أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نيكوس بولانتزاس - الدولة والانتقال إلى الاشتراكية















المزيد.....



الدولة والانتقال إلى الاشتراكية


نيكوس بولانتزاس

الحوار المتمدن-العدد: 7779 - 2023 / 10 / 29 - 15:20
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


أعاد موقع ContreTemps نشر المقابلة الكترونياً بتاريخ 15 شباط/فبراير عام 2016

عام 1977، نشرت مجلة Critique communiste- المجلة النظرية للرابطة الشيوعية الثورية وقتها- مقابلة أجراها هنري فيبر مع نيكوس بولانتزاس. لم يكن وقتها فيبر الليبرالي العضو في مجلس الشيوخ والمقرب من فابيوس إنما أحد قادة الرابطة ومؤلف العديد من الكتب، من بينها أيار/مايو 68: تكرار عام (1968 مع دانيال بنسعيد) أو الماركسية والوعي الطبقي (1974). في حين كان بولانتزاس في خضم تحضيره لأهم أعماله ولا سيما حول المسألة التي تحتل صلب المقابلة مع فيبر: الدولة والسلطة والاشتراكية.

في هذه المقابلة الرائعة، يطور بولانتزاس مفاهيمه المتعلقة بالدولة الرأسمالية- التي جرى تحديدها، وفق شكل آخر في مراجعته لكتاب رالف ميليباند “الدولة في المجتمع الرأسمالي- وخاصة نقده للرؤية الذرائعية والجوهرانية للدولة، والتي، بحسب رأيه، كانت تمثل كل التقليد الماركسي لتحليل الدولة. ويقترح على نحو خاص اعتبار الدولة الرأسمالية “التكثيف المادي لعلاقات القوة بين الطبقات الاجتماعية، كما يعبر عنها بطريقة محددة داخل الدولة”، بالتالي رفض رؤية حالة متجانسة يمكن تصورها على أنها أداة بسيطة للطبقات الحاكمة “من دون تناقضات أو تشققات”، ولكن كذلك من دون استقلالية (حتى ولو نسبية). إذا لم يؤيد فيبر مثل هذا المفهوم للدولة المتجانسة، إلا أنه يصر على المواقف غير المتكافئة للغاية التي تشغلها الطبقات المهيمنة والمهيمن عليها داخل الدولة وعلى الطابع المحافظ تماماً داخل الأخيرة.

كما سيلاحظ القارئ، إن لهذا النقاش تداعيات حاسمة وسط مناهضي الرأسمالية. بغض النظر عن الاختلافات في تحليل فشل التجارب الثورية الحديثة [وقتها] (الثورة البرتغالية 1974-1975) أو حتى الأقدم (الثورة الروسية)، تفترض هذه المفاهيم المختلفة للدولة الرأسمالية طرق مختلفة لفهم مشكلة الانتقال للاشتراكية وللتحول الثوري. حيث يؤكد بولانتزاس على النضالات الطبقية الداخلية للدولة وعلى ضرورة ربطها بنضالات البروليتاريا الخارجية، وتعددية الأحزاب والحريات العامة الأساسية، يعرض فيبر مطولاً، في الوقت عينه، مفهوم الانتقال إلى الاشتراكية حيث تلعب لحظة اختبار القوة- الأزمة الثورية- والتنظيم الذاتي للطبقات المهيمن عليها، على شكل مجالس، دوراً مركزياً.



***

هنري فيبر: في نص حديث (1) لك، تؤكد على أنه يجب القطع بشكل حاسم مع المفاهيم الجوهرانية للدولة، مثل أولئك التي يعتبرونها مجرد أداة، أو موضوعا له ملء الإرادة والعقلانية الخاصة به، وتخضع للطبقة أو الطبقات المهيمنة. هذا المفهوم الجوهراني، هل هو، بالنسبة لك، من ماركس ولينين؟

نيكوس بولانتزاس: بداية، علينا رؤية ما الذي تعنيه النظرية الماركسية للدولة. هل يمكن القول إننا وجدنا عند ماركس وإنغلز نظرية عامة للدولة؟ أعتقد أنه لا يمكن الحديث عن نظرية عامة للدولة أكثر من الحديث عن نظرية عامة للاقتصاد. لأن المفهوم، والمضمون والمجال السياسي والاقتصادي يتغير بحسب أنماط الانتاج المتعددة.

إن ما نجده عند ماركس وإنغلز، هو في الواقع مبادئ عامة حول نظرية الدولة، ومن ثم مجرد مؤشرات عن الدولة الرأسمالية، حول الانتقال، ولكن لا تشكل حقيقةً نظرية حتى عن الدولة الرأسمالية.

عند لينين، كانت المشكلة معقدة أكثر. في مؤشرات ماركس وأنغلز، لا يوجد أي أثر للفهم الذرائعي للدولة، وأعتقد خاصة في النصوص السياسية حول فرنسا… ولكن عند لينين، إن الأمر أقل وضوحاً، ولا يبدو أنه يوجد شك في أن بعض تحليلات لينين تندرج ضمن إطار الفهم الذرائعي للدولة، أي اعتبار الدولة ككتلة متجانسة من دون تشققات والتي لا تتضمن تناقضات داخلية، وأنه لا يمكننا مهاجمتها إلى بشكل عام وجبهوي من خلال بناء خارجها الدولة المضادة بالكامل التي ستكون السلطة المزدوجة، السوفيتات الممركزة…

هل يعود ذلك إلى أن لينين كان يتعامل مع الدولة القيصرية (لأنه حتى حين يتحدث لينين عن الديمقراطيات الغربية، فإنه يدعم دوماً الدولة القيصرية في صلب تفكيره)؟ أو لأن لينين كتب كتاب الدولة والثورة للمساجلة ضد المفاهيم الاشتراكية الديمقراطية، وضد مفاهيم الدولة-الموضوع؟ يمكن لأنه كان مرغماً، كما قال هو “على لي العصا بشكل شديد لجهة أخرى” والقول: لا إنها ليست ذاتاً مستقلاً، إنما أداة، أداة صافية بيد الطبقات المهيمنة.

لذلك، بالنسبة للينين، أرسم علامة استفهام، ولكن ما زال واضحاً أنه يوجد ضمن نصوصه مفهوم ذرائعي للدولة.

الماركسيون ونظرية الدولة

بالنسبة لهذا المفهوم الجوهراني للدولة، إنك تقابله بمفهوم مختلف: تقول إنه طالما أن الرأسمال ليس موضوعاً، الدولة ليست شيئاً، مثل الرأسمال، هي قبل كل شيء علاقة اجتماعية- وهي- كما أقتبس منك- “التكثيف المادي لعلاقة القوى بين الطبقات الاجتماعية كما يعبر عنها بطريقة محددة داخل الدولة”. وبحسب رأيك، إن ميزة هذا الفهم، من بين عدة أمور، هي إبراز حقيقة ذات آثار استراتيجية كبيرة، وهي حقيقة أن الدولة ليست كتلة متجانسة، من دون تشققات، وأن الجماهير تواجهها من الخارج، في كل المواجهات التي يتعين عليها تدميرها بالكامل، بمعنى صدام جبهوي ثوري لصالح أزمة تسبب انهيار الدولة، ولكن على العكس لأن الدولة هي “تكثيف مادي لميزان القوى”، فهذه الدولة تتضمن تناقضات طبقية، وهي مجال حيث نجد التناقضات الداخلية، وفي مجمل أجهزتها، تكون الجماهير حاضرة جسدياً (المدرسة والجيش…) وفي أجهزتها حيث تكون الجماهير غائبة جسدياً مبدئياً (الشرطة، القضاء، الإدارة…). هذا هو مفهومك.



إذاً، أود طرح سلسلة من الأسئلة عليك، بداية أود سؤالك ما الذي بقي من حداثة في مقاربتك؟ سأشرح، لدي إنطباع أن لينين، ليس أكثر من ماركس- وهذا ما يعيدنا إلى جوابك الأول- لا يعتبرا الدولة كواقع جوهراني، مستقلة عن الصراع الطبقي وتحكمه. الاثنان يؤكدان بشكل واضح لناحية أنه من جهة شكل الدولة يشير إلى توازن القوى بين الطبقات (يكفي ذكر التحليل الماركسي للبونبارتية). إذاً، الدولة ومؤسساتها وموظفيها ونوع تنظيمها نوع علاقاتها بالجماهير… تحدد بشكل مباشر من خلال البنية الطبقية، وعلاقة الطبقات ببعضها البعض، وحدة النضالات… أعتقد أن هذه هي الفكرة الأساسية للإشكالية الماركسية للدولة.

من جهة أخرى، لم يدافع أي منهما، برأيي، عن نظرية الدولة المتجانسة، من دون “تناقضات أو تشققات” كما أنت تحاربها. لينين، مثلا، الذي تحدثت عنه، يدمج تماماً في استراتيجيته النضال داخل المؤسسات، وحتى داخل المؤسسات القيصرية. وهو يدافع عن النضال الشيوعي داخل الدوما والجيش والمدرسة… في كتيبه الشهير ما العمل؟ يرفض الاختزال الاقتصادوي للماركسية ويفسر أنه على الحزب الثوري إرسال مناضليه إلى كل المؤسسات، في كل مجالات المجتمع. لذلك هو يرى أن هذه المؤسسات ليست فقط الرهان إنما أيضاً مجال الصراع الطبقي.

الفرق بين هذه المفاهيم وتلك السائدة اليوم “على الموضة”- أعتقد على نحو خاص بين المسؤولين في الحزب الشيوعي الإيطالي حول الطابع التناقضي للنظام الدولتي اليوم- هو أنه بالنسبة لماركس، ولينين، والماركسيين الثوريين، لا يمكن للطبقات الاجتماعية أن تحتل مناصب معادلة في الدولة. تسيطر الطبقات المهيمنة على النقاط الاستراتيجية في الدولة، وتمسك بالسلطة؛ الطبقات المهيمن عليها تحتل أو يمكنها أن تحتل مناصب تابعة، كأعضاء في أجهزة الدولة المختلفة، أو كممثلين شعبيين في المجالس المنتخبة، ولكن كذلك في مراكز بشكل عام ذات سلطة محدودة. بالنتيجة، إن الدولة، إذا استعملت صيغتك، “تكثيف للعلاقة الطبقية”، و”مجال الصراع الطبقي”، ما زالت لا تقل عن أداة الهيمنة بامتياز للبرجوازية، وبالتالي يبقى السؤال الاستراتيجي الأساسي لكل انتقال إلى الاشتراكية: كيف نتعامل مع هذه الدولة؟ كيف نحطمها؟

إذا أردت، فليس هناك فهم ذرائعي لدولة متجانسة بقدر المفهوم الذي، مهما كان يبدو متناقضاً- ويمكن أن يكون نسبياً كذلك- لا يسيء لينين فهم الدولة السويسرية ولا الدولة البريطانية ولا الدولة الأميركية؛ هو يعرف بعمق نصوص ماركس حول الانتقال السلمي المحتمل إلى الاشتراكية في هذا النوع من الدولة. لا أعتقد أنه مهووس بالدولة القيصرية ويتجاهل أي واقع آخر؛ إلا أنه يفسر أن ذلك لا يمنع أن تبقى أداة لسيطرة طبقة على أخرى أيا كان الشكل الذي تأخذه هذه الهيمنة.

والسؤال الثاني الذي أود طرحه عليك هو: هل فعل التشديد والتأكيد على الطابع المتناقض للدول اليوم ليس له وظيفة- أعتقد أنه من الواضح أن هذا هو الحال بالنسبة للتيارات في الحزب الشيوعي الإيطالي والـ CERES [تيار معارض داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي]- وذلك لطمس طابعها الطبقي، وبذلك إخفاء المشكلة الأساسية لأية استراتيجية للانتقال إلى الاشتراكية، ومشكلة تدمير الدولة كأداة للسيطرة البرجوازية.

أولا، وبالعودة إلى حداثة هذا المفهوم، ما زلنا نعاني من نفس المشكلة. أعتقد، أنه عند ماركس وإنغلز وأيضاً عند لينين حتى لا نقول شيئاً عن غرامشي، الذي تعتبر مساهمته مهمة جداً، هناك عناصر مما أحاول تطويره، وهذا أكيد. لكن لينين، أصر على الاعتقاد بوجود أكثر من غموض، لأن لينين لا يتصور وجود صراع داخلي داخل جهاز الدولة، بقدر ما يتصور وجود الثوار داخله. وهذا أمر مختلف بعض الشيء. إن المحور المهيمن في معركة لينين السياسية، هي مركزة السلطات الموازية والخارجية عن الدولة، وإنشاء دولة مضادة، بوجه الدولة الرسمية، هذه الدولة المضادة تستبدل في لحظة محددة الدولة البرجوازية.

لذا صحيح أن لينين يتحدث عن وجود ثوريين في الدولة ولكنه بالأحرى بمعنى الوجود الذي يجب أن يساعد، في اللحظة الآتية، على استبدال هذه الدولة بدولة مناهضة، وأنت لا ترى حقاً الوزن المناسب لهذا التدخل.

ما هو أكيد بكل الأحوال، أعتقد أنه داخل الأممية الثالثة هناك ميل لاعتبار الدولة أداة يمكن للبرجوازية التلاعب بها متى شاءت، وإذا أدركنا أن التناقضات بالتأكيد موجودة داخل الدولة، الفكرة المهيمنة دائماً هي أنه لا يمكن خوض صراع ثوري ثابت كذلك داخل الدولة، على أساس هذه التناقضات.

الآن، من جهة أخرى، لديك بالفعل موقف القياديين الإيطاليين [في الحزب الشيوعي]، كما يظهر في المقال الأخير للوتشيانو غروبي (2)، حول الطبيعة المتناقضة للدولة. لذا هنا ما زال الأمر مختلفاً مما قلته. هذه النظرية حول الطبيعة المتناقضة للدولة، نجدها كذلك عند الحزب الشيوعي الفرنسي، وهي تنص على وجود جزء كامل من الدولة يتوافق مع التطور الشهير للقوى المنتجة، بالتالي يجسد الوظائف السلبية إن لم تكن إيجابية للدولة، لأنها تتوافق مع أشركة القوى الانتاجية. باختصار، هناك دولتان: دولة “جيدة” تتوافق في النهاية مع صعود القوى الشعبية داخل الدولة نفسها. ودولة “سيئة”. مع ذلك، إن الجانب “السيء” للدولة اليوم له اليد العليا على الجانب “الجيد”. يجب أن نقضي على دولة الاحتكارات، التي هي الجانب السيء، والحفاظ على الدولة الحالية، المتوافقة مع أشركة القوى الانتاجية والهبة الشعبية.

وهذا مفهوم خاطئ للغاية. إنني متفق معك: إن الدولة الحالية، ككل، من ضمنها الضمان الاجتماعي والجهاز الصحي والمدرسة والإدارة… هي من ناحية بنيتها متوافقة مع السلطة البرجوازية. أعتقد أن الجماهير الشعبية لا تستطيع، في الدولة الرأسمالية، أن تشغل مناصب في السلطة المستقلة، حتى في المناصب التابعة. هي موجودة كأداة مقاومة، كعنصر تعرية، أو لإبراز التناقضات الداخلية للدولة.

إذاً، هذا ما يسمح لنا، على ما أعتقد، بالخروج من المعضلات الزائفة التي نحبس فيها أنفسنا اليوم: إما أن أن نتصور الدولة ككتلة متجانسة، أو نعتبر أن الصراع الداخلي هو مشكلة ثانوية بالكامل وأن الهدف الأساسي، إن لم يكن الحصري، محاولة مَركزة السلطات الشعبية، وبناء الدولة المضادة التي تحل مكان الدولة الرأسمالية؛ أو تصور الدولة على أنها متناقضة واعتبار أن النضال الأساسي يجب خوضه داخل الدولة، أي داخل مؤسساتها، باختصار، الوقوع في المفهوم الاشتراكي الديمقراطي الكلاسيكي الداعي إلى النضال داخل أجهزة الدولة.

أعتقد، على العكس من ذلك، أنه يجب النجاح في التعبير عن التالي:

– من ناحية صراع في الدولة، بمعنى ليس مجرد نضال مغلق بالمجال المادي للدولة، إنما نضال يقع على أرض الميدان الاستراتيجي الذي هو الدولة، صراع لا يهدف إلى استبدال الدولة البرجوازية بالدولة العمالية من خلال مراكمة الإصلاحات، والاستيلاء على أجهزة الدولة البرجوازية الواحدة تلو الأخرى، إنما نضال، إذا أردت، يقاوم ويبرز التناقضات الداخلية للدولة والتحول العميق للدولة؛

– في الوقت عينه، صراع موازٍ، نضال من خارج المؤسسات والأجهزة، يولد سلسلة كامل من الأجهزة والشبكات والقوى الشعبية القاعدية، وبنى الديمقراطية المباشرة القاعدية هو نضال لا يمكن هنا أيضاً أن يهدف إلى مَركزة دولة مناهضة من نوع السلطة المزدوجة، ولكن يجب التعبير عنها مع الأولى.

أعتقد أننا يجب تجاوز الاستراتيجية الكلاسكيكية للسلطة المزدوجة، دون الوقوع في الاستراتيجية الإيطالية التي هي، في حدودها، استراتيجية ثابتة فقط في الفضاء المادي للدولة.

الدولة وازدواجية السلطة

لنتطرق إلى هذا الجانب من السؤال، ربما سنعود إلى الدولة من جديد. إنه من الضروري خوض نضال داخل المؤسسات، واللعب لأقصى مدى على التناقضات الداخلية للدولة، وفي السياق الحالي، كل معركة من أجل دمقرطة مؤسسات الدولة هي معركة حاسمة أنا على قناعة بذلك أن هذا الصراع داخل المؤسسات يجب التعبير عنه بنضال خارجي يرمي إلى تطوير السيطرة الشعبية وتوسيع نطاق الديمقراطية المباشرة في الوقت كذلك.

ولكن ما ينقصه موقفك، بحسب رأيي، هو النقطة العمياء، وهو أن هناك طابعاً عدائياً بين هذه اللجان الشعبية الخارجية (في المؤسسات والأحياء…) وجهاز الدولة، الذي بغض النظر عن الصراع الداخلي، لن يغير من طبيعته بفعل هذا النضال. إذاً، من الضروري، الوصول إلى لحظة الحقيقة، لحظة المواجهة بين جهاز الدولة الذي، مهما كان ديمقراطياً، مهما أُضعِف بفضل الحركة العمالية في مؤسساته، سيبقى مع ذلك، كما نلاحظ اليوم في إيطاليا، الأداة الأساسية لهيمنة البرجوازية على الجماهير.

تبدو لي لحظة المواجهة هذه حتمية بشكل تام، والتحقق من أي استراتيجية هو الطريقة الأكثر أو الأقل خطورة التي تأخذ بها لحظة الحقيقة هذه في الاعتبار. هناك من يقول، مثلك: هناك صراع داخل المؤسسات، وهناك صراع خارج المؤسسات، وعليك أن تفصح عن الاثنين ومن ثم هذا كل شيء؛ في الواقع، لا يأخذون في عين الاعتبار لحظة المواجهة، لحظة المواجهة الحاسمة، والصمت البليغ بحد ذاته؛ وذلك يصل إلى اعتبار أن التعبير عن العمل الخارجي والداخلي للمؤسسات يمكن من خلال عملية تدريجية طويلة، أن يعدل في نهاية الأمر، دون تجربة قوة، وطبيعة الدولة والمجتمع.

أنت تفهم، أن ما يزعجني في موقفك، هو أنه لدي انطباع أنك تصارع قليلاً طواحين الهواء، أي الرجال الذي يريدون إعادة تحقيق ثورة أكتوبر 1917، وهذا ليس هو الحال عند اليسار الجذري اليوم. نحن لا نعتقد أن الدولة متجانسة ويجب مواجهتها واسقاطها حصرياً من الخارج، نحن على قناعة بالكامل بضرورة “حرب المواقع”، أنه في الغرب، هناك فترة طويلة من التحضير واسقاط الهيمنة… ولكن النقطة الأساسية للانقسام، ويجب قولها، هي أن حرب المواقع هذه تشكل بحد ذاتها تحول المجتمع الرأسمالي والدولة إلى مجتمع ودولة اشتراكية وعمالية. في حين إنه بالنسبة لنا لا يعد الأمر أكثر من مجرد تحضير من أجل الجمع بين الشروط المسبقة للمواجهة، وهي مواجهة تبدو لنا بكل الأحوال حتمية. لذا إن تجاهل هذه المواجهة يعني اختيار استراتيجية ضد أخرى.

حسناً، أنا أتفق معك بما خص قضايا القطيعة وعرض القوة، ولكن أفكر بطريقة مختلفة، إن تكرار الأزمة الثورية المؤدية إلى قيام سلطة مزدوجة في الغرب هي اليوم غير محتملة بالمرة. ولكن، بما خص سؤال القطيعة، إن لحظة اختبار القوة التي تتحدث عنها لن تكون بالتموضع بين الدولة وخارجها المطلق حيث سيكون التنظيم المركزي للسلطات الشعبية على مستوى قاعدي. هذه هي المشكلة. أنا أيضاً مع فكرة ضرورة القطيعة. ولكن، في النهاية، ليس واضحاً أن اختبار القوة يمكن أن ينوجد ثورياً حقاً بين الدولة كما هي، من جهة، وخارجها المطلق أو المفترض أن يكون كذلك، أي أن الحركة والسلطات الشعبية، المتمركزة قاعدياً كسلطة ثانية.

يمكنني إعطاءك أمثلة في غاية البساطة، مثلاً، فلننظر إلى ما حصل في البرتغال. لأنك تقول لا أحد يريد تكرار أكتوبر. لكن، عفواً منك، من خلال قراءة بنسعيد، ما يقوله في كتابه عن البرتغال…

الثورة جارية.

لكن هذا المفهوم هو بالتحديد ما أحاربه. بحسبه، المشكلة الكبرى في الرتغال، هي أن الثوار لم ينجحوا في مَركزة كل تجربة السلطة الشعبية القاعدية…، من اجل بناء سلطة مزدوجة، سلطة ثانية ممركزة التي كما هي، ستكون مواجهة للدولة: هنا، ما يشكل المواجهة التي لا مفر منها، هو القطيعة. أعتقد أن القطيعة، ستحصل، ولكن ما ليس بديهياً بالنسبة لي أنها ستحصل إجبارياً بين الدولة ككتلة وخارجها، أي بنى السلطة الشعبية القاعدية.

يمكن أن يحصل ذلك، مثلاً، ضمن جهاز الدولة نفسها، بين جزء من الجيش، مثلاً، الخاضع لسلطة البرجوازية، وجزء آخر من الجيش، المستند بدوره إلى السلطات الشعبية القاعدية، من خلال النضالات النقابية للجنود ولجانهم، يمكن لجزء كامل من الجيش، بالتالي، أن يقطع مع وظيفته التقليدية وينتقل إلى الشعب. هذا بالضبط ما حصل في البرتغال، لم تحصل أبداً مواجهات بين الميليشات الشعبية، من جهة، والجيش البرجوازي من جهة أخرى. إذا فشلت الأمور في الرتغال، لم يكن لأن الثوار لم يعرفوا كيفية إنشاء ميليشيا شعبية موازية كانت في لحظة معينة ستستولي على جهاز الدولة، إنما لمجموعة كبيرة من الأسباب الأخرى.

الحديث عن الصراع الداخلي المرتبط بالنضال الخارجي لا يعني بالضرورة تجنب الحديث عن القطيعة. إنما يتعلق الأمر برؤية القطيعة الثورية لا تترجم بالضرورة إلى شكل مركزة الدولة المضادة ككل مع الدولة نفسها. فذلك يمكن أن يجتاز الدولة، وأعتقد أنه سيحصل بهذه الطريقة حالياً. ستحصل قطيعة، وستكون لحظة مواجهة حاسمة، ولكنها ستجتاز الدولة. السلطات الشعبية القاعدية، والبنى الديمقراطية المباشرة ستكون عناصر التمايز داخل أجهزة الدولة، لاستقطاب أجزاء واسعة من هذه الأجهزة بواسطة الحركة الشعبية، التي ستتحالف مع الحركة لمواجهة القطاعات الرجعية، المناهضة للثورة، في جهاز الدولة والمدعومة من قبل الطبقات المهيمنة.

في الأساس، أعتقد أنه لا يمكننا تكرار حالياً ثورة أكتوبر بشكل أو آخر، وخلفية ثورة أكتوبر ليست فقط التعارض التي لاحظها غرامشي بين حرب الحركة وحرب المواقع. أعتقد أن غرامشي نفسه، بالعمق، ما زال ضمن مخطط ونموذج ثورة أكتوبر…

بالتأكيد.

ماذا تعني حرب المواقع بالنسبة لغرامشي؟ حرب المواقع، هي حصار معاقل الدولة من الخارج، وهي بنى السلطة الشعبية. لكن في الأساس، إنها دوماً ذات القصة، إنها القلعة المحصنة، كما تفهم، أو مهاجمتها دفعة واحدة- بواسطة حرب الحركة- أو فرض الحصار عليها- حرب المواقع. ولكن في النهاية، التصور عند غرامشي ليس إلا قطيعة ثورية يمكن أن تتمحور حول الصراع الداخلي ويتموضع عند نقطة أو أخرى من جهاز الدولة. هذا لا نجده عند غرامشي. ولكنني أجد صعوبة في ظهور حالة كلاسيكية لسلطة مزدوجة في أوروبا، بالضبط بسبب تطور الدولة، وقوتها واندماجها في الحياة الاجتماعية، في كل المجالات. التطور والقوة التي تجعلها في نفس الوقت قوية جداً بمواجهة سلطة مزدوجة، والتي هي ضعيفة للغاية، ولكن السلطة الثانية، إذا أردت، يمكن مع ذلك أن تظهر كذلك داخل الدولة بشكل ما، يمكن أن تحصل القطيعة كذلك داخل الدولة، وهذا هو ضعفها.

السؤال بأكمله هو لمعرفة ما هي نوع القطيعة، ما هي طبيعتها، وما هو مداها. ولكن نحن على قناعة أن ما نقطعه هنا، داخل مؤسسات الدولة، هو مواقع يمكن أن نكون قد استولينا عليها سابقاً أو في سياق الأزمة نفسها، ولكن هي مواقع ثانوية نسبياً. الجوهري في جهاز الدولة، الذي يركز حقاً حقيقة السلطة، لن ينتقل عبر الثورة. أو إذا اعتقدنا أن الحركة الثورية للجماهير يمكن أن تستقطب قطاعات أساسية في جهاز الدولة، يمكن أن تستقطب مثلاً غالبية طبقة الضباط، فيكون تصورنا أن الدولة محايدة. هذا هو الأمر أننا نطمس فعلياً مفهوم الطابع الطبقي لهذا الجهاز، وقيادييه.



أعتقد أن أفضل مثال لنا هو إيطاليا، تطور حركة جماهيرية في إيطاليا، في المصانع وغيرها، قد خلق حركة ديمقراطية في الشرطة، والقضاء والإدارة، باختصار، في كل أجهزة الدولة، ولكن هذه الحركات كانت مؤثرة طرفياً، في هوامش الأجهزة وليس في صلبها.

لذلك أوافق بكل سهولة أن إحدى وظائف الحركة الشعبية والاستراتيجية الثورية هي تفكيك، وتأزيم جهاز الدولة، وشله، وقلبه بقدر الإمكان ضد المجتمع البرجوازي. إنه لأمر سهل نسبياً بما خص المدرسة، وبعض الإدارات… حيث أن الطابع الطبقي يكون فيها أكثر بروزاً. من الصعب جداً في الأجهزة التعسفية المباشرة مثل الشرطة والجيش والقضاء والفئات العليا في الإدارة أو حتى نظام الإعلام نفسه والتلفزيون والصحافة، ولكن ذلك ممكن ويشكل هدفاً. الآن، يجب ألا يكون لدينا توهم حول ما يمكننا الحصول عليه في هذه الوسيلة، لن نحصل على قطيعة عامودية من القمة إلى القاعدة بشكل نصفي؛ لن نخلق ازدواجية السلطات في الدولة في نصف سلطة الدولة، من القمة إلى القاعدة، بدءاً من نصف عدد الوزارات وصولاً بنصف عدد الموظفين وبالتالي سيقفون إلى جانب الحركة الشعبية! ستتآكل الدولة، ولكن هذا لا ينفي مشكلة بقاء جهاز الدولة، والدولة كأداة للهيمنة ومقر للثورة المضادة. لذلك من الضروري شرح ذلك.

إذا بقيت مقتنعاً بواقع مفهوم ازدواجية السلطات، من الواضح تحت أشكال مختلفة عن روسيا القيصرية، بالتوازي مع حصول أزمة في جهاز الدولة- ذلك لأنني مقتنع بأن معظم أجهزة الدولة ستستقطب إلى اليمين، كما حصل في إيطاليا، وكما حصل في التشيلي، وفي البرتغال، وفي كل مكان حيث تكون الطبقة المهيمنة مهددة وحيث وسيلة هيمنتها، بالنتيجة، تزيل عدداً من الزينة الليبرالية والديمقراطية وتكشف عن نفسها وعن حقيقتها، بكل جلافة، عن وظيفتها الحقيقية.

الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية

أنت على حق في العديد من النقاط، ولكنني أعتقد، بكل الأحوال، أننا أمام تحدٍ تاريخي. في الاستراتيجية الجديدة التي ينبغي تبنيها في الوضع المحسوس الموجود في الغرب، وبحيث تدفعني تحليلاتي إلى القول إنه لا يمكن أن يكون حالة سلطة مزدوجة، فعلياً، الخطر الموجود، هو الخطر البديهي- ونحن كلنا على إدراك- أن الغالبية العظمى للأجهزة القمعية تتمركز حول اليمين، وبالتالي ستسحق الحركة الشعبية.

بعد قولي هذا، أعتقد أنه علينا قبل كل شيء أن لا يغيب عن بالنا أن هذه سيرورة طويلة. عندما نتحدث عن سيرورة طويلة، بجب رؤية ما ينطوي عليه ذلك. لقد تحدثنا عن القطيعة. ولكن فعلياً، ليس بديهياً أنها ستكون قطيعة كبيرة. من ناحية أخرى، إنه لأمر بديهي كذلك، عندما نتحدث عن سلسلة من القطائع، يخشى أن نقع في التدرج. ولكن في الوقت عينه، إذا تحدثنا عن سيرورة طويلة، يجب الأخذ بعين الاعتبار: أن السيرورة الطويلة، فإنها تعني سلسلة من القطائع، التي نسميها متتالية أو غير متتالية. ما يهمني هو فكرة “السيرورة الطويلة”. ماذا تعني القول “السيرورة الطويلة”، إذا تحدثنا في الوقت عينه عن القطيعة؟

هذا يعني، ما نراه اليوم في إيطاليا، على سبيل المثال. منذ عام 1962، في الواقع، ومنذ عام 1968 للحديث بشكل دقيق، نلاحظ سيرورة طويلة نسبياً، التي تمتد على فترة زمنية بين 10-15 سنة لتأجج الحركة الشعبية، وتآكل الهيمنة البرجوازية، والتي نتج عنها تطور أشكال الديمقراطية المباشرة على المستوى القاعدي، والأزمة وسط أجهزة الدولة، والتي ستؤدي إلى حصول أزمة حادة على نحو متزايد، حتى لاختبار القوة…

نعم، ولكن انتظر. ما زالت السيرورة متباينة نسبياً، لأننا رأينا كذلك ما حصل في البرتغال. لذلك أقول، أن الفرضية الأكثر احتمالاً التي نفكر فيها بفرنسا هي البرنامج المشترك [بين أحزاب اليسار]. أي الوصول إلى السلطة، وحتى إلى الحكومة، من قبل اليسار، وبشكل متزامن، حصول تعبئة شعبية كبيرة، القضية منتشرة، في أفضل الحال، سنكون أمام تجربة اشتراكية ديمقراطية جديدة؛ أو حتى سيحصل تعبئة شعبية للطبقات الشعبية، المتزامنة مع تشكل حكومة يسارية، التي تفرض من فوق سلسلة من التغييرات الهامة في جهاز الدولة؛ وهذا يعني أن اليسار الذي يحتل المراكز العليا في الدولة، شاء أم أبى، من فوق من جديد، الالتزام بدمقرطة الدولة. في إيطاليا، نجد الحزب الشيوعي الإيطالي في دائرة السلطة، وفي الوقت عينه، لا يملك الحد الأدنى من الوسائل لتحريك الجماهير والتغيرات المعينة في بنية أجهزة الدولة كحكومة اليسار بفرنسا. هنا المشكلة الأولى.

المشكلة الثانية. دعني أعود إلى مسألة ازدواجية السلطات والقطيعة التي يجب لها أن تكسر الدولة. لأنه في الواقع، هذا هو جوهر الأمر. كسر جهاز الدولة، يعني شيئاً نسبياً بسيطاً، في التوجيه البلشفي. إنه يعني أن مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، والحريات المعتبرة شكلية… هي مؤسسات مطبوعة تماماً، بطبيعتها من قبل البرجوازية- لا أقول فقط الدولة، إنما الديمقراطية التمثيلية. إذاً، كسر الدولة، يعني هدم كل المجموع المؤسساتي واستبداله بشيء جديد ومختلف بالكامل، والذي سيكون تنظيماً جديداً للديمقراطية المباشرة، أو المعتبرة مباشرة، من خلال السوفيتات التي يقودها حزب الطليعة…

إذاً هنا ينبغي طرح السؤال: أعتقد أن احتمالية تفكيك الدولة ما زالت سارية باعتبارها مقاربة لإحداث تحول كبير في بنية الدولة، ولكن لكي أكون واضحاً للغاية ولا يكون ضميري مرتاحاً في هذا المجال: لا يمكن أبدا الحديث بنفس الطريقة عن كسر الدولة، سواء كنا مقتنعين إلى هذا الحد أو ذاك- وقد رأيت آراءك الأخيرة في هذا الشأن- أن الاشتراكية الديمقراطية يجب أن تحافظ على الحريات الأساسية والحريات السياسية، المتحولة بكل تأكيد، ولكنها ما زالت ثابتة، بالمعنى الذي طرحته روزا لوكسمبورغ بمواجهة لينين. وهنا يجب ألا ننسى. بالنسبة للينين، كان غير مهتم بالحريات السياسية والحريات الأساسية، بعض الشيء، مهما قال الناس. فقد انتقدته روزا لوكسمبورغ، على ذلك، هي التي كانت ثورية وقليلة الثقة بالاشتراكية الديمقراطية. من السهل قول ضرورة الحفاظ على الحريات السياسية والحريات الأساسية. ولكن ما هو بديهي، بالنسبة لي، هو الحفاظ على هذه الحريات، وهذا ينطوي أيضاً- وهنا أعود إلى المناقشة التي أجريتها مع جوليار، في العدد 8-9 في مجلة Critique communiste، وهذا يعني الحفاظ على أشكال محددة، على الرغم من تحولها العميق، من أشكال معينة من الديقراطية التمثيلية.

ما الذي تعنيه الديمقراطية التمثيلية بالمقارنة بالديمقراطية المباشرة؟ هناك عدة معايير. الديمقراطية المباشرة تعني تفويضاً إلزامياً، على سبيل المثال، إمكانية إلغاء التفويض من المندوبين… وإذا أردنا الحفاظ على الحريات السياسية والحريات الأساسية، هذا يتضمن، كما أعتقد الحفاظ على بعض المؤسسات التي تجسدها، أي التمثيلية، أي مراكز القوة، والمجالس التي لا تطبق بشكل مباشر نموذج الديمقراطية المباشرة، وهذا يعني أن المجالس الإقليمية المنتخبة بموجب الاقتراع العام المباشر والسري، والتي لا يحكمها نظام التفويض وقابلية الإلغاء في أي وقت.

ما هو نقدك للتفويض الإلزامي ولقابلية الإلغاء؟

تاريخياً، فشلت كل التجارب الديمقراطية القاعدية، غير المترافقة مع نوع من الحفاظ في وقت محدد على الديمقراطية التمثيلية. في كل حقبة انتقالية، الاسقاط الكامل للمؤسسات الديمقراطية المسماة تمثيلية، والاعتقاد أنه بات لدينا ديمقراطية مباشرة، بغياب مؤسسات محددة من الديمقراطية التمثيلية، مع الحريات السياسية (تعددية الأحزاب السياسية، من بين عدة أمور)، بحسب علمي، لم ینجح ذلك أبداً. الديمقراطية المباشرة، ووحدها الديمقراطية المباشرة بالمعنى السوفياتي، التي كانت دائماً مترافقة بقمع تعددية الأحزاب ومن ثم، قمع الحريات السياسية أو الحريات الأساسية. إذاً، قول إن ذلك هو الستالينية، هو، بحسب، رأيي، كما يبدو لي، تسرعاً.

ولكن قول إن ذلك مرتبط بشكل أساسي بالديمقراطية المباشرة، هو يعتبر أيضاً تسرعاً، لأنه في الواقع، هناك سياق دولي ووطني يجعل من كل شكل من الديمقراطية مسألة صعبة في ظل ثورة معزولة. أعتقد أن أخذ مثل اعتبار فشل السوفيات في روسيا في العشرينيات كإثبات [على قولك]، ليس حاسماً.

عفواً، لكن ذلك لم يحصل في روسيا، إنما أعيد انتاجه في الصين…

أكثر من ذلك…

وهذا حصل من جديد في كوبا، إضافة إلى كمبوديا: ورغم ذلك، لا يمكننا إنكار كل ذلك. إذاً، أنا أريد بكل تأكيد تجريم الستالينية أو الظروف الموضوعية، ولكن هذا يعني فعل الكثير، في ظل الظروف الوطنية والدولية المتنوعة جداً.

بالعودة إلى الثورة الروسية، نعرف جيداً أنه بالنسبة للينين، ارتبط إلغاء التعددية الحزبية بالحرب الأهلية. هذا ما حصل على نحو فعلي. بعد ذلك، أتساءل على الرغم من ذلك، إذا لم يكن هناك بالفعل، في تصور لينين أو في كتب معينة له، هذا القضاء على التعددية السياسية، أتساءل إلى أي مدى، إذا تصورنا أن حقيقة البروليتاريا- وعيها السياسي الطبقي- يأتي من خارج الحركة العمالية، من النظرية التي يقولها المثقفون، المعبر عنها بمفهوم معين للديمقراطية المباشرة، لا يؤدي بشكل مباشر إلى القضاء على الديمقراطية ككل، بحسب السيناريو المعروف. نقول بداية، الديمقراطية فقط في الأحزاب البروليتارية، كما بدأ لينين بالقول، في أحزاب اليسار، ومن ثم بعد ذلك ما هو الحزب البروليتاري؟ هل فهمت، لست بحاجة إلى رسم مخطط، ما هو الحزب البروليتاري الحقيقي؟ أعلم جيداً أن نظرية لينين في التنظيم لا يمكن اختزالها في كتيب “ما العمل؟”، ولكنني لا أعتقد أن الحزب الواحد مشمولاً ضمن مفاهيم “ما العمل؟” والتي تبقى مع ذلك الإطار الأساسي للنظرية اللينينية…

لذلك، حتى في روسيا السوفياتية، أتساءل إذا كان ما قالته روزا لوكسمبورغ إلى لينين (“انتبه، ألا يؤدي هذا إلى…؟”)؛ إذا لم تكن الملاحظات الأولى لتروتسكي، تروتسكي ما قبل البلشفي، في نهاية المطاف، أكثر أهمية من تفسيرات تروتسكي اللاحق، تروتسكي السوبر-بلشفي.

لكن أخيراً، وبغض النظر عن كل النقاش التاريخي، أقول اليوم، هل يمكننا اعتبار أنه لفترة طويلة، فترة الانتقال إلى الاشتراكية، يمكننا الحديث عن الحريات السياسية، عن الحريات الأساسية، إذا لم يكن لدينا مؤسسات قادرة على تجسيد وضمان التعددية وهذه الحريات؟ هل تظن حقاً أن الديمقراطية السوفياتية القاعدية (على افتراض أنها ممكنة، نحن نعتبرها ممكنة، وأعتقد أن السلطة المزدوجة، بكل الأحوال، هي وضعية لا يمكن إعادة انتاجها كما هي)، هل تعتقد أنه إذا لم يكن هناك مؤسسات ضامنة لهذه الحريات، وخاصة مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، وهل يمكننا حقاً الاعتقاد بأن هذه الحريات ستستمر، بكل بساطة بالاعتماد على دينامياتها الخاصة؟

أخيراً، ضمن الجدال الأخيرة في الماركسية الإيطالية، أنت تعرف أن بوبيو قد أطلق النقاش. (3) ولكن، كما هو واضح أننا لا نستطيع الاتفاق مع كل أفكار بوبيو حول الاشتراكية-الديمقراطية، ولكنه سلط الضوء على نقطة مهمة. قال: “إذا كنتم تريدون الحفاظ على الحريات، والتعددية في الآراء،…، ما أعرفه هو أن هذه الحريات عبر التاريخ قد ترافقت مع شكل من البرلمان”. لقد عبر عن ذلك، من دون شك، بشكل اشتراكي ديمقراطي. لكن في نهاية الأمر، أتساءل ما إذا كان من ذرة من الحقيقة في هذا، أي إذا كان الحفاظ على الحريات السياسية الأساسية لا يتطلب الحفاظ على الأشكال المؤسسية لسلطة الديمقراطية التمثيلية. المتحولة من دون شك؛ لا يكون الأمر الحفاظ على البرلمان البرجوازي كما هو… بالإضافة إلى ذلك، في فرنسا، ومنذ عام 1968، شهدنا على تجربة من الديمقراطية المباشرة. من السهل جداً بالنسبة لي طرحها كحجة، ولكننا شهدنا كيف اشتغلت!

هل تقصد الجامعة؟

نعم، أنا أفكر بشكل مركزي بالجامعة، ولكننا رأينا ذلك في مكان آخر. لأنني عندما أتحدث عن الحاجة إلى الحريات الأساسية والسياسية، فلتعذرني، لا أستهدف فقط اليسار الجذري، كما اعتقد البعض بعد مقالتي في لوموند، أنا أيضاً أقصد الحزب الشيوعي الفرنسي والكونفدرالية العامة للشغل، حتى لا أقول شيئاً عن قيادة الحزب الاشتراكي.

إذاً، أنت تعرف، أن أشكال الديمقراطية المباشرة القاعدية، ولجان الأحياء…، يهيمن عليها بالكامل اليسار الرسمي، دون ضمان الحريات الأساسية… حتى الحريات الأساسية والسياسية بالنسبة لليسار الجذري لا يمكن أن تكون مضمونة، هي أيضاً، إلا عبر الحفاظ على أشكال من الديمقراطية التمثيلية… أخيراً، أنت تعرف، ليس لدي إجابات محددة. لدينا مشكلة تقليدية متمثلة بـ”تدمير الدولة”، ونحن كلنا على علم أنه يجب الحفاظ على الحريات السياسية والتعددية، إذاً الحفاظ على المؤسسات، والديمقراطية التمثيلية. لا أتردد في القول، إنه بمقدار حديثنا عن هذا الحفاظ، وليس الإلغاء المطلق والكامل للحريات المسماة شكلية، لا يعد بمقدارنا تحديد المسألة بالاستناد إلى تعبير “تدمير”، ولكن بالاستناد إلى عبارة “تحويل” راديكالي للدولة. هل تؤمن بالتعددية؟

بالتأكيد، نؤمن بها ونمارسها.

لكن التعددية تشمل أيضاً الخصوم؟

بالتأكيد، حتى بالنسبة للأحزاب البرجوازية، لقد كتبنا ذلك.

إذاً، حتى للأحزاب البرجوازية. الآن، حتى لا أكون ساذجاً للغاية، يجب قول الأمور كما هي، إننا نخاف على أنفسنا كذلك…

من دون شك.

من الجيد قول ذلك، ولكنني أتساءل ما هي أشكال الضمانة المؤسساتية، التي ستكون دوماً ثانوية طبعاً، ولكن المعتد بها. ما هي أشكال المؤسسات التي ستندرج فيها التعددية والحريات، وما هي أشكال المؤسسات المادية التي ستدعمهما وتضمنهما؟ إذا فكرنا فقط في أشكال الديمقراطية القاعدية، أي في البنى التي لا تزال تهيمن عليها بشكل كبير أحزاب اليسار التقليدي، فلن أشعر بالطمأنينة. فأنا أؤمن بالديمقراطية المباشرة القاعدية، كما حصل في الجمعيات العمومية في رينو، أو في مرسيليا، أو ريم… على الأقل ما لم نعش في وضع ثوري حقاً حيث يشعر الجميع بالمشاركة على نحو كبير، باستمرار في الشوارع…، والتي لا تحصل كل يوم، حسناً، لا أعرف إذا كان ذلك كافياً للحفاظ على الحريات.

وأنا، لم أعد أرغب بأن أجد نفسي، كما حصل كثيراً في حياتي السياسية، في الجمعيات العمومية التي تصوت برفع الأيدي، وبعد فترة معينة يمنع فلان وعلتان من الكلام…

لا، هنا لدينا تمثيل للديمقراطية العمالية التي تبدو مشكوكاً بها. من الصعب ممارسة الديمقراطية بشكل عام، وكلما كانت أكثر ديمقراطية، كلما زادت صعوبة ممارستها. أسهل نظام يمكن ممارسته هو الاستبداد المتنور، ولكن بعد ذلك لن يكون المرء متأكداً من بصيرة المستبد…

لذلك، بما خص هذا السؤال، أعتقد، بداية أن هذه المعارضة بين الديمقراطية التمثيلية والتفويض والديمقراطية القاعدية، هي بالفعل مسألة احتيالية، لأن الديمقراطية القاعدية غير موجودة، لطالما هناك تفويض. هناك نظام يهدف إلى حل مشكلة أساسية، هو إعادة غرس السياسة في المجتمعات الحقيقية…

هنري، عذراً سأقاطعك، لأنني أعتقد أن هناك ما يزعجنا هنا، ولن نفلت من الغش. استمع، فلنأخذ العدد 8-9 من مجلة Critique communiste (الممتاز بالمناسبة)؛ هناك، من جهة، ما يقترحه ماندل. بالنسبة له، من الواضح أن النظام السوفياتي، يمكن مراجعته وتحسينه. بعد ذلك، هناك السؤال الذي طرحه جوليار: هل يجب أن يكون لدينا جمعية عامة على مستوى إقليمي، تقوم انطلاقاً من الاقتراع العام، الدوري، ودون تفويض إلزامي؟ نعم، بكل تأكيد، يجيب جوليار… في حين بالنسبة لماندل، لا يوجد مثل هذه الضرورة. يسأل جوليار هذا السؤال، وأنا أميل إلى الاعتقاد، مثل جوليار، أن الجمعية العامة على المستوى الإقليمي، بالتأكيد هي تحول راديكالي، هي أمر ضروري.

هذا لم يكن رأي لينين، لأن لينين كان أمام مسألة الجمعية التأسيسية، كما تعلم! إذاً عندما انتخبت الجمعية التأسيسية، جرى حلها ولم تعمل أبداً. ومن سوء الحظ، أن الاشتراكيين الثوريين كانوا الأغلبية، مع كل المخاطر التي انطوى عنها ذلك. لذلك، بالنسبة للينين، كانت المسألة جداً سهلة.

تحديد السوفيتات والبرلمان؟

حول هذه المسألة. أعتقد بداية أنه يمكن جعل الديمقراطية ممأسسة بشكل تام. ليس من الضروري أن تكون من الأنواع المتلاعب فيها كتلك التي رأيناها في الحركة الطلابية، من الواضح أن ما يسمى بالديمقراطية المباشرة يمكن أن تكون شيئاً بشعاً وغير ديمقراطي بالكامل، مثل الديمقراطية “الجمعياتوية”. ولكن يمكن أن يكون ذلك ممأسساً جداً.

ما يبدو مهماً بالنسبة لي، وهو ليس خداعاً، هو تجذير النشاط السياسي والحياة السياسية في المجتمعات التي هي تجمعات حقيقية وليس في شكلية، كما هو الحال في الدوائر/المناطق الإقليمية… يجب أن تكون التجمعات الحقيقية تجمعات عاملة (بالمعنى الشامل للكلمة، المؤسسة، الثانوية، الثكنة… وكل ما شابه)، وكذلك مجتمعات الأحياء، أي الوحدات الإقليمية الحقيقية. ولكن يمكن إضفاء الطابع الرسمي عليها؛ يمكن، ويجب أن يعتمد الاقتراع السري. الفصل، ينبغي أن يكون موجوداً، ولكن وفق معايير عقلانية: يمكن فصل في أي وقت مندوب مشغل، لمشكلة في العمل، ويمكن، كما هو الحال في إيطاليا- لأنه يوجد تجارب بهذا الشأن- فصل سنوي أو نصف سنوي، للمندوبين على أعلى المستويات، الذين يعالجون مشاكل مختلفة، والتي من الواضح لا يمكن للعامل القاعدي حلها. كل ذلك يمكن تنظيمه على الأقل كما لا تفعل إجراءات الديمقراطية البرجوازية.

المشكلة ليست إذا كنا مع الديمقراطية التمثيلية أو لا؛ في المجتمعات المعاصرة، كل ديمقراطية هي تمثيلية. المشكلة هي في معرفة إذا شكل التمثيل هو تنازل عن السلطة أو تفويض حقيقي للسلطة مع إمكانيات السيطرة. أقول أن مشاكل الديمقراطية من النوع الذي ينقله التقليد البرجوازي، تأتي من التنازل عن السلطة. تأتي في تسليم السلطة إلى مختصين خلال فترة طويلة من الوقت، وعدم الاهتمام بالفترة الفاصلة بين عمليتين انتخابيتين. إذاً، النضال من أجل الدمقرطة، هو المحاولة للنضال ضد هذا النظام، الذي يقوم على بنية. ومن أجل النضال بشكل أكثر فعالية ضد هذه البنية، يجب تعزيز هذا التجذر في التجمعات الحقيقية. من أجل أن يهتم الناس بالحياة السياسية، يجب وجود انطباع بأنهم يتحكمون بالقرارات التي تعنيهم: حتى يتمكنوا من السيطرة على هذه القرارات، يجب تكوين تجمع، حيث يناقشون معاً، ويمكن أن يكون لهم وزن…

إذا كان الفرد المذوت، إذا كان الفرد كما تصورته البرجوازية في مواجهة الآلية السياسية، فإنه ينسحب إلى مجال حياته الخاصة: بحيث كل 7 سنوات، يظهر رضاه أو رفضه. هذه هي المشكلة بالنسبة لنا. لذلك نؤيد إجراء تغيير في النظام السياسي من أجل تأسيس الديمقراطية على التجمعات الحقيقية- في العمل والأقاليم مع أشكال تمثيل رسمية، ومنع الخداع…، ونفكر بأن مثل هذا التعديل البنيوي يجب أن يشكل تقدماً نوعياً في الحياة الديمقراطية، لأن يعطي للناس إمكانية فعلية لمتابعة شؤونهم. على شرط أن يكون، إضافة إلى ذلك، جزءاً من مجموعة من التدابير التي، إذا لم تفرغ فعلياً هذا المحتوى من مضمونه وتخفضه للغاية، مثلاً، وقت العمل: من الواضح أن الناس يعملون لأكثر من 30 ساعة في الأسبوع، يصعب عليهم تكريس الوقت للإدارة والشركة والاقتصاد والمجتمع.

أنت، كما تقول، يجب أن يتغير البرلمان.. يجب أن تقول بأي اتجاه يجب أن يتغير. النظام الانتخابي الذي ينتخب لمدة 5 سنوات، في منطقة إقليمية واسعة، النظام الذي يخلق مجموعة من الشروط المناسبة لأوسع استقلالية للمنتخبين إزاء ناخبيهم، هنا يجب التركيز. إنه يتطلب وجود نظام مؤسساتي آخر…

عندما نقول إنه يجب وجود ارتباط بين أشكال الديمقراطية التمثيلية وأشكال الديمقراطية المباشرة، هذا يعني بشكل واضح أننا لا نريد التجديد، إنما تجاوز النظام الديمقراطي الحالي، وأننا نريد تجاوز الفصل الكلي بين طبقة من السياسيين التقنيين وبقية السكان.

ولكن هذا التجاوز، وهذا التحديد يفترض، على الأقل طوال فترة من الزمن، أن تكون الجمعيات العامة الإقليمية كمراكز للسلطة. لأنه في النهاية، إذا كانت السلطة تأتي من تجمعات العمل وتمثيلاتها، فإن خطر الانحطاط الجمعياتي واضح. إن انتشار الديمقراطية، وتكاثر هيئات صناعة القرار، يطرح في الحقيقة مشكلة المركزة والإدارة، ثم هناك كذلك مسألتين: سواء في ظل هيمنة حزب ثوري- أو تحت هيمنة تحالف من أحزاب اليسار- سيحصل كل ذلك. ولكن كلنا على علم أن هذا الحزب ليس موجوداً. الحزب الوحيد الذي بإمكانه تولي هذا الدور، هو الحزب الشيوعي، ونحن نعلم ما الذي يحصل… (حتى لا نقول شيئاً عن الدور المناط بهذا “الحزب”، هذا سيكون بالضرورة الطريق نحو الحزب الواحد، وحتى الحزب “المثالي” الذي بات حزباً أوحداً لا يمكن أن ينتهي به الأمر إلا أن يكون ستالينياً): أو إنه البرلمان المنتخب بالاقتراع العام والسري. لا أرى سوى هذا البديل. في غياب الحزب، ليس المجلس المركزي للسوفيتات من يمكنه ملء وظيفة المَركزة. لم يملأها في أي مكان. إذا نجح إلى حد ما في روسيا، والصين… ذلك لأن الحزب الشيوعي أجرى المَركزة، وبقية النتائج نعرفها.

خاصة وأننا يجب أن نقرر يوماً ما الاعتراف بـ: تعقيد المهام الاقتصادية الحالية للدولة: تعقيد لن يزول أبداً، إنما سيتضاعف في ظل الاشتراكية.

ما أخشاه هو أنه وراء “التجذر في المجتمعات العاملة”، التي تتحدث عنها، هناك في الحقيقة استعادة السلطة من الخبراء، وهذا يعني أن المرء يهرب من ديكتاتورية قيادة الحزب الأوحد حتى يقع تحت سحر الاستبداد التنكوقراطي الخفي. لا يزال غريباً أن كل تكنوقراطيي الحزب الاشتراكي لا يقسمون إلا للإدارة الذاتية! في النهاية بالنسبة لهم، هذا يعني أن الرجال يثرثرون ولكن في النهاية سيتولى هؤلاء الخبراء المهام الاقتصادية!

ثم هناك الواقع الملموس في فرنسا اليوم. نحن نتحدث في هذه المقابلة عن النموذج المثالي للديمقراطية. وقد نسينا تماماً أننا أمام وضع ملموس في فرنسا: هو البرنامج المشترك، والنصر المحتمل لتحالف اليسار.

في مواجهة ذلك، إما أن نعتبر لا يوجد شيء يمكن توقعه من البرنامج المشترك، وأن اليسار المتحد في السلطة مكرس للاشتراكية الديمقراطية، إلى الحد أنه لا يبحث فيه فقط عن سلطوية جديدة، بحيث وحدها السلطات القاعدية الممركزة يمكن لها إحباطه، وبالتالي إن الجانب الإيجابي الوحيد لنا هو أن هذا الحلف تولى الحكومة في أسرع وقت ممكن حتى تفهم الجماهير ما هي الإصلاحية وتبتعد عنها…

تحليلي مختلف: إما سيكون هناك تعبئة هائلة قاعدية أو لن يكون. إذا لم تحصل التعبئة بكل الأحوال، سيكون قد انتهى الأمر: نحن سنعيش تجربة اشتراكية ديمقراطية جديدة. تشبه إلى حد كبير ألليندي، كانت تجربته عبارة عن تحالف انتخابي أكثر من كونها برنامج مشترك. مع 30 بالمئة، فاز الاتحاد الشعبي!

لذلك، إذا حصلت تعبئة هائلة، يمكن أن تتقدم الأمور. ولكن نحن أمام موقف دقيق جداً. كلنا: نحن واليسار في السلطة. أنا لا أقول نحن، في مواجهة اليسار. لأن سيكون دوماً معسكرين وسنكون ضمن حركية اليسار، شئنا أو لا.

عندها سنكون في وضع يتميز بأزمة دولة، ولكنه ليس أزمة ثورية؛ اليسار في السلطة مع برنامج أكثر راديكالية مما كان هو الحال في إيطاليا؛ ملتزم بتطبيقه، وهو أمر ممل بالنسبة لبعض مكوناته [من اليسار]؛ يسار يلتزم بسيرورة دمقرطة الدولة، بمواجهة تعبئة شعبية هائلة تولد أشكالاً من الديمقراطية المباشرة القاعدية… ولكنه، في الوقت عينه، يقتصر على البرنامج المشترك.

لذا إن المشكلة الحقيقية هي كيف يمكن تجذير هذه السيرورة؟ في هذا السياق، ما يبدو لي مستحيلاً هو احتمال مركزة السلطة المضادة العمالية، مجلس عمالي في المصنع تلو المجلس، ومجلس للجنود تلو المجلس.

إضافة إلى ذلك، المشكلة الحقيقية ينبغي أن أخبرك بأمر يبدو خطيراً بالنسبة لي. مثل هذا المسار هو أضمن طريق لاستعادة البرجوازية الكاملة للسلطة، والتي، ينبغي عدم النسيان، ما زالت ناشطة جداً كل هذا الوقت- وكيف!- بسبب هذه السيرورة.

إذاً، كيف يمكن أن تجري الأمور خلاف ذلك؟ كيف يمكن دفع اليسار إلى وضع موضع تنفيذ مسألة دمقرطة الدولة، وتحديد سلطتها المؤسساتية والأشكال الجديدة للديمقراطية المباشرة؟ هذه هي المشكلة. ومن المؤكد ليس عبر عبارات غائمة حول “المجتمعات الحقيقية في العمل”، وهي عبارات مطروحة بشكل ميتافيزيقي، والتي هي بجوهرها، تقوم بأن كل الفضائل ستكون منسوبة إلى “الحزب”، وبها ستحل المشكلة.

أي استراتيجية ثورية لفرنسا؟

الوضع بحسب ما يبدو لي يؤدي بشكل واضح إلى فشل التعبئة والهزيمة، هو نتيجة تطبيق الاستراتيجية الحالية لاتحاد اليسار: حيث وصل اليسار، كما تقول، إلى الحكم، وحيث توجد حركة جماهيرية كافية لإرغامه لتطبيق البرنامج المشترك. ولأنه، في هذه اللحظة، سيضر بمصالح الطبقة الحاكمة بما يكفي لإثارة غضبها؛ وليس كافياً لإبعادها عن الأذى. وبذلك نكون أمام وضع كلاسيكي تماماً حيث تكون الطبقة الحاكمة غاضبة- على المستوى الوطني والعالمي- وحيث تحتفظ بمعظم أدوات السيطرة الاقتصادية والسياسية؛ وخاصة في جهاز الدولة؛ لأنه قد يحصل انفصال عن جهاز الدولة؛ ولكن جهاز الدولة بمعظمه، على العكس من ذلك، سيكون مستقطباً إلى اليمين. لذلك سيكون لدى البرجوازية أسباب للهجوم ووسائل لذلك. ولكن في المقابل، الجماهير الشعبية ستكون مجردة من قوتها لأنها كانت عرضة طوال عقود لخطاب الانتقال السلمي للاشتراكية، و”الطبيعة المتناقضة” للدولة الديمقراطية البرجوازية. نحن نجازف بأن نجد أنفسنا في الوضع الكلاسيكي للهزيمة من دون معركة.

هذا هو التحليل الذي نقوم به. لذلك نقول، مثلك: إذا لم يكن هناك حركة جماهيرية- وهذا ما يبدو لي غير وارد على المدى المتوسط…

أنا كذلك، يبدو لي أنه من غير المعقول أنه لا يوجد حركة جماهيرية.

تمام، إذا كان هناك حركة، أعتقد أن المشكلة ستقوم في تنظيمها حول أهداف- أهداف لن تكون بهدف التدمير الفوري للدولة البرجوازية، والتي ليس لها معنى- ولكن على الصعيد الاقتصادي والسياسي والدولي، أي تلك التي نسميها أهدافاً انتقالية، والتي تشكل بشكل فعلي جزءاً من منطق ظهور السلطة المزدوجة.

أرأيت!

لكن لحظة، سأخبرك بما أقصده من ذلك. على المستوى الاقتصادي، النضال من أجل مصادرة رأس المال الكبير وإرساء السيطرة العمالية على الانتاج على كل المستويات، ما يؤدي عملياً إلى إقرار خطة عمالية لإخراج الاقتصاد من الأزمة.

هذا الاتجاه، لا يؤدي فقط إلى الدفاع عن ظروف العمل والمعيشية للجماهير الشعبية، ولكن كذلك إلى تجريد البرجوازية من السلطة الاقتصادية، على مستوى الشركات والدولة، وتنظيم الطبقة العاملة من أجل السيطرة، أي على السلطة.

على المستوى السياسي، يتعلق الأمر بالنضال، في الواقع، من أجل توسيع الديمقراطية، وليس إعلان “الانتخابات فخ للحمقى”. يتعلق الأمر في النضال من أجل الانتخابات وفق النظام النسبي، والجمعيات العامة الإقليمية، ونقابة الجنود… من أجل توسيع لأقصى مدى الديمقراطية السياسية، لأن بذلك نضعف إلى أقصى مدى الدولة البرجوازية. على المستوى الدولي، ألخص، يجب إيجاد قوى موازية ضد هجوم الامبريالية الأميركية وتوابعها، من خلال تطوير علاقات جديدة مع دول العالم الثالث، وقبل كل شيء، من خلال إشراك الجماهير الشعبية في أوروبا اللاتينية وسواها… هذا هو شرط النجاح وهو أمر ممكن خاصة لأنه يوجد ظرف أوروبي معين في طور التشكل.

يمكن أن يكون هناك منظمة جماهيرية قاعدية، في المؤسسات والأحياء، تلتزم بهذه الأهداف وتعمل على تحقيقها. منطق هذه الأهداف هو المركزة.

إن منطق الرقابة العمالية في المصنع، هو سيطرة العمال على السياسة الاقتصادية للدولة. يواجه العمال المسيطرون في المصنع مسائل السوق والائتمان والتسويق. ومنطق ممارستهم، هي التنسيق والمركزة، على مستوى الفرع، والمنطقة، والدولة. إذاً، ظهور قوة عمالية مواجهة للدولة البرجوازية. بذلك ستكون المواجهة حتمية.

إذاً، حتى تكون هذه المواجهة يجب أن تقوم على الفروقات الداخلية للدولة البرجوازية، أنا مقتنع تماماً. حتى أنني أعتقد أن هذ التمايز سيكون أكثر أهمية وعمقاً إذا كانت الحركة الجماهيرية قوية ومنظمة كقطب خارج الدولة وحاملة لمشروع بديل. ولكن المواجهة بين هذه الحركة الجماهيرية، من خلال تنظيم نفسها وتمركزها خارج جهاز الدولة، وبالاستناد إلى ممثليها وحلفائها في هذا الجهاز، تبدو لي هذه المواجهة حتمية.

بذلك، لا يمكننا أن نتجاهل. وإلا يجب قول ذلك، كما فعل [جيورجيو] أمندولا وأصدقاؤه في الحزب الشيوعي الإيطالي، إن الانتقال إلى الاشتراكية ليس مشكلة حالية. فقد أعلن أمندولا أن الانتقال إلى الاشتراكية في إيطاليا هو مسألة غير راهنية، لأسباب تتعلق بالسياسة الدولية وخاصة لأسباب السياسة الوطنية، بحسبه، لا تريد غالبية الإيطاليين الاشتراكية. يجب وضع هذا الكلام في رأسنا حتى نفهم ما يمكن فعله. نحن نخرج من ثلاثين سنة من التوسع الاقتصادي غير المسبوق؛ الشعب الإيطالي هو الأكثر حرية في العالم، قد حقق الكثير من الفتوحات خلال 10 سنوات مضت. في العمق، يرتبط غالبية الناس بالنظام، ولهذا السبب يصوتون للائتلاف اليميني بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي. إنهم يتذمرون، ولكن في نهاية الأمر ليسوا على استعداد للذهاب أبعد من ذلك، وتقديم التضحيات التي سينتج عنها استيلاءً ثورياً على السلطة.

نتيجة ذلك، يجب التخلي عن الحديث عن التحول، والتوقف عن لعب اللعبة الصغيرة المتمثلة في دفع الناس أبعد قليلاً عما يريدون الذهاب إليه والنضال من أجل دمقراطة المجتمع وتحسين المجتمع الإيطالي.

هذا خطاب قائم ومتماسك!

انتبه، [بيترو] إنغراو لا يقول نفس الشيء…

لا، إنغراو لا يقول نفس الشيء، لكن سياسة الحزب الشيوعي الإيطالي، هي سياسة [جيورجيو] أمندولا بلغة إنغراو. ما يفعله [إنريكو] برلينغير، هو الترجمة… وحسناً، إنها سياسة متماسكة تعتبر أننا في مأزق تاريخي لفترة معينة. لا أوافق، أنا مستعد لمناقشة ذلك، ولكنني أعرف أنه ليس متناقضاً من ناحية المصطلحات. ما يزعجني هو…

… ما يزعجك هو ما أقوله…

صحيح (ضحكات عميقة)، وما يقوله CERES [تيار معارض داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي]، وما يقوله يسار الحزب الشيوعي الإيطالي، لأنه ليس متماسكاً…

أنا، على وجه التحديد لا أصدق، سأعطيك مثالاً ملموساً.

أعتقد أن كارثة الثورة البرتغالية حصلت على وجه التحديد بسبب اشتباك بين مجموعة التسعة [مجموعة تتألف من ضباط مدعومة من اليسار المعتدل] وأوتيلو دو كارفالو، أي المتكلم باسم لجان العمال والمستأجرين والجنود. إذا افترضنا أنه سيكون لدينا جهاز الدولة معبأ بشكل أساسي نحو اليمين، ثم على عكس منه ستكون الحركات الشعبية على النسق الكارافالي، إذا فلنقل، وهذا ما لا نقوله، ولكن وفق هذه الفرضية ستفشل الأمور سلفاً. وهذا هو موقف أمندولا الذي يجب نقده. موقف أمندولا ثابت، ولكنه إصلاحي. موقفك شديد التماسك، ولكنه غير واقعي تماماً.

لأنك إذا افترضت أن جوهر جهاز الدولة، كما هو الحال في فرنسا، فإن أشكال المركزة للسلطة الشعبية… لكن من الواضح أنها لن تستمر سوى لثلاث قفزات [هبّات] وستسحق! لا تعتقد حقاً، في الوضع الحالي، إنهم سيسمحون للسلطات الموازية للدولة أن تكون ممركزة من أجل إنشاء سلطة مزدوجة! وسيتم تسوية الأمور حتى قبل البدء بأي تنظيم من هذا النوع.

كذلك، سأعكس تحليلي. أعتقد أنه حالياً، قد تكون أجزاء من الدولة متأرجحة؛ وأعطيك مثل البرتغال. لذلك ستقول لي إن الأمر مختلف. حسناً، أتفق معك! ولكن ما يثير فضولي في هذا المثال هو أن الجيش خاصة، حصلت انقسامات كبيرة في أكثر من لواء لصالح الرأسمال الكبير، وفي المقابل، جرت تعبئة لجان الجنود إلى جانب الحركة العمالية.

ما الذ حصل في البرتغال؟ إذا كان كارثة، فذلك بسبب حصول انشقاق، وصدام، بين البنى الشعبية، فلنقل حركات كارفيلية، ومجموعة التسعة. وعرف كارفالو نفسه أن الشكل الذي اتخذته مركزية هذه القوى الشعبية المضادة للسلطة كان لها علاقة كبيرة في القطيعة الكارثية التي حصلت بين الحركة ومجموعة ميلو أنتونيس.

تشققات في جهاز الدولة

أعتقد حقاً أن هذا كان سبباً ثانوياً لهذا الصدع. السبب الأساسي هو أن ميلو أنطونيس و”الاشتراكية الديمقراطية العسكرية”، كما قالوا هناك، قد شاركوا في عملية استقرار الرأسمالية العسكرية. لقد كان حتى من بين رؤوس الحربة والحليف العسكري الأساسي لماريو سواريز وداعميه الدوليين.

السبب الأساسي لانقسام حركة القوى المسلحة، ليس ردة فعل على حركة ” الانتصار باتحاد الجنود”، فالحركة الأخيرة ظهرت في وقت متأخر جداً. والواقع أنها ظهرت بعد حركة التسعة، وفي الواقع، خدمة لهذه الحركة. لذلك هناك تشقلب بين الأسباب والنتائج في تحليلك.

حسناً، ولكن ليست هذه هي المشكلة، ما يثير فضولي، هو أن تستمر في تحليلك. لا نبحث عن الصعوبة من أجل الصعوبة ولا المواجهة من أجل المواجهة. إذا كنا مقتنعين بأنه يمكن حصول انقسام أغلبيّ ضمن جهاز الدولة الفرنسية، لصالح الحركة الشعبية، فمن الواضح أننا سنؤيد لعب هذا الورقة تماماً، وحتى المخاطرة من اجل هذا الرهان. ولكن جهاز الدولة هذا، نحن نعرفه. فوفق أي معجزة سيتحول إلى جانب الثورة؟ هذا ما أود أن أعرفه منك بشكل ملموس. ما هي الفرضية المعقولة، وحتى المجازفة، والجريئة، التي يمكننا خلقها من أجل تحقيق انشطار أغلبيّ داخل جهاز الدولة؟

سأخبرك، على سبيل المثال، بما خص الجيش والشرطة والعدالة… لأن فرضيتي تقوم على الأزمة الداخلية لهذه الأجهزة. لنأخذ العدالة: ثلث القضاة ممثلون في نقابة القضاة… وهذا أمر مهم. العنصر الثاني: ينبغي لليسار في السلطة بكل الأحوال، حتى لمصلحته الخاصة، تقديم تغييرات هامة ليس فقط في الموظفين، ولكن حتى في بنى الدولة. بعد عشرين سنة من الدوغولية، نشأت حالة من الزبائنية، وتمأسست دولة-اليمين- [اتحاد الديمقراطيين من أجل الجمهورية الخامسة UDR]، أو جمهوريّ-مستقل، حتى وفق منطق بسيط للنخبة السياسية، على حكومة اليسار تغيير الأشخاص، ولكن كذلك الأشكال المؤسساتية. على سبيل المثال، بما خص العدالة، إذا كانوا لا يريدون أن يجدوا أنفسهم في وضع شبيه بألليندي في وقت قصير، سيكونون مضطرين، كما أشدد، حتى من وجهة نظر إطالة أمد النخبة، لكسر سلطة مجلس القضاء، وتغيير قواعد تناوب القضاة…

وبالتالي، إن كل هذا الذي يجري توضيحه للحركات الجماهيرية القاعدية، سيجعل ممكناً توقع حصول الانشطار. لنأخذ مثل الجنرال [أنطوان] سانغينيتي. على الرغم من ذلك، قبل عامين، كان قائداً للبحرية الوطنية، ويفكر تيار كبير من الضباط مثله. إقرأ مواقفه لمجلة Politique-Hebdo، هو يدافع عن مندوبي الموظفين، وسياسة دفاع مستقلة عن الولايات المتحدة… أي أننا نتعامل مع جيش على استعداد لاحترام شرعية محددة، جيش لن ينتج مؤامرات ضد النظام منذ البداية.

إذا كانت فرضيتي خاطئة، في الوقت عينه، فرضيتك غير واقعية بالكامل…

أي فرضية ثورية تبدو غير واقعية.

أكثر أو أقل، كل شيء يتوقف بالضبط على هذا الفارق الدقيق.

لا يوجد شيء غير واقعي أكثر من الفرضية البلشفية عام 1917، والفرضية الماوية عام 1949، والفرضية الكاستروية عام 1956! الواقعية هي دوماً إلى جانب إبقاء الوضع كما هو…

تذكر أن اللاواقعية غالباً ما تكون كذلك إلى جانب الكوارث والهزائم الدموية. لكن يمكنك كذلك وضع فرضية أكثر واقعية للفرص الثورية، والتي تظهر على نحو مختلف…

لنأخذ كذلك مشكلة الشرطة، عندما ترى كل ما يحدث طوال سنوات في الشرطة؛ إذا افترضت، كما هو شرعي، أن حكومة يسارية لن تكون قادرة على القيام بأي شيء إلا بأخذ قرارات مهمة باتجاه دمقرطة الشرطة.

إذاً، بالنظر إلى أزمة الدولة، بحسب ما تدل الأدلة التي لدينا؛ ونظراً إلى الالتزام حيث نجد اليسار- من جديد من أجل مصلحته الذاتية الأساسية- مدعواً لإجراء هذه التغييرات؛ وحيث يمكنه إتمام هذه الإجراءات بواسطة السلطة التي يعطيه إياها الدستور والقوة التي تعطيه إياها الحركات الشعبية القاعدية؛ ونظراً لكل ذلك، أعتقد أن هذا هو الحل الوحيد المعقول.

خاصة أنه لا يمكننا تجاهل القوى الموجودة: فرضيته، في الواقع، لا تقوم فقط إلى تقييم للفرص الموضوعية لأزمة ثورية في فرنسا. إنما تستند كذلك، ضمنياً، على إمكانية تطور جذري وقوي لحزب ثوري من النوع اللينيني، على يسار الحزب الشيوعي الفرنسي. كل فرضيته قائمة ههنا. ماندل يقول ذلك في مقابلته حول الاستراتيجية الثورية في أوروبا.

ولكن بالنسبة لي، أنا لا أؤمن بها على الإطلاق: بداية بسبب ما قلته فوق حول الواقع الجديد للدولة، والاقتصاد، والسياق الدولي… ومن ثم، بسبب ثقل القوى السياسية لليسار التقليدي، خاصة في بلد كفرنسا. تشير فرضيتك، مثلاً، إلى أن الرابطة [الشيوعية الثورية] ستنتقل من 7000 مناضل، خلال بضعة أشهر، إلى ما لا يقل عن 10 إلى 20 ضعفاً! وهذا الأمر لم يسبق له مثيل في أي مكان! لا في التشيلي ولا…

في البرتغال، وحتى أكثر من ذلك في اسبانيا، رأينا أموراً مشابهة.

أنت تمزح! هذه القوى، مقارنة بالأحزاب الشيوعية، وخاصة في اسبانيا، هي أمور قليلة الأهمية. ولكن دعنا نذهب أبعد من ذلك: إذا أجرينا تحليلا للحزب الشيوعي كمجرد حزب اشتراكي-ديمقراطي، من وجهة نظر تنظيمية كما من وجهة نظر سياسية، إذاً، فعلياً، يمكنك الاستناد إلى إعادة تشكيل سريعة وجماهيرية للحركة العمالية، كما تقول.

ولكن هذه ليست أحزاب اشتراكية-ديمقراطية. عند وجود حزب شيوعي جماهيري، لا توجد إمكانية لتنامي سريع ومنظم لليسار الجذري الثوري المستقل. لقد رأينا مع حركة اليسار الثوري- MIR في الشيلي. إذا استندنا إلى نظريتك، يمكن ان نكون واقعيين أو متسقين، ولكن بعد 50 إلى 60 سنة. يجب عدم تجاهل فشل اليسار الجذري (من وجهة النظر هذه) خلال السنوات الماضية في أوروبا.

أنت على حق، في الإشارة إلى أن وجهة نظرنا تقوم على فرضية إعادة تشكيل عميقة للحركة العمالية. ولكن يبدو لي أنك تبتعد عن رؤية ثابتة بعض الشيء لهذه الحركة، كما هي موجودة. إنها حركة تغيرت فعلياً خلال 5 أو 10 سنوات، من وجهة نظر إعادة التشكيل. الأحزاب الشيوعية ليست أحزاباً اشتراكية-ديمقراطية، أنا متفق معك تماماً حول الموضوع، ولكنها دخلت في مرحلة من الاضطرابات والأزمات، ومن التمايزات الداخلية، والتي لا يمكن إلا أن نرى تمظهراتها الأولى اليوم.

من الواضح، أنه إذا بدأت من فرضية ثابتة، بالقول: هذا هو ميزان القوى لفترة تاريخية كاملة، إذاً، من الواضح، لن تكون إلا على حق. لأن الإصلاحيين مهيمنون بشكل واسع؛ في حين الثوريين- إضافة إلى عدم جهوزيتهم وانقساماتهم- هم حالة غير راسخة بما فيه الكفاية… إذاً هناك فرضية إصلاحية التي يكون لها مصداقية، ولا يمكن إلا أن نأمل، في هذه الظروف، العمل على الإصلاحيين لدفعهم نحو اليسار بقدر الاستطاعة، وربما إرشادهم. إنها فرضية يسار الحزب الاشتراكي- CERES، والذي ينبغي قول الكثير بشأنه. (4) ولكن بحسب رأيي، هذا جزء من مفهوم إصلاحي للحركة العمالية، ويتناقض لدرجة كبيرة مع تطورها الأخير في إيطاليا وفي فرنسا، إضافة إلى البرتغال واسبانيا.

خذ مثلاً نتيجة اليسار الجذري في الانتخابات البلدية في آذار/مارس عام 1977: لقد شكلت مفاجأة، وهي تدعونا إلى التفكير. ما معنى حصول اليسار الجذري على ما نسبته 8 إلى 10 بالمئة بين قطاعات الطبقة العاملة في بعض المدن العمالية؟ إنه تصويت حجب الثقة عن سياسات أحزاب اليسار الكبرى، ففي ميزان القوى بين الثوريين والإصلاحيين داخل الحركة العمالية، لا توجد أحزاب وتنظيمات فقط، إنما يؤخذ بعين الاعتبار كذلك موقف عشرات الآلاف من المناضلين من العمال، غير المنظمين سياسياً، أو المنظمين سياسياً بشكل جيد في الحزبين الشيوعي والاشتراكي، ومن ثم بعد سلسلة من التجارب منذ 1968، أصيبوا بانعدام ثقة كبيرة تجاه الاتجاهات السياسية الموجودة. وفي حالة فوز اتحاد اليسار، وتزايدت أزمة النظام، يمكن لهؤلاء المناضلين وغيرهم الكثيرين رفض مسار “التوقف” والسعي نحو حل اشتراكي.

إذا تمكن اليسار الجذري من الانضمام إلى هؤلاء المناضلين، ليقدم لهم بديلاً جذرياً مناهضاً للرأسمالية، فإن ميزان القوى مع الإصلاحيين يمكن أن يتغير على نحو كبير.

إضافة إلى ذلك، أكرر، إن انضمام الحزبين الشيوعي والاشتراكي إلى الحكومة، وتطبيق البرنامج المشترك، سيزيد التناقضات الداخلية بينهما. إن الانتقال إلى الاشتراكية ليس له في الواقع بفرنسا، أي فرصة حتى يتحقق، ما لم يستقطب عددا كبيرا من المناضلين في الحزبين الشيوعي والاشتراكي إلى اليسار وأن يختاروا في اللحظة الحاسمة، لحظة الاختيار بين “التراجع” و”المضي قدماً”، الخيار الثاني.

لكن، حتى يحصل ذلك، يجب أن يكون هناك بديل له مصداقية ومناهض للرأسمالية على يسار الحزب الشيوعي الفرنسي. ما عدا ذلك، مهما كانوا نقديين، سيتبعون قياداتهم. إن هذا القطب البديل، المنغرس في الحركة الجماهيرية، والحامل لاستراتيجية وبرنامج حل اشتراكي للأزمة، والعامل من أجل إعادة تشكيل الحركة العمالية بشكل عام.

في الواقع، ربما قد وصلنا إلى جوهر الخلاف. ربما لا يتعلق الأمر بالحاجة إلى تفكيك الدولة البرجوازية- وبما في ذلك من الداخل، من خلال انشطار داخلي لأجهزتها- ولكن بما خص وسائل تحقيق ذلك. البعض يعتقد أنه لتحقيق ذلك، يجب على الحركة الجماهيرية ألا تفعل شيئاً يمكن أن يعيد توحيد الجسم الاجتماعي للدولة، وانزياحها نحو اليمين… بالنسبة لهم، إن الاعتدال، و”المسؤولية” هو الأكثر قدرة على تجنب التناقضات الداخلية للدولة. في الواقع، ما يُستهدف ههنا هو رأس جهاز الدولة.

بالنسبة لنا، على العكس من ذلك، إن التطور والتنظيم المستقل لنضال حركة واسعة مناهضة للرأسمالية- خارج أجهزة الدولة، ولكن كذلك داخلها- هو الذي سيخلق ظروف الانشطار…

ما زال وجود حركة مهمة ونقدية ومستقلة لليسار الجذري، برأيي، ضروري للتأثير على مسار تجربة اتحاد اليسار. لكن ليس للأسباب التي تعتقدها أنت، ليس لأن اليسار الجذري يمكن أن يشكل قطباً سياسياً تنظيمياً بديلاً، كما تقول؛ من جهة، لأنه ليس قادراً، ومن جهة أخرى، لأنني لا أعتقد أنه يوجد بديل حقيقي مناهض للرأسمالية خارج أو إلى جانب مسار البرنامج المشترك. لا يوجد مسار مختلف ممكن حالياً، إذاً السؤال ليس التخلي عن مسار إصلاحي قائم بذاته واختيار المسار الصافي والنقي، مسار بديل يكون فيه اليسار المتطرف هو المرشد والدليل. السؤال هو أن نذهب أبعد من ذلك، والتعمق وسوى ذلك، في طريق البرنامج المشترك، وان نمنع الفخ الاشتراكي-الديمقراطي الذي ليس بالضرورة مندرجاً، والمعتبر [مسبقاً] بمثابة خطيئة أصلية لهذا المسار.

بالتالي، يمكن لليسار الجذري النضال، ليس كقطب جذب نحو مكان آخر أو جزء آخر، ولكن قبل كل شيء كحافز، كقوة لفتح المقاربات، وتوضيح أفق البرنامج المشترك. إذاً، لأن اليسار الجذري لا يقتصر دوره على الجانب التنظيمي الذي هو في النهاية الأقل أهمية، من خلال توليه سلسلة من المشاكل الجديدة التي لا يستطيع اليسار الممؤسس والموحد حلها. أخيراً اليسار الجذري هو ضروري للغاية لسبب أخير، وذلك كتذكير نشط، وفي كل الأوقات، للحاجة إلى ديمقراطية مباشرة قاعدية، باختصار كضمانة، ضد الاغراءات الاستبدادية المحتملة من اليسار الحكومي. دور، إذا أردت، نقدي أكثر منه صدامي.

الهوامش:

1. La Crise de l’État, Paris, PUF, 1976.

2. Luciano Gruppi : « Sur le rapport démocratie /socialisme », in Dialectiques, n’°17.

3. نوبير بوبيو، أستاذ في العلوم السياسية في تورين؛ مدير المجلة النظرية في الحزب الاشتراكي الإيطالي، Mondoperaio. في أيلول/سبتمبر 1975، نشر عدداً خاصاً في المجلة حول موضوعة: “الاشتراكية والديمقراطية”، مطلقاً نقاشاً ما زال مستمراً.

4. Critique communiste, n°1, mars-avril 1975.



#نيكوس_بولانتزاس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدولة والانتقال إلى الاشتراكية


المزيد.....




- أخذ ورد بين مذيعة CNN وبيرني ساندرز بشأن ما إذا كانت إسرائيل ...
- مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين بجامعة أمستر ...
- على وقع حرب غزة.. مشاهد لاقتحام متظاهرين في اليونان فندقًا ي ...
- هل تقود الولايات المتحدة العالم نحو حرب كونية جديدة؟
- م.م.ن.ص// -جريمة الإبادة الجماعية- على الأرض -الحرية والديمق ...
- تمخض الحوار الاجتماعي فولد ضرب الحقوق المكتسبة
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 554
- الفصائل الفلسطينية ترفض احتمال فرض أي جهة خارجية وصايتها على ...
- بيان المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- حزب يساري بألمانيا يتبنى مقترحا بالبرلمان لدعم سعر وجبة -الش ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية:(البنوك ) مركز الرأسمالية في الأزمة.. دائرة لي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رؤية يسارية للأقتصاد المخطط . / حازم كويي
- تحديث: كراسات شيوعية(الصين منذ ماو) مواجهة الضغوط الإمبريالي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (الفوضى الاقتصادية العالمية توسع الحروب لإنعاش ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نيكوس بولانتزاس - الدولة والانتقال إلى الاشتراكية