أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي مفتاح - مولاي عبد العزيز: الفاتح بأمر الابداع















المزيد.....

مولاي عبد العزيز: الفاتح بأمر الابداع


علي مفتاح

الحوار المتمدن-العدد: 7643 - 2023 / 6 / 15 - 23:28
المحور: الادب والفن
    


أطرق عمق هذه الذاكرة باحثا عن كلمة عن نغمة ،عن موقف انساني يوقظ بداخلي لوعة السؤال : من كان و لمن كان ؟ كيف لهذه اللغة المتراقصة حروفها أن تكتب عن مبدع ينحدر من سلالة بدأت تعلن انقراضها ، عن شاعر ينتمي لجيل أتعب المسافات و لم يتعب ، عن فنان ينتسب لعمالقة كوكبنا الفني التراثي ، عن انسان يعي جيدا معنى الانتماء للإنسان في كل تفاصيله الغامضة المعقدة و الشفافة . فالتاريخ تاريخه لن يعيد نفسه اطلاقا ، هو المتفرد بصيغة الجمع ، أو ذلك الفرد الجماعي ،أو تلك الجماعة المنفردة و المتفردة ،المتعدد الأوجه الفنية ، الخصب المعطاء ،و كما الشمس التي تمنح الدفء و لا تنتظر من يتبرع لها بحضن دافء ساعة ارتطامها بالبحر وقت الغروب ، ظل يمشي مع قلة من المشائين ، يلتقط و منذ نعومة وعيه الشقي الباحث عن التفرد ، كلمة لقصيدة أو نغمة لبوح غنائي ، و قد يلتقط مع كل هذا و ذاك تقاسيم وجوه أتعبتها الحياة ، يستعيرها، ينصهر بتفاصيلها ،فيحولها إلى مشهد فني إبداعي، و قد يعلمنا المشهد كيف هو الإنسان و كيف ينبغي أن يكون .
مولاي عبد العزيز الطاهري، من " ساحة بن صالح " خرج إلينا، حاملا في قلبه لوعة من عاشوا " الدَقّة " في الحياة و " الدِقّة " في اختيار تفاصيل الحياة ، مشى مسافات طويلة رفقة أترابه، يسمع ،يلتقط و يصور أجمل ما في الحياة ، فصار رهين محبس جميل يدعى مجازا بجمالية التراث ، لم يكن مولده في " عاشوراء " صدفة ، بل قدرا سيلازمه طيلة مساره الحافل بالنجاح من جهة و بالتأثير على كل الفنون التي ستأتي إليه عارية فيكسوها من سحر فنه و يغدق عليها العطاء العميم ، كان بحق يعرف كيفية الإنصات لنفسه الأمّارة بالسحر الحلال ، ينزوي اليها ،يكلمها ، يجادلها في ذلك الطفل الذي يسكنه ، طفل بألف روح و العمر واحد لا يقبل الانتظار أو التردد ، قلبه مشرع لاسقبال كل هذا الجمال الذي يحيط به ، دروب و أزقة مراكش ،المدينة السمراء الجميلة التي تصدح بالحياة و إيقاعاتها المتنوعة تنوع و خصوبة تراثها الغني حد التفرد ،كان طفلا و لا يزال، يمشي إليه، كلما استطاع للمشي الروحي سبيلا ، و الأسئلة الحارقة توقظ بداخله الرغبة في أن يعلم و يتعلم و يُعَلِّم نفسه قبل غيره معنى أن يلبس عباءة التميز ، لا جلباب التبعية و الاجترار ، ارتوى و تشبع بكل ما لذ و طاب من أطباق تراثية أعلنت التنوع هويةً ، و نصبت نفسها منهلا محددا يشع بالغنى ،و يعطي مجالات أوسع و أرحب للتحليق و الاستثمار الفني و الإبداعي.
كان الطاهري سيد نفسه ، يتأبط حلمه تارة، و تارة أخرى يمشي خلفه ،و هو الحالم حد الشعر و الواقعي حد النقطة الأخيرة في خاتمة قصيدة ، في " شبيبة الحمراء " كان الاحتراق الأول في الموعد ، كان المخاض في بدايته يتربص به ، ينحت على خشبة المسرح تماثيل من عبروا و من سيعبرون ، يكتب يغني و يمثل ، بركان من الابداع ينفجر جمالا ، و التجسيد سيد المواجهة ، و الأسئلة الحارقة تلاحقه في كل كلمة في كل خطوة فوق الركح، إنه في حضرة سيد الفنون : من أنا و من أكون ؟ و اللغة حبلى بالتأويلات و المتاهات ، أ كان لزاما أن أمشي خلفي ؟ و أن أطاوع هذه النار البركانية المشتعلة بداخلي و من حولي ؟ أ كان لزاما أن أعيد ترتيب دقات قلبي على إيقاعات " المازنية " " الدقة " " الهواريات " " اللعابات " " كناوة " ....؟ أن أهب نفسي و كل حياتي لطقوس تلامس الروح قبل الأذن، و تستولي على كل مساحاتي النفسية و الفكرية ؟ إنه المصير الذي لا مفر منه، إنه قدر الصرخة الأولى في يوم " عاشوراء " ، سيكون الرفيق في الطريق و سيلاحقني أينما ذهبت و أينما تواجدت ، كلا إننا نموت كل يوم بألف عاهة ، و البقية مشدوهة بفضاءات الحمق و الجنون ،و أنا اخترت أن اعانق جنونا غير الجنون ، قررت أن أتبعني في جنوني الآسر هذا ، أن أحملني على كتفيا و أن أمضي بي حيث أجدني هناك ، أجلس بجانبي ، قد أعاتبني على سطر في قصيدة ، أو أنتقدني في اختياري لإيقاع دون غيره ، إنه صلح مع الذات لابد منه ، لكي أضمن لنفسي التعايش مع نفسي ، فالقادم من الاحتراقات يقتضي ذلك .
المرحوم " المسرح البلدي " " الحي المحمدي " ، " السنتير " ،و الشَّعرُ الطويل الذي يأبى الانصياع للرتابة ،و قد أعلن العصيان في وجه كل أنواع المشط ، الرافض للحال و المآل ، كانوا خمسة و حب الشعب سادسهم ، يرتلون الجرح ترتيلا، جرحنا و جرحهم ، و جرح كل من سقط سهوا أو عن قصد في مستنقعات التجاهل و الحرمان . كان الطاهري هنا يؤسس رفقة خلانه، ليس فقط لظاهرة غنائية أو موجة فنية شبابية ، لكن كان يعيد هيكلة العقل المغربي ، و زعزعة فهمه الساذج لتصور الوطن و مفهوم المواطنة ، لقد أدرك الشباب الخمسة أن الطريق شاق و الدرب طويل ، و أن التغيير الحقيقي يمكن أن يبتدئ من تهذيب الذوق و عقد تصالح لا مشروط مع التراث ، فالمغربي البسيط مسكون بإيقاعاته التراثية القديمة ، يجد فيها متنفسه الروحي ، فقبل هذا التأسيس المنفرد و المتميز في شكله و رسالته الفنية و الإنسانية ، كان المغربي البسيط ، الفلاح و العامل يعيش المنفى الفني و الاغتراب الجمالي ، فجاءت " ناس الغيوان " و معها مجموعات أخرى لكي تعيد للمغربي هويته الغنائية ، لتمتزج الإيقاعات التراثية القديمة بالكلمات الهادفة التي تحمل خطابات، أقل ما يقال عنها أنها خطابات توقظ الحجر من سباته، توقظ في الإنسان هويته و إنسانيته كذلك ، فأين الطاهري من كل هذا ؟ لقد كان بحق أنشودة ندية منحت بسخاء حاتمي قطرات الغيث الأولى، كان اشراقة صبح ،منحت الضوء و الدفء للخطوة الأولى، كان المحور الدينامي الذي أدار العجلة و معها المقود صوب الدهشة و الجمال ، لقد كان رفقة " بوجمعة أحكور " و " العربي باطمة " السواعد التي حملت و تحملت عبء الظهور الأول ،كتابة و لحنا و تصورا لفلسفة فنية و غنائية ،ستكتسح العالم، تغنت بالسلم و السلام ،تنبذ الظلم و استعباد الإنسان، و كان الطاهري في مرحلة مشواره هذا ،يحفر عميقا فيما اختزنته ذاكرته من نوادر تراثية ، يجعلها تطفو على السطح ،يضيف إليها من سحره ،فتتحول بقدرة من زرع فيه الروح بعاشوراء ،الى تحفة غنائية سيكتب لها أن تعمر بيننا طويلا ، و أنها ستصبح دستورا انسانيا ،يقصده كل مظلوم و منبوذ ،كل عاشق للحياة و للإنسان في مفهومه الكوني ، و يا لغرابة المشهد و سكوت الشهود و حياد المشاهدين ،كيف لرجل بكل هذه الملامح ، الكتابة اللحن و التأسيس ، و يقصى من المنحة أو الهبة الملكية التي تمنح لكل الأعضاء المؤسسين للمجموعة ، فمن كان وراء هذا الإقصاء الممنهج فليتحمل مسئوليته التاريخية أمام الله و أمام التاريخ و أمام الضمير الجماعي .
و بدون سابق إنذار، أبى الطائر الحر إلا أن يحمل وكره بين جناحيه ،و يمضي حيث يجد نفسه هناك ، يرسم كوكبا آخر ، يحلق في سماء أخرى غير السماء ،يغني و ينشر البهجة من فوق أقفاص أتعبتها القضبان ، من فوق رؤوس أطفال يمدون أيديهم للأمل عله يتبرع لهم بجرعة ابتسامة توقظ بداخلهم إشراقة الحياة ، فوق سماء مدينة علمته في الحب و الجمال ما لم يكن يعلم ، و مضى الطاهري في كتابة تاريخ آخر، أعاد للملحون هيبته و حضوره المتوهجين، أعاد رسم خارطة طريق للفن في صورته الحديثة و الحداثية ،حيث تتداخل و تنصهر كل الفنون في مشهد واحد بديع ، و هو المؤمن بالعرض الفني الشمولي ، حيث لأبي الفنون " المسرح " حضوره ، و الصوت الغنائي و الكلمة المزجالة حضورهما، لقد كان بحق مشروعا يغري بالانطلاق و التحليق ، إنه الرافض للصورة النمطية التي تجتر الأشكال و تراها غير قابلة للتحوير و التطوير و التجديد ، و هو الفنان المبدع الذي لا حدود و لا متاريس لفنه ، يركب صهوة الكلمة و يمضي حيث الفكر المجدد ، حيث الإبداع هو المحدد ، و هو الضمانة الوحيدة على الاستمرار، فما أعظم الرجال عندما تبني بالكلمة، و لا شيء غير الكلمة ،قصورا بأعمدة من جمال ، و ما أعظم الرجال عندما تهمس في أذن المحال أن القلم على أهبة الاستعداد ،محشو رصاصه لقصف البشاعة و الميوعة و رداءة البصيرة و عتمة الأبصار .
كان الطاهري، و لا يزال، يمشي خلف حلمه ،يتعقبه في كل فتوحاته الإبداعية في كل غزواته الفنية ، يحرر رقعة فنية من سطوة محتل فني لا يؤمن بالحرية و التحرر الإبداعيين ، شيد قلعة غيوانية هناك و حرر مدينة فنية لأهل جيلالة هنا ، هو الفاتح بأمر الإبداع ، له الحق أن يفخر بكل هاته البطولات ،و لنا الحق أن نفخر أننا عشنا في عصره، و أنه كان بالنسبة لجيلي و الأجيال الأخرى التي تلت ، مدرسة للفن الإنساني النبيل ، و مدرسة للتراث و الفن الأصيل ، لقد كان بحق فاتحا بأمر الابداع .
و لايزال الطاهري إلى يومنا هذا يمشي متكئا على حلمه القديم الجديد ، وفيا لعينه الثالثة التي تترصد المشاهد ، فتحولها إلى تحف جمالية ، مازال يحرض القلم على أن يكسر رتابة بياض الأوراق، يكتب بسخاء قلما تصادفه ، يمارس عشقه الأزلي للكتابة بنفس الحب و بنفس الرغبة و العزيمة ، فالكتابة عنده حياة ، و حياة الطاهري كتاب يعشق و يتغنى بالحياة .
ما كتبته هنا ، ليس قراءة في مسار مبدع كبير يدعى مولاي عبد العزيز الطاهري، و إنما هو انبهار بالقيمة الفنية و الإبداعية لشاعر فنان أعطى و لم يأخذ في المقابل سوى حب شعب بأكمله ،و هذا لعمري أعظم من كل المكافآت.



#علي_مفتاح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من قتل الموت في بلادي ؟!
- نحو مقاربة توافقية لرسم الحرف في كتابة لغتنا العامية الكتابة ...


المزيد.....




- أحزان أكبر مدينة عربية.. سردية تحولات -القاهرة المتنازع عليه ...
- سلطنة عمان تستضيف الدورة الـ15 لمهرجان المسرح العربي
- “لولو بتعيط الحرامي سرقها” .. تردد قناة وناسة الجديد لمشاهدة ...
- معرض -بث حي-.. لوحات فنية تجسد -كل أنواع الموت- في حرب إسرائ ...
- فرقة بريطانية تجعل المسرح منبرا للاجئين يتيح لهم التعبير عن ...
- أول حكم على ترامب في قضية -الممثلة الإباحية-
- الموت يفجع بطل الفنون القتالية المختلطة فرانسيس نغانو
- وينك يا لولو! تردد قناة وناسة أطفال الجديد 2024 لمشاهدة لولو ...
- فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن ...
- مغن كندي يتبرع بـ18 مليون رغيف لسكان غزة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي مفتاح - مولاي عبد العزيز: الفاتح بأمر الابداع