أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أحمد شافعي - عمارة باموك ... عن طفل نشأ وسط أطلال الإمبراطورية العثمانية















المزيد.....



عمارة باموك ... عن طفل نشأ وسط أطلال الإمبراطورية العثمانية


أحمد شافعي

الحوار المتمدن-العدد: 1729 - 2006 / 11 / 9 - 08:59
المحور: سيرة ذاتية
    


أورهان باموك
أمي، وأبي، وأخي الأكبر، وجدتي لأبي، وأعمامي، وعماتي، كلنا عشنا في طوابق تك العمارة الخمسة. كانت جميع فروع العائلة (شأن كثير من العائلات العثمانية الكبيرة) تعيش معا ـ حتى قبل مولدي بعام ـ في قصر حجري كبير. ولكنهم قاموا في عام 1951 بتأجيره لمدرسة ابتدائية خاصة وأقاموا البناء الحديث الذي أصبح لنا بيتا، ووضعوا على واجهته ـ وفقا لعادات أهل ذلك الزمان ـ لوحة كتبوا عليها "عمارة باموك". كنا نعيش في الطابق الرابع، ولكنني كنت أنطلق بين جميع الطوابق، منذ أن بلغت من العمر حدا استطعت فيه أن أنفصل عن حجر أمي. كان في كل طابق في ذلك الوقت بيانو واحد على الأقل. وعندما قام آخر أعمامي العزاب بتنحية جريدته لوقت كاف لأن يتزوج، ثم انتقلت زوجته الجديدة إلى شقة الطابق الأول حيث ستقضي نصف القرن التالي شاخصة عبر الشباك، أحضرت معها البيانو الخاص بها. ولم يكن أحد يعزف عليه، ولا على أي بيانو غيره.
وكانت في كل شقة أيضا خزانة زجاجية مغلقة على أطقم الخزف الصيني، وأطقم الشاي، والفضيات، والسكريات، وعلب السعوط، وكئوس الكرستال، وأباريق ماء الورد، والأطباق، والمباخر، وكل هذه الأشياء التي لم تمسسها يد من قبل. والتي كنت أجد بينها مخابئ لسياراتي الصغيرة. وكانت هناك مكاتب مطعمة بعرق اللؤلؤ لا يستخدمها أحد، ورفوف للعمائم لا تعتليها عمائم، وسواتر (بارافانات) يابانية بديعة لا يختفي خلفها شيء. وثمة داخل المكتبة تلم كتب عمي الطبية الغبار وراء الزجاج. فعلى مدار العشرين عاما التالية لهجرته إلى أمريكا، لم تمسسها يد. وكان عقلي الطفل يرى أن هذه الغرف مؤثثة للموتى لا للأحياء.
حين كان يُهيَّأ لجدتي أننا لا نجلس بانضباط على مقاعدها المزينة بخيوط الفضة، كانت تلفت أنظارنا قائلة "اعتدلوا". فلم تكن غرف الجلوس أماكن يسع المرء أن يجلس فيها كيف يشاء، بل كانت متاحف صغيرة مصممة لكي تبين للزائر المفترض إلى أي مدى يبلغ استغراب [من الغرب] أهل البيت. ولعل من كان يفطر في رمضان كان يشعر بنوبات أقل من وجع الضمير وسط هذه الخزانات الزجاجية والبيانوهات الميتة عما كان ليشعر به لو كان لا يزال جالسا القرفصاء في غرفة مليئة بالوسائد والحشايا. ومع أن الجميع كانوا يعرفون أن التغريب يعني التحرر من قوانين الإسلام، إلا أن أحدا لم يكن يعرف له نفعا آخر. لذلك لم يقتصر تواجد هذه المعروضات الكئيبة (والشعرية في بعض الأحيان) على البيوت الثرية في اسطنبول، بل في شتى أنحاء تركيا. وعند وصول التليفزيون، في السبعينيات من القرن العشرين، أدرك الناس أن هذه الأشياء قد عفا عليها الزمن. واكتشفوا مدى روعة التفافهم معا لمشاهدة أخبار المساء، فتحولت غرف الجلوس لديهم، من متاحف صغيرة إلى سينمات صغيرة، وإن كان المرء لا يزال يسمع عن عائلات تضع أجهزة التليفزيون في الصالات المركزية، تاركة غرف الجلوس للإجازات والضيوف المهمين.
لو كان أحد سأل جدتي، لقالت إنها تؤيد مشروع أتاتورك التغريبي، أما حقيقة الأمر بالنسبة لها ـ كما كان بالنسبة لكل أهل المدينة ـ فهي أنه لا الشرق ولا الغرب يمثلان لها شيئا. فلم تكن تترك البيت إلا لماما، ولكن بعد خطبتها إلى جدي، وقبل أن تتزوج منه، أقدمت على تصرف بدا جريئا في اسطنبول في عام 1917: حيث ذهبت معه إلى مطعم. ولأنهما كان يجلسان إلى المائدة متقابلين، ولأنهما كانا سيشربان شيئا، فقد أتخيل أنهما كانا في أحد مطاعم بيرا، وهو حي كان معظم سكانه في ذلك الوقت من المسيحيين. وحين سألها جدي عما تود أن تشربه (ويعني الشاي أم الليمون)، قالت، وقد تصورته يعرض شيئا أقوى "سأشرب، أنت تعرف يا سيدي، أنني لم أقرب الكحول من قبل".
بعد أربعين عاما، حين كانت تضيف قليلا من البهجة merry إلى كأس البيرة الوحيد الذي تسمح لنفسها به في حفلات العشاء التي كانت تقام بمناسبة بداية العام الجديد، كنت تجد من يسرد هذه القصة القديمة، فتفلت منها ضحكة خجلة، مجلجلة. أما لو كان يوما عاديا، وكانت على مقعدها المعتاد في غرفة الجلوس، فكانت تضحك قليلا، ثم تذرف دمعات على ذلك الرجل "الفريد" الذي اختطفه الموت منها قبل الأوان، والذي لم أعرفه أنا إلا من خلال مجموعة الصور. وفيما هي تبكي كنت أحاول أن أتخيل صورة لجدي وهما يمشيان في شوارع المدينة، ولكن كان يصعب علي دائما أن أتخيل جدتي ـ تلك المرأة الكهلة التي تبدو على ملامحها السكينة ـ وقد خرجت من لوحة لرينوار، لتمشي طويلة نحيلة عصبية في لوحة أخرى لموديجلياني.
كانت ستائر التُلِّ في غرفة جلوس جدتي مسدلة طوال الوقت، وإن لم يكن لذلك تأثير يذكر، فقد كانت العمارة المواجهة قريبة بدرجة جعلت الغرفة معتمة طوال الوقت. لم يكن في الغرفة سطح وحيد خاليا من الإطارات. غير أن أكثر تلك الإطارات حضورا كان يحتوي على بورتريهين هائلين، وكان معلقا فوق المدفأة التي لم تستعمل قط: أحد البورتريهين عبارة عن صورة فوتغرافية معدلة لجدي، والآخر لجدتي. ومن طريقة تعليق البورتريهين على الجدار، والوضعين اللذين اتخذهما جداي (ملتفتين قليلا إلى أحدهما الآخر على الطريقة التي لا تزال أثيرة لدى ملوك أوربا وملكاتها كما يظهرون على الطوابع البريدية) كان بوسع كل من يصادف نظرتيهما المتغطرستين أن يعرف على الفور أن القصة كلها بدأت بهذين الشخصين.
كان الاثنان ينتميان إلى بلدة بالقرب من مانيسا تدعى جوردس في جنوب الأناضول. كانت أسرة جدي معروفة باسم باموك (أي القطن) بسبب البشرة والشعر الفاتحين. أما أسرة جدتي فكانت شركسية. (وقد كانت فتيات الشركس ـ المعروفات بالطول والجمال ـ يحظين بحضور واسع في الحريم التركي). كان والد جدتي قد هاجر من الأناضول أثناء الحرب الروسية العثمانية (1877 ـ 1878) واستقر في اسطنبول حيث كان جدي يدرس الهندسة المدنية. وفي أوائل الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، عندما كانت الجمهورية التركية تستثمر بقوة في مجال السكك الحديدية، حقق جدي أموالا طائلة، ثم أقام مصنعا لتصنيع كل شيء بداية من الحبال إلى الخيوط إلى التبغ المجفف، وكان المصنع على ضفاف الجوكسو Goksu وهو نهير يصب في البوسفور a stream that fed into the Bosporus.
مات جدي بسرطان الدم وهو في السادسة والأربعين، فأصبحت جدتي "زعيمة" لأسرة كبيرة وثرية. وتلك هي الكلمة التي كان يستخدمها طاهي جدتي وصديق عمرها "بكير" حينما كان يضجر من أوامرها وشكاواها التي لا تنتهي، فيقول "كما تشائين يا زعيمة". ولكن سلطة جدتي لم تكن تتجاوز المنزل الذي كانت تحرسه بسلسلة ضخمة من المفاتيح. وعندما خسر أبي وأعمامي المصنع الذي ورثوه عن جدي وهم بعد صغار، دخلوا مجال المشاريع العقارية، وقاموا باستثمارات متعجلة أخفقت جميعا، مما دفعنا إلى بيع أصول العائلة واحدا بعد واحد، لتذرف جدتي في كل مرة دمعها وتطلب منهم أن يكونوا أكثر حرصا في المرة القادمة.
في المكتبة، كانت الصور الفوتوغرافية للأجيال الجديدة مرتبة وفقا لسيمترية صارمة على الجدران. وقد جعلتني دراستي المطولة لهذه الصور أقدر أهمية الإبقاء على لحظات معينة للأجيال القادمة، كما أدركت مدى سطوة هذه المشاهدات علينا في ممارساتنا اليومية. فعندما كنت أرى عمي يعطي أخي مسألة رياضية، كنت أراه أيضا في صورة التقطت منذ اثنين وثلاثين عاما، وعندما كنت أرى أبي يتصفح الجريدة ويحاول بابتسامة باهتة أن يتابع نكتة تقال في الغرفة المزدحمة، كنت أراه في اللحظة نفسها في صورة التقطت له وعمره خمسة أعوام، حينما كان شعره في طول شعر فتاة، فكان يبدو لي حينئذ أن جدتي جمدت تلك اللحظات لكي يتسنى لنا أن ننسجها في الحاضر.
عندما كانت جدتي تتصدر مائدة العشاء، وبنبرة ـ لا تناسب إلا الكلام عن تأسيس الدول ـ تتكلم عن جدي الذي مات صغيرا للغاية، وتشير إلى الصور والمناضد والجدران، كان يبدو أن ثمة اتجاهين يتنازعانها: الرغبة في الاستمرار في الحياة، والتوق إلى الإمساك بلحظة من لحظات الكمال الغابرة. التلذذ بالعادي، والتقدير للمثالي.
كنت في طفولتي أحب تلك الولائم الاحتفالية المطولة. حين كانت العائلة تلعب التمبولة [وهي لعبة تعتمد على سحب بطاقات طمعا في نيل جوائز] فأرى أعمامي يضحكون (بتأثير من الفودكا أو الراكي raki) وأرى جدتي تبتسم (بتأثير من كأس البيرة الصغير) لم أكن أملك إلا أن أرى بهجة الحياة خارج إطار الصورة. كنت أشعر بالأمان لانتمائي إلى عائلة كبيرة سعيدة، وأرفل في وهمي بأنه ما جيء بنا إلى الأرض إلا لكي ننعم بها. أما نحن، في داخل شقتنا، فلم تكن أمي تكف عن الشكوى لي ولأخي من قسوة "عمتكما" و"عمكما" و"جدتكما". وعندما كان يقع شقاق حول من يتملك ماذا، أو بشأن تقسيم الأنصبة في مصنع الحبال، أو حول من الذي يسكن الطابق الفلاني، كان اليقين الوحيد هنالك هو أن الشقاق لن يسفر عن حل.
وإذا كنت في ذلك الوقت أصغر من أن أفهم السبب الحقيقي لكل تلك النزاعات ـ وهو أن عائلتي بقيت تعيش كما كانت تعيش أيام القصر العثماني ومن ثم فقد كانت تتداعى ببطء ـ فقد بدأت ألاحظ إفلاسات أبي المتعاقبة وتغيبه المستمر. وكنت أسمع تفاصيل أكثر عن مدى سوء الأمور حين كانت والدتي تصطحبنا لزيارة جدتي الأخرى في بيتها المسكون بالأشباح. ففي حين كنت أنا وأخي نلعب، كانت أمي تشكو، وكانت جدتي تشير عليها بالصبر. وكانت جدتي لا تكف عن إبراز عيوبها أمامنا، ربما لأنها كانت تخشى من رغبة أمي في العودة إلى البيت المترب ذي الطوابق الثلاثة الذي تعيش فيه وحدها تماما.
بعيدا عن إظهاره الجهامة بين الحين والآخر، لم يكن لدى أبي ما يجعله يشكو من الحياة: كان يتحلى دائما بسيماء الفرحة الطفولية، في ملامحه، وتفكيره، وحظه الجيد الذي لم يحاول إخفاءه قط. وكان داخل البيت دائم التصفير، والنظر في المرآة، وكان يضع دائما دهانا كالليمون على شعره. كان يحب النكات والألغاز الكلامية، والمفاجآت، وإلقاء الشعر، وإظهار شطارته، وركوب الطائرات إلى أماكن بعيدة. لم يكن قط أبا بمعنى التوبيخ والمنع والعقاب. وحين كان يخرج معنا، كنا نتسكع في جميع أنحاء المدينة، لنقيم صداقات أينما ذهبنا، وفي تلك الرحلات بدأت أعتبر العالم مكانا للمتعة. وحينما كانت تظهر مشكلة، كان أبي يدير لها ظهره ملتزما الصمت. أما أمي ـ التي كانت تضع القواعد ـ فهي التي كانت ترفع حاجبيها وتدلنا على كل ما يتعلق بالوجه المظلم للحياة. ولكنني دائما كنت أعتمد على حبها وعطفها، فقد كانت تكرس لنا وقتا أكبر بكثير مما يخصصه لنا أبي الذي كان يتحين كل فرصة للفرار من البيت.
حين كانت الأمسيات تجمع كل أفراد العائلة في غرفة جلوس جدتي، كنت أمارس لعبة أجعل فيها من شقة جدتي مرفأ لقبطان سفينة عظيمة. ولعلي استلهمت تلك الخرافة من السفن التي كانت تمر في البوسفور فتنفخ أبواقها في أحلامي وأنا مستلق في فراشي. وعندما كنت أدير دفة سفينتي الكبيرة وسط العاصفة، كان خوف بحارتي والركاب يتعاظم أمام الموج المتلاطم، فكنت أشعر بفخر القبطان، مدركا أن سفينتنا، وعائلتنا، ومصيرنا، بين يديَّ أنا.
ولكن فيما كان أبي وأعمامي يمرون بالإفلاسات الواحدة تلو الأخرى، فتتناقص ثروتنا، وتتفكك عائلتنا، وتزداد حدة النزاعات على المال، أصبحت كل زيارة إلى شقة جدتي مدعاة للحزن، وخطوة إلى إدراك أنه وإن يكن لا يزال اتلوقت طويلا، إلا أنها كانت آتية عبر طريق كثير الانحناءات: غيمةُ الحزن والخسارة التي كست سماء اسطنبول كلها إثر سقوط الإمبراطورية العثمانية، والتي كانت قد بسطت ظلها على عائلتي أيضا.
أقيمت عمارة باموك على تلال تعلو المدينة، على حافة مساحة كبيرة في نيسانتاسي كانت ذات يوم حديقة قصر الباشا. كان اسم نيسانتاسي (الحجر المستهدف) يعود إلى أيام الإصلاحيين، أي السلاطين المستغربين في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، الذين كانوا يمارسون الصيد والرماية في التلال. حيث هجر السلاطين العثمانيون قصر توبكابي Topkapi Palace خشية السل وبحثا عن أسباب الراحة الغربية، وبدأوا يلتمسون قصورا جديدة بالخارج، وبدأ وزراؤهم وأميراتهم يتخذون لأنفسهم قصورا خشبية في تلال نيسانتاسي.
عبر الشبابيك الخلفية في بيتنا بشارع تسيفييي آفينيو، ومن وراء أشجار السرو والزيزفون، كان بوسعك أن ترى أطلال قصر خير الدين باشا التونسي Tunisian Hayrettin Pasha، وكان قوقازيا شركسيا عمل لفترة قصيرة رئيسا للوزراء في أعقاب الحرب الروسية العثمانية. وهو في صباه في ثلاثينيات القرن التاسع عشر (قبل عقد من كتابة فلوبير معربا عن رغبته في الانتقال إلى اسطنبول وشرائه عبدا)، جيء به إلى اسطنبول وبيع كعبد، وانتهى به المطاف إلى قصر حاكم تونس، حيث نشأ هنالك فتعلم العربية، ثم انضم إلى الجيش التونسي، وعمل ممثلا له في فرنسا، ثم عمل أخيرا في مقر القيادة، وفي البرلمان، وفي السلك الدبلوماسي، وكان رئيس لجنة تشكلت لإصلاح الأوضاع المالية في الدولة. وبعد أن أنهى الخدمة، استدعاه السلطان عبد الحميد إلى اسطنبول.
قام السلطان بتعيين خير الدين باشا التونسي مستشارا ماليا لفترة وجيزة، ثم جعله رئيسا للوزراء. فأصبح الباشا بذلك حلقة في سلسلة طويلة من الخبراء الماليين ذوي الخبرة الدولية الذين عهد إليهم بتخليص تركيا من الديون. وكما حدث لمن سبقوه، كان الناس يتوقعون الكثير من ذلك الباشا، لا لشيء إلا لأنه كان يبدو مستغربا أكثر منه عثمانيا أو تركيا. ولهذا السبب نفسه، أصبح موضع بغض فيما بعد، إذ ترددت الشائعات حول قيامه وهو في طريقه إلى المنزل ـ بداخل عربته التي تجرها الخيول ـ بتسجيل ملاحظات باللغة العربية بعد عقده لاجتماعاته داخل القصر باللغة التركية، ثم يعود فيما بعد لإملاء هذه الملاحظات على سكرتيره باللغة الفرنسية. وكانت رصاصة الرحمة التي تلقاها خير الدين باشا هي الشائعات التي ترددت حول تواضع مستواه في اللغة التركية، وأنه يسعى إلى تأسيس دولة ناطقة بالعربية، وعندما وصلت تلك الشائعات ـ التي لم يكن لها أساس من الصحة ـ إلى عبد الحميد، أقال الباشا من منصبه. فقضى الباشا المكلل بالعار أخريات أيامه في القصر الذي تحولت حديقته فيما بعد إلى بيتنا.
القصر الحجري الوحيد الذي لا يزال باقيا في حينا كان مقرا لرئيس الوزراء، ثم آل إلى البلدية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وانتقال العاصمة إلى أنقرة. أتذكر أنني كنت أذهب من أجل التطعيم ضد الجدري إلى قصر آخر من قصور الباشوات القدماء بعد أن تحول إلى مقر لمجلس المدينة. أما بقية القصور التي كان المسئولون الأتراك ذات يوم يمتعون فيها مبعوثي الدول الأجنبية، والتي كانت مقاما لبنات عبد الحميد، فلا أتذكرها إلا هياكل حجرية مهدمة ذات شبابيك مبقورة وسلالم مكسورة وعتمة تخلقها السراخس وأشجار التين. وبحلول أواخر الخمسينيات من القرن التاسع عشر كان أغلب تلك القصور قد تعرض للحرق أو الإزالة لإفساح المكان أمام عمارات سكنية.
تماسكت عائلتي وهي تشاهد قصور الباشوات تحترق فتستوي بالتراب، تماما كما تماسكت أمام كل تلك الحكايات التي ترددت حول الأمراء المجانين، ومدمني الأفيون في حريم القصور، والأطفال المحبوسين، وبنات السلاطين الخائنات، والباشوات المنفيين أو المقتولين، بل وعن انحدار الإمبراطورية نفسها. وكما تخلصت الجمهورية من الباشوات والأمراء وكبار المسئولين أمام أعيننا في نيسانتاسي، فقد صارت القصور التي خلفوها وراءهم أنقاضا، ومع ذلك بقي ما كان لتلك الثقافة المحتضرة من غموض وحزن محيطا بنا من كل جانب. فقد كان ينتابني في طفولتي ضجر مميت كنت أرجعه إلى الموسيقى التركية القديمة التي كانت جدتي تهز عليها قدميها الغائبتين في نعلها الخفيف.
كان خروجي مع أمي مهربا لي. فلم يكن الخروج اليومي بالأطفال لاستنشاق الهواء النظيف قد أصبح بعد من قبيل العادات، فكانت الأيام التي نخرج فيها هي الاستثناءات. حتى أنني كنت أتباهى على ابن عمي الذي يسكن في الطابق التحتي قائلا إنني "غدا سوف أخرج مع أمي". وبعد أن ننزل السلم الدائري، كنت أقف أنا وأمي أمام نافذة صغيرة تواجه الباب، ومنها يرى البواب الداخل والخارج، فكنت أضبط ثيابي على زجاج ذلك الشباك، وكانت أمي تتأكد أن جميع أزراري مغلقة، وحينما نخرج كنت أزفر في إعجاب .. "الشارع".
الشمس والهواء النظيف والنور. كان بيتنا معتما للغاية، لدرجة أن الخروج كان بمثابة فتح مفاجئ للستائر في يوم صيفي، كان النور يغشي عيني. وكنت أمسك بيد أمي، وأشِاهد المعروضات في واجهات المحلات، فأتطلع عبر الزجاج المضبب لدى بائع الورد إلى نبتة بخور مريم الشبيهة بذئب أحمر، وفي واجهة محل الأحذية، حيث الخيوط التي لا تكاد ترى وهي تعلق الأحذية ذات الكعوب العالية في الهواء، وفي المغسلة (الضبابية مثل محل الورد) كنت أرى الرجل الغارق في عرقه وهو يغسل قميص أبي ويكويه. كانت هناك امرأة يونانية ترفو الجوارب وتبيع الأحزمة والأزرار، وكانت تبيع أيضا "بيض القرى" الذي كانت تخرجه من صندوق مطلي بيضة بعد بيضة وكأنها تخرج جواهر. وكان في محلها حوض سمك، فيه سمكة حمراء تحاول أن تقضم إصبعي من وراء الزجاج في كل مرة بإصرار غبي طالما وجدت فيه متعة حقيقية. بعد ذلك كان يأتي محل بائع التبغ والجرائد، وكان صغيرا لدرجة أننا كنا ننتهي منه بمجرد الدخول إليه. وكان هناك محل بن اسمه "متجر العربي" (فكما كان يقال في الغالب عن عرب أمريكا اللاتينية إنهم "أتراك" كان يقال عن السود في اسطنبول إنهم "عرب"). كانت طاحونة البن ذات السير الطويل تقعقع بصوت شبيه بالغسالة في البيت، فكنت أبتعد عنها ليبتسم العربي من خوفي ابتسامة سمحة. وعندما بدأت هذه المحلات تغلق أبوابها واحدا بعد واحد مفسحة المجال أمام متاجر أكثر حداثة، كنت أنا وأخي نلعب لعبة مستوحاة من الحنين أكثر مما كانت مستوحاة من الرغبة في امتحان الذاكرة. كان أحدنا يقول "المحل المجاور للمدرسة المسائية للبنات" فيعدد الآخر الأمثلة المحتملة: (1) محل حلويات المرأة اليونانية (2) محل الورد (3) محل الحقائب (4) الساعاتي (5) مراهنات كرة القدم (6) المكتبة (7) الصيدلية. ولكنني من الواجهة الزجاجية للمكتبة كنت أرى الكراسات المدرسية التي كان يستعملها أخي، فتعلمت من ذلك درسا: إن عاداتنا وممتلكاتنا ليست فريدة في هذه الدنيا. هناك بشر خارج العمارة يعيشون حياة شديدة الشبه بحياتنا.
كان أبي كثير الذهاب إلى أماكن بعيدة، فكانت شهور تنقضي دون أن نراه، والغريب أننا كنا لا نكاد نحس بغيابه إلا إذا انقضت عليه فترة معقولة، فنكون قد تعودنا عليه، كأن تكتشف فجأة أن دراجة لم تكن تستعملها إلا لماما قد تعرضت للسرقة أو الضياع. ولم يبين لنا أحد قط لماذا لم يكن أبي يتواجد معنا، كما لم يقل لنا أحد قط متى ينبغي لنا أن نتوقع عودته. ولم يخطر على بالنا قط أن نلح من أجل الحصول على المزيد من المعلومات: فقد كنا نعيش في عمارة ضخمة، محاطين بالأعمام والعمات وجدتي والطهاة والخادمات، وكم كان يسهل أن نعبر على غيابه دون أن نتوقف عنده بالسؤال.
حينما كان الملل يسيطر عليّ، كنت ألم الزجاجات والفرشاوات إلى منتصف تسريحة أمي، بجانب ذلك الصندوق الفضي المزدان بالأزهار الذي لم أشاهد أمي تفتحه قط، وأحرك رأسي إلى الأمام بحيث أراها في اللوح الأوسط من المرآة الثلاثية، ثم أدفع جناحي المرآة الجانبيين إلى الداخل والخارج إلى أن أرى آلاف الأراهين [مفردها أورهان] يتذبذون في اللانهاية الزجاجية الباردة السحيقة. حين كنت أتطلع إلى أقرب الصور المنعكسة، كان قفاي يصعقني، كما صعقتني أذناي أول الأمر ـ إذ إن فهما بروزين مستديرين من الخلف، كما أن إحداهما أكثر نتوءا من الأخرى، مثل أبي بالضبط. ولكن الأكثر إثارة لي كان قفاي الذي كان يجعلني أشعر كما لو كان جسمي غريبا أحمله معي ـ ولا تزال للفكرة سطوتها إلى اليوم. وبين المرايا الثلاثة، كان عشرات ومئات الأراهين يتغيرون كلما غيرت مواضع الألواح ولو تغييرا طفيفا، ومع أن كل مجموعة جديدة كانت تختلف عن البقية، فقد كنت أعتز بإذعانها جميعا، ومحاكاتها لكل نأمة تند عني.
تحول نسيان نفسي بين صور المرايا إلى "لعبة الاختفاء" التي لعلي كنت ألعبها مهيئا نفسي للشيء الذي كنت أخشاه أكثر مما أخشى سواه: فعلى الرغم من أنني لم أعرف قط ما الذي كانت تقوله أمي وهي تتكلم في الهاتف، ولم أعرف قط من أي مكان كان أبي يعود بعد غيباته، إلا أنني كنت أعرف أن أمي عرضة طوال الوقت للاختفاء، هي الأخرى. ولكنهم قدموا لنا سببا لاختفائها عندما اختفت، شيئا من قبيل "أمكما مريضة، وترتاح في بيت الخالة ناريمان"، وكنت أتعامل مع مثل تلك الأسباب كما أتعامل مع انعكاسات المرايا بالضبط، مدركا أنها أوهام، لا زلت أقبل بها، راضيا تمام الرضا بالانخداع. وتمر أيام قليلة قبل أن يتم تسليمنا لبكير الطاهي أو اسماعيل البواب، ومعهما نستقل القارب أو الأتوبيس إلى الضفة الأخرى من اسطنبول، لنزور أقارب يقيمون في الجانب الآسيوي من المدينة، في إرينكوي، أو لنزور بعض الأقارب في مدينة إيسينيا البوسفورية، أو حتى لنزور أمي. ولم تكن تلك زيارات محزنة: فقد كان لها وقع المغامرات. ولأن أخي الأكبر كان يصحبني دائما، فقد كنت أعول طوال الوقت على أنه سيكون أول من يتصدى للمخاطر. كانت البيوت التي نزورها مأهولة بأقارب لأمي من بعيد ومن قريب. وبعد أن يتنتهي العمات المسنات الحنونات والأعمام المشعرون من تقبيلنا وقرصنا في خدودنا، كانوا يعرضون علينا الغرائب الموجودة في بيوتهم والتي قد تشد انتباهنا، فرأيت مقياسا ألمانيا للحرارة أظنه كان قاسما مشتركا بين كل البيوت المستغربة في المدينة (كان عبارة عن رجل صغير وامرأته يرتديان ثيابا بافارية ويخرجان من بيتهما أو يعودان إليه طبقا لحالة المناخ)، ورأيت ساعة حائط فيها وقواق يخرج ويعود إلى قفصه كل نصف ساعة للإعلان عن الوقت، ورأيت طائر كناريا حقيقيا يغرد ردا على كناريا صناعي، ونتقدم نحو غرفة أمنا.
مفتونين بامتداد البحر البراق كما نراه من الشباك، وبجمال النور (ولعل هذا سبب حبي الشديد للمناظر التي كان يرسمها ماتيس للشبابيك المواجهة للجنوب)، كنا نتصور في حزن بالغ أن أمنا تركتنا من أجل هذا المكان الجميل والغريب، ولكننا كنا نسترد طمأنينتنا عندما نجد الأشياء المعتادة التي كنا نراها على تسريحتها: الملاقيط، زجاجات العطر، فرشاوات الشعر، وعلبة الدهان ذات الغطاء المزاح نصفه إلى الخلف، وأهم من كل ذلك ما كان يتخلل الهواء: رائحتها العذبة التي لا مثيل لها.
أتذكر كيف كانت تأخذ كلا منا على حجرها، واحدا بعد الآخر، وتحتضنا بحرارة، وكيف كانت تعطي لأخي تعليمات تفصيلية حول ما ينبغي أن يقوله، وكيف ينبغي أن يكون سلوكه، وأين يجد الأشياء التي سيأتيها بها عندما نجيء في المرة التالية. كانت أمي مولعة بإعطاء التعليمات. وفيما كانت تهتم بكل ذلك، كنت أنظر من النافذة، غير مبال بما تقوله، إلى أن يحين دوري في الجلوس في حجرها.
وذات يوم، عندما كانت أمي مقيمة عند الخالة ناريمان، عاد أبي إلى البيت بمربية، كانت امرأة قصيرة ذات بشرة فاتحة للغاية، أبعد ما تكون عن الجمال، ذات قوام مستدير، وابتسامة لا تفارق وجهها، وحين تولت مسئوليتنا قالت إن علينا أن نتصرف كما تتصرف بالضبط. المربيات اللاتي كنا نعرفهن كن في الغالب ألمانيات، ذوات أرواح بروتستنتية، أما تلك فكانت تركية ولم تكن لها سلطة علينا. فحين كنا نتخانق كانت تقول لنا "كونوا لطفاء ومؤدبين. لو سمحتم. لطفاء ومؤدبين" وحينما كنا نقلدها أمام أبي كان يضحك. ومنذ وقت طويل، اختفت هي الأخرى. وبعد سنوات، عندما فقدت أمي صلابتها تماما، أخذت تقول أشياء من قبيل "أنا ذاهبة" أو "سأرمي نفسي من الشباك" (بل إنها تمادت في إحدى المرات إلى حد أن أخرجت إحدى ساقيها الجميلتين من النافذة). وكلما كانت تقول "وعندئذ سيتزوج والدكما تلك المرأة الأخرى" لم أكن أتخيل أيا من أولاء اللاتي كانت تغمغم بأسمائهن في بعض أحيان الغضب، بل تلك المربية المستديرة الشاحبة.
ولأن كل تلك الدراما كانت تجري على مسرح واحد، ولأننا كنا في الغالب نتكلم عن نفس الأشياء، ونأكل نفس الأشياء، فقد كان الملل المميت يعتري حتى النقاشات. ولكن صراعا من صراعات تلك السنوات الأولى كان له تأثير عميق عليّ. فقد حدث أن كنا ذات مساء نتناول العشاء في منزلنا الصيفي بجزيرة هيبيلي، وهي غير بعيدة عن اسطنبول، عندما ترك أبي وأمي المائدة، وظللت أنا وأخي نحملق لفترة في طبقينا ونصغي لصياحهما في الطابق الأعلى، ثم صعدنا بغتة كأنما بدافع غريزي. وحين رأتنا أمنا نحاول الانضمام إلى شجارهما، دفعت بنا إلى الغرفة المجاورة وأغلقت علينا بابها. كانت الغرفة معتمة ولكن ضوءا شديدا كان يسطع عبر الزجاج المحبب في نافذتي ضلفتي الباب الفرنسي الضخم، فشاهدت أنا وأخي ظلي أبي وأمي يتقاربان ويتباعدان، ثم يتقدمان إلى حيث يتلامسان وهما يتصايحان لدرجة أن يمتزجا في ظل واحد. ومن حين إلى آخر، كانت لعبة الظلال تلك تتحول إلى العنف الشديد فيرتعش الزجاج المحبب، تماما كما كان يحدث عندما كنا نذهب إلى مسرح خيال الظل، حيث كل شيء هنالك كان بالأبيض والأسود.
كانت جدتي تقضي الصباح في فراشها، تحت ألحفتها الثقيلة، مستندة إلى كومة ضخمة من الوسائد. وكان بكير يقدم لها كل صباح البيض المسلوق نصف سلق، والزيتون، وجبن الماعز، والخبز المحمص، على صينية يضعها بحذر فوق وسادة (كان الجو سيتعكر تماما لو كان وضع جريدة بين الوسادة المنقوشة والصينية الفضية) فكانت جدتي تتريث في إفطارها وهي تقرأ الجريدة وتتقبل أولى تحيات الصباح. (أخذت عنها لذة تناول رشفة من الشاي المحلى مع وجود قطعة من جبن الماعز في الفم). وكان عمي لا يخرج إلى العمل قبل أن يمر عليها ويحتضنها في الصباح المبكر. وبعد أن ترسله زوجته، تأتي هي أيضا لتمر عليها وهي ممسكة بحقيبة يدها. ولفترة قصيرة قبل دخولي المدرسة، تقرَّر أن الوقت قد حان لأن أتعلم القراءة، ففعلت كما سبق أن فعل أخي: كنت كل صباح أذهب وفي يدي كراسة وأقف أمام لحاف جدتي، وأحاول أن أتعلم منها حروف الهجاء. وتبين لي عند دخولي المدرسة أنني أضجر من أن أتعلم شيئا عن شخص آخر، وأن أول ما يراودني لدى رؤية صفحة بيضاء، ليس كتابة شيء، بل تسويد الصفحة بالرسومات.
وسط حصص القراءة والكتابة تلك، كان بكير يأتي ليسأل نفس السؤال بنفس الصيغة "ما الذي سنقدمه لهؤلاء البشر اليوم؟"
يسأل باهتمام جسيم، كما لو كان مسئولا عن مطبخ مستشفى كبير أو ثكنة عسكرية. فكان يتناقش مع جدتي حول من سيأتي من هذه الشقة أو تلك لحضور الغداء أو العشاء، وما الذي ينبغي إعداده لهم، ثم تخرج تقويمها الضخم المليء بالمعلومات وصور الساعات، وينظران معا لعلهما يجدان ما يلهمهما إعداد "قائمة طعام اليوم" فيما كنت أنشغل أنا برؤية غراب يحوم وسط أغصان السرو في الحديقة الخلفية.
على الرغم من جسامة كم العمل، إلا أن بكير لم يفقد قط حس الدعابة؛ فكانت له أسماء تدليل يطلقها على كل من في البيت، بدءا من جدتي وحتى أصغر حفيداتها. اسمي أنا كان "غراب". وقد قال لي بعد سنوات إنه اختار لي ذلك الاسم لأنني كنت دائما أتابع الغربان على سطح البيت المجاور، وأيضا لأنني كنت نحيلا. ولأن أخي كان شديد الارتباط بدب لديه بحيث لا يذهب إلى أي مكان بدونه، فقد سماه بكير "الممرضة". وكان لأحد أبناء عمومتنا عينان ضيقتان فسماه بكير "اليابان"، وآخر كان عنيدا فسماه "التيس". وآخر ولد قبل موعده فسماه "ستة أشهر". وعلى مدار سنوات ظل ينادينا بتلك الأسماء التي قللت المحبة من وقعها الساخر.
في غرفة جدتي، كما في غرفة أمي، كانت هناك تسريحة ذات مرآة مجنحة، وكم كنت أود لو أنني أفتح ألواحها وأتوه في غمار الصور المنعكسة، غير أنه لم يكن مسموحا لي بلمس تلك المرآة. فقد كانت جدتي تضبطها على وضع يجعلها ترى الممر الطويل كله، ومدخل الخدم، وغرفة الجلوس، والشبابيك المطلة على الشارع، فكانت بهذه الطريقة تشرف على كل كبيرة وصغيرة تحدث في البيت: الدخول والخروج، الحوارات الدائرة في الأركان، والخناقات بين الأحفاد، وكل ذلك بدون أن تضطر إلى القيام من فراشها. ولأن البيت كان معتما طوال الوقت، فقد كان من الصعب رؤية الصورة المنعكسة لما يحدث، فكان لزاما على جدتي أن تصيح لتسأل عما يحدث، فيهرع بكير ليقدم تقريره حول من يفعل ماذا.
عندما كانت لا تقرأ الجريدة أو تنقش الزهور على الوسائد، كانت جدتي تقضي الأصائل مع سيدات نيسانتاسي الأخريات، واللاتي كن في الغالب في مثل عمرها، يدخن السجائر ويلعبن البيزيك [وهو ضرب من لعب الورق] وقد يلعبن في بعض الأحيان البوكر أيضا. وبين فيش البوكر الذي كانت تحتفظ به في علبة من القطيفة الناعمة الحمراء بلون الدم كانت تحتفظ بعدد من العملات العثمانية القديمة المثقوبة، أو المشرشرة أو المرسوم عليها علامات امبراطورية، وكنت أحب أن آخذ تلك العملات لألعب بها في الركن.
كانت إحدى نساء لعب الورق من حريم السلطان، وبعد سقوط الإمبراطورية، وعندما أُكره العثمانيون على مغادرة اسطنبول، أغلقوا الحريم، وتزوجت تلك المرأة من زميل لجدي. وكنت أنا وأخى نسخر من أدبها المفرط في الكلام، فعلى الرغم من أنها وجدتي كانتا صديقتين، إلا أنهما كانتا تخاطبان إحداهما الأخرى بـ "يا سيدتي" وهما تتناولان شطائر الجبن التي كان بكير يحضرها لهما من الفرن وهي ساخنة. كانتا كلتاهما بدينتين، ولكنهما كانتا متوائمتين مع ذلك، لأنهما كانتا تعيشان في زمن وثقافة لا يستهجنان البدانة. وإذا حدث ـ كما يحدث كل أربعين عاما ـ أن أرادت جدتي الخروج، فقد كانت الاستعدادات تستمر على مدار أيام، إلى أن تنادي جدتي على "كامر حنيم" زوجة البواب لتصعد إليها حيث تشد بكل ما أوتيت من قوة خطوط الكورسيه. وكنت أشاهد مضطربا كل الاضطراب طقوس ربط خيوط الكورسيه والشد والجذب وقول جدتي "بالراحة يا بنت". كما أدهشتني أيضا زيارة قامت بها عاملة مانيكير إلى جدتي قبل أيام من خروجها. فقد جلست تلك المرأة ثلاث ساعات، مع أوان من الماء بالصابون، والكثير من الأدوات الغريبة المتناثرة جميعا من حولها، أما أنا فوقفت متحجرا وهي تطلي أظافر جدتي الوقورة بالأحمر الناري، ورأيتها وهي تضع قطع القطن بين أصابع جدتي الممتلئة فأثار ذلك بداخلي مزيجا من الفتنة والاشمئزاز.
بعد عشرين عاما، وفيما كنا نعيش في بيوت أخرى في اسطنبول، كنت غالبا ما أزور جدتي في عمارة باموك، متعمدا أن أصل في الصباح لأجدها في الفراش محاطة بالبيض والجرائد، والوسائد والظلال، وأجد رائحة الغرفة ـ المزيج من الصابون والكولونيا والغبار والخشب ـ كما هي لم تتغير. كانت جدتي تحتفظ معها دائما بدفتر جلدي صغير تدون فيه الفواتير والذكريات والوجبات والمصروفات والجداول والتتغيرات الجوية. وكان يحلو لها ـ ربما كنتيجة لدراستها للتاريخ ـ أن تتبع "الإتيكيت الرسمي" في بعض الأحيان، وإن كنت تجد نبرة تهكم في صوتها إذ تفعل ذلك، كما أن كل حفيد من أحفادها الخمسة كان يحمل اسم سلطان من سلاطين العصر الفكتوري. وكنت في كل زيارة لها أقبل يدها، فتعطيني بعض النقود، التي كنت أضعها في محفظتي بخجل وسعادة. وبعدما كنت أحكي لها عن أمي وأبي وأخي، كانت تقرأ لي ما كتبت في دفترها: "جاء حفيدي أورهان لزيارتي. إنه شديد الذكاء، شديد الرقة. يدرس العمارة في الجامعة. أعطيته عشرة ليرات، إن شاء الله سيصبح في يوم ما ناجحا جدا، وسوف يتردد اسم باموك باحترام مرة أخرى، كما كان الحال عندما كان جده حيا".
بعد أن تقرأ هذا، تنظر إليَّ عبر نظارتها، التي تجعل نظرتها أكثر إرباكا، وتبتسم لي ابتسامة غريبة ساخرة. وبينما أتساءل إن كانت تسخر من نفسها أم من الحياة التي تبين لها أنها محض هراء، كنت أحاول أن أبتسم تلك الابتسامة.
* نشر هذا النص للمرة الأولى في ذي نيويوركر الأمريكية في عدد 28 فبراير ـ 7 مارس 2005، مترجما من التركية إلى الإنجليزية بواسطة مورين فريلي

ترجمة أحمد شافعي



#أحمد_شافعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرروهم وإلا يكن دمارنا على أيديهم
- سلمان رشدي يرصد جنون أمريكا
- من يدرك حزن الملابس
- حكايات ديك وجين قصة: نين آندروز ترجمة أحمد شافعي


المزيد.....




- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...
- الجيش الأمريكي يعلن تدمير سفينة مسيرة وطائرة دون طيار للحوثي ...
- السعودية.. فتاة تدعي تعرضها للتهديد والضرب من شقيقها والأمن ...
- التضخم في تركيا: -نحن عالقون بين سداد بطاقة الائتمان والاستد ...
- -السلام بين غزة وإسرائيل لن يتحقق إلا بتقديم مصلحة الشعوب عل ...
- البرتغاليون يحتفلون بالذكرى الـ50 لثورة القرنفل
- بالفيديو.. مروحية إسرائيلية تزيل حطام صاروخ إيراني في النقب ...
- هل توجه رئيس المخابرات المصرية إلى إسرائيل؟
- تقرير يكشف عن إجراء أنقذ مصر من أزمة كبرى
- إسبانيا.. ضبط أكبر شحنة مخدرات منذ 2015 قادمة من المغرب (فيد ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أحمد شافعي - عمارة باموك ... عن طفل نشأ وسط أطلال الإمبراطورية العثمانية