الجمال الفني وموضوعاته في شعر إيليا أبي ماضي

مختار حمن جام

الحوار المتمدن-العدد: 7685 - 2023 / 7 / 27 - 16:01
المحور: الادب والفن
    

الملخص:
لقد درست في هذه المقالة الموسوم بالجمال الفني وموضوعاته في شعر إيليا أبو ماضي أحد شعراء المهجر ومن ثم وقفت على بعض نماذج من أشعاره مع أبرز الموضوعات التي وظفت فيها تلك الصور فم بيان أهم خصائص الفنية والجمال فيها.
المقدمة:
الشعر ظاهرة جمالية وتتشكل تلك الجمالية كل من المبدع والمتلقي باعتبارهما عنصرين أساسيين في عملية الادراك والتلقي والتقبل الجمالي. ومن الجدير بالذكر أن التمييز بين الشعراء بعضهم عن بعض هو الجانب الفني أو الجمالي لغة وأسلوبا وفكرة وجمالا.
لذلك يعد إيليا أبو ماضي من أكبر شعراء المهجر، وأحد أركانه، ويعتبر أحد ملامح التجديد في الشعر العربي الحديث، لذا أردت تحديد هذه المقالة على الجمال الفنية وبعض موضوعات شعره واخترت عنوان المقالة" الجمال الفني وموضوعاته في شعر إيليا أبي ماضي".
الجمال الفني وموضوعاته في شعر إيليا أبي ماضي
مدرسة المهجر نشأتها واتجاهاتها النقدية
نشأتها:
مدرسة شعراء المهجر احدى المدراس الشعرية في حركة الشعر، لها سماتها وخصائصها المميزة، قامت على أيدي الأدباء العرب الذين هاجروا إلى اندونيسيا وبلاد جنوب شرقي آسيا وكونوا فيها جمعيات ورابط أدبية وقد سبقتها في الظهور مدرسة البارودي وشوقي ومنذ ذلك الحنين اشتهرت هذه المدرسة وذاع شعرها وعرف شعراءها في كل مكان من الوطن العربي الكبير. (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـــ عبد المنعم خفاجي، قضية الأدب العربي المهجري، دار الكتب اللبناني، بيروت، 1973م، ص:173.
وفي سنة العشرين من أفريل 1920م التقت جماعة من أدباء المهجر في أمريكا الشمالية حول ضرورة إنشاء رابطة توحد جهودهم، وتكتل قواهم فكان أول لقاء لهم في بيت صاحب السائح والأستاذ عبد المسيح حداد، فدعوا معهم رهطا من الأدباء والأصدقاء بهدف تكوين هذه الرابطة من أجل بث روح جديدة نشيطة في جسم الأدب العربي وانتشاله من وهدة الخمول والتقليد إلى حيث يصبح قوة فعالة في حياة الأمة. (1)
يرجع قيام مدرسة المهجر إلى هجرة أفواج كبيرة من أبناء البلاد العربية، وخاصة سوريا ولبنان، عرفوا عن طريق جمعيتين أدبيتين هما:
1 الرابطة القلمية: في نيويورك بأمريكا الشمالية دعت إلى التجديد شكلا ومضمونا من شعراءها جبران جبران خليل، ميخائيل نعيمة، وايليا أبو ماضي كانوا ينتشرون نتاجهم في مجلة "الفنون" لنسيب عريضة ثم مجلة " السائح" وقد عاشت عشر سنوات ثم انفرط عقدها بموت جبران ورشيد أيوب وعريضة وعودة ميخائيل إلى لبنان.
2 العصبية الأندلسية: تكونت في أمريكا الجنوبية وهي تميل إلى المحافظة على القديم ودعم الصلات بين الشعر الجديد والقديم أسسها ميشيل معلوف وأصدر مجلة باسمها من شعراءها، الياس فرحات، فوزي المعلوف وسلمى صائع. (2)
أدت الظروف الاقتصادية والسياسية المزرية التي يكاد يتخبط فيها العالم العربي مع بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى هجرة الالاف من الشباب العربي (اللبناني والسوري خاصة) إلى بلاد المهجر، وبالأخص إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية، بحثا عن الحرية المفقودة في أوطانهم وكانت الهجرة فرارا من واقع أليم جثم على صدر الأحرار، والتماسا لواقع جديد يتنفسون فيه بحرية ويجسمون أحلامهم التي وئدت في غياهب الجور والطغيان السياسي. (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـــ نادرة جميل السراج، شعراء الرابطة القلمية، دار المعارف، بمصر، 1964م، ص:81.
(2) ـــــ محمد حسين علي، الصورة الفنية في المثل القرآني، دار الهادي، ط1، 1992م، ص:147.
(3) ـــــ صابر عبد الدايم، أدب المهدر، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1993م، ص:45.


اتجاهاتها النقدية:
يتضح من خلال تتبع حركة الأدب المهجري التأثر الواضح بالاتجاهات والمذاهب الحديثة في الأدب الغربي، لا يسما المذهب الرومانسي، ذلك ما يتجلى في الخصائص العامة سواء الموضوعية أو الفنية التي صيغت هذا الأدب، ومرد ذلك راجع إلى المبادئ الإنسانية والمثل العليا والحرية والمساواة التي كانت تنادي بهم الرومانسية، وهي نفسها الغايات والأماني التي كان ينشدها المهجريون، فهم تأثروا باتجاهات كثيرة وخاصة بالأدب الأوربي والحركة الرومانسية والاتجاه الرمزي في أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والثامن عشر. (1)
ومدرسة الرابطة تعرضت لحرب شعراء شنها عليها النقاد والمعارضين لما رأوه عندهم من اضطراب في بعض أوزانهم وخطأ في جوانب من لغتهم، ولم يروهم يلتزمون بالصياغة الفنية المألوفة للشعر العربي بل رأوا بعض أشعارهم تجري في معارض لفضية عادية أو ركيكة، فأمعنوا في الحملة عليهم وجردوهم من كل إحساس. (2)
فنجد الياس فرحات أحد شعراء العصبية الأندلسية ينقد شعراء الرابطة وأصحابها يقول:
أصحابنا المتمردين خيالهم تقضي قريش به وتحيا حمير
لغة مشوهة ومعنى حائر خلق المجاز ومنطق متسير
وزعيمهم في زعمهم متفنن عجبا أكان الفن فيما يضمر
لا الأرض تفهم ما يصوره لها ذلك الزعيم ولا السماء تفسر
إن شعراء الرابطة القلمية لهم شعور مرهف بالمشاكل الإنسانية ولهم تأملات شعرية وأنهم يرون فيها حقائق خالدة وهذه الواقعيات المرة عادة تؤدي إلى اليأس والحزن في المجتمع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــــ المرجع السابق، ص:10.
(2) ـــــــ شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده، دار المعارف، بمصر، ط2، ت د، ص:247.
(3) ــــــ المرجع السابق، ص:182.

أما الرسائل الإنسانية فتواجدت لدى معظم شعراء الشمالي من بينهم إيليا أبو ماضي الذي دعا إلى التمتع بالحياة في قصيدته المساء. (1).
يقول إيليا أبو ماضي: (2)
وتمتعي بالشهب في الأفلاك مــــــا دامـــــــــــت تـــلـــــــــــوح
من قـــبـــل أن يـــأتـــي زمــــــــــــان كالضباب أو كالدخان
لا تـــــبصريــــن بـــــه الـــقــــديــــــــــم ولا يـــلـــذ لــــك الــــخـــــريــــر
يعد اعتماد المذهب الرومانسي، ثورة على أشكال الظلم والحرمان، ودفاعا عن الحريات الفردية للأشخاص وعن الطبقة الضعيفة في المجتمع، والخروج بالأدب من حير التقليد إلى التجديد والابداع في شكله وأساليبه ونظراته البعيدة إلى المستقبل في مواكبته للآداب العالمية. (3)
وكانت هذه الثورة على النموذج القديم للشعر، ثورة عنيفة، لم يسبق لها مثيل، رغم مرور الشعر العربي على حركات تجديدية كثيرة ويقول جبران خليل جبران: «إذا كان الشاعر أبا اللغة وأمها، فالمقلد ناسخ كفنها وحافر قبرها". (4)
يقول إيليا أبو ماضي: (5)
لست مني إن حسبت الشعر ألفاظا ووزنا
خالفـــت دربك دربي وانـــقـــض ما كان منا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـــــ عيسى الناعوري، أدب المهجر، دار المعارف القاهرة، ط1، 1993م، ص: 326.
(2) ـــــ إيليا أبو ماضي، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، ط4، 2004م، ص: 104.
(3) ـــــ سلمى الخضراوي الجيوشي، الاتجاهات والحركية في الشعر العربي الحديث، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2008م، ص:91.
(4) ـــــــ المرجع السابق، ص132.
(5) ـــــ المرجع السابق ذكره، ص:448.

أما الاتجاه الدرامي اتجاه عام في القصيدة الحديثة لا سيما القصيدة المهجرية، لأن عوامل التطور والتجديد كانت سباقة في الوصول إلى أرضيتها وسريعة التعامل معها. (1)
وهكذا تميز أدب الرابطة بأشراف والرقة والعمق والصدق، والأصالة والإنسانية الرحيمة وبالثورة المباركة التي ملأت عيون الأدب بالنور ونفضت عنه أكفان الجهود، التي كان يرسف فيها التقليد القديم جريا وراء التزويق اللفظي. (2)
ب ـــ ترجمة إيليا أبي ماضي.
المولد والنشأة:
إن المتتبع لسيرة أبي ماض يجد أنه لم يعش حياة طبيعية وذلك لترحاله منذ الصغر من مكان إلى مكان آخر.
كان إيليا أبو ماضي شاعر عربي مهجري معاصر، وهو من أصل لبناني، حيث ولد في قرية المحيدثة بل بلبنان عام 1889م وفيها نشأ صغيرا. وعاش حياته الأولى، وتلقى مبادئ العلم في مدارسها، وعرف أسس القراءة والكتابة. (3)
وفي سنة 1902م حدثته نفسه بالمهاجرة إلى أمريكا فترك قريته وتوجه أولا إلى الإسكندرية حيث كان له عم يتعاطى بيع السجاير كان أبو ماضي في ذلك: وفي الإسكندرية تعاطيت بيع السجاير في النهار في متجر عمي، وفي الليل كنت أدرس النحو والصرف تارة على نفسي، وتارة في بعض الكتاتيب وهكذا راح الفتى يحصل من العلم ما استطاع التحصيل إلى أن كانت سنة 1911م فأصدر ديوانه الأول بعنوان تذكار الماضي. (4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـــــــ عز الدين إسماعيل، في الأدب العباسي الرؤية والفن، دار النهضة العربية، بيروت، ص:10.
(2) ـــــــ فيصل سالم العيس، النزعة الإنسانية في شعر الرابطة القلمية، دار الباروزي، ط1، 2006م.
(3) ــــــ المرجع السابق، ص: 05.
(4) ـــــ حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدبي العربي، دار الجيل، بيروت، ط3، ص:196.

نشأ شاعرنا في أحضان الطبيعة صيبا طلق المحيا، وسيم الطلعة شديد الاعتداد برأيه، كان يرافق أباه إلى مجالسة الكبار أصحاب العقول النيرة والحكمة الوافرة حيث يقول: (1)
ملأت عقلي من حيث شيوخه وأخذت شعري من لغي أطفالها
نزع إلى أمريكا ولم يعرف ما كان عليه من نعيم مقيم حتى واصل مهجره، وهناك أدرك الخطيئة التي ارتكبها بالرحيل عن مصر ويصف هذه الخطيئة بأنها ضلة.
قائلا:(2)
ما زلت والدهر تنبوا عن يدي يده حتى نبت له عن أرضها قدمي
ومن الأسباب التي أدت بأبي ماضي إلى الهجرة وعلى الرغم من أنه ترك لبنان في سن مبكرة ثم ترك البلاد العربية إلى أمريكا وهو في بدء شبابه، فقد أظهر لنا في بعض من شعره أسبابا عديدة تدفع بالإنسان إلى الهجرة.
يقول في قصيدته وداع وشكوى: (3)
نيويورك يا بنت البحار بنا أقصدي فــــلعلـنا بالـــغـــــرب نـنســى المشرقـا
وطــن أردنــاه عــلـى حـــــــب الــــــــعــــلا فأبى سوى أن يستكين إلى الشقا
كالبعـد يـخشى بعـد أن أفنى الصبا يـــــلهــــــو بــه ســــاعــــة أن يـــــعــتـــقــــــا
هـــذا جــــــــزاء ذوي الـنهـــي فـــــي أمـة أخــــــذ الجــــــود علــى بنيهـا مـوشقـا
وطــــن يـــذيــــق الحـــــــر ذرعــا عنـــــده وتـــــراه بالأحـــــــرار ذرعــــــــا أذيـــــــــــقــا
مــــــــــــا إن رأيـــــــت بــه أديـبــا موصرا مـمــــا رأيــــــت ولا جـــــــهــــولا مــــملــقــا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إيليا أبو ماضي، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، ط4، 2004م، ص: 190.
(2) ــــ المرجع السابق، ص: 22.
(3) ــــ المرجع السابق ذكره، ص:22.
عصره:
لا شك أنه من بين المهاجرين العديد من الأدباء والمثقفين والمفكرين، وقد حرص هؤلاء على انتمائهم العربي، فالتف بعضهم حول بعض في تجمعات، وذلك ليزيلوا وحشة الغربة من ناحية وليحافظوا على أدبهم العربي من الضياع وسط تيارات الأدبي الغربي وليتمكنوا من تنمية هذا الأدب وتطوره إلى ما هو أفضل بعد أن نجحوا في الانفلات به من قيود المشرق، وقد اجتمع الأدباء في بيت صاحب السائح الأستاذ عبد المسيح حداد في مساء العشرين من شهر أبريل عام 1920م ودعوا معهم وهما من الأدباء والأصدقاء ورأى المجتمعون أهمية تكوين رابطة تضم قواهم وتوحد مسامعهم سبيل اللغة العربية وآدابهم. (1)
ثقافته وتعليمه:
لقد كان أبو ماضي ابنا لعائلة فقيرة لا تكاد تكسب قوت يومها، لذلك لم تستطع أن يحصل في قريته أكثر من بضعة دروس ابتدائية بسيطة، لم ترو ظمأه الشديد إلى العلم والمعرفة، وهذا ما حداه إلى أن يسير على قدميه مسافة ميلين كل يوم، وهو في السابعة من عمره، ليسترق السمع من نافذة المدرسة التي كان يديرها العلامة السيخ إبراهيم المنذر فيقف أمام نافذتها يصغى إلى شرح الدروس، وحين لاحظ صاحب المدرسة شدة ورغبة أبو ماضي في نهل العلم دعاه إلى دخول المدرسة والانتظام في صفوفها من غير مقابل. (2)
دخل أبو ماضي مدرسة المحيدثة القائمة في حوار الكنيسة، وبين صفوفها أخذ يفك لغز الحرف وطلسم الكلمة، من دون أن يعرف هو أو والده أو أقرباؤه أو أترابه أنه سيصير بعض حين شاعرا كبيرا تتطلق من حنجرته وقلمه أجمل القصائد الشعرية. (3)
وهكذا تعلم أبو ماضي في قريته أصول الكتابة والقراءة باللغة العربية، ولما ضاقت به سبل العيش وجد أن لا مناص له من السفر فحزم أمتعته وقرر الرحيل. (4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــــــــ نادر جميل السراج، شعراء الرابطة القلمية، دراسات في الشعر المهجر، دار المعارف، 1964م، ص:71.
(2) ــــــ إيليا أبو ماضي، الجداول الحكاية الأزلية قصيدة المساء، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط16، 1984م، ص: 05.
(3) ـــ خليل برهومي، الأعلام من الأدباء والشعراء إيليا أبو ماضي شاعر السؤال والجمال، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1994م، ص:16.
(4) ــــــ المرجع السابق، ص:16.

ثقافته:
ويمثل أبو ماضي نموذجا أدبيا للشعر المهجر وقد جمع في ثقافته بين الثقافة العربية والثقافة الغربية فقد قرأ التراث الشعري العربي القديم واحتذاه في بعض نماذجه، كما اطلع على التيارات الثقافية الغربية ثم كان له منهجه الشعري وفلسفته الخاصة. (1)
واهتم في مطلع شبابه بالتراث العربي، وتأثر بكبار الشعراء العباسيين، ثم الشعراء عرب معاصرين، وأفاد في انتسابه إلى الرابطة القلمية من ثقافة مؤسسيها وكلهم بارزون ومتقدمون في مجالاتهم، وزاده عمله في الصحافة اتصالا بالناس وانفتاحا على واقع عصره وعالمه. (2)
وفاته:
بعدها اشتد عليه المرض وعاودته الأحزان، فانقطع عن العمل ولزم بيته إلى أن وافته المنية بنيويورك في الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1957م. (3)
ج ـــ الجمالية الفنية في شعر إيليا أبي ماضي
مفهوم الجمالية:
فالموضوع الجمال مطروح منذ القدم، وقد لقي عناية فائقة منذ الحضارات الأولى لما له من أشكال عدة، منها: الأدبية والفنية المختلفة كما يكون في الطبيعة بتنوع عناصرها الحية والصامتة، أن مصطلح الجمال قد تناولته مختلف القوامس والمعاجم اللغوية ومنها:
جاء في تاج العروس للزبيدي: الجمال: الحسن، يكون في الخلق وفي الخلق الجمال الحسن الكثير، وذلك ضربان أحدهما: جمال يختص الانسان به في نفسه أو بدنه أو فعله، والثاني ما يصل منه غيره. (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـــــ مصطفى عبد الشافي، في الشعر الحديث والمعاصر، دار الوفاء، ت د، ص:64.
(2) ـــــ كاظم حطيط، أعلام ورواد في الأدب العربي، مكتبة الدار العربية للكتاب، 2003م، ص:270.
(3) ـــــ عيسى الناعوري، أدب المهجر، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1993م، ص: 57.
(4) ـــ محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاريخ العروس من جواهر القاموس، محمود محمد الطناجي، الكويت، التراث العربي وزارة الاعلام، 1993م، ص:29.
وأما اصطلاحا: هو ما يثير فينا إحساس بالنظام والتناغم والكمال وقد يكون ذلك في مشهد من مشاهد الطبيعة، أو في أثر فني من صنع الانسان. (1)
ظهر مفهوم الجماليات أو الخبرة الجمالية أو الاستطيقا من حيث هي علم نظريات المعرفة الحسية بمعناه الحديث في القرن الثامن عشر على يد (ألكسندر بومجارتن)، إلا أنه سرعان ما تغير هذا المعنى إلى تعبير الجمال وتعليم الأشياء الجميلة. (2)
وتحولت قضية الجمال من كونها مفهوما من المفاهيم العامة إلى نظرية ذات أسس وقواعد ذوقية وفكرية، يجعل من الجميل والجمال الفني موضوعا له، وهو ما عرف فيما بعد بالعلم الذي يدرس انفعالات الانسان ومشاعره ونشاطاته وعلاقاته الجميلة في ذاته وفي انتاجه. (3)
وبواسطة هذه الخصوصية يمكن التفريق بين الجمال والجمالية، فالجمال هو ما يثير الانفعال أما الجمالية فتتعين بأنها الفكر الذي يفكر في الانفعال، والفكر بما أنه يعلو الطبيعة فإن علوه يبلغ عنه أيضا عبر انتاجاته وعبر الفن كذلك. (4)
ويعتبر الجمال عند إيليا أبو ماضي النافذة التي يظل منها على العالم فيرافق هذا الجمال تجاربه الشعرية على تنوعها ليجعل أبو ماضي من رسالة الشعر الدعوة إلى هذا الجمال وتقوية في صور الحياة المختلفة.
يقول الشاعر: (5)
قضينا في الغاب وقتا جميلا في جواز العذران والأعشاب
تارة في ملاءة من شعـــــــــــــاع تــــــــارة في ملاءة من ضباب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــــــ جبور عبد النور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، 1984م، ص:85.
(2) ــــــ كمال عبد، جماليات الفنون، دار الحرية، بغداد، 1980م، ص:20.
(3) ــــــ عبد الله خضر، روائع قرآنية دراسة في جماليات المكان السردي، دار القلم، بيروت، ص:18
(4) ــــ المرجع السابق، ص: 132).
(5) ــــ إيليا أبو ماضي، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروتـ، لبنان، ط4، 2004م، ص:586.


د ــــ الموضوعات الشعرية عند إيليا أبي ماضي
الفرح والحزن في شعر إيليا أبو ماضي.
المظاهر الحياتية متشعبة متشابكة لا تكاد تقوى على فصل بعضها عن بعض لتحديد رأي الشاعر في كل مظهر من مظاهرها، فالحياة من حيث هي خير وبركة، أو شر وسوء، أو اضطراب وخوف، أو هدوء وطمأنينة، أو فرح وحزن. والحياة من حيث ناسيها ومعاملاتهم وأحلامهم التي طبعوا عليها، كل هذه تشبيك عند الشاعر اشتباك الحياة بمظاهرها.
فأبو ماضي يحب الحياة ولا يرى في الحياة إلا ما هو جميل يسر العين ويفرح القلب، وما أجمل أن يتعامى المرء عن المناظرات القبيحة والفصول المؤلمة حتى لا يعود يرى إلا الحسن فيقول: (1)
والذي نفسي بغير جمال لا يـــرى فــــي الــــوجـــود شـــيئا جــمــيـلا
ليس أشقى ممن يـــــــــــــرى العيش مرا ويظن اللذات فيه فضولا
كان أيليا أبو ماضي من أكثر الشعراء الذين يحثون على الفرح مهما كانت الظروف والابتسام ولعل خير مثال على ذلك قصيدة ابتسم التي كلها دعوة للابتسام والتفاؤل مهما كانت الظروف. يقول الشاعر:(2)
قــــــــــال الســـمـــــاء كــــئيــبــــة وتـــجهــــما قلت ابتسم يكفي التجهم في السماء
قال الصبا كانت سمائي في الهرى صــــارت لـــنـفــس فـــــي الغـــرام جــهنما
خـــانـــت عــــهــــودي بعــــــدما مــلكـتـــــــهــا قلــــــبـــي فــــكـــيف أطـــيــق أن أتــبـســـما
قــــلـت ابـــتسم وأطــرب فــــلو قـــارنــــتهـا لــقصيــــت عــــمــــرك كـــــله مـــــتـــــألــــــــــما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــــــ إيليا أبو ماضي، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروتــ، لبنان، ط4، 2004م، ص:66
(2) ـــــ المرجع السابق، ص: 65.


يعلن الشاعر في نصه عن فرحة بنهاية الحرب العالمية في تشكيلات فنية تعدل عن المباشرة إلى توظيف التخيل الشعري، واتخاذه أداة إفصاح يبث المعاني وظلالها. واستعمال الصورة الفنية في الشعر أقدر من التعبير العادي على تمثيل المضامين والدلالات أيا كانت فكرة أم شعورا أم خاطرا. وفي هذا النص نلمح توجه الشاعر إلى الانزياح في التعبير من فاتحته. (1)
يقول إيليا أبو ماضي: (2)
أنشودة في ضميري كم أواريها وما سفائي إلا أن أغنيها
رغم ما ألم بالشاعر أيليا أبو ماضي من فراق لا أنه قد فتح باب قلبه من جديد لتلك المشاعر الرائعة التي تبعت الرضى والفرح في النفس وتأسر العقل، مشاعر الحب التي وثقت الصلة بينه وبين الفتاة التي أخذت قلبه من النظرة الأولى ورمته بسهام الحب التي صار الرابط المتين بينهما والمؤكد لأواخر الود والاستمرار معا، ففي قصيدته ــــ أنا وهي ــــــ يقول في شوق وفرح: (3)
هناك وقـــــــفنا والشفــــاه صوامـــت كـأن بـــينا عـــيــا ولــــيـــس بــــنــــا وحــــــــده
سكتــــــنا ولـــــكن العـــــيــــــون نواطق أرق حــــــديــــث مــا الــعــــيـــون به تـــــشدو
سكـــــــرنا ولا خـــــــمر ولكـــــنه الهوى إذا اشتد في قلب امرى ضعف الرشد
فــقــلــت لها إني مـــــحب لــــــكــل مــا تــحـــبين لســـــم مـــــنـك هـــــــــــــــــو الــــــــشـــهــد
فـقالت أمــن أجلي تحن إلى الـردى دع الــــهــــزل إن الـــــمـــــرء حــــــــيلته الجد
فقــــلت لها لو كنت في الخلد رائعا وليـست معي والله ما ســــــرني الــــــخـــلد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـــــــ مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، دار الأندلسي، ط4، بيروت، 1983م، ص:217.
(2) ــــــ المرجع السابق، ص: 69.
(3) ــــــ إيليا أبو ماضي، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، ط4، 2004م، ص: 528.

وفي دواوينه مجموعة من هذا الشعر المتفائل المبهج يردد فيه أبو ماض دعوته الناس إلى الابتسام والتفاؤل والنظر إلى الدنيا بمنظار جميل زانه يجعلها تبدو وكأنها قطع من الجمال لا شيء فيها من البشاعة والقبح يقول: (1)
عش للجمال تراه العين مؤتلفا في أنجم الليل أو زهر البساتين
جمالية الطبيعة في شعر إيليا أبو ماضي.
ومن الواضح أن الطبيعة أساس في تكوين الحالة الشعرية لدى الشاعر وهي من مقومات الابداع عنده. فعندما يستلهم الشاعر الطبيعة وما فيها من مخلوقات، فهو بذلك يجسد مدى ما تعطيه تلك الطبيعة من مشاعر ومن أدوات تتماهى في قصائده بمختلف أشكالها.
فنجد من ناحية الموضوع لأن الشعر الغربي في العالم الجديد كان ولا يزال مشكاة وضاءة هادية لنقاد العرب وشعرائهم المغتربين، فأنهم الأوليين مقاييس جديدة في النقد وألهم الأخرين الابتعاد عن التضييق والحصر، ما دامت موضوعات الحياة هي لب الأدب ومنه الشعر لا حصر لها، ولو أن مبلغ تجاوب النقاد والشعراء مع الأدب الغربي في المهجر متفاوت كما هو الحال في الأقطار المختلفة وتنوع الموضوعات فلما يخص شاعرا بالذات. (2)
إن الشاعر عندما يبدع في قصيدته، فإن ذلك يتطلب إحساسا بالجمال والعاطفة، وذلك الابداع هو الذي يشكل شخصيته التي تنعكس على قصيدته الشعرية. (3)
والمعلوم أن الطبيعة توحي للشعراء في كل عصر بكثير من المعاني والآثار الأدبية الرائعة، وقد افتتن بها الشعراء وصوروها في مختلف مظاهرها، ورسموا لها صورا تجمع غالبا بين صدق الأداء وبراعة الوصف وإظهار الدقائق والتفاصيل، وحرارة الانفعال. (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــــــ المرجع السابق، ص:21.
(2) ــــــ عبد المنعم خفاجي، قضية الأدب العربي المهجري، دار الكتب اللبناني، بيروت، 1973م، ص:330.
(3) ـــــ المرجع السابق، ص:07.
(4) ـ المرجع السابق، ص:193.

يريد من إحساساته وما يختلج في صدره، وبالتالي يستطيع أن ينظر إلى ذلك الحقل المريع في ذهنه قائلا: (1)
إذا أنا لم أجد حقلا مريعا خلقت الحقل في روحي وذهني
فكادت تملأ الأثمار كفى ويعبــــــق بالشذى الفــــواح ردنــــــي
كان إيليا أبو ماضي من أكثر الشعراء حبا للطبيعة وقد انعكس جمالها على جمال نفسه وصفاء سمائها على صفاء ألوانه، وانعكست عذوبة مائها على عذوبة الفاظه ودقة نواميسها في دقة ملاحظاتها، وكان الطبيعة شعرت بصدق حبه لها فباحت له بأسرار سحرها، فمنذ قديم الزمان يتمتعون بالطبيعة وجمالها لكن أبا ماضي له موقف خاص من الطبيعة، فقد كان أكثر الناس اعتقادا بالمساواة بين الناس فهو دائما يتكلم عن الانسان بكونه من ماء وطيب سواء في ذلك الغني والفقير. (2)
يقول إيليا أبو ماضي: (3)
ولقد ترث إلى الحمام في الريي فعجب من حال الأنام وحالها
للشوك حظ الورد مـــن تــغــيـــرهــا وشــره مــــن بـــــعــد اعـــوالــــيــهــــــــــا
كان أبو ماضي يرى في كائنات الطبيعة الأصدقاء والأوفياء له إذا كان كلما بث شكواه، يجد عندهم آذانا صاغية وقلوبا مفتوحة وكثيرا ما كان يلتقي بأصدقائه هؤلاء إما في أماكنهم المعتادة في البرية، أو في منزل أحد الرفاق والأقرباء. ذات يوم برؤية زهرة مسجونة في إحدى الصالونات الفخمة، بتألم لرؤيتها لم يمن باستطاعته أن يخلصها من سجنها وعذابها. (4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـــــ إيليا أبو ماضي، الديوان، دار العودة، بيروت، ص:233.
(2) ــــــ أحمد قبش، تاريخ الشعر العربي الحديث، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط1، 1971م، ص:305.
(3) ـــــ المرجع السابق ذكره، ص:234.
(4) ـــــ أحمد عوين، الطبيعة الرومانسية في الشعر العربي الحديث، دار الوفاء للطباعة والنشر، ط1، 2001م، ص:83. ـ

يقول الشاعر: (1)
لعمرك ما حـــزني لمـــــــــــال فــــقدته ولا خان عهدي في الحياة حبيب
ولكـــــــنني أبــــــــكي وأنـــــدب زهـــــــــرة جـــــناها ولـــــوع بالـــــزهـــــــــور طــروب
رآهـــــا يحــــــــــل الفجر عند جنونها ويــــلقــــى عـــــلـيها تــــبــره فــــــــيــــــــــــذوب
وينفض عن أعطافها النور لؤلؤا مـــــــن الطل ما دامت عليه جيوب
وإذا تطرقنا إلى أشعاره رأينا أنه في فترة من فترات حياته يتخذ الطبيعة مثل بقية الرومانسيين، مقياسا للكمال الإنساني ويجعل هذا الاتجاه ديدنا ودينا لنفسه. ونظن أنه فعل ذلك فيما يمكن أن نسميه عهد القلب، ففي ذلك العهد جعل الغاب شبيها بعالم المثل الأفلاطونية وعده مثابة للبحر والحب والجمال والتضحية، ونصح الانسان أن يتشبه بالطبيعة في صورها العديدة، من تراب ونهر وغدير ونجم، وعلى الجملة نبذ دين الانسان الذي يمن ويزهو إذ قدم لقمة لجائع. (2)
أراد ايليا أبو ماضي أن يحدد الغاب وطبيعة الحياة فيه فإذا هي المطلق اللامحدود، ينحصر في حدود صغيرة في ضيعة لبنان، في منظر طبيعي واحد وإذا الغاب نقيض القصور، مليئ بالسواقي والصخور، يضحك فيه الفجر وتتدلي العناقيد من أعنابه، وإذا الغاب المجرد هو الطبيعة الجميلة. (3)
يقول: (4)
هل اتخذت الغاب مثلــي مــنزلا دون القصور
فـــتتــبعـــــت الســــــــــــــــــواقــــــي وتســـلــقــــت الصخور
هـــــل تــــحممـــــت بعـــطـــــــر وتـــنشــقــــــــت بنــــــــــــور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــــ إيليا أبو ماضي، الديوان، دار العودة بيروت، ص: 235
(2) ـــــــ خليل برهومي، الأعلام من الأدباء والشعراء إيليا أبو ماضي شاعر السؤال والجمال، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1994م، ص:64.
(3) ــــــ محمد أحمد ربيع، في تاريخ الأدب العربي الحديث، دار الفكر للنشر والتوزيع، ط2، 2006م، ص:69.
(4) ـــــــ المرجع السابق ذكره، ص:77.
جمالية صورة الوطن والحنين.
الوطن:
إن مفهوم الوطن لم يتشكل في الذهنية الاجتماعية بالمعنى الذي نتداوله في عصرنا هذا، إلا بعد تراكم معرفي حضاري أخذ من حقول المعرفة الانسانية المختلفة من اجتماع وسياسة ودين وفلسفة تشكيلته الدلالية، وإذا نظرنا في المعاجم العربية سنجد أن مادة وطن تعني:
وطن: المنزل تقيم به، وهو موطن الانسان ومحله. (1)
أما الوطنية معناها: أن يشعر جميع أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك الوطن، والتعصب له أيا كانت أصولهم التي ينتمون إليها، وأجناسهم التي انحدروا منها أي أن الولاء فيها للأرض بصرف النظر عن القوم أو اللغة أو الجنس. (2)
وكذلك عد حب الوطن والتعلق بالديار والوفاء للأرض من علامات المروءة وكمال الانسان وشرف الخلق، وسلامة الطبع، يقول المسعودي في باب الحنين إلى الأوطان والاخوان" وقد ذكر العلماء فيما خرجنا إليه من هذا المعنى أن من علامة وفاء المرء ودوام عهده حنينه إلى إخوانه، وبكاءه على ما مضى من زمانه، وإن علامة الرشد أن تكون النفوس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة، وللإلف والعادة قطع الرجل نفسه لصلة وطنه. (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، 1955م، ص:451.
(2) ــــــ محمد أحمد ربيع، في تاريخ الأدب العربي الحديث، دار الفكر للنشر والتوزيع، ط1، 2006م، 554.
(3) ـــــــ المرجع السابق، ص:40.




وعلى هذا فإن الشعر الوطني هو الشعر الذي يدور حول قضايا الوطن ومشكلاته السياسية والاجتماعية، والذي يصور حب الوطن الانسان لوطنه وأبناءه، إنه تعتبر عن مواقف وآراء قامت في ضمير أبناء الوطن، فوعاها الشعراء وأدركوا أبعادها، وتأثروا بها فغدت لديهم تجربة شعورية حادة.(1)
والشعر الوطني يتضمن أبوابا عديدة، وألوانا متنوعة، ففيه الحنين إلى الوطن حين يكون الشاعر بعيدا عنه، وفيه الفخر بالانتماء إلى الوطن وبتاريخ أبنائه، وفيه العطف على شعبه حين تزدحم على أبنائه الخطوب وفيه الدفاع عن كرامته حين يدعو داعي الجهاد. (2)
لم يغب وطن الشاعر عن ذهنه ووجدانه طيلة العمر الذي قضاه في المهجر، فقد حفل ديوانه بالقصائد التي تتغنى بوطنه لبنان مصورة تفاعل الشاعر مع مسقط رأسه وأرض الآباء والأجداد، كاشفة عن اهتمام بالغ بالأحداث التي تقع هناك ناقلة حرارة عواطفه إزاء أرضه، معبرة عن وجدان وطني حي. (3)
الوطن هو تلك الروح الهائمة البعيدة التي تسكننا في كل المنافي، تعانقنا في كل الدروب تسكن فينا ولا ترحل عنا حيث كنا نحمل عبير ونسيم تراب الوطن الغالي، لا عشق ولا هوى ولا مؤول للفؤاد لغير تلك الأرض البعيدة مسكن الروح والجسد ومواطن الحب والعاشقين، كما هو الحال عند إيليا أبو ماضي وهو يعاني ويلات الغربة واليأس يحطم قلبه فلم يجد الشاعر خلالها لهذا اليأس سوى صرخة يطلقها بلهف وحنين في قصيدته القافية قائلا: (4)
وطن أردناه على حـــــب العلـــى فأبى سوى أن يستكين إلى السقا
وطن يضيف الحر درعا عنده وتـــراه بالأحـــرار درعـــا أضــــيـــقــــــــــا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــــ مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، دار الأندلس، ط4، بيروت،1983م 09.
(2) ـــــ المرجع السابق، ص: 135).
(3) ـــــ عيسى الناعوري، أدب المهجر، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1993م، ص:68.
(4) ــــــ إيليا أبو ماضي، الديوان، دار العودة، بيروت، ت د، ص:475.


ولهذا فقد تغنى إيليا أبو ماضي في الكثير من شعره معبرا عن اشتياقه لوطنه، ذلك الوطن الذي طالما أحبه وأمضى فيه نصف عمره ومع ذلك لم يبق له سوى ذكريات أشخاص رغم أنه لم يجبره على الرحيل مع أنه عند ما دقت ساعة الرحيل واتجه صوب العالم الآخر بقي قلبه يلتفت وراءه يودع شمس الوطن وسهوله وهضابه وروابيه قائلا في قصيته عيد النهى: (1)
وطنان أشوق ما أكون إليهما مصر التـــي أحــبـبتها وبـــــــلادي
ومواطن الأرواح يعظم شأنها في النفس فوق مواطن الأجساد
الشاعر يعيش في أمريكا ولكن لم يفارقه الشوق إلى لبنان الوطن الأصل وإلى ذويه، إنه مشتاق إليهم منذ كان معهم فكيف لا يزداد هذا الشوق وهو بعيد عنهم بآلاف الأميال.
يقول الشاعر: (2)
يا من قربت من الفؤاد وأنــــت عــــن عـــيني بعـــيــد
شوقي إليك أشد مـــــــــن شوقي السليم إلى الهجود
أهوى لقاءك أشد مثلما يهوي أخو الضحاء الورود
دراسة الشكل لشعر إيليا أبي ماضي
يعتبر موضوع لغة الشعر من أكبر الموضوعات التي تعرضت للتناول عبر الامتداد التاريخي
والاتساع المكاني للبشرية فالإنسان عرف العالم يوم عرف اللغة ولم يعرف الشعر إلا يوم أدرك قوة الكلمة فالشعر استكشاف دائم لعالم الكلمة واستكشاف دائم للوجود عن طريق الكلمة. (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــ المرجع السابق، ص:129.
(2) ــــ المرجع السابق، ص:168.
(3) ـــــ السعيد الورقي، من مصادر التراث العربي، دار المعرفة الجامعة، 2005م، ص:31.

اللغة الشعرية بمفرداتها وتراكيبها وأساليبها وموسيقاها هي عناصر جمالية، تستدعي بخصوصيتها استجابات لدى المتلقي، فتهيمن على العقل والعاطفة لتعمل على أشباع حاسته الجمالية، كما تعمل على تزويده بمعارف وتجارب عدة. (1)
تعد اللغة وسيلة بين الشاعر والمتلقي، إذ تقوم على إبراز الجانب الإبداعي ما يجعل من القصيدة تظهر بشكل رائع، بالإضافة إلى أن العمل الأدبي رسالة لغوية في جوهره، كما أن النفاذ إلى أسرار العمل الأدبي وفض مغاليقه لا يتم إلا من خلال تحليل لغته. (2)
وتبقى اللغة وسيلة الشاعر وأداته الأولى لإيصال تجربته الشعرية إلى المتلقي، فهي تلك المفردات والتراكيب التي يستمدها الشاعر من خلال مخزونه الثقافي وذلك من أجل أن يعبر عن تجاربه الشعرية كما أن اللغة في ذاتها عبارة عن أصوات ذات دلالة. (3)
يقول إيليا أبو ماضي: (4)
وإذا سراجي قد وهت وتلجلجت أنفاسه فكأنه المصدور
فالشعر بجوهره رحلة في أعماق اللغة، واللغة كنز الشاعر وثروته، وهي جنيته الملهمة في يدها مصدر شاعريته ووحيه. (5)
ويقول الشاعر:
ذهب الصبا وبقيت في حسراته ليت الأسى مثل الصبا لنفاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـــــ إيليا أبو ماضي، الديوان، دار العودة، بيروت، ص، 392.
(2) ـــ سعد مصلوح، الأسلوب دراسة لغوية إحصائية عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2002م، ص:29.
(3) ــــــ عبد الصبور شاهين، في علم اللغة العام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1984م، ص:102.
(4) ــــ المرجع السابق ذكره، ص:181.
(5) ــــــ المرجع السابق، ص:156.
(6) ــــــ نفس المرجع، ص:127.

الشعرية بمفهومها الاصطلاحي يعني بشكل عام قوانين الابداع الفني، أي البحث عن القوانين التي تحكم الابداع في العمل الأدبي، لذلك تعتبر من المرتكزات النقدية التي تسعى إلى كشف مكونات النص الأدبي وعناصره كما تعمل على إبراز كيفية تحقيق الوظيفة الاتصالية والجمالية، فقد تمحورت انشغالاتها منذ القديم إلى الآن على استخراج القوانين التي استطاع المبدع التحكم بواسطتها في انتاج نصه، وإبراز هويته الجمالية ومنحه الفرادة الأدبية. (1)
وإيليا أبو ماضي مثله مثل شعراء المهجر لا يكثرون من استخدام الكلمات العامية بل على العكس، إنك لا تجد في دواوينهم إلا كل فصيح مليح، ولا مانع عندهم، في الوقت نفسه، من اللجوء إلى بعض هذه التعابير العادية إذا وجدوها ملائمة للغرض وافية بالمطلوب غير قبيحة أو سخيفة. (2)





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حسن الناظم، مفاهيم الشعرية، دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الفقافي العربي، بيروت، ط1، 1994م، ص:11.
(2) ـ نادر جميل السراج، شعراء الرابطة القلمية، دراسات في الشعر المهجر، دار المعارف، 1964م، ص: 247.










الخاتمة:
ومع نهاية هذه المقالة أردت كشف أسرار الشعر المهجري وإبراز جمال الفني عبر شعر إيليا أبي ماضي وفي النهاية قد توصلت إليه النتائج كالتالي:
ــ يعتبر إيليا أبو ماضي من أكبر شعراء المهجر، فعبر عن الإنسانية والاجتماعية والفكرية.
ــ وقد تجلت جمال الفني في شعره بشكل بارز.
ــ تحقيق المتعة والمنفعة، فالمتعة الجمالية تبعث السرور في النفس، وتشبيع إحساس المتلقى من خلال العمل الإبداعي فيتطور الموقف الجمالي من المتعة إلى الحصول على المنفعة.
ــ يمتاز شعر إيليا أبي ماضي بروح التجديد والجزالة.
ــ كان للغة الشعرية دور أثرائي وفعال في تجربة الشاعر التأملية من جهة، كما كان للنزعة التأملية في شعره دور مميز في نماء اللغة الشعرية وتطورها من جهة أخرى.
فهرس المصادر والمراجع:
1ـ ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، 1955م.
2ـ أحمد عوين، الطبيعة الرومانسية في الشعر العربي الحديث، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية، ط1، 2001م.
3ـ أحمد قبش، تاريخ الشعر العربي الحديث، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط1، 1971م.
4 ـ إيليا أبو ماضي، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، ط4، 2004م.
5ــ جبور عبد النور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، 1984م.
6 ـ حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1994م.
7 ـ حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدبي العربي، دار الجيل، بيروت، ط د، ت د.
8 ـ خليل برهومي، الأعلام من الأدباء والشعراء إيليا أبو ماضي، شاعر السؤال والجمال، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1994م.
9ـــ سعد مصلوح، الأسلوبية، دراسة لغوية إحصائية عالم الكتب، القاهرة، ط3، 2002م.
10ــ السعيد الرقي، من مصادر التراث العربي، دار المعرفة الجامعية، 2005م.
11 ـ سلمى الخضراوي الجيوشي، الاتجاهات والحركية في الشعر العربي الحديث، مركز دراسات الوحدة العربية الحديث، بيروت، ط1، 2008م.
12 ـ شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده، دار المعارف بمصر، ط2، ت د.
13 ـ صابر عبد الدايم، أدب المهجر، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1993م.
14 ـ عبد الصبور شاهين، في علم اللغة العام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1984م.
15 ـ عبد الله خضر، روائع قرآنية دراسة في جماليات المكان السردي، دار القلم، بيروت.
16 ـ عبد المنعم خفاجي، قضية الأدب العربي المهجري، دار الكتب اللبناني، بيروت، 1973م.
17 ـ عيسى الناعوري، أدب المهجر، دار المعارف القاهرة، ط1، 1993م.
18 ـ محمد أحمد ربيع، في تاريخ الأدب العربي الحديث، دار الفكر للنشر والتوزيع، ط2، 2006م.
19 ـ محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاريخ العروس من جواهر القاموس، محمود محمد الطناجي الكويت، التراث العربي وزارة الاعلام، 1993م.
20 ـ مصطفى عبد الشافي، في الشعر الحديث والمعاصر، دار الوفاء، ط د، ت د.
21ــ نادر جميل السراج، شعراء الرابطة القلمية دراسات في الشعر المهجر، دار المعارف، 1964م.
22ـ كمال عبد، جماليات الفنون، دار الحرية، بغداد، 1986م.
23 ـ كاظم حطيط، أعلام ورواد في الأدب العربي، مكتبة الدار العربية للكتاب، 2003م.
24ـ فيصل سالم العيسي، النزعة الإنسانية في شعر الرابطة القلمية، دار الباروزي العلمية، ط1 ،2006م.

#مختار_حمن_جام (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات