بلال الشارني
الحوار المتمدن-العدد: 7795 - 2023 / 11 / 14 - 20:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اكتفت الإمبراطورية الالمانية سنة 1884 بما قسم لها من القارة الإفريقية خلال مؤتمر برلين الثاني واحتلت بموجب مخرجاته كل من ناميبيا وزامبيا تحت العنوان المعلن " تطوير وتعصير القارة من خلال تأسيس منظمات علمية وخيرية وانسانية ", فكان الاستيلاء على الأراضي الناميبية المنتجة للمطاط واعتبارها وما فيها من ثروات ملكا للإمبراطورية الألمانية سمة هذا التطوير والتعصير الألماني, الأمر الذي دفع بعض القبائل المحلية إلى الثورة ضد نظام الرايخ الألماني.
استهدف الجنود الألمان الثوار في ناميبيا فأبادوا 80 ألفا من أبناء قبيلة الهيريرو البالغ عدد أفرادها 100 ألف, و50 % من أبناء قبيلة الناما التي كانت تعد 20 ألفا.
واعترفت به الحكومة الألمانية سنة 2021 بهذا كـ"ابادة جماعية" وقررت تقديم تعويضات ب1.3 مليار دولار للسلطات وأسر الضحايا, وقد رفض أفراد القبيلتين هذه التسوية في حين رحبت سلطات دودوما بذلك.
تنزانيا لم تتمتع بهذه اللفتة الكريمة من ألمانيا, فرغم ابادة أكثر من 250 ألفا من قبيلة ماجي ماجي الثائرة خلال سنتين فقط, لم تعترف ألمانيا الى اليوم بارتكابها لأي عمليات ابادة هناك.
والجدير بالذكر هنا, أن ما سبق ليس على الإطلاق أبشع ما عانته القارة السمراء على يد الأبيض الأوروبي وهذا على اعتبار أن الإمبراطورية الألمانية جاءت متأخرا الى افريقيا, فقد أوكلت إدارة الكونغو الى بلجيكا من أجل أن تصبح هذه المنطقة الضخمة متمدنة متحضرة فقرر الملك البلجيكي اعتبارها ملكية شخصية له وأن كل من على أراضي الكونغو من غير البلجيكيين عبيدا له واجبروا على تقديم حصص يومية وأسبوعية من المطاط والمعادن فكان المتخلفون يتعرضون لقطع اليد ومن ثمة قطع الاعضاء التناسلية وأخيرا القتل, كما قتلت الفئات غير المنتجة من شيوخ ومرضى وأطفال لينزل عدد سكان الكونغو من 20 مليون الى 10 مليون خلال 23 سنة. وضلت المملكة البلجيكية الى اليوم ترفض الاعتراف والاعتذار عن هذه المجازر, حتى أن الملك الحالي قال مؤخرا خلال زيارة له الى كينشاسا أنه "يأسف" لما حصل هناك.
لم تكن القارة الافريقية الضحية الوحيدة للرجل الأوروبي بل في الحقيقة لم تسلم أغلب شعوب العالم غير الأوروبي من هذا السلوك فطالت الابادة الشعوب الأصلية في الولايات المتحدة وأستراليا وطال الاستغلال كل أمريكا اللاتينية وجل قارة آسيا.
هنا تثار نقطة محورية حول أوروبا التي ابتدعت الفلسفة الداعية إلى التحرر والليبرالية والقيم الانسانية وحقوق الانسان والديمقراطية والذي يرى أن مذابح يمكن أن تطيح بهذا الشكل لا تطرح تساؤلات حول تناقض حقيقي في العقل الأوروبي.
في حقيقة الأمر, أعتقد أنه من المجزي القبول بأن الفكرة الغربية مازالت غير قادرة على هضم مقولة أن الناس سواسية فالإنسان الأبيض جدير بأن يتمتع بكل القيم الجمالية والليبرالية من العدالة والمساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية وكل مخرجات فلاسفة التنوير والنهضة وغيرهم, بينما الإنسان من أبناء الشعوب الأخرى سواء كانت افريقيا او اسيا او الجنوب عموما فهو في الحقيقة منتمي إلى كائنات اخرى لو وقع عليهم ما قد وقع من مذابح فيمكن في أحسن الحالات تقديم الاعتذار بعد فترة لو أتعبت فكرة الذنب ضمير المجتمع أو على صوت الضحية بعض الشيء.
ومن هذه الخلفية يمكن بوضوح قراءة الموقف الأوروبي من الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة, إذ أن تراث الاستعمار الماثل في العقل الغربي وهذا التصنيف للبشر الذي دخل في صميم تجربته الثقافية والاجتماعية والفكرية في كثير من الأحيان يمنعه من رؤية المساواة الإنسانية بين الفلسطيني والصهيوني, فهو يعتبر الصهيوني غربيا أبيضا في حين أن الفلسطيني أدنى درجة رافضا للتمدن والحضارة.
إن الأصوات الثائرة والمتزايدة يوما بعد يوم في الفضاء الأوروبي والتي تحررت من السردية الغربية تدلل أن هذه المركزية دخلت مرحلة الانتحار ووصلت الى نهاية الفكرة التي تنصبها مركزية فاضلة, وهذا بسبب تنامي الرفض الجماعي للتناقض الفج الذي يختزنه العقل الغربي بين اعتباره الواعظ الكوني في قضايا الحقوق والليبرالية والعدالة وبين اعتبار الإنسان الغربي الأبيض وحده المخصوص بهذه القيم والمبادئ, وهذا هو المنتج المباشر لحالة عزلة الأوروبي في نكرانه للمجازر المرتكبة اليوم في قطاع غزة.
ختاما لهذا نرى أن عزلة الموقف الغربي مقابل بقية العالم (الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) هو نتاج لانهيار فكرة مشوهة تعيش منذ أكثر من 200 سنة, وأن نهاية هذه المركزية الشاذة اليوم جاءت كنتيجة مباشرة لتسارع تمظهر التناقض الذي أشرنا إليه سابقا منذ نهاية الحرب الباردة إلى حرب الفيتنام والخليج وأفغانستان والقضية الفلسطينية وأوكرانيا, فنراه يتأرجح بين التعامي عن المجازر تارة وبين الهرولة لمعاقبة المعتدين تارة اخرى حسب مكان حضور ممثل الفكرة الغربية في الصراع, وتأتي هنا بالضبط الحالة الغزية لتجهز على هذه المركزية الحضارية والفكرية والسياسية وتسرع في موتها لصالح نظام جديد لم يتشكل بعد فنكون شهودا على شيء لا يتكرر عادة إلا خلال مئات السنين وهذه اللحظة القديرة جديرة جدا بأن ننتبه لها.
#بلال_الشارني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟