فريدريك انجلز
الحوار المتمدن-العدد: 6487 - 2020 / 2 / 9 - 22:04
المحور:
الارشيف الماركسي
شن مؤخرا عدد من الاشتراكيين حربا منظمة ضد ما يسمونه مبدأ السلطة. يكفي أن تقول لهم أن هذا أو ذاك الفعل سلطوي ليدينوه. لقد تم باستعجال الإفراط في صيغة هذا الإجراء لدرجة أنه أصبح من الضروري النظر للمسألة عن قرب.
تعني السلطة, بالمعنى المستعمل هنا, فرض مشيئة طرف على مشيئة طرف لآخر حيث لا تقوم السلطة إلا على التبعية. و الآن, بما أن هذه الكلمات تبدو سيئة, و العلاقة التي تمثلها بغيضة للطرف الخاضع, فالسؤال هو كيفية التثبت من أن هناك أي طريقة لتجاوزها, ألا يمكننا (بناءا على الحالة الراهنة لمجتمعنا) خلق جهاز مجتمع جديد, أين لا تحصل فيه هذه السلطة على مجال آخر و تضطر بالتالي للزوال.
نجد عند فحص الحالات الاقتصادية و الصناعية و الفلاحية التي تشكل أساس المجتمع البرجوازي الحالي أنها تتجه أكثر فأكثر لاستبدال الأعمال المعزولة بأعمال تتطلب اشتراك الأفراد. فقد تجاوزت الصناعة الحديثة, بمصانعها و طواحنها العظيمة أين يراقب مئات من العمال آلات بخارية معقدة, ورشات المنتجين المنفصلين (المعزولين). كما تم تعويض مجرورات و عربات الطرق المعبدة بقطارات السكك الحديدية, تماما مثلما تم تعويض السفن الشراعية الصغيرة بأخرى بخارية. و حتى الفلاحة تتجه هي الأخرى نحو السقوط بين براثن الآلة البخارية التي تركز ببطء لكن بثبات مكان صغار الملاك كبار الرأسماليين الذين بمساعدة العمال المأجورين يحصدون أراضي بالغة الامتداد.
في كل مكان, تزيح الأعمال المشتركة (combined action) – تعقيدات مراحل معينة تخضع الواحدة منها للأخرى و تتبعها – الأعمال التي ينفذها الأفراد. لكن إذا ما أشار أي شخص إلى الأعمال المشتركة فلا بد أن يتحدث أيضا عن التنظيم (organisation). فالسؤال الآن هو هل من الممكن أن يوجد تنظيم بدون سلطة.
لنفترض أنه تم خلال ثورة اجتماعية ما خلع الرأسماليين. من سيتحكم الآن في السلطة على الإنتاج و حركة الثروة (circulation of wealth). لنفترض – إذا ما تبنينا نظرة اللاسلطويين (anti-authoritarians) كاملة – أن الأرض و معدات العمل أصبحت الملكية المشتركة للعمال الذين يستعملونها, هل ستزول السلطة أم أنها فقط ستغير من شكلها؟ لنرى ذلك.
لنأخذ على سبيل المثال طاحونة غزل القطن. يجب على القطن أن يمر بست مراحل متتالية على الأقل قبل أن يتحول إلى حالة الخيط. و تقع هذه العمليات في أغلبها في غرف مختلفة. إلى جانب ذلك فمراقبة الآلات تتطلب مهندسا يسهر على المحرك البخاري و ميكانيكي يقوم بالإصلاحات المطلوبة و عمال آخرون يتمثل عملهم في نقل المنتوج من غرفة لأخرى و هكذا دواليك. يجبر كل هؤلاء العمال من رجال ونساء و أطفال على أن يبدؤوا و أن ينهوا عملهم في ساعات تحددها سلطة البخار التي لا تراعي أي استقلالية للأفراد. فيتوجب بالتالي على العمال أولا الاتفاق حول ساعات العمل و الالتزام بها حال تحديدها من طرف الجميع بلا استثناء. بعد ذلك تـُطرح أسئلة محدد في كل غرفة و في كل لحظة بخصوص أسلوب الإنتاج و توزيع المعدات الخ. و هذا يتوجب حلا من خلال قرار من طرف مندوب يوضع على رأس كل شعبة عمل أو إن كان ذلك بالإمكان عبر انتخاب الأغلبية. و بالتالي فعلى مشيئة الفرد الواحد أن تخضع دائما. هذا يعني أنه تم حل هذه المسائل بطريقة سلطوية. إن آلات المصنع الضخم الأوتوماتيكية أصبحت أكثر تسلطا مما كان عليه الرأسماليين الصغار الذين يشغلون العمال. على الأقل من ناحية ساعات العمل المكتوبة على بوابات هذه المصانع Lasciate ogni autonomia, voi che entrate (تخلى يا من تدخل هنا عن كل استقلالية!)
إذا ما كان الإنسان قد تمكن بفضل معارفه و عبقريته الخلاقة إلى إخضاع قوى الطبيعة فهذه الأخيرة قد تمكنت من الثأر لنفسها منه بإخضاعه في حدود استغلاله لها لاستبداد حقيقي مستقل عن كل تنظيم اجتماعي. إن الرغبة في إلغاء السلطة في الصناعات الثقيلة مساو للرغبة في إلغاء الصناعة نفسها: تدمير المنسج الآلي (power loom) للعودة إلى العجلة الغازلة (spinning wheel).
لنأخذ مثالا آخر: السكة الحديدية. فهنا أيضا من الضروري للغاية تشارك عدد لانهائي من الأفراد. و يجب تنفيذ الأعمال المشتركة هذه خلال ساعات محددة بدقة كي لا تقع أي حوادث. هنا أيضا يكون أول شرط للعمل مشيئة (قوة) مسيطرة و التي تحل كل المشاكل الناتجة في العمل. و سوى مثل هذه المشيئة مندوب واحد أو لجنة مكلفة بتنفيذ مشيئة الأغلبية المعنية بالمسألة فهناك في كلتا الحالتين سلطة صريحة. إلى جانب ذلك ما الذي يمكن أن يقع لأول قطار منطلق إذا ما تم إلغاء سلطة عمال السكة الحديدية على المسافرين؟
لكن ضرورة السلطة و السلطة الآمرة لا يمكن أن تبرز أكثر مثل سفينة في عرض البحر. هناك, عند الخطر, تتوقف حياة الجميع على طاعة الكل الفورية و المطلقة لمشيئة الفرد الواحد.
عندما طرحت مثل هذه الحجج على أكثر اللاسلطويين تزمتا لم يكن بإمكانهم أن يقدموا أكثر من هذا كجواب: نعم, ذلك صحيح لكن هناك هي ليست حالة سلطة نتباحثها مع مؤتمرينا بل هي حالة لجنة مؤتمنة! يعتقد هؤلاء السادة أنهم باستبدالهم أسماء الأشياء قد استبدلوا الأشياء ذاتها. هكذا يسخر هؤلاء المفكرون العباقرة من العالم كله.
إذن لقد استعرضنا من جهة سلطة معينة بغض النظر عن تفويضيتها و من جهة أخرى خضوع معين. هذان أمران مفروضان علينا بقطع النظر عن كل تنظيم إجتماعي. و هما مفروضان علينا مع جملة الأوضاع المادية التي ننتج و نحرك عملية الإنتاج داخلها.
و لقد رأينا إلى جانب ذلك أن الحالات المادية للإنتاج و الدورة الإنتاجية تتطوران بصفة حتمية مع تطور الصناعات الثقيلة و الزراعات واسعة النطاق و تنزعان تدريجيا إلى توسيع مجال هذه السلطة. من هنا فمن السخيف التحدث عن مبدأ السلطة على أنه شر مطلق و على مبدأ الإستقلالية الفردية على أنه خير مطلق. السلطة و الإستقلالية شيئان نسبيان حيث يختلف مجالهما باختلاف مراحل تطور المجتمع. إذا ما اكتفى الاستقلالييون (autonomists) بالقول أن التنظيم الاجتماعي في المستقبل سيحد السلطة فقط عند الحدود التي تكون فيها ظروف الإنتاج حتمية فهنا يمكننا أن نتفق لكنهم تعاموا عن الحقائق التي تجعل الأشياء ضرورية و حاربوا العالم بكل حماس.
لماذا لا يكتفي اللاسلطوييون بالتنديد بالسلطة السياسية: الدولة؟ يتفق كل الاشتراكيون على أن الدولة السياسية و معها السلطة السياسية ستختفيان نتيجة الثورة الاجتماعية القادمة. هذا يعني أن تفقد الوظائف العامة طابعها السياسي و تتحول إلى الوظائف الإدارية البسيطة المتمثلة في مراقبة المصالح الحقيقية للمجتمع. لكن اللاسلطويين يطالبون بإلغاء الدولة السياسية في ضربة خاطفة قبل حتى أن يتم تدمير الأوضاع الاجتماعية التي أوجدتها.
إنهم يطالبون بأن يكون إلغاء السلطة أول عمل للثورة الاجتماعية. هل يا ترى شهد هؤلاء السادة أي ثورة؟ الثورة هي بالتأكيد أكثر الأمور سلطوية؛ إنها الفعل الذي يفرض من خلاله قسم من الشعب مشيئته على القسم الآخر بواسطة البنادق و العصي و المدافع أي بوسائل سلطوية. و إذا أراد الطرف المنتصر أن لا يذهب قتاله سدى فعليه أن يحافظ على حكمه بأساليب ترهيبية بأسلحته تردع الرجعيين. أكانت كمونة باريس لتبقى ليوم واحد لو لم يستعمل الشعب المسلح هذه السلطة ضد البرجوازية؟ ألا يجب علينا على العكس أن نلومهم على عدم استعمالها بأكثر حرية؟
إذن فهناك أمران لا ثالث لهما: إما أن اللاسلطويين يتحدثون عن أشياء يجهلونها. في هذه الحالة فهم لا يضيفون شيئا إلا البلبلة. أو أنهم يعرفون. و في هذه الحالة فهم يخونون حركة البروليتاريا. في كلتا الحالتين فهم يستحقون ردة الفعل المضادة.
--------------------------------------------------------------------------------
كتبها فريدريك انجلز سنة 1872 في إيطاليا.
نشرت سنة 1874 بإيطليا في Almanacco Repubblicano
ترجمة و إعداد رقمي: وجدي حمدي (جويلية 2004)
#فريدريك_انجلز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟