أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله أيت بولمان - الخيط والإبرة ومواجع أخرى..















المزيد.....

الخيط والإبرة ومواجع أخرى..


عبد الله أيت بولمان

الحوار المتمدن-العدد: 1750 - 2006 / 11 / 30 - 07:23
المحور: الادب والفن
    


جلستْ تستعد لأمسية من أمسياتها الحالمة.. وبسهوها المعهود مسحت صفحة المرآة لترسم فوقها تفاصيل عرسها الموعود. تمنت لو تستطيع تحنيط المشاهد التي تعبر ذهنها.. لو تستطيع تخزينها في زاوية منسية من ذاكرةٍ تحتمي بها في حالة الخذلان.
كان صوت والدها يصل إلى مسامعها مبحوحا أجش فيخدش كل السيناريوهات التي ترسمها لمستقبل مجهول. لكنها واثقة من أنه وحده في غرفته! فمن يكلم يا ترى؟ ولمن يشرح أن لون الخيط لا يهمّ حين لا يُـراد به سوى رتق ما مزقته الأيام من أقمشة النضال؟
أطلت عليه فإذا هو يحاول نظم الخيط في الإبرة.. تتبعت حركاته دون أن يشعر بها وقسمات وجهها تعكس كل صغيرة: يجمع بلعابه ألياف الخيط، فتزمّ شفتيها المكتنـزتين، يخطئ السّم فتميل برأسها كما لتوجهه بهذه الحركة.. يغضّن من جديد، يركز، يوجه الخيط في اتجاه الخرم, لكن هيهات! تغضب طورا، وطورا تعلو محياها ابتسامة تغار فيها الشفقة من الاعتزاز.
حين همت بالدخول، بدت لها تنورتها شفافة قصيرة، وأحست بأحمر الشفاه براقا يهفو إلى قبلة تذكي مشاعرها التي تخبو كلما يـمَّمتْ نحو هذا الحي البئيس. اِحتكمت إلى المرآة، وبدلا من أن ترى صورتها، تمثلتْ والدَها وهو يصيح معاتبا: أي دميةٍ هاته التي صرتِها بتسريحاتك المترددة، ومساحيقك الشبقة؟ ثم أنى لك هذان القرطان الذهبيان، وهذه العدسات الثمينة ونحن نقاوم عضّة الجوع ولسعة البرد القارس؟ لا بد أن غيرك من دفع الثمن، أم أنك لا تستطيعين أن تعصي للخِلّ أمرا وهو الذي تعهّد أن يعول أخواتك لو قبلتِ..؟
ـ «كفى! » صاحت، ثم هوت بقبضتها الصغيرة حتى تصدعت المرآة، وبدا وجهها فيها مشوها. نعم وُعِدتُ بذلك، وأنا واثقة مما يقول..
كذا فاجأت نفسها تصرخ في وجه الفراغ, لكنها استطاعت تبديد الحيرة التي كانت تنتابها منذ قليل.
ـ معذرة أبي، قالت وهي تدفع باب الغرفة، لا يمكن أن أتمالك و أنا أراك على هذه الحال.
كان قد شرع في رتق قميص تساقطت أزراره، وتآكلت أكمامه، ظل يحافظ عليه كأغلى هدية في حياته. كانت تعرف أنه لـ (فـؤادٍ) رفيقِ زنزانته الوحيد، قبل أن تغتاله أياد آثمة في إحدى حفلات التعذيب, لكن ذلك لم يشفع له في عينها الحفاظ على مثل هذا السميل، وهو الذي توصل قبل أيام ببضعة ملايين لا زالت ترجئ استفساره عما ينوي أن يفعله بها.
حين أشار أن اجلسي، أدركتْ أن كيله قد طفح، وأن لديه من الأخبار ما يشفي الغليل.
ـ أنا يا عزيزتي بحاجة إلى تكوينٍ جديد كي أساير هؤلاء الأنذال. أحن كثيرا إلى مدرستي، ولو أن الالتحاق بها في مثل سني صعب المنال.
ـ لا تقل إنك راجع إلى ..
ـ بل هو كذلك. لكني لن أعود إلى زنزانتي ويداي إلى قفاي. لا بد من سبب وجيه، وهذا ما دعوتكِ من أجله، لكن قبل ذلك ساعديني أرجوك. أمسكي بهذا الكُمّ وانتبهي، فليس أعدى للعين من هذه. وفي كتاب (العِـبر) لعمرو بن يحيى الخياط أنه « ما من إبرة، إلا وتمقت العين مقت الزوجة للضّرة، سيما الحوراءَ الواسعة، ما لم تكن لصاحبها نافعة. » ولا أرى الإبرة، يا بنيتي، إلا مُحقَّـة في ما هي فيه، وإلاّ فما الفرق ما بين اللام والراء في لفظ الـ"حَـوَر"؟ « وإنها - يضيف عمرو - لَـتُولْوِلُ في يد حاملها إلى أن تصيبه أو تنكسر، فيكون ذلك نذيرَ شؤمٍ عليه وعلى عياله، وقانا الله شرها وألهمنا حسن مآله.» ولست أخفيك، عزيزتي، أني لا آمَـن على عينيك الحوراوين فانتبهي.
****
عيناها تزدادان الآن إشعاعا. لونهما يبدو مغايرا. لم يعهدهما كذلك من قبل. ومن حقه عليها أن يعرف سر هذا البريق. هَمَّ باستفسارها، وإذ خطرتْ بباله التحولات التي تعرفها البنات في مثل هذه السن انكسف، ثم استأنف كلامه:
ـ كنت أقول بأنني سأعود إلى المعتقل؛ وأنا اليوم مقبل على عمل آمل أن أفرغ منه قبل أن يستضيفني الزبانية الجدد، ليكون جوابا على السؤال الذي تُرجئين. سأعود إلى مدرستي, نعم. لكن لا " لأن سيفا كان لك، لا يشبه سيفا أثكلك, أو لأنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك." معاذ دُنقـلٍ. معاذ الحب الذي أكنه لك، ما في القلب ذرة ثأر أو ضنك. كل ما هنالك أني قرأت ـ ولست أعرف إن كان عليّ أن ألوم أو أشكر من كتب ـ أن صيغة "المفاعلة" تدل على المشاركة، فما لم نحضر معا فلا حقيقة ولا هم ينصفون .. لا بد للذئب أن يخرج من دمي. لا بد أن نسير " نحو مائدة التفاوض واضحين كما الحقيقة: قاتل يدلي" بشهادة، وقتلى يرفعون شواهدهم فوق الرؤوس:
هنا دفن التراب ترابه
هنا توحدت البلاد مع العباد
هنا كل ذرات التراب تسبح باسمك يا (فـؤاد)..
آه بنيتي، لو رأيتِ (فـؤاداً) وهو يتلو وصيته الأخيرة إذن لـعرفتِ فيه ذلك الرجل الذي..
ثم راح يحكي لها ويداه ترتعدان. الخوف آخر ما يراوده لكنه كان يرتعد.. لم يترك موضوعا إلا وخاض فيه. حكى، من ضمن ما حكى، عن الإخوة الأعداء، عن خطيئتنا الأولى، وعن لعنتها التي تلاحقنا في كل زمان، ثم حكى عن الحزن الذي ينتاب جرّاها برتقالنا وفواكهنا ..
كانت الكلمات تنساب في تناغم كبير مع الإبرة التي بدت كما لو أنها تعرف طريقها غير آبهة بمنـعرجات الثوب ولا بثناياه، أو كما لو كانت تعرف صاحبه وتريد بصنيعها أن ترد بعض جميله. وحين جف ريقه، تذكر البحيرة التي كانت على مشارف قريته الوديعة، قبل أن يبلطها الإسمنت المسلح. لم يكن إسمنتا عاديا للأسف، بل كان من فئة الـ 45 لمن يعرفون صلابة هذا الرقم! صفع وجهه من ماء البحيرة صفعات متتالية. رنا إلى صفحة الماء، فانعكست عليها صورة لم يتبين معالمها, لكنها لم تكن صورته! اِلتفت فلم يجد أحدا، ثم عاد يتأملها وقد هدأت تموجات الماء، فإذا هي. كبرى بناته تغرق وتستنجد! مدّ إليها يدا راجفة يبغي إنقاذها، فكانت الفاجعة: كان في حضرتها، والإبرة في عينها! نعم كانت إبرته التي طالما حذرها منها قد انغرزت في بؤبؤها.
قال الراوي : ولما أفاقتْ من إغماءتها، كان عمرو بن يحيى منتصبا. قال معاتبا: أما قرأتِ كتابي؟ ألم أقل إن خلف كل إبرة عبرة؟ لكن لا عليك بنيتي، فتلك طريقته المثلى ليعود إليك، وإلا فقد كان على وشك الخبل. أما رأيتِ أنها لو انكسرت لكان الوضع أسوأ؟ أو ليس هذا أخف الضررين؟ لك أن تجيبي، وبوسعك أن تتريثي حالما تستردين البصر، وإن كانت، في الواقع، لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور..لا تؤاخذيه بنيتي، فلو كان ينوي إيذاءك لما هرع إلى الخارج على أزيز محرك توقف بالباب، ليرى سيارة يعلوها مصباح يخبو ويشتعل. لم تكن سيارة إسعاف كما ظنها. كانت سيارة تابعة لأمن الدولة!
ـ والتهمة ؟
ـ الإخلال بالأمن و إتلاف ممتلكات الغير.
ـ أي إخلال وأي غير وأنا لم أبرح مكاني منذ البارحة ؟
ـ لا داعي للإنكار، فالقرطان في أذنيها ليسا مجرد حلي. إنهما سمّاعتان، أما العين التي فَقَأْتَ فهي عيننا عليك قبل أن تكون عين ابنتك! أنتَ فعلا بحاجة إلى تكوين كي تساير ألاعيبنا، نحن الزبانيةَ الجدد، فاركبْ معنا.
***
.. بعد أسبوع جاءها رسول. توقعتْ منه كلمة أو رسالة من والدها، لكن شيئا من ذلك لم يكن. تسمّـر أمامها برهة. رنا إلى عينها التي كانت وراء الضماد. أخرج من كيسه قميصا عرفـتْـه للتوّ. ألقاه على وجهها ثم انصرف



#عبد_الله_أيت_بولمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله أيت بولمان - الخيط والإبرة ومواجع أخرى..