أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدري حسون فريد - وحدة الفعل الدرامي بين الشبلي والعبودي















المزيد.....


وحدة الفعل الدرامي بين الشبلي والعبودي


بدري حسون فريد

الحوار المتمدن-العدد: 7865 - 2024 / 1 / 23 - 23:33
المحور: الادب والفن
    


بعد ان مضى ربع قرن من الزمان ، استذكار في وجداني ، كيف درسنا فن التمثيل على يد الفنان الكبير الراحل (حقي الشبلي) ، والفنان الراحل الاستاذ (جاسم العبودي) . والحقيقة ان لكل من الرائدين طريقته الخاصة في تدريس التمثيل ، وكذلك لكل منهما طريقته الخاصة في معالجة الممثل عندما كانا يقومان بإخراج مسرحية في معهد الفنون الجميلة .
لقد دخلت معهد الفنون الجميلة – فرع التمثيل والاخراج عام 1950م ، ولم يكن آنذاك الاستاذ (حقي الشبلي) موجوداً في المعهد ، وبعد عام جاءنا ليقوم بالتدريس ، وبقينا معه حتى بعد تخرجنا عام 1955م . اما الاستاذ (جاسم العبودي) فقد وصل الى العراق بعد اتمام دراسته في أمريكا عام 1953م ، ودرسنا على يديه فن التمثيل والاخراج مدة سنتين كاملتين ، وتعلمنا الشيء الكثير منه . خاصة وانه جاء متشوقاً للتدريس ، حاملاً معه منهجاً جديداً في فن التمثيل ، الا وهو (منهج ستانسلافسكي) . ويدفعني اليوم ان اكتب سطوري هذه لكي اسجّل بدقة طريقة كل واحد منهما ، بروح موضوعية علمية لكي اقدم شيئاً بسيطاً عن هذين الرجلين وفاء من تلميذ مخلص الى استاذين قد رحلا الى العالم الاخر... ولكي اجعل القارئ الكريم او الدارس المختص ان يكوّن صورة دقيقة عن طريقة كل منهما ، ينبغي ان نمر بذكريات وحيثيات الامس البعيد ، ايام كنا ندرس اصول (فن التمثيل) على يد الفنان الراحل (حقي الشبلي) اولاً ... ومن ثم نعرج على طريقة الاستاذ (جاسم العبودي) في التدريس انسجاماً مع الفترة الزمنية التي مررنا بها ونحن طلبة ، فماذا كان يعمل الاستاذ (حقي الشبلي) ؟ وكيف كان يقوم بالتدريس للمادة النظرية والمادة العملية .
لقد كان المرحوم (حقي الشبلي) يدرّس المادة النظرية في مواد ، منها : تاريخ المسرح ، وعلم الهيئة ، والالقاء ، والتمثيل والاخراج .. هذه المواد كان قد ترجمها عن الفرنسية ، حيث انني قد زرته قبل ان ادخل المعهد بسنوات وكان جالساً في غرفته في المعهد الذي كان في البناية المقابلة لسينما النصر ، وكان الفصل صيفاً ، وبعد ان استقبلني ورحب بي قال انه كان منشغلاً بترجمة مواد فنية عن الفرنسية لغرض تدريسها لطلابه في بداية السنة الجديدة ، وقد سمعت من بعض الخريجين من المعهد الذين قد انشقوا عليه لأسباب لا مجال لذكرها الان ، ان كثيراً من تلك المواد كانت منشورة في مجلة الصباح المصرية ، وانه قد استعان ايضاً بالمحاضرات التي كان يرسلها له زميله الفنان الكبير الراحل (زكي طليمات) الذي درس الفن هو الاخر في باريس ... صحيح ان تلك المواد مقارنة بما متوفر الان تبدو متواضعة . ولكنها بالتأكيد كانت مفيدة وجيدة لطلبة هواة جاءوا ليدرسوا فنون المسرح بعد ان تخرجوا من المتوسطة . حيث الدراسة في المعهد خمس سنوات . اما في السنة التي دخلنا في المعهد فكان يُشترط ان يكون الطالب من خريجي الاعدادية ، كما ان اغلب الذين دخلوا المعهد عام 1950-1951م كان بعضهم خريج كلية الحقوق والتجارة والاعدادية . وكانت الطريقة المتبعة في زمن الاستاذ الشبلي في القبول ولعدة سنوات . هو قبول دورة واحدة او دورتين ، ويستمر مع هذه الدورة او الدورتين حتى يكملوا الدراسة ويتخرجوا ، ثم يقبل دورة جديدة .. وهذه الطريقة كانت تعطي الفرصة الجيدة له ولطلابه من ان يكون التركيز عليهم كبيراً من حيث التدريس والدوام والتمرين اليومي والوقوف على خشبة المسرح في التطبيقات اليومية ، وفي تقديم العرض المسرحي السنوي في نهاية كل عام .
اما الجانب العملي – وهو الذي اود ان القي الضوء عليه – وكأنني استعرض في ذاكرتي انشطة ايام كنت طالباً نشيطاً ، كيف كان يقوم الاستاذ الشبلي بتدريسنا الجانب العملي ، وما الذي كان يفعل ؟
كان يوزع مشاهد من المسرحيات العالمية والعربية على الطلبة وعادة يكون المشهد من شخصيتين او اكثر ، ولا بأس ان يأخذ عدد من الطلبة نفس المشهد ، خلاصة طلاب الدورة التي تأتي بعد الدورة التي سبقتهم ، وعلى الطلبة ان يحفظوا ادوارهم بسرعة ، ويحسنوا تشكيلها من حيث قواعد اللغة العربية التي كان يحسن هو ضبطها ، لان تلك المشاهد كانت اجزاء من مسرحيات عالمية وعربية معروفة كان الشبلي قد قام بتمثيلها او بالمشاركة في تلك المسرحيات التي عمل فيها في مصر على يد الفنان الراحل (عزيز عيد) ، حيث انه قد امضى فترة من الزمن في مصر وتتلمذ على يد الفنان القدير (عزيز عيد) ذلك الفنان العبقري الزاهد المُتصدف لفته ، كان ذلك قبل سفره الى باريس .
والان ... كيف كان يعالج الطالب (الممثل)؟ من دون شكك كنا نطلّع على المسرحية اولاً ، حيث ان المكتبة التي كانت في المعهد آنذاك ، تتوفر فيها مجموعة نادرة من المسرحيات العالمية المترجمة والعربية ، نثراً وشعراً ، وكلها كانت باللغة العربية الفصيحة ، وكان لا يسمح اطلاقاً بتمثيل مسرحيات شعبية ، لأنه كان يعتقد ان اللغة العربية الفصيحة هي التي يجب ان يتدرب عليها الطالب حتى يتمكن من فنية الالقاء والتمثيل ، ولكنه كان يسمح بين حين وآخر لبعض طلبته ان يقدموا مشاهد ابتكارية باللهجة الشعبية المحلية للتلطيف وتخفيف الجو بعد ان نكمل التطبيقات العملية مدة اربع ساعات يومياً .
كان استاذنا يعطي الملاحظات في الصوت والالقاء التقطيع والتنغيم والشدّة في الصوت ، وكان يطلب منا ان نسير على ما يريده هو بالضبط .. اي اننا نقوم بتقليده في كل شيء ... في طريقة القاءه ، وفي استخدام الطبقة الصوتية التي يريدها هو وكان حازماً ايضاً في تقليده في الحركة والايماءة وطريقة المشي والجلوس والوقوف . والاشارة واستعمال الاثاث والمعدات المسرحية المتوفرة على تلك الخشبة الصغيرة في قاعة التمارين .
كان يطلب من كل طالب ان يكون فعله – وغالباً المطلوب هو الفعل الخارجي – ان يكون متقناً وثابتاً وجميلاً ، كانت للأستاذ الشبلي جمالياته وانسياباته في الصوت والحركة والوقوف والجلوس وحتى تعبير اصابع اليدين الجميلة الساحرة – احياناً ، وبدون وعي منه كان يصعد خشبة المسرح ، ويبدأ بتمثيل الشخصية ويتوقع شعوراً وحساً وعاطفة وفناً كان يسحرنا بأدائه . والذين لم يشاهدوا الفنان الراحل حقي الشبلي وهو يمثل . قد فاتهم ذلك الالقاء الكلاسيكي المتقن الذي استمتعنا به نحن طلبته . ولكننا وبحّسنا الفني المبكر كنا نشعر انه كان يقع في فخ الرتابة عندما كان يلقي مقاطع تمثيلية شعرية من مسرحية (كليوباترا) و(قيس وليلى) ، حيث ان الشعر العمودي ان لم يحسن تقطيعه يوقع الممثل او الملقي في الرتابة . كان هذا احساسنا المبكر ان في طريقة القاء الشعر لأستاذنا حقي الشبلي فيه نوع من الرتابة ، ولم نعرف آنذاك كيف يمكن معالجة تلك الرتابة ... واغلب الظن ان الاستاذ الشبلي نفسه كان هو قد تأثر بالطريقة التي كان يقوم الممثلون المصريون الاوائل بإنشاء الشعر التمثيلي .
المهم ان الرجل كان مخلصاً وحريصاً في ان يعلم طلابه الطريقة التي يعتقد انها صحيحة وعلمية .. كما ان حرصه الكبير كان في سعيه الذي لم ينقطع . حيث كان يبذل الساعات الطوال يومياً مع جميع الطلبة ويطلب منهم ان يصعدوا خشبة المسرح ويقدموا مشاهدهم التمثيلية ويعطيهم الملاحظات والارشادات الواحدة بعد الاخرى دون ملل او كلل ، واعتقد انه كان يجد في عمله التدريسي نوعاً من التنفيس عن ارهاصاته التمثيلية ، حيث انه لم يصعد خشبة المسرح كممثل بعد رجوعه من دراسته الفنية في باريس .
لم نسمع منه اسماء ممثلين او مخرجين عالميين الا ما ندر ، ولم يشرح طريقة اي واحد منهم ، ولكنه كان يذكر باعتزاز اسماء اساتذته : عزيز عيد ولويس جوفيه ودوني دونيس ، ويذكر باعتزاز ايضا اسماء بعض زملائه من الممثلين المصريين امثال : جورج ابيض وحسين رياض واحمد علام وبشارة واكيم وعباس فارس ... الخ ، لم نسمع منه آنذاك اسم (ستانسلافسكي) الا في مادة تاريخ المسرح عندما كان يملي علينا تاريخ المسرح في روسيا ، ولم يبين لنا منهجه ، او اي شيء اخر فيما يخص التمثيل والاخراج .
كان يقدم لنا الملاحظات والتوجيهات الجاهزة دون ان نتكلف نحن بالبحث والتقصي عن الشخصية وابعادها ... لماذا ؟ لان كل شيء كان يقدم لنا جاهزاً ... وانه كان يطلب من الممثل (الطالب) ان يكون كما يريده هو من حيث الهيئة والمشاعر والتدّرج الشعوري والوقوف والجلوس والانعطاف الصوتي ... كل شيء جاهز وحاضر امام الطالب ، وما على الطالب الا ان يقلده وان يسير على خطته ، ويبذل الجهد الجهيد في ان ينال رضى استاذه ، واذا عجز الطالب او لم يستطيع ان يطبق تعليماته بحذافيرها ، فانه سوف لا ييأس منه ، وانما يحاول معه اسبوعاً وشهراً بعد شهر واحياناً سنة بعد سنة كما حدث لبعض الزملاء في دورتنا تلك ، حتى يأخذ الطالب قالب الدور او الشخصية . وهذه الطريقة جعلت من طلبته السابقين واللاحقين نسخاً منه في الالقاء والتمثيل . والبعض قد تأثر تأثراً شديداً به وراح يقلده في حياته الخاصة في المشي والحركة والصوت والملبس .
وللإنصاف لابد ان نقول الان ... هل ان تلك الطريقة لم تسعف المسرح العراقي بممثلين بارعين في فن التمثيل ؟ الجواب على هذا التساؤل : هو ان خيرة ممثلي المسرح العراقي منذ الاربعينات وحتى اليوم اغلبهم من تلامذة الفنان الراحل الاستاذ حقي الشبلي ... كيف اذن يمكن ان تكون تلك طريقته التي اشرنا اليها ومنها يتخرج ممثلون بارعون ؟
الجواب : انه كان في طريقه جانب من الصحة ، حيث كان يؤكد على الفعل الخارجي ، ومن خلال التمرين اليومي المستمر .. والملاحظة الحريصة واستنفار طاقات الممثل من الفعل الخارجي كان يصل الطالب دون ان يدري الى الفعل الداخلي .. حيث اننا قد تعلمنا ، وادركنا بعد سنوات عديدة من تخرجنا ودراستنا في الخارج ان هناك طريقتان في التمثيل : من الخارج الى الداخل ، ومن الداخل الى الخارج . فهل كان يتبع هو طريقة من الخارج الى الداخل دون ان يخبرنا بذلك ؟ ام انه كان يتبع تلك الطريقة بعفوية منه ؟ ام ان الطريقة التمثيلية الاكاديمية الفرنسية الكلاسيكية التي كان يؤمن بها ويسير على هديها توصل الممثل الى تحقيق ذلك الهدف؟ يمكننا ببساطة ان نشاهد اي فيلم فرنسي يقوم فيه ممثلون فرنسيون مسرحيون ، نشاهد اعتماد الممثل الفرنسي على الفعل الخارجي الذي يلاحظه مشاهد الفيلم لأول وهلة بالإضافة الى تدفق المشاعر الملتهبة وحركات اليدين والرأس واستعمال الطبقات الصوتية العالية .. الخ ، ولكن ذلك لا يعني ان الممثل الفرنسي لا يتوغل في المشاعر الداخلية لشخصيته وانما الذي يجلب الانتباه ان الطراز او الاسلوب التمثيلي الفرنسي يختلف عن بقية الاساليب الفنية التمثيلية الاخرى من العالم .
فهل يُفهم من تحليلي هذا ، وقد درست التمثيل على يديه ان طريقته هذه هي المُثلى؟ انا لا اقول هذا ... ولكن من حقي وانا استعرض امامي اغلب الممثلين العراقيين الجيدين فأجدهم هم من تلامذة (الشبلي) . ربما يقول البعض ان هؤلاء الطلبة بعد تخرجهم وبعد سنوات قد تمكنوا من الانسلاخ عن القوقعة والتقولب التشخيصي للمدرسة الشبلية ، خاصة بعد دراستهم في الخارج .. قد يكون هذا صحيحاً .. ولكنني مع ذلك استطيع ان اقول الكلمة الصادقة ان أضعف تلميذ في زمن الشبلي هو احسن من كثير من الممثلين الذين جاءوا في فترات لاحقة ، ويمكنني ان اعلل ذلك في النقاط التالية :
اولاً – حرص الاستاذ الشبلي على التدريس اليومي والتطبيقات العملية اليومية ولعدة ساعات ولمدة خمس سنوات قتالية تساعد الطالب الممثل على تطوير طاقاته الابداعية ومهما كانت الطريقة التي يتبعها المعلم في تدريسه بالإضافة الى حرص الاستاذ الشبلي الشديد في تحمل مهنة التدريس التي لم يتهاون فيها يوما ما ولم يكل او يمل .
ثانياً – كان يحب تلامذته جميعاً ، وتلامذته يحبونه ايضاً وهذا الحب المتبادل كان يعطي الثقة وتحقق نتائج ملموسة .
ثالثاً – كان الطلبة من عشاق فن التمثيل ، حيث انهم لم يأتوا من اجل الحصول على الشهادة ، وانما كان همهم هو التعلم والاستفادة من خبرة استاذهم الكبير .
رابعاً – لم يسمح الاستاذ الشبلي ان يعمل طلبته في الغرف المسرحية خوفاً من ان يلوثوا بألاعيب الفن الرخيصة ولكنه كان يوافق ان يعمل طلبته في الفرق المسرحية التي يقوم بالإخراج فيها خريجوا المعهد من الدورات السابقة في العطلة الصيفية فقط .
وعلى العموم يمكنني القول ان الاستاذ الفنان الراحل قد اصبح خالداً في ذمة المسرحيين العراقيين ، لان جهده المتواصل طوال اربعين عاماً لم يذهب سدىً ، وانما بالعكس فقد حمل طلبته الراية بأيمان راسخ وشقوا طريقهم الى امام بثقة وعزيمة وقوة وصبر وايمان ... صحيح ان بعضاً من طلبته قد انشقوا عنه وكونوا اسلوبهم الخاص الفكري والفني ولكل البذرات الاولى التي غرسها في اعماقهم وفي اصواتهم الفنية مازالت باقية وستنقل من جيل الى جيل .
اما الفنان الراحل جاسم العبودي الذي جاء الى الوطن في عام 1953م بعد تخرجه من (معهد كودمان ثييتر) في شيكاغو ، فانه كان احد تلامذة الاستاذ الشبلي .. وكان من حسن حظنا انه عندما بدأ التدريس في معهد الفنون الجميلة ، كنا نحن اول دورة نتعلم منه .. فما الذي تعلمنا منه ..؟ هل هي نفس طريقة الشبلي ام جاء بمنهج آخر ؟
الجواب على ذلك : انه جاء بمنهج (ستانسلافسكي) وكان هذا المنهج جديداً علينا ، ولم نسمع به الا نادراً ، ولم نعرف عن اسراره شيئاً والحقيقة يجب ان تُقال هل درّس الاستاذ العبودي منهج ستانسلافسكي بأكمله كما يُدرّس الان . او كما درّس بعد عشر او عشرين سنة بعد مجيئه ؟ الجواب على ذلك ، انه كان يدرّس اوليات هذا المنهج او المراحل التمهيدية منه ، اولى هذه المراحل : الفعل الداخلي، وكيف يجب على الطالب ان يتعمق في اغوار الشخصية التمثيلية ويوجد العلاقات بين الشخوص وعلاقة ذلك بالمؤلف وفكرية الاساس ، وتبعاً لهذه الخطة ينبغي على الطالب ان يُقسِّم المسرحية الى وحدات وضربات تحتوي على الافعال الداخلية وردود افعالها ايضاً ، بينما كان الشبلي يعتمد الطريقة الفرنسية في تقسيم المشاهد .. بمعنى انه يهتم بدخول شخصية جديدة الى المشهد او خروج شخصية من المشهد .. بينما العبودي كان يؤكد على الفعل الداخلي في كل وحدة فعل .. وكان العبودي يعطي الحرية الكاملة للطالب في ان يعبّر عن مشاعره واحاسيسه وحركته كما يشاء على شرط ان يكون تعبيره تابعاً من اعماق الشخصية التمثيلية .
هذه الطريقة كانت مريحة للطالب اذ انه كان يعتمد على قدراته الذاتية دون قيد او تسلط او تقولب ويعمل على تطويرها يوماً بعد يوم ، ويمكنني ان اشبّه الطالب آنذاك كمن يحمل معولاً ويحفر في التربة وصولاً الى جوهر الشخصية التمثيلية لتحقيق هدف المؤلف في مسرحيته ، والعبودي كمدرس او مدّرب او مخرج كان يقوم في التطبيقات العملية ان يفسّر فكر المؤلف وفلسفته واتجاهاته .
والحقيقة التي لابد ان تُقال هي ان اغلب الطلبة لم يعجبوا بهذه الطريقة ، خاصة وانهم قد تشّربوا بأسلوب الشبلي في التمثيل .. ولكنهم وبمرور الزمن ومع التطبيقات العملية وشرح التنظيرات لمدرسة (ستانسلافسكي) قد بدأ اكثر الطلبة يجدون في هذه الطريقة مجالاً جديداً للتجديد والابداع .
كان الاستاذ العبودي كريماً في اعطاء المادة النظرية والعملية للذين يريدون ان يتعلموا ... اذكر انني والاستاذ الفنان سامي عبدالحميد ، كنا بعد ان ننتهي من دراستنا في المعهد في العاشرة مساء كل يوم ، نذهب الى دار العبودي ونراجع معه ما أخذنا منه في ذلك اليوم وكان يسهر معنا كل ليلة لإعطائنا معلومات جديدة او يعمق لنا تلك المعلومات . كان يحب الطلبة النشيطين الموهوبين ، لأنه كان يريد ان تجد طريقة (ستانسلافسكي) مجالاً في التطبيق على يده هو وطلابه من بعده ، خاصة بعد ان اعلن الحرب المكشوفة على الطريقة الشبلية ، والغريب في الامر اننا كنا ندرس الطريقتين في آن واحد . نذهب الى القاعة بعد ساعات مع الاستاذ العبودي ونطبق منهج ستانسلافسكي . صحيح انه كان من الصعب التوفيق بين المدرستين ولكن هكذا كان قدرنا ونحن طلبة ولدينا استاذان لهما منهجان مختلفان . والشاطر هو الذي يستطيع ان يأخذ احسن ما عند كل واحد منهما . عندما كان الاستاذ العبودي يطبق معنا التطبيقات التمثيلية العملية او عندما كان يخرج مسرحية كاملة كنت احس انه كالساحر الذي يفجر طاقاتنا بلمسة يد فنان شاعر وبحس مرهف .. واحياناً كان يعالجنا بطريقة اخاذة بحيث نحقق طفرات فنية ابداعية ، ولا ندري كيف يحدث ذلك وهنا تأتي اهمية المنهج الذي سار عليه العبودي اذ انه كان يستنفر الطاقات الداخلية الابداعية فينا ويفجرها بأسلوبه الخاص ويبعدنا كلية عن اعتماد (البوز) و(الكليشة) في التعبير او اعتماد (الفعل الخارجي المكشوف) كان يغمرنا بعلمه وتوجيهاته النظرية والعملية من خلال الدروس التي يقوم بتدريسها .. ولقد حصلنا على معلومات تعتبر قيمة في وقتها في الاخراج والمناظر والازياء والصوت والالقاء ومرونة الجسم . ومثل هذه المعلومات لم تكن معروفة لدينا من قبل ذلك .. وكان العبودي بالإضافة الى كل ما ذكريات متذوقاً للأدب عارفاً دقائق اللغة العربية متحمساً لجرس الكلمة ونطقها السليم .
ان العبــــودي قد نجــــــح في خطته التعليمية لمنهـــج (ستانســـلافسكي) للأسباب التاليــة :
اولاً : عندما بدأ التدريس في عام 1953م في معهد الفنون الجميلة ، كان شعلة نشاط وثقة بنفسه وبالمستقبل . كان مدرساً ناجحاً يعيش يومه كله من اجل الفن المسرحي الجميل ، واشاعته بين الناس وتعميقه في نفوس طلابه . وربط كل ذلك بهموم المواطن الشريف ونزعته التحررية في الاستقلال والحرية والوحدة .
ثانياً : كان من حسن حظه ، وحظنا نحن ايضاً ان تكون اول دورة نتعلم منه ، اذ اننا شعلة نشاط وجدية . واغلبنا من خريجي الكليات . وكان هدفنا ان نتعلم كل شيء جديد ، لكي نستطيع ان نمارسه بعد تخرجنا . فالمسرح بالنسبة لنا – مدرسة للشعب – وينبغي للذي يريد ان يكون معلماً في تلك المدرسة ان يتسلح بالعلم والمعرفة والادب والحياة .
ثالثاً : ان المنافسة التي كانت قائمة على قدم وساق بين العبودي وبين استاذه الشبلي ، قد اوجدت لنا الفرصة الجيدة ان نستفيد من كلا الاستاذين ، فكل واحد منهما كان يريد ان يعطي احسن ما عنده لكي يجذب الطلبة الى جانبه . ومثل هذا التنافس رغم بعض سلبياته ، الا اننا احسّنا التصرف وتمكنّا بمرونة وعقلانية ان نستفيد ونتطور وفي الاخير ينبغي ان اشير الى نقطة هامة جدناً . اذ ان كلاً من الاستاذين الراحلين كانا يتابعان الطلبة بعد تخرجهم في اعمالهم الفنية ، واذكر انني قد دعوت العبودي لمشاهدة التمارين الاخيرة لإنتاج مجموعة شباب الطليعة للتمثيل عام 1956م ، وبعد ان شاهدت المسرحيتين ذات الفصل الواحد قال لي بالحرف الواحد : (تلميذ الاستاذ ، استاذ ونص) وكان فرحاً جداً بالأسلوب الذي سرت عليه وتحقيق تلك النتائج كان فخوراً ووجدت الفرصة الكبرى على قسمات وجهه ، وبالمناسبة وصنعت نفس الشيء مع الاستاذ الشبلي ، عندما عرضت المسرحيتين امام الجمهور فلبى الدعوة وجاء لمشاهدة العرض ... وبعد انتهاء العرض ، كان فرحاً وفخوراً ومشجعاً من كل قلبه ... وهذا يدل على ان الروابط الفنية والانسانية بين الاستاذ وتلميذه لم تنقطع ابداً بعد التخرج ، وانما كانت الصلات تتوطد وتتعمق .
ومن حسن حظنا اننا بعد ان رجعنا من دراستنا في الخارج اصبحنا زملاء للراشدين الراحلين الكبيرين ، وكان الاحترام والتقدير متبادلاً بيننا .
وعلى العموم ... فان تأثير كل من الراشدين الشبلي والعبودي سيبقى اثره واضحاً وعميقاً في ذمة المسرحيين العراقيين ، رغم ان قدرات فنية اخرى لفنانين مسرحيين عراقيين ، قد وجدت طريقها اثبتت قدراتها الذاتية المتميزة على مر السنين ، ووقفت كأعمدة فنية راسخة في مجال الحركة المسرحية العراقية المعاصرة .



#بدري_حسون_فريد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
- غياب عنصري الطراوة والمتعة في المسرح العراقي


المزيد.....




- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- ليبيا.. إطلاق فعاليات بنغازي -عاصمة الثقافة الإسلامية- عام 2 ...
- حقق إيرادات عالية… مشاهدة فيلم السرب 2024 كامل بطولة أحمد ال ...
- بالكوفية.. مغن سويدي يتحدى قوانين أشهر مسابقة غناء
- الحكم بالسجن على المخرج الإيراني محمد رسولوف
- نقيب صحفيي مصر: حرية الصحافة هي المخرج من الأزمة التي نعيشها ...
- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدري حسون فريد - وحدة الفعل الدرامي بين الشبلي والعبودي