أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رولا حسينات - الفرار المحتوم















المزيد.....

الفرار المحتوم


رولا حسينات
(Rula Hessinat)


الحوار المتمدن-العدد: 7945 - 2024 / 4 / 12 - 00:15
المحور: الادب والفن
    


أمسكت بيده وهو يتصبب عرقا وقد تسمر أرضا كما تسمر أول مرة، عندما رأى علي المسيح يلقي بنفسه في البئر ليقول الفتيان..:" علي المسيح في السيح .."
أي فكر كان لديه؟؟
أكان يعتقد أنه المسيح ليقوم محييا الموتى؟؟
أعلمته هكذا جدته مريم العذراء؟؟ أم أنه يحمل فكرا إجراميا منذ نعومة أظفاره؟؟
يستطيع المرء أن يقتل فردا ولكنه لن يستطيع أن يوقف امتدادا فكريا متطرفا..ولو بقتل النفس!!
لم لم تفاجأ مثلنا لمّا شبكت يديها وراء ظهرها المحدودب، وزحفت إلى حيث وقف لتعود به من حيث انتهى، ومع القرية بأكملها لتغطي الحدث وحسب كالغرباء كأن رابطة الدم بينهما لم تكن يوما، ليس لتشارك في عملية الإنقاذ كما تفترض جميع السيناريوهات الإنسانية!!
لم لم تصرخ وحسب؟؟!
أعلمتها تلك الصورة المعلقة في بيتها الطيني الصغير أن تثق بأن المسيح سيحفظ لها عليا، ويخرجه حيا من السيح ؟؟؟
لم لم تتبتل؟؟؟ لم لم ترسم الرسم الثلاثي على صدرها كما تفعل عندما تباركه عند الباب ورفاقه ينتظرونه ليذهب للعب معهم؟؟
حتى بعد أن تبرع اثنين من رجال القرية أن يضحوا بأنفسهم ليبحثوا عن علي المسيح في السيح العميق، الذي لا يعرف له صدى حتى بعد رمي ألف حجر وحجر!!
أيُّ من دوائر الموت يا ترى قد أحاطت بعلي وسحبته إلى أعماقها؟؟
لم يجدوه...
بقوا طول النهار، والشمس قد تخضبت بالحناء لليلها، لترتمي بين ذراعيه تحت جنحه..
هاهو الغروب والرجال لم يعودوا بعد..
هو الليل وحده من يرخي سدله ولم يعثروا على رائحة الجيفة، لقد ذاب كفص ملح واختفى علي..
كل الرؤوس أنكست ونساء القرية جثون يطيبن خاطرها، ولكنها قالت حينها كلاما غريبا ما زال يرن في أذني حتى اليوم..:" اقفلوا السيح فعلي سيعود يوما ومعه الموتى.."
أيُّ قلب تملكته بين أضلعها لتبقى صامدة أمام أكبر فاجعة غيرت تاريخ القرية ، كأسطورة قوت الشيخ النجيب واستحال الركام العاقر سبيل النجاة...؟؟
أين الماء أين الماء؟؟ وأين المفر؟؟
تحت وقع المطر تعزف دموع أبيه سيمفونية الحزن، وبثينة تنوح بصمت تحت عين السراج الضريرة..
تنهب الدموع الطريق إلى الهروب..
" آن أوان أن يخرج الجن من أيمن يا بثينة .."
يرتجف قلبها وتشهق بصوت متهدج، تعابير وجهها مصكوكة، بها ألف خيط وأخدود..
كم كبرت في هذه اللحظة بثينة !
كما لو أنها خرجت من القبر لتتنفس رائحته ثانية..
" ما باليد حيلة لقد أصبحت ألقب بأبي الأبكم..، أعرف أنها ليست غلطتك ولا غلطة أيمن، ولكنها تلك القذيفة التي انفجرت قربنا..."
المشهد أمامهما وأيمن يتلصص الصورة..
" إني ألد يا جابر ساعدني.. أرجوك، الماء ينزل، والولد يكاد يسقط ...
إنه حلمنا يا جابر، لا تنسى .."
كانت السماء مشرقة حينها على قريتهم لم يكن قد تجذر الشيخ النجيب بعد، بل لم يكن موجودا على خريطتها حتى ذلك الحين..
"السيارة على أول الطريق.. سأحملك على البغل.. وتشقين الطريق سريعا إلى الطريق الاسفلتي..."
"إنه بعيد بعيد يا جابر، والماء ينقص عن الولد.."
الحمرة والصفرة تداخلت في ووجهها..
" كم أنا ضعيفة .."
"تحلي بالشجاعة يا بثينة، إنما هي بضع أمتار ونصل... إنها هناك.."
السيارة السوداء تلوح بالأفق لتحملهما إلى المدينة البعيدة، ودعوة البنات الثلاث: "أن يرزقن بأخ يمارسن وإياه طقوس الأخوة.."
لعبة صغيرة تدافع عنهن في زمن استولت الذكور على الشعائر الإنسانية..
ثلاث أحلام وثلاث أمنيات ..والسماء متلبدة بالغيم الأسود تسير بهن إلى أدراج من زجاج.
هزات متتابعة والجنين يتابع الركلات، يضغط على جدار الرحم، شهقات أنفاس متقطعة..
" لا عليك يا بثينة.. سنصل قريبا، لقد ولدت ثلاثا، فلما لا تصبري لتلدي الصبي..؟!"
" إنه الصبي يا جابر.. حمله ووضعه غير البنات، وجعه أعظم.."
تتقلب الطريق عن مواضعها..والقنابل تدك منعرجاتها، السائق يتلاعب مع عقارب الموت يتفادى القنابل ببراعة..
لكن الرهان ما بين الدقيقة والدقيقة أشبه بالمستحيل ..
وزمن المساومات لم يعد له ذكر..
طوت القنبلة الطريق أمامهم..اهتز الطريق الجبلي...وكاد أن ينفلق ولكنه دون موسى..
انهارت السماء كسفا لتفرش ما تبقى من فسحة للنجاة ولكنها مضت قبل ذلك..
فرص النجاة كهذه لن تتكرر ثانية..
ولا بد للفرحة أن تنسج خمارا من حزن..
" كسرت النافذة واستقرت على بطنك بثينة.. ألا تذكرين؟؟"
" لا أذكر ما حدث بعدها..."
" لقد ظننتكما أطلتما المكوث في السماء ..فلا عودة...
الصورة تتراءى أمامي وما تلبث أن تفر، من بين التفجيرات خرجنا في أخدود من سحب دخانية كان السائق يسير على ظهر كفه، وقد حفظ كل العثرات والصخرة أزلتها..نعم، لقد رأيتك تبحرين في الدماء.. الدماء تغطيك بثينة.. استيقظي استيقظي..
تفتحين عينيك الباسمتين..
مبروك إنه الصغير...
لقد نجوت بأعجوبة، لا مزيدا سوى التفجيرات وتحليق الطيران المعادي في سماءنا.. لكنه الصغير يا بثينة عندما يكبر ويبلغ الحلم..سيعشق صقورنا وقد حلقت والمقاتلات وما قصفت..ودمدمت الأرض حينذاك تحت العدو.. ودمر.. لقد انتصرنا.."
والصبي صامت فقط أنفاس متقطعة.. وعين النور تخفت والرحم يرجع طريدا بعد أن نبذ في العراء ذاك الصامت..
أقصى درجات التأهب.. الوجوم يملأ الوجوه والزجاج حجب أشعة النور الهاربة..والصبي يهرب ما عاد يستنطق الحياة ولكن بلا خداج هذا الصغير..اللون الأسود يضفي ظلاله على مشفى التوليد..
لا مشاعل ولا فوانيس واللهب المحترق يخفت شيئا فشيئا..والظلال المكتملة تنمو كشبح قد فر من زجاجة حبس فيها لألف عام..كم طوافا بنا أنت يا عمر..؟؟
تفيض حنانا وتغدق بمئات من المشاعر الجياشة والدموع نهرقها بالأطنان..وأي دمع يكفيك يا ولدي؟؟!
" الطفل آية بالجمال سيدة بثينة ولكنه الطفل الوحيد ..الذي خرج من بين الرفث صامتا..لايقدر على البكاء منصتا لغاية الحياة وماهية الخلق..إنه أبكم..العوض من الرب...."
"..لقد جاءنا الصغير أخيرا يا فتيات... هللن ورقصن وملأت الزغاريد القرية على استحياء.. أمي إنه يلتقم صدرك جيدا.. لديه وجه أبيض كالبدر.. شعره الفاحم..عيناه الدائريتان وفمه المرسوم كعنقود من العنب الأحمر .. مكتنز..ياه دعن نرقص ونقفز فوق البخور.. دعينا نكاغي له ...هيا تكلم أغ أغ .....لما لا يرد يا أمي.. أمي.. إنه إنه أبكم..."

الصغير كبر يا أمي...
وهاهو يبحث عن ملجأ ليتوارى فيه عن أعين الشرطة و الانتربول ..
أصبح فارا يبحث عنه بأعينهم وهو مذنب، وبعينيّ نفسه هو البريء...
أي معادلة هذه ؟؟؟
ها هو مكاننا المغارة التي لا يعرف عنها أحد سوانا هيلين..
أتراها تستطيع قلب الحقيقة أني لم أقتل يوما عصفورا..
ولكنك يا أيمن تناقض نفسك..
أظافرك تحمل أدلة إدانتك..
لقد ناديت باسم الحرية أمام من تدرس في قسم التاريخ...
لقد رفضت أن تستمع لأصابع الاتهام وأن تضرب بها عرض الحائط ألا تذكر...؟؟!
ما قدمت ذلك الأسبوع الذي هاجت عليك و ماجت إ دارة الجامعة، لقد اتهمت بالعداء بأنك من أنصار الأنظمة القديمة، بأنك معاد للإمبريالية العالمية..
وما تراك قلت؟؟!
فقط الحقيقة...
ألا تذكرها؟؟
".. عندما نرى القصف العشوائي لثكنات الإرهاب حول العالم لا نجدها قد قبلت القسمة على اثنين بل كان المقصوف واحدا ..
والنعوش أفردت للكثيرين.. ليس الإرهاب من كان مقصودا.
إنما إبادة عرقية أساسها الحرب العقائدية..
العقيدة التي ترشح بها سلوكيات وتنتهج بالفطرة نمطا فكريا يقره القلب..
هل تكون أبسط الحرب الفكرية أم حرب السلاح؟؟
وما هي الحرب ضد الإرهاب إلا حربا فاشلة، لأنها تواجه عدوا مجهولا أو افتراضيا لا تعرف عنه سوى حقائق تتلوها هي في كتابه..
فما الحل؟؟
الحرب تحتم المواجهة ووضوح الهدف، وعندما يكون الهدف واضحا تتم العمليات التعبوية بسهولة، ولكنها تحتاج لأيام معدودة من الكر والفر..
وقد بنيت حضارات وأفنيت بفن التكتيك العسكري..
ولكنك عندما تقاتل فكرا..فأنت أمام إرهاصات نفسية داخلية لا تظهر للعيان بالضرورة بل قد تصنف بخلية نائمة لفترات طويلة من الزمن..
فكيف نقاتل عدوا محل تفكيره لم يبارح جسده؟؟..
مهما قاوم مهما استبسل سيجثو أمامك..؟؟!!
الحرب بالقلب هي حرب الفكر..
عندما تستطيع أن تتلاعب بالمشاعر تجاه حقيقة ما يجب أن تفلها من نفسها..لتنهي وجودها بنفسها دون أي جهد منك..
هذه حقيقة محاربة الفكر الإسلامي..
حرب فكرية سيطرت فيها الشيوعية والماركسية واللينينية على معسكرات شرقية، كان من أولوياتها القضاء على الفكر الإسلامي..وجعله فكرا متزمتا متطرفا...
وعلى مر العصور كان الفكر الإسلامي هو الفكر المعادي للأفكار الشيوعية واللينينية والماركسية والتي لم يطل مقامها حتى اثبت بعد قرون من امتدادها بأنها الأكثر فشلا..
وقد تتابعت الحروب بين العلمانية فيما بعد والعقائدية ..
وما التطهير العرقي إلا خير وسيلة ليسيطر أي معسكر على الأرض...
لأن النهاية لا يكتبها إلا المنتصر..
الدين هو حاجة قبل أن يكون عقيدة ...
هو انتماء روحي لما يكفل الراحة النفسية وخلق التوازن بين جميع القوى الموجودة في الجسد.. إنها الجزء المفقود لحل الأحجية في اختلال التوازن العالمي..
ولكن فن المونتاج والدوبلاج كفيل في أن يغير الصورة الدينية لدى الشعوب..
و ليست بالأمر الصعب..وقد تقضي بالقضاء على آلاف من الضحايا ..في سبيل القضية..قضيتهم هم صناع القرار..
كلمة صغيرة تجزم بأن يتغير وجه التاريخ للبشرية على الإطلاق..
و أول خطوات التزعزع العقائدي هو قنص محلها.. القلب....
العنف العنف ولا مزيدا إلا منه..
عندما يطلب المريض شفاء أحد أعضاءه ، بعد إصابته بالغرغرينا يكون الترياق هو البتر لا محالة..
الترياق هو يعرفه ..
وهي حتمية السياسات العالمية..
ترياق للحياة يحمله إرهابي القلوب, ولكن منتحلا صورة المحرر..
و يأتي مطهرا حاملا ليس مبضعا وحسب بل كل الأسلحة المحرمة ..
ليبقى التمدد الإرهابي لكليهما وسيلة لإدامة منفعتهما معا..
محرر قذر..
وإرهابي عميل ..زنديق مرتزق..
والضحية هم الأبرياء..
واللعبة ستستمر ولن تنتهي أبدا لأنه ببساطة لا يوجد ..(GAME OVER).
ومن هم في التيه..
ومن يبتلعهم البحر..
ومن تقصمهم الأمواج..
هم من يعرفون جيدا تعريف اللعبة القذرة..ولكنهم لن يفلحوا بنشرها لأنهم قد قضوا ..
فالفرص لا تأتي مرتين.."
وتريد أن تبقى عاما في التاريخ..؟؟؟
فقد عرفت الحقيقة كاملة عارية تماما بكل ألوان الحياة فيها..
وقد تيقنت من مواعيدها الغرامية وطبعت صورة أرشيفية في رأسك..عن ممارستها الشهوانية وعادتها السرية..
ولكن بطعم آخر هو طعم ذو رائحة منفرة وطعم لاذع..طعم الموت..
و تقف عن الكلام عاجزا وقد جفت الدواة..
واستيقظت أيمن ..
وسالت الدماء من ضرع من تحب..
أمام كلب شريد يحمل ملايين الجينات لأمراض أكثر لعنة من الطاعون..
تقف الشموع في مواكبها اليوم تلو الآخر.. لتحقرن فيكم كل عزيز يا قرية البؤس..
فلا لجوء أمام الحرب..
ثمن الحروب ..لا يمكن أن تجمع أوراقه..
فهي أكثر هلامية ووهمية من أن تجمع.. أن تبول دما.. وتنزف دما.. ويكون قيأك دما..
فستكون وبالا على من يحيطون بك..
الصراع في أن تبقى ..
وتبقى صامتا..
أمام الصورة الكلاسي أعواد الثقاب التي جمعها الشيخ النجيب لم تكن لتوقف الشرارة الأولى..
فقد اندلعت النيران في أماكن كثيرة من القرية، في حقل الذرة خاصته، الذي وضع يده عليه ثمنا لفاتورة القوي على الضعيف..
لم تكن إذا سمية وحدها من كانت تتكبد عناء البحث عن عود ثقاب..
كان الحلم في القضاء على الظلم يراود كل من كان يرضع من ثدي امرأة حملت بالدماء..
الرغبة فيهم في أن ترتسم الحرية، ولو لمرة واحدة على جدار الخوف ..
وتقتلع شجرة الزقوم من فوق قريتهم..
ولتنير بصيرة الكون..
ولكن أين هو؟؟
فما من بصيص..
لا يرون النور، حقول تشتعل وحسب..
وأفئدة تقتلع من أجنتها هكذا بلا مبضع تتساقط..
وكأنها الفراش المبثوث شغوفا ليضيع بين ألسنة النيران..
الجن ينتشرون يوصدون الأبواب ويحرقون من كان وراءها ولو أنه كان في فناء نفسه يحدثها ب لو ويا ليت..
رائحة الشواء غطت السماء..
الغربان تنعق والحفر ترمى فيها الجثث..
ولا تنوح العذارى..
و لم يعد هناك من ينجب الأولاد..
وما عاد في القرية سوى النحسات...
موت لا يشبعه سوى الموت فيهم..
جزع الكبار ولكن هل يتهادنون مع لعبة الموت..؟؟
ثقلت فاتورة الحياة..
كية للإفناء باسم التطهير ..

لقد مشى الطريق ذاته لكنه بلا حلم، فقد ذابت جدائل الشمس في العصارى وسكن موج البحر بعد أن ملأ حفر الرصيف بقبلاته الباردة.
وأعين القوم من حوله تنهش لحمه فتحيله هيكلا من رماد.. قميئا..
كم هو مشمئز!!؟؟
اشمئزازه لنفسه...
الأسماك وأحشائها في كل مكان..و الرب ينظر إليه بعين الرحمة ..كالهارب إلى فجاج السلام فلمن يبكي ويدفع دموعه بلا ثمن؟؟
ولمن يرمي إنسان عينه والمقل؟؟
أيعلقه بسنارة لتتلقفه أسماك البحر؟؟
أم تلك السواطير التي بأيديهم تفعل ذلك بامتنان؟
فيضيع القاتل والمقتول بليلة واحدة..
حالكة باردة هي كأصقاع جسده الممتدة إلى ما وراء الحلم المشكوك بفتيل عتيق من فراغ الحقيقة..
يسرع الخطى وسحب الركام تعقد جبينها أمامه..
بضع فراسخ ويصبح صيدها..
القيح يخرج أخواته بدون صغيرات..
البقرة أمامه وأمه جالسة تحلبها وعيناها معلقة به..
ما لهم ينظرون إلي؟؟ همهماته تعج بها أنفاسه المضطربة..
"قلبي يسقط مني وينزلق إلى غير رجعة، أكبر أنا ويصغرون.."
ما الذي يمكن أن يحدث له؟؟
لقد رآه لأول مرة، العينان بالعينين، لأول مرة يعرف شكلهما مقدار الحزم بهما..ثقل الدنيا في محجرين قد تلبدت تجاعيد السنين حولهما..كم هرمت يا أبي..! كانت قبضة أبيه التي أشعرته أنه فوق كل شيء..لتتلاقى العينان، رجلا لرجل..
تلك العينان ذائبتان في بحر من مرمر.. كم كان جليد القسوة يغطيهما!!
لكن دمعة محبوسة وراء تلك الجبال كفيلة بأن تذيبه كله ..
لم ينطق بل جعله في قبضته يحمله كما يحمل دمية صغيرة..
كم كان طويلا مليئا بالعضلات المفتولة.. أسمر داكنا.. لكنه كان غير ذاك وهو يحضن أمه، كان وديعا والقمر ينير وجهيهما كما ملاكين نائمين في مخدع سماوي..
كان يسير ويسير..
كم كانت طويلة تلك الطريق، التي يسير بها، عرفها وقد جهلها بقلبه والحجر بعيد عنه..قد فارقه عنوة..أسقطه في يد ما فوق الرمال في ساحة بيتهم..
" وأنا قريب من أبي ..الحجر أحن عليّ منه، ليت أحدا لا يراه ..لا يتلقفه القدر ليبعده عني..
هنا وقفت وحيدا بين يديه.. وكأني لا أعرفه... غريبا وحيدا جاهلا بكل قوانين الأرض، مجرد أبكم أخرق لا يفهم سوى البكاء والصرخات.. العويل والعويل..
لأول مرة أراه عن قرب ..عيناه اللتان تميزان من الغيظ ..مبتهجتان بغلظة..الشيخ النجيب وقد فتر عن أسنان صفراء، لما لا أراه كما يرونه؟؟
لما أشعر برغبة في القيء كلما تذكرته؟؟ أراه ملكا للجن الكفرة.. أليس منهم من؟؟
كيف لي أن أعرف إن كانوا موجودين؟؟ فلا بد أن منهم من عرف الحق ومنهم من كفر..
أليس هذا المنطق في كل بداية ونهاية؟؟
لكن المنطق بات مغيبا هنا.."
رُمي بين يدي تلك الشمطاء واستحال في الصورة كومة من السواد، يدور كشظية هائمة لا تصيب أحدا سوى نفسها بالموت، مسلوب الإرادة...بين يدي الشيخ النجيب والعماليق وتلك الشمطاء (ذات النواح)..
لقد تخلى عنه كل البشر وأبوه كان أولهم..
وذات النواح تمسح بيديها القذرتين كل جسده، تضغط عليه كله تخدش حياءه وأبوه قد خلاه ..
أي صفقة هذه مع النجس؟؟
ليتها كانت كما تلك الأسطورة التي تحكيها له أخواته الثلاث، قبل أن ينام ليحلم بها ويركب مهجة الحي..
لأول مرة يتمنى أن يصرخ ويبتلعه التراب بلا رجعة، ثم يسقط آسفا في آخر المشوار بين يديها ..
لما لا تكون الحكايا أناشيد..؟؟
ترس في آذان الصغار، ليغيروا العالم ..
ليتها كما سمعها ويحفظها ويسردها على مسامعه الصامتة..
ولكنه الجنون هو ما يبقى ليحلل الأوهام إلى عواملها بعد أن يفنى الجسد..
من قدميه العاريتين.. للتو كان يرتديه حذائه.. صرخت أبي أبي لأول مرة نطقت الحروف، كما لو كنت حينها قد خرجت لأتنفس النور من الظلمات الثلاث..
لأقول للعالم أني حر من غير قيد للجان ليهزمني..
إني يا قومي قد صبئت بما تعبدون أنتم وألهتكم الأولون...
لكنه هو من كبلني بتصديقي لرواية الأبوة...
حملني إليهم دون أي مقاومة..ليوثقني العماليق... ...وأبي لا يسمعني ..



#رولا_حسينات (هاشتاغ)       Rula_Hessinat#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المألوف المجتمعي
- السيد علم الدين
- المألوف المجتمعي بين التغيير والتحول
- فأر أسود
- الشبيه
- Children of Gaza are dolls, and perhaps its inhabitants are ...
- It is not as any other stories
- قراءة نقدية في المجموعة القصصية اعترافات ثملة بقلم الناقدة و ...
- رحلة في تابوت
- رشفات الحياة
- رواية شيفرة الإنتقام
- الرسالة الأولى
- الرسالة الخامسة
- منعرجات النسيان
- الرسالة السادسة
- الرسالة السابعة
- الرسالة الثامنة
- بانتظار القيامة
- يوميات عابرة سبيل/وها قد غادر آب
- يوميات عابرة سبيل/ اليوم الثامن


المزيد.....




- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رولا حسينات - الفرار المحتوم