلك لأنها لا تخضع للحسابات العقلية,والسبب في ذلك هو التعامل معها كأفكار غير قابلة لأي نوع من التعديل وغير قابلة للالتزام بأي حد ».
إننا في حالة الإرهاب الإسلامي لا نوجد في حضرة ديانة تؤسس لسياسة,بل نوجد في حضرة سياسة تستمد مرجعيتها من الدين.وعلى هذا الأساس,هل ينبغي إذن أن نستنتج أن هذا النوع من الإرهاب,مستقل كليا عن الديانة الإسلامية؟.الشيء المؤكد هو أن الكثير من الإيديولوجيات الأخرى شبه الدينية تنتشر عبر العالم.لكن من الملاحظ أنه لا الطائفة "الرائيلية" – التي تنتظر مجيء سكان الفضاء- ولا طائفة "أوم" –التي تجمع تعاليمها بين عناصر مستمدة من ديانات الشرق الأقصى وطروحات مستمدة من كتاب "أدولف هتلر" الذي يحمل عنوان Mein Kampf (معركتي) وتنبآت مستمدة من كتاب "نوسطراداموس",لا واحدة من هاتين الطائفتين بإمكانها أن تطمع في استقطاب عدد واسع من الأتباع المستعدين للتضحية بحياتهم ,بالشكل الذي تستطيع تحقيقه مناورات المتطرفين الإسلاميين.
والواقع أنه يمكننا انطلاقا من فرضيات مقبولة عموما,أن نقوم بالإشارة إلى عدد من التقاربات بين العنف الإسلامي وبين الديانة التي يدعي هذا العنف الانتماء إليها.وإذا كان هذا التقارب الجزئي أو غير المتواصل, لا يمثل تفسيرا كافيا,فإنه يسمح رغم ذلك بإلقاء الضوء على بعض جوانب ظاهرة الإرهاب الإسلامي.على سبيل المثال من يجهل مدى العلاقة القوية التي توجد بين الديانة الإسلامية وتاريخ بداياتها حيث لعبت الحرب والغزو على الأقل دورا لا يقل عن دور التبشير؟كيف لا يمكن أن نرى في التفوق الجوهري الذي يدعيه الإسلام في ما يخص رسالته الكونية وفي بعده الأخروي,بعض الأسباب التي تفسر جزئيا الحماس والتصميم المثيرين الذين يتميز بهما الأصوليون في حربهم المعلنة ضد العالم الغربي؟كيف نتجاهل أيضا تبعات العلاقة المباشرة التي لا وجود فيها لأي وسيط,والتي يرسيها الإسلام بين كل مؤمن وبين الكلام الإلهي(المتضمن في القرآن)؟.إن هذه العلاقة المباشرة تزكي ظهور رجال دين ينادون لأنفسهم بالزعامة الدينية,وتزكي أيضا تكاثر وانتشار تيارات تؤدي إلى مزايدات باسم الوفاء لكلام الإله.صحيح أن هذه الخاصية ليست في حد ذاتها « إرهابية» :إنها تنتج عددا كبيرا من التأويلات,انطلاقا من التأويلات الأكثر اعتدالا إلى التأويلات الأكثر ليبرالية وصولا إلى تلك الأكثر تطرفا وانتهاء بتلك الأكثر ثورية.والواقع أن هذه الدينامية هي التي ساهمت في خلق "بن لادن",الذي يعتبر الأكثر شهرة لكنه ليس الوحيد من هؤلاء « العلماء الدينيين » ,الذين استطاعوا أن ينصبوا أنفسهم زعماء دينيين,بل إن كل الجماعات الصغيرة المتطرفة الأخرى تملك زعيمها الروحي.وفي هذا الإطار يمكن أن نطبق على الإسلام تلك الصيغة التي استعملها "بيير شونو" Pierre Chaunu في وصف الظاهرة المماثلة التي ميزت بدايات (الإصلاح البروتستانتي): « إن الكنيسة تفرز الطوائف بشكل مستمر».
والواقع أن المدى التفسيري لهذه التقاربات المختلفة بين التطرف والإسلام,يظل رغم ذلك محصورا وضيقا جدا:يمكننا أيضا بسهولة أن نقوم بجرد كل ما يشهد على السمة الحديثة وغير الدينية لظاهرة الإرهاب الإسلامي,بدءا بتجاوز الشرخ الذي كان قائما بين السنة والشيعة,ومرورا بحركة معاداة السامية التي تم استيرادها من أوربا,وصولا إلى حركة المناهضة التقليدية للقومية اليهودية,ومرورا أيضا بالخاصية « الديمقراطية» للخطاب الإسلامي (في ما يتعلق بنقد الفوارق الاجتماعية).إن الأصولية الإسلامية ليست عودة للأصول, وليست انبعاثا غريبا للقرن السابع في منعطف القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين,بل هي تمثل ظهور إيديولوجيا حديثة وثورية ( لنفكر في طابعها العالم-ثالثي الحاضر فيها بقوة),ويمكن اعتبارها بمثابة مؤشر على هجرة الحماس الثوري من الغرب نحو الشرق,أي نحو مجتمعات تواجه بدورها هجمة الحضارة الحديثة.إن الإرهاب الإسلامي تزداد حدته كلما تزايد ضغط هذه الحضارة الحديثة.إننا لا يمكن أن نعتبر الإسلام الأصولي بمثابة طلائع ثورة قادرة على إعادة نظام الخلافة القديم ومد نفوذها ليشمل كل مساحة العالم,بل هو لا يمثل سوى مؤخرة جيش غارق في الهزيمة,ويقاوم من أجل تأخير لحظة الانهيار التي يشعر بأنها قادمة لا محالة.
والحقيقة أن العامل الأساسي المولد للعنف,هو في الواقع عامل تاريخي أكثر مما هو عامل ديني.إن الإسلام يمثل أيضا تاريخا,لكنه تاريخ شقي مصاب منذ مدة طويلة بالفشل.فعظمة الحضارة العربية الإسلامية لم تدم طويلا بعد الغزو العثماني.والإمبراطورية العثمانية نفسها التي كانت قد لحقها الضعف في نهاية القرن الثامن عشر,دخلت في مرحلة الاحتضار في القرن التاسع عشر,ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لتجهز عليها نهائيا.أما مرحلة ما بين الحربين العالميتين,فقد كانت مرحلة خضع فيها العالم الإسلامي للاستعمار,وحتى ظهور الدول العربية المستقلة بعد سنة 1945, لم يكن في حد ذاته دليلا على النهضة العربية الإسلامية.والواقع أن المسلمين,وخاصة المتدينين منهم,لم يروا في هذه التجارب التي مرت بها الدول الإسلامية, غير استدراج لنماذج مستعارة من الغرب ومفروضة من لدنه على هذه الدول,مما يدل في نظرهم على السخط الإلهي .وقد عمق من هذه الإحساس لديهم,ما مني به العرب من هزيمتين موجعتين في مواجهة إسرائيل في سنة 1967و1973.إن الأصولية الإسلامية سواء كانت « سياسية» أو إرهابية, ليست سوى آخر أشكال التعبير عن « الضغينة» و « الإحساس بالمهانة», الذين زادت من حدتهما نكبة تاريخية لا مثيل لها,مما جعل هذا الإحساس يترسخ في وعي المسلمين منذ قرنين على الأقل.
وحتى بدون أن ننظر إلى ماضي الدول العربية,يكفي أن نتأمل المشهد الذي تقدمه هذه الدول التي تسيرها حكومات عاجزة عن توفير أدنى مقومات الازدهار لشعوبها بالرغم من الموارد التي تتوفر عليها بعض هذه الدول,بالإضافة إلى الرشوة المستفحلة في كل مرافق هذه الدول,والأنظمة التعليمية البالية (كلما تعددت التنازلات تجاه الأصوليين,كلما تعمق تأخر هذه الدول بالمقارنة مع الغرب), وانعدام الحرية السياسية (التصويت لصالح الأحزاب الدينية يمثل في أغلب الحالات, الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الاحتجاج السياسي أو الاجتماعي الذي لا يمكن التعبير عنه بطريقة أخرى),وأخيرا افتقار هذه الدول لكل الوسائل التي تسمح لها بتوفير حلول للاختلالات والضغوط المترتبة عن الاختراق القوي للتكنولوجيات والسلع والأفكار والقيم الخاصة بالمجتمع الحديث.وذلك لأن الحداثة سواء هنا أو هناك,تتقدم بوتيرتها الخاصة:وتيرة بطيئة بالأمس,وسريعة جدا اليوم, ومفرطة السرعة بالنسبة للمجتمعات النائمة منذ زمن طويل.
إن الحركة الواسعة والعميقة المرتبطة بـ" إعادة الأسلمة" réislamisation ,والتي أدت إلى تغيير وجه هذه المجتمعات العربية منذ حوالي عشرين سنة, تعتبر بمثابة رد على الشروخ والاختلالات الناتجة عن الصيرورة الجامحة للتحديث,وهو رد يتم عبر الاستعادة الجماعية للإرث الديني وإخضاعه بشكل موسع لعملية إعادة الصياغة,تحت ضغط الهجمات التي يتعرض لها هذا الإرث كل يوم.وليس من قبيل الصدفة أن يكون هذا التوجه المحافظ وهذا النوع من « الثورة الوقائية المضادة »,قد انطلقا في البداية من مصر,التي تعتبر أكثر البلدان الإسلامية انفتاحا على التأثيرات الغربية.وقد امتدت هذه الحركة منذ ذلك الحين,لتصل إلى حدود العالم الإسلامي,لكن قوة نتائج هذه الحركة كانت متباينة بشكل لا يتيح التنبؤ بإمكانية دوامها واستمرارها.بل إن هناك إشارات عديدة تؤكد بوادر العياء الحتمي الذي بدأ ينهكها.
إن أهم هذه البوادر التي تـفت عضد هذه الحركة,يكمن في التقدير المفرط والشائع لوحدة العالم الإسلامي.ويبدو من الطبيعي الاعتقاد في مثل هذه الحالة بأن الأزمة الشاملة التي تمس كل الأوطان العربية,والتي تكتنف العالم الإسلامي كله,قد أدت إلى ميلاد الخيار الأصولي الذي يقوم هو بدوره على مشروع شامل يمس كل الأوطان العربية.لكن هذا الاعتقاد يقوم بالتأكيد على رؤية تتجاهل الانقسامات المختلفة التي تنخر كيان العالم الإسلامي,وهذا النوع من التجاهل هو بالضبط ما يمثل المأخذ الأساسي على الخطاطة التي اقترحها "صامويل هنتنغتون",لأنها خطاطة تقوم على أساس التسليم بوجود حضارات متجانسة تخضع لهوية « واعية » موحدة.إن هذا المشروع الأصولي الشامل ينسى أن الوحدة السياسية للعالم الإسلامي,تنتمي لمرحلة طواها الزمن,وذلك رغم أن فكرة هذه الوحدة تعود للظهور من حين لآخر في شكل حنين أو يوتوبيا.لقد اكتسبت الأوطان العربية التي ظهرت في القرن العشرين,وجودا مستقلا بذاته,بل الأكثر من ذلك أنها اكتسبت هوية,وذلك على الرغم من حدودها القومية التي خضعت لعملية ترسيم سيئة أو تعسفية.فالتونسيون أو المصريون أو السوريون لا يشعرون في غالبيتهم بأنهم يعيشون في ظل كيانات مؤقتة تنتظر الذوبان في كيان « الأمة »,الذي ستقيمه منظمة "القاعدة " أو أميرها,على منوال الأمة الإسلامية التي شهدها العصر الإسلامي الذهبي الغابر.إنهم يشعرون بأنهم تونسيون ومصريون أو سوريون بنفس القدر الذي يشعرون فيه بأنهم مسلمون.لا يمكن الاقتصار فقط على إنكار وجود تضامن بين حكومات البلدان التي تنتمي للثقافة الإسلامية,بل يمكن التأكيد أيضا بأنه لا يوجد – بإسم الدين المشترك -تضامن بين الشعوب المسلمة نفسها:فالكويتيون لم يتلقوا العراقيين بالترحاب حين تعرضت بلادهم للغزو العراقي في سنة 1990,كما أن « حرب الحضارات » التي انتظرها الإرهابيون,لم تحدث لا بعد 11 سبتمبر ولا أثناء التدخلات الأمريكية في أفغانستان ثم في العراق.لا شيء من ذلك حدث,باستثناء بعض المظاهرات المعزولة وغير المؤثرة,التي لم تكن تعبيرا عن الانتماء للمشروع الإسلامي الأصولي بقدر ما كانت تعبيرا عن المشاعر المعادية للولايات المتحدة (وهي مشاعر يختلط فيها التنديد بالولايات المتحدة والانبهار بها في نفس الوقت).ورغم ذلك ما زالت "القاعدة " تنتظر الانتفاضة الضخمة التي تطيح بالأنظمة الكافرة وتهيئ للمواجهة الحاسمة مع الغرب.
وإذا كانت الدول الإسلامية تواجه مشكلة شاملة,فإن هذه المشكلة تكتسي – في ضوء تباين الوضعيات- أشكالا خاصة ومختلفة باختلاف ظروف كل دولة من هذه الدول.إن الحرب الدائرة الآن – التي نتأثر نوعا ما بـ « أضرارها الجانبية » - تتأجج في المقام الأول (داخل) كل شعب من الشعوب الإسلامية.وهنا يكمن – بالنسبة للأصوليين – أحد أسباب استحالة الوصول إلى تحقيق الأهداف التي يسعون إليها.وهذا ما نلاحظه في إيران : لم تمض عشرون سنة على وصول أتباع "آيات الله" إلى السلطة,حتى دخلت الثورة الإسلامية مرحلة الانحسار.والفضل في ذلك يعود في جزء كبير منه إلى ظهور جيل جديد سئم من « إلجام أهوائه [وسئم] من سعادة الفضيلة المثالية».لكن هذه التطور ناتج أيضا عن أن منطق المصالح الخاص بالدولة هو بصدد التغلب على الاعتبارات الدينية غير المجدية : إن هدف المسؤولين الإيرانيين الآن لا يتمثل في تصدير الثورة الإسلامية إلى العالم,بقدر ما يتمثل في إرضاء المصالح والطموحات الإقليمية التي تتقاطع في كل الحالات مع مصالح وطموحات إيران نفسها.إن هذا التوجه نلاحظه أيضا في تركيا التي قام فيها الإسلاميون بفك الارتباط القوي بين السياسة والدين في الشريعة الإسلامية,وذلك لكي يتسنى لهم استلام وممارسة السلطة.ألا يمثل الاعتراف بأسبقية السياسة على الدين,الشرط الجوهري للسياسة المعاصرة ؟.
انطلاقا مما تقدم يتضح جليا أن المفارقة تتمثل في أن الحداثة السياسية تظهر في المجتمعات الإسلامية عبر طرق عديدة,بما فيها طريق القوى السياسية التي ترفض هذه الحداثة السياسية وتدعو إلى العودة إلى النموذج السياسي الذي يقوم على التداخل القوي بين السياسة والدين.إن الغرب قد شعر بالقلق من نتائج ظهور هذا التوجه السياسي الذي يتقابل بقوة مع التاريخ الغربي – القائم أساسا على حركة طويلة من العلمنة السياسية- وشعر بالقلق أيضا وخاصة من التحدي الذي يمثله هذه التوجه بالنسبة للموقف الغربي الثابت,الذي يقوم على أن الحداثة ترتبط بالفصل بين عالمي السياسة والدين,وأن هذا الفصل حين يتحقق,يصبح غير قابل إطلاقا لإعادة التعديل أو المراجعة.لكن هذا القلق الغربي في غير محله, ويجدر بنا أن نطمئن.لأن النموذج السياسي الغربي –بالرغم من الاحتجاج والهجوم الذي يتعرض لهما - لم ير أبدا خصما قويا قادرا على الوقوف في وجهه.والأصولية ستذوب عاجلا أم آجلا في حركة التغريب occidentalisation l .ولا يمكن أن تتحقق أي عودة إلى إسلام القرن السابع الميلادي,لأن الأحداث الحالية تشهد لصالح التعميم الكوني للنموذج السياسي الغربي أكثر مما تدل على انحصاره في المناطق التي عرفت ولادته الأولى.إن ما يرتسم في الأفق هو الضعف الذي سيمنى به الأمل الأصولي,إما عبر عملية تعميم النموذج الغربي أو عبر تراجع العنف الإرهابي,لكن زمن تحقق هذه النبوءة يظل من المستحيل تحديده بدقة.
الانتقال إلى الإرهاب
على الرغم مما تقدم, سنكون مخطئين إذا تملكتنا مشاعر الفرح, لأن عمق السمة " الحديثة " لهذا الإرهاب تتجه على العكس من ذلك إلى تمديد عمره.
إن الرعب الحالي له سبب محسوس :أفغانستان (وقد تبعتها بعد ذلك البوسنة وكاشمير والشيشان) التي توجه إليها الآلاف من المسلمين بعد سنة 1979 من أجل محاربة المحتلين السوفيات.وقد كان من ضمن هؤلاء بالخصوص, جنود مصريون متورطون في عملية اغتيال الرئيس السادات,ومجبرون بالتالي على العيش في المنفى والسرية الدائمة,وكان من بينهم أيضا أبناء البورجوازية العربية,الذين كانت درجة التزامهم بالتطوع باسم الدفاع عن الدين,قوية بنفس القدر الذي كان يقاس به بعدهم "الفعلي" عن القيم التقليدية.والواقع أن الكثير من هؤلاء عادوا بعد ذلك إلى أسرهم,أما الآخرون – الذين كان كل رجوع لهم إلى الوراء من قبيل المستحيل- فقد أصبحوا يمثلون « عرب » القاعدة ويعيشون كلاجئين في أفغانستان أو في باكستان,أو معتقلين في "غوانتانامو" أو متـفرقين عبر العالم ينتظرون اللحظة المناسبة التي يعودون فيها من جديد إلى ممارسة نشاطهم.وبمعنى آخر يمكن القول إننا لا نجد في نقطة انطلاق الإرهاب, الدين فقط بل نجد أيضا تجربة "الفعل الحركي" والالتزام الكلي الذي يصل إلى حد التضحية, وإلى حد الانتحار باعتباره سبيلا للاكتمال الشخصي.والواقع أن هذه التجربة متأثرة كثيرا بالثقافة الغربية رغم أن الإيديولوجيا التي تغذيها تقوم على مناهضة الغرب.
من أجل فهم الأسباب التي تغذي مواقف هذا النوع من الأشخاص, يمكن أن نستحضر رجلا كان يمثل إلى حد ما النموذج الأولي لهذه الفئة,وقد خصص له "أوليفيي كاري" دراسات متعمقة عديدة:وهذا الرجل هو "سيد قطب",وهو مناضل في صفوف الإخوان المسلمين,تعرض للقتل في سنة 1966,وكان لكتابه "معالم في الطريق" تأثيرا كبيرا في أوساط الأصولية السنية بشكل عام.في منطلقات المذهب الثوري الأصولي الذي صاغه سيد قطب – الذي اهتم لمدة طويلة بتشجيع الإصلاحات الاجتماعية – نجد إقامته في الولايات المتحدة ما بين سنة 1949 و 1951,أي نجد لقاءه بالمجتمع الحديث الذي أثار لديه درجة عميقة جدا من القلق لدرجة قادته إلى التفكير بأن الحرب الشاملة ضد التأثيرات الغربية,تمثل واجبا على كل المسلمين. وقد زاد من حدة هذا الفكرة أن الحكومة المصرية كانت تبدو له بمثابة حمأة للقيم المهلكة التي ينقلها الغرب إلى العالم العربي.والواقع أن "سيد قطب" لم يكن ثوريا رجعيا أو جاهلا:لقد كان رجلا مثقفا,رجلا موزعا بين ثقافتين, بل إن اطلاعه على ثقافة العالم الحديث,كان من بين الأسباب القوية التي دفعته إلى التشبث القوي بثقافته الأصلية بطريقة مطلقة,متعصبة ومتصلبة.إن الإرهاب في حالة "سيد قطب"- والأمر لا يتعلق هنا بتبرئته- يمثل نتيجة للنكبة ولضياع المعالم التي ينبغي أن تواكب عملية التحديث.والواقع أن الرغبة في التحديث توجد حتى في مذهبه القائم على الثورة الإسلامية,وهو مذهب يمثل في الواقع منظومة من الأخلاق التي تنظم إطار العمل والالتزام والتضحية,وإطار الاكتمال عبر العنف الذي يذكرنا بالنموذج الغربي الذي تعكسه الثورة العنيفة بركيزتيها الأساسيتين :النزعة التطوعية والنزعة الذاتية.إن الإرهاب في مذهب "سيد قطب" يبدو في نفس الوقت كأمر إلهي وكوسيلة للتعبير عن نزعة فردانية أصولية بعيدة كل البعد عن القرآن.لنقل إنها نزعة مثيرة تجمع بين تعاليم الإسلام وأفكار "هايدغر".
والواقع أن هذا الجمع بين الرؤية الفلسفية الحديثة والثورية وبين الأهداف الرجعية,هو الذي يفسر بالضبط النزعة العالمية التي تميز حركة الاستقطاب الإرهابي.والواقع أن المظهر الذي كان أكثر إثارة للاستغراب في أحداث 11 أيلول - وهو أمر أكدته عمليات الاعتقال التي تلت هذه الأحداث - هو أنه بالإضافة إلى أشخاص متوقعين ( سودانيين أو يمنيين خرجوا بالكاد من العصر الفيودالي) ,كان هناك -من جهة - حضور قوي في أوساط الإرهابيين لأشخاص ينتمون للطبقات الوسطى في بعض دول الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط,ومن جهة أخرى,حضور أشخاص أوربيين وخاصة فرنسيين منحدرين من أوساط المهاجرين.وفي ما يتعلق بهذه الفئة الأخيرة,يمكن أن نترك جانبا شرذمة المجرمين الذين يكتشفون الإسلام ويعتنقونه أثناء قضائهم لعقوبتهم السجنية,والذين يعثرون من خلال هذا النوع من الإيمان,على الوسيلة التي تسمح لهم بالاستمرار في حياتهم الإجرامية المُخالِفة للقانون اعتمادا على تبرير ديني يجدون فيه نوعا من إعادة الاعتبار.لكن الفئة التي تكتسي أهمية أكبر وذات دلالة,تتمثل في الآخرين الذين يعتبرون مثقفين ومندمجين جيدا في المجتمع الأوربي,لكنهم أصبحوا يمثلون الأعداء المدمرين للعالم الغربي الذي وُلِدَ أغلبهم في أحضانه.إنهم يشبهون من هذه الزاوية -لكن بفارق كبير- أبناء البورجوازية الأوربية,الذين أدى بهم الضرر الذي لحق عقولهم بسبب أسطورة الثورة الطلابية لسنة 1968, إلى التخلي ذات يوم عن كل شيء والانخراط في طريق لا رجوع منه.إن الفرق بين هذين الجيلين الإرهابيين يتمثل طبعا في انتمائهم الاجتماعي,لكنه يتمثل أيضا في كون التطوع في الإرهاب كان في أغلب الحالات,في سنوات 1970,بمثابة تتويج ناتج عن فترة سابقة طويلة أو قصيرة من النشاط النضالي والتطرفي.لكن الإرهاب الحالي لا يشبه أي نوع من ذلك,بل يبدو في أغلب الحالات أنه يتعلق بنوع من "الارتماء" الذي لا توجد أي علامات ظاهرية تسمح بإمكانية حدوثه.
إن المرور إلى الإرهاب يتطابق مع ما ينبغي تسميته بـ ( التحول).فهؤلاء الإسلاميين الثوريين الأوربيين هم في الواقع "مواليد مسلمين جدد".لنأخذ مثال " جمال بغال".لقد ولد في الجزائر,لكنه بحكم نشأته في فرنسا منذ نعومة أظافره, فقد تمكن من متابعة دراسات معقولة,ثم اشتغل وتزوج بفرنسية أنجب معها ثلاثة أطفال.ومن حين لآخر كان يتردد على المسجد,لكن دون أن يعني ذلك أنه كان شديد التدين.وباختصار لم يكن في سلوكه هذا ما يبعث على القلق.وبعد ذلك في يوم من أيام سنة 1994,تقاطعت طريقه مع طريق أحد الإخوان المسلمين.ومنذ ذلك الحين وبسرعة كبيرة,وقع له تحول كبير في حياته,فأدار ظهره لماضيه وللعالم الذي كان هو عالمه,فارتدت زوجته الحجاب وتحول هو إلى متعصب يغذيه حماس التائب ويرمي به في المعركة المميتة التي أصبحت هي كل معركته.وبدأ يطوف في أوربا,يقوم بمهام مختلفة لصالح الجماعات الجزائرية الإسلامية المسلحة,ويتردد على أحد الأئمة الأكثر تطرفا في مدينة لندن التي تعتبر حصن الأصولية الإسلامية.وفي سنة 2000,أقدم على تدشين خطوة كبيرة ورحل إلى أفغانستان حيث انضم إلى صفوف "القاعدة " التي أوكلت إليه مهمة إعداد عملية انتحارية ضد السفارة الأمريكية في باريس,لكن ألقي عليه القبض في دبي بتاريخ يوليوز 2001.إن هذه القصة هي نفس قصة الكثير من الإرهابيين الآخرين المنحدرين من أصول مصرية,مثل " محمد عطا"أو من أصول أوربية:إنها قصة غامضة للغاية.وفي ثنايا مثل هذا النوع من القصص,يمكن أن نستشف - دون أن نتمكن من الإدراك الدقيق - نوعا من التصدع والهشاشة اللذين لا يمكن بدونهما أن نفهم كيف يمكن للقاء بسيط أو لمجرد فيلم حول أحداث "البوسنة" (كما هو الأمر في حالة "عمر الشيخ" الذي يحمل الجنسية الإنجليزية),أن تكون له كل هذه النتائج.وفي حالة فرنسا التي تمثل لسوء الحظ الدولة الأساسية غير المسلمة التي تنتج الإرهابيين ,لا يمكن أيضا أن نتجاهل المسؤولية التي تلقى على عاتق عقدين من سياسة الهجرة, التي أحكمت الإغلاق - بدعوى المساواة وعدم التمييز العنصري- على شريحة من السكان في سجن أصولهم وخصائصهم الثقافية,مما ضيع على الأقل بالنسبة للبعض منهم ,كل فرصة للاندماج الناجح في المجتمع.والحقيقة أننا ما زلنا عاجزين عن تقدير جسامة هذه الوضعية وأداء ثمنها الباهـظ ,فهي بمثابة مأساة ناتجة أساسا في جوهرها,عن التخاذل والتنصلات المتعاقبة للحكومات التي كانت بمثابة رهينة في أيدي (لوبيات) ما يسمى بـ " التعدد الثقافي".وذلك لأن الإرهابيين الجدد الذين يخرجون من الأوساط الفرنسية,هم بمثابة منتوجات هذه السياسة الحكومية.ومن هذه الزاوية يبدو هؤلاء الإرهابيون,مختلفون أيضا كل الاختلاف عن اليساريين الذين كانوا يرمون بأنفسهم في خضم العنف بسبب "سأمهم من السعادة ".ويبدو هذا هو التفسير الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه من أجل فهم المسار المنحرف لـ "كمال داودي",التلميذ النجيب الذي انتهى به المطاف إلى تسخير مؤهلاتـه في الإعلامـيات,لخدمة شبكـة "بيغال",مما جعله يمثل حالة مثيرة جدا من حالات " النجاح ضمن الفشل".ولنا أن نتساءل:لمن يعود الخطأ في ذلك؟إنه خطأه بكل تأكيد.لكن هل هو خطأه وحده؟أم أنه خطأ السياسة الحكومية الفرنسية التي أقدمت - باسم الفكرة المشوشة حول المساواة- بالتضحية بفكرة تكافئ الفرص,وذلك بدعوى البحث عن مساواة مستحيلة في تحقيق النتائج؟وهي حين فعلت ذلك,قامت بكل بساطة بالحكم الأبدي على الأشخاص اللامعين المنحدرين من أوساط المهاجرين,بتحمل عبء أصولهم.ومن هذا المنطلق,كيف لا يختار هؤلاء طريق الإرهاب وكيف لا يضيعون في دروبه إلى الأبد,حتى ولو كان السبيل الوحيد هو الجريمة؟ إن هذا الاختيار تبنته بالتأكيد فئة صغيرة منهم من أجل أن تحسم أمرها,لكنه اختيار يعكس رغم ذلك قلقا منتشرا على نطاق واسع في أوساطهم.لذلك فالأكيد هو أن الهمجيون الجدد, "الهانس"1 و" الوندال" و"القوطيون" في عصرنا هذا لا يأتون هذه المرة من الشمال الأوربي ولا من البحر الأسود:وإنما هم يوجدون بكل بساطة بين ظهرانينا.
إن الإسلام الأصولي يوفر بالنسبة لهؤلاء,الملاذ الذي ينغلقون فيه على أنفسهم داخل العالم المسيج والطافح بجنون الاضطهاد,الذي توفره لهم الجماعات الإرهابية والتي لا يمكن اعتبارها في نهاية المطاف سوى طوائف دينية مغلقة. ومن هنا نتساءل:كيف لا يدفعنا هذا إلى ربط الإرهاب,بتلك الظاهرة المعاصرة الأخرى المتمثلة في تكاثر الطوائف الدينية؟ خاصة حين نعلم أن العمليات الإرهابية التي تشبه نسبيا عملية 11 سبتمبر,ونقصد بهما عملية "طوكيو" وعملية "أوكلاهما سيتي", كان وراء تنفيذ الأولى طائفة دينية رؤيوية منغلقة,والعملية الثانية كان وراء تنفيذها شخص ينتمي إلى طائفة دينية أخرى لا تقل انغلاقا,هي طائفة "دافيد كوريش".والواقع أنه بصرف النظر عن الفوارق العديدة التي يمكن أن توجد بين هذه الطوائف الدينية المختلفة,يمكن القول رغم ذلك أنه انطلاقا من الطوائف الدينية الحديثة,وصولا إلى الطوائف الإسلامية الإرهابية,يوجد نفس الطموح إلى تكوين مجتمع المُصْطَـفِـين الذين سينجون من القتل,ويوجد نفس الطموح أيضا إلى تكوين المجتمع المضاد الذي سيمثل القدوة لإعادة بناء المجتمع مستقبلا (ومن هنا يمكن أن نفهم أن الإسم الذي اختارته "القاعدة" لنفسها,ليس اسما اعتباطيا),ويوجد نفس الزهد في الاستقلالية الذاتية,واستبدالها في المقابل بالاستلاب الكلي والذوبان في دائرة هؤلاء المصطفين وزعيمهم (لكل جماعة إرهابية زعيمها الخاص),ويوجد نفس التداخل بين التعصب ومنطق التجارة والأعمال,ونفس الكره – كره الآخرين وكره الذات على حد سواء- ونفس الذهان الهذياني,القابل للتحول إلى عنف ضد العالم الخارجي (نموذج طائفة "أوم") أو إلى عنف التدمير الذاتي (نموذج طائفة معبد الشمس),وتوجد أخيرا نفس ظاهرة اليقظة بعد الغفوة,عند أولئك الذين أتيحت لهم فرصة الخلاص والخروج من هذه الطوائف.وإذن أليس من اللائق القول إننا مع هذه القيامة التي شكلتها أحداث 11 سبتمبر-تدمير العالم وتدمير الذات في نفس الانفجار والحريق- ,نوجد فعلا في العالم الحديث؟
ومعنى هذا أن ذلك الحادث يؤكد أن الكوميديا ليست مفصولة عن التراجيديا...ففي التعدد الكبير للألقاب التي يسمي بها هؤلاء القاتلون أنفسهم أو العناوين الإلكترونية الناطقة بطبيعة ميولهم (ألم يكن العنوان الإلكتروني لـ" عمر الشيخ" هو [email protected] ؟ أي المختطف),يوجد نوع من اللهو والتحدي النابعين من مراهقة متأخرة.لا ننسى أن الإرهاب هو أيضا نمط حياة,لكنه ليس نمط حياة قائم على المتاعب فقط ,بل يوفر لهؤلاء المجرمين الدوليين:المال السهل,البطاقات البنكية السليمة أو المزورة,الملابس الغالية والأسفار في الطائرات والفنادق المصنفة,دون أن ننسى قنينات الخمر الإسكتلندي scotch بل وحتى المومسات عند الاقتضاء (مثل أولائك اللاتي ساعدن محمد عطا والمتواطئين معه,على قضاء آخر ليلتهم قبل تنفيذ عملية التفجير).وكل هذا يتداخل مع متع الحياة الخطرة والسرية,التي تقود في النهاية إلى الوصول إلى مقام الشهيد في أعين المريدين,ما دام أن آخر هذا الدرب لا يمكن أن يفضي إلا للسجن أو الموت...

الإرهابي والثوري

إن الإرهاب الراهن ليس حديثا في مدبريه فقط ,بل هو حديث أيضا في دوافعه.فالعمليات الإرهابية الأخيرة تبين فعلا أن الميل للعنف,أو لمشاعر الكره,هو أكثر قوة من المطلب نفسه الكامن خلف العملية الإرهابية نفسها.لأن هذا المطلب عاجز في حد ذاته عن توليد هذه الدرجة من الوحشية والصبر والإصرار والمثابرة التي يتطلبها تنفيذ العملية الإرهابية.إن هذا هو ما يثير الانتباه في أحداث 11 سبتمبر,وليس ذلك المزج المزعوم بين مشروع قروسطي وتكنولوجيا معاصرة.بل على العكس,لا شيء أكثر ضعفا من الناحية التكنولوجية من تلك العملية التي تمت بواسطة بعض الدروس في الطيران والوسائل العادية.لكن ما يثير الانتباه في المقابل,هو مثابرة الإرهابيين ووحشيتهم والدقة التي انتقوا بها الطائرات والمواقيت.يمكن أن نتصور "محمد عطا" غارقا في الإعداد الدقيق للعملية لمدة شهور كاملة,وبتخيل ذلك يمكن أن نفهم أن الهدف كان أقل أهمية بكثير من العملية نفسها.ومن هذه الزاوية,فإن هذه الأحداث التي وقعت في11 سبتمبر,ليست استثنائية.فنحن نتذكر عملية « بوجينكا», التي أحبطتها الشرطة الفيليبينية سنة 1995.وكان الهدف منها هو تفخيخ إحدى عشرة طائرة لتنفجر بعد وقت قصير من إقلاعها,فوق المحيط الهادي,وتتسبب في مقتل عدد لا يقل عن 4000 مسافر حسب توقعات الإرهابيين.والواقع أن أهداف هذه العملية- التي ظلت مجهولة- كانت ذات أهمية قليلة بالمقارنة مع المثابرة الشيطانية التي غذت هذه الرغبة الجنونية في إسقاط أكبر عدد ممكن من الضحايا.إن الدوافع الحقيقية لمثل هذه العمليات الإرهابية,لا يكمن في التعصب « الديني»,بقدر ما يكمن في الأهواء المنفلتة من مقتضيات العقل,مثل الافتتان بالعنف والموت والتدمير.والواقع أن الإرهاب الحالي يضخم ذلك الملمح الحاضر في قلب كل إرهابي:إنه الملمح الذي سماه "إريك فروم" عشق التدمير.إن العمليات الإرهابية تنطوي على حضور النزعة العدمية التي تميز الثورة الحديثة,والتي تبدو جلية خلف القناع الخادع لسماحة المبادئ الكاذبة.إننا نحس,انطلاقا من الثورة الحديثة وصولا إلى الإرٍهاب الإسلامي,بوجود رائحة الحريق والدمار,التي تميز عالمنا وعصرنا.
والواقع أن هذا الاستثمار المفرط في الكفاح من أجل الكفاح,يظهر وجود نفس العلاقة بين الكفاح الذاتي والقضية التي توجد في عقلية المناضل الثوري:فالإرهابي الإسلامي مقتنع مثل الثوري ومثل الإرهابي العلماني,بأن الثورة تندرج ضمن صيغة من صيغ الضرورة – الإلهية- ,مع الإيمان في نفس الوقت باستحالة تحقق هذه الضرورة إلا عبر تدخل الإرهابي نفسه من خلال فعل الإرهاب.وكما هو الأمر بالنسبة للثوريين العلمانيين,يبدو المستقبل في أعين الإرهابي الإسلامي,مضمونا وغير مضمون في نفس الوقت:مضمون لأنه متعلق بالمشيئة الإلهية,لكنه غير مضمون,لأنه مُوَاجَهٌ بإرادات كثيرة تناهضه لكي لا يتكون ما ينبغي أن يكون.ومن هنا فإن الإرهابي ليس بطلا بقدر ما هو عامل سلبي من عوامل الضرورة.إنه أداة القدر,وهو يمثل في مرآة نفسه ذلك الرجل الذي يرقى – عبر الشجاعة والفضيلة- إلى مستوى الزهد في كل ما يغري الرجال العاديين.فمن خلال تضحياته وتبرعه بنفسه,يتعالى عن مستوى الرجال الآخرين.فهو مُتَسَامِ على الإحساس بالشفقة وقادر على نسيان سعادته الشخصية وهو ينشر الموت,لأنه يعلم أن الموت هو المصير الموعود لمن يقاتل من أجل سعادة البشرية الضالة.ومن هنا فإن صورة الشهيد,تنطوي على صورتين متقابلتين,لكنهما مشكلتين لفكرة الثورة:الموضوعية,لكن تلك الموضوعية التي تنطوي على فكرة ذاتية محضة حول فعل الكفاح.ويمكن الاعتراض على هذا التحليل,بالقول إن هذه البطولة الانتحارية لهذه « القنابل البشرية», مستمدة من الإيمان – الديني- بحياة أخرى.إلا أن هذا السند الديني- الذي يحيل العنف إلى عمل إيماني ويجرده من كل انشغال بتحقيق الفعالية العملية- ليس مختلفا عن تلك البطولة المستمدة من الإيديولوجيا العلمانية,والتي كانت تقود الثوريين المتعصبين إلى التعامل مع الموت- موت أعدائهم وموتهم الخاص- باعتباره انتصارا وعملا فدائيا.فانطلاقا من "روبيسبير" إلى "بن لادن",نسمع نفس الصرخة: يحيا الموت.فيتداخل القديم والحديث.والواقع أن جزءا كبيرا من الافتتان المرتبط بالعنف الحالي,يتأتى من هذا اللقاء بين القديم والحديث,ومن انبعاث هوىً حديث تحت قناع قديم.إن ما يدل عليه الإرهاب الإسلامي الحالي,هو استئناف فكرة الثورة –التي لم تعد تمارس آثارها المدمرة في الغرب- على يد العالم الإسلامي.وهذا دليل أيضا على أن ملامح العالم المعاصر قد تسربت إلى كل المجتمعات.
في سنة 1989,أدى انهيار الشيوعية بـ"فرانسيس فوكوياما" إلى التبشير بنهاية التاريخ عبر الانتشار الشامل والحتمي للديموقراطية,ما دام أن خصمها التاريخي (الاتحاد السوفياتي) قد انهزم.لكن "فوكوياما" لم يؤكد أن نهاية التاريخ هذه, ستكون دربا مرصوفا بالورود.والواقع أن ظهور قضية "الإرهاب الإسلامي",لا يؤدي بالضرورة إلى إعادة النظر في الخطاطة التي يقترحها "فوكوياما",بل هو -على العكس من ذلك- يؤكدها,ما دام أن السبب في المآسي التي يعرفها العالم اليوم,هو هذا الإرهاب الذي يسعى لتقويض العالم الحديث من أجل صهره في بناء شرقي منخور.والواقع أن فلسفات التاريخ اليوم,تجد صعوبة في تقديم صورة واضحة عن الحاضر.فإذا كان صحيحا أن التاريخ يتشكل – في المدى البعيد- من تطورات صامتة في الغالب,باطنية وغير قابلة للنقض بشكل عام,فإنه يخضع – في المدى القريب- للقطائع والارتدادات.ومعنى هذا أن التاريخ يسير –على المدى البعيد- وفق اتجاه غير قابل للانعكاس,لكن على المدى القريب والمتوسط ,يبدو التاريخ –على العكس من ذلك-قابلا للانعكاس.فالأجيال المتعاقبة يمكن أن تقنع نفسها بأنها ستسعد في القادم من غدها,لكنها مطالبة في نفس الوقت بأن تتذكر أنها لن ترى سوى المآسي التي تقود نحو هذا الغد المشرق.لذلك فمن بين كل النماذج التي تم اقتراحها منذ عشرات السنين من أجل توصيف مستقبلنا القريب,يبدو أن النموذج الذي يحظى بمصداقية أكبر,هو ذلك النموذج الذي يَعِدُ بحصول صيرورة تفكك فوضوي وعنيف يجتاح كل المجتمعات بما فيها المجتمعات الديموقراطية,أو ذلك النموذج الذي يتنبأ بحصول تفاوت متزايد بين الدول الغربية والدول الآسيوية,التي تعيش وضعية استقرار وسلم وازدهار,وبين دول باقي العالم التي تعرف الاضطراب والبؤس والعنف.لكن التاريخ- على المدى القريب- ليس قابلا لتغيير اتجاهه فحسب,بل هو أيضا غير قابل للتوقع ومعرض لكل التقلبات الأقل توقعا واحتمالا.



#سعيد_أراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بوتين: ليس المتطرفون فقط وراء الهجمات الإرهابية في العالم بل ...
- ما هي القضايا القانونية التي يواجهها ترامب؟
- شاهد: طلاب في تورينو يطالبون بوقف التعاون بين الجامعات الإيط ...
- مصر - قطع التيار الكهربي بين تبرير الحكومة وغضب الشعب
- بينها ليوبارد وبرادلي.. معرض في موسكو لغنائم الجيش الروسي ( ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف مواقع وقاذفات صواريخ لـ-حزب الله- في ج ...
- ضابط روسي يؤكد زيادة وتيرة استخدام أوكرانيا للذخائر الكيميائ ...
- خبير عسكري يؤكد استخدام القوات الأوكرانية طائرات ورقية في مق ...
- -إحدى مدن حضارتنا العريقة-.. تغريدة أردوغان تشعل مواقع التوا ...
- صلاح السعدني عُمدة الدراما المصرية.. وترند الجنازات


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سعيد أراق - جينيالوجيا الإرهاب المعاصر