أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مأمون أحمد مصطفى زيدان - لحن حزين














المزيد.....

لحن حزين


مأمون أحمد مصطفى زيدان
روائي وقاص


الحوار المتمدن-العدد: 7719 - 2023 / 8 / 30 - 20:24
المحور: الادب والفن
    


" يما ودعيني قبل ما امشي...
ولا تدري بعثراتي وانا امشي ".

أغنية طويلة كان والدي – رحمه الله – يشدو بها بين الحين والاخر، بنبرات مصدورة مجروحة، ولكني لسوء الحظ، لا اذكر منها إلا مطلعها هذا، لكنها كانت منذ بدايتها وحتى نهايتها تغرق في حزن عميق يسكن الكلمات ويفيض بشجن المعاني، وكان كل مقطع من مقاطعها يعود لصدر الأم التي نفقت في ذات اليوم الذي ولد فيه ابنها، في نفس اليوم الذي ولد فيه أبي.

وهذا ما دفعني للتفكر والتأمل بعلاقة الأم والولد، الأم التي غيبها الموت تحت التراب في ذات اللحظة التي خرج وليدها من بين حجب ظلمات ثلاث ليتنسم رائحة الحياة وعبق الوجود، ولكن، لم تكن كل التحاليل العقلية والذهنية قادرة على منحي نوعا من الاستقرار المعرفي الذي كنت انشده، فالعقل أحيانا يعجز وبصورة مطلقة عن صياغة تفاعلات وتناقضات النفس البشرية المعقدة التركيب والعصية على العلم المخبري الذي يستطيع أن يصوغ قواعد لمنطق التجربة المجردة.

اقتربت من والدي ذات يوم وسألته، كيف تغني لامك وأنت لم تراها، وحتى انك لم تلامس جسدها أو تتشرب من حنانها، هي ذهبت فور مجيئك، وليس هناك ما يربط بينك وبينها إلا لفظ الأم فقط؟

قال...

يابا، الأم ليست بالرؤيا، وليست باللمس، الأم في القلب، في الوجدان، في العمق، يابا، الأم هي الشكوى والأنين، هي الحزن والشجن، هي العذاب والألم، الأم يا ولدي جمل المحامل الحقيقي، أنا اسمي أحمد بن حسنه، وحين أوضع في القبر سيأتي الملكان ليقولا يا أحمد يا ابن حسنة، وحين ينادي علي الله يوم القيامة سينادي علي باسمي واسم أمي، أنا لا اعرف أمي، هذا صحيح، ولا اعرف ملامحها وهيئتها، ولكني اشعر حين يطبق الألم على قلبي بكل نواجذه وثقله، اشعر بانزياح لساني نحو لفظ الأم، وانجذاب قلبي نحو عاطفة خفية، مجهولة التكوين والملمس، مجهولة الدفق والنبع، تجتاحني، لتغرس بكياني نوعا من عاطفة مطمئنة، فيها عذوبة الندى، وصحو الرذاذ، فيها عبير الياسمين وسكينة الفل والنرجس.

هي الأم...تأتي رغم غيابها، رغم وجودها تحت ثقل الموت والتراب والزمن، رغم ولوجها عالم الصمت المتصل باللانهاية، باللامحدود، تأتي لتعزف ألحانها على روح ولدها المُعَنًى، الموغل بالألم منذ ميلاده، وحتى تنقضي الأنفاس الاخيره، تأتي لتمسح بقلبها النابض من خلف غلالات الموت تفطرا ولوعة وحنينا، على كل خفقة الم، أو نبضة خوف، أو زفرة حزن وكمد، آه يا ولدي، يا قطعة من كبدي، لو تعلم مقدار الشوق المتجدد الذي احمله بكياني لك ولأخوتك وأخواتك، فقط، لو كان بإمكانك أن تعلم حجم الفرحة التي تهز كياني حين أرى بسمتك على وجهك، وحجم النار التي تستعر بكياني حين تهمي دمعة حزن أو ألم من عينتيك الصغيرتين، لكنت عندها تملك مقدار حبة خردل، من شوق الأم وفرحتها وحزنها على أولادها.

أنا لم أشاهد أمي، ولكني استطيع أن أرى عينيها وهما تزخان اللحظة المرافقة للغرغرة بالرجاء والتوسل، بالألم الخارق للوجود كله، بالحسرة المعتصرة من وخزات الروح وهي تنسحب من الأعضاء، عضوا خلف عضو، لتستقر في نواة قلبي وبؤرة روحي، لتنمو وتكبر، مع نمو قلبي وتقدم أيام عمري، لتسكن فيها وتتوزع، تنتشر وتمتد، كلما انتشر جسدي وامتدت روحي، تلك النظرة المسكونة بالحب والعشق الأزلي، ما زالت تقفز أمامي، بصورة واضحة، من جوف الغيب، ومن أعماق الروح، لتستقر في مركز نظري، فتبدو أمي أمامي، وهي تهز الأرض من تحت القبر، هزات خفيفة، ناعمة، فأشعر باهتزاز مشاعري وأحاسيسي، تتناثر وتتساقط من كياني المبلل بالألم والحزن والقهر، ثم أشاهدها وهي تنعقد كموجة تستعد للتبخر، لتصبح غمامة حبلى، يهمي ما فيها بقلب أمي الراقد تحت التراب.

لحظتئذ أشعر بالفرحة تتشقق من قسماتها المرسومة بعقلي، كنت أعرف معرفة اليقين أنها تتألم، لكنه ألم مجلل ومكلل بالفرحة والسعادة، لأنها استطاعت أن تحمل عني حزنا، لو استمر بقلبي لأضناه وأهلكه، لكنه لا يستطيع أن يضني أو يهلك قلب أُمٍّ مزروع في جوف الأرض والموت.

وانهالت الدموع من عينيه الخضراوين، وبدأ يعتصر ألمه ليسكبه بجوفه، لكنه لم يستطع، فكادت روحه أن تتشردق، اقتربتُ منه، ولمستُ صَلْعَتَهُ النقية، وانخفضت نحو قدميه، ألثمهما بفمي ودموعي، لكنه رفعني، أوقفني قبالته، حدقت بعينيه من بين موج الدموع، فوجدت اللهفة تفيض كنهر بلوري، تعلو وتهبط، مع حركات القلب والنفس والدموع، غرقتُ بأعماق هلامية، شعرت بالدنيا تتساقط في جوفي قطعا من نار تُصْلِي ولا تحرق، لكنه انتشلني من قاع الذهول، حين سحبني إلى حضنه وطوقني بخفقات القلب ووَجِيبِ الروح.



#مأمون_أحمد_مصطفى_زيدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شهرة عالمية
- رسالة مفتوحة إلى شهداء فلسطين
- حواريه
- حزن
- حرب التحرير
- حديث البطولة
- حديث المرايا
- حاجز الزمن
- تَـوْقُ الدُّنُـوّ
- صبحية القلب والنفس والروح 5
- ذات قول
- صبحية القلب والنفس والروح 4
- صبحية القلب والنفس والروح 3
- صبحية القلب والنفس والروح 2
- صبحية القلب والنفس والروح
- تيه
- بدون مقدمات
- آه يابا
- آه يا حيفا
- أبي


المزيد.....




- -لم أقتل زوجي-.. مسرحية مستوحاة من الأساطير الصينية تعرض في ...
- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...
- وفاة الكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر صاحب -ثلاثية نيويورك- ...
- “عيد الرّعاة” بجبل سمامة: الثقافة آليّة فعّالة في مواجهة الإ ...
- مراكش.. المدينة الحمراء تجمع شعراء العالم وتعبر بهم إلى عالم ...
- حرمان مغني الراب الإيراني المحكوم عليه بالإعدام من الهاتف
- فيلم -العار- يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان موسكو السينمائي ...
- محكمة استئناف تؤيد أمرا للكشف عن نفقات مشاهدة الأفلام وتناول ...
- مصر.. الفنانة دينا الشربيني تحسم الجدل حول ارتباطها بالإعلام ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مأمون أحمد مصطفى زيدان - لحن حزين