أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد الطبّابي - الشّعبويّة بين النّظريّة والتّطبيق















المزيد.....



الشّعبويّة بين النّظريّة والتّطبيق


عبدالحميد الطبّابي

الحوار المتمدن-العدد: 7618 - 2023 / 5 / 21 - 17:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقديم:
الشَّعبويّة حركة سياسيّة وخطاب موجّه إلى الطّبقات الشّعبية وبخاصّة إلى الطّبقة العاملة الحضريّة وصغار الفلاّحين والشّريحة الوسطى من المجتمع. لكنّها لا تتولّد بفعل القوّة التنظيميّة المستقلّة بذاتها، لأيّ من هذه المكوّنات. كما تتلقّى الدّعم من قطاعات أخرى لا تنتمي أصلا للطّبقات الكادحة، وهي تؤمن بأيديولوجيا رافضة للوضع القائم. وعبر انتقادها للنّظام والسّلطة والنّخب السياسيّة، تكون الشَّعبويّة نتاج لخطاب سياسي عام يتحدّى المؤسسات التقليديّة، ديمقراطيّة كانت أم غير ديمقراطيّة، يعتمده سياسيون يتمتّعون بدعم شعبي مباشر.
تفتن الشّعبوية بخطابها، فئة الشّباب من الشّريحة العمريّة الدّنيا. مستغلّة وعيها السّياسي المتدنّي. كما تستهدف شريحة البرجوازيّة الصّغيرة محدودة الأهداف الوطنيّة والمشغولة أكثر بذاتها، المتذمّرة من وضعها الاجتماعي بفعل الأزمة الاقتصاديّة.

أسباب بروز الشَّعبويّة وصعودها كخيار بديل:
أهمّ الأسباب التي أجّجت صعود الشَّعبويّة في العالم، التي تعدّ انعكاسا لحالة السّيطرة المطلقة للرّأسمالية اللّيبرالية المتوحّشة على اقتصادات العالم وما تفرضه من خيارات مطلقة الهيمنة، عبر الشّركات متعدّدة الجنسيات والكارتيلات والهيئات الماليّة العالميّة التّابعة لها، على كافّة المقدّرات الاقتصاديّة الكونيّة وأنشطتها، وبسط نفوذها على الأسواق من خلال القوانين الجبريّة لمنظّمة التّجارة العالميّة والتّقسيم العالمي للعمل، ممّا أدّى في المرحلة الحاليّة، إلى احتكار الثّروة والسّلطة بيد أوليجارشيّة عالميّة محدودة العدد، ما يطلق عليها اصطلاحا " بلوتوكراسي أو حكم الأثرياء Ploutocratie". وفي المقابل، تفقير مبالغ فيه للدّول والشّعوب من دون استثناء. لتتولّد عنه تفشّي عديد الظّواهر الاجتماعيّة ذات الانعكاس السلبي الحادّ على الحياة العامّة للمواطنين. ممّا دفع إلى ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبيّة وتنامي الصّدامات الاجتماعيّة وتكاثفها، مع فقدان الثّقة بوعود النّخب السّياسية والتّشكيك في قدرة الدّولة على القيام بأعبائها الاجتماعيّة والتغلّب على مظاهر الأزمة المزمنة والمركّبة.

تعريفات الشَّعبويّة
تعرّف الشَّعبويّة بأنّ ما يجمع معظم دعاتها هي مقاربتهم التّبسيطية في استعمالهم لمفردة "الشّعب" وادّعاؤهم بأنّهم صوت هذا "الشّعب وضميره". وكذلك احتكارهم لتمثيله من دون مراعاة التّفويض ولا التّعاقد الاجتماعي السّليم. مع تركيزهم على خطاب عاطفي لا يستند بالضّرورة إلى أسس فكريّة دقيقة. بالتّالي، يكون خطابهم الشَّعبوي مبهما وعاطفيّا إلى حدّ كبير، من حيث أنّه لا يعتمد الأفكار ولا الرّؤى الموضوعيّة، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى والمزاج المجتمعي السّائد أو يتماهى معه تماما، ويوهمون المتلقّي بأنّ هذا الخطاب متطابق مع الرّأي الأغلبي، من دون الأخذ بعين الاعتبار، إن كان يجدي نفعا في التّعامل الجدّي والمسؤول مع تعقيدات الواقع وصعوباته. كما يكثر الخطاب الشًّعبوي من التّركيز على تبسيط مشاكل المجتمع وأزماته بشكل مسرحي كرنفالي. مع الإحالة على التّاريخ الذي يتمّ استخضاره واستخدامه كوسيلة أيديولوجيّة ذات عمق عاطفي وانفعالي في المقام الأوّل. فجوهر الشَّعبويّة يتجسّد في ذلك التّلاعب بالعقول والمشاعر الذي يعتمده خطابها الموجّه إلى الجماهير، بهدف تحقيق مجموعة من المصالح السياسيّة بالدّرجة الأولى. إذ أنّ الشَّعبوي الفرد (لزّعيم) أو المجموعة (حزب، أنصار..) يوهمون بأنّهم المتحدّثون باسم الشّعب، بينما هم في الأصل، يعبّرون عن مصالح الطّبقات الاجتماعيّة المسيطرة.
أحيانا، تستخدم الشَّعبوية خطابا فيه تحشيد للجماهير وتعبئة لها، عبر الوعود الانتخابيّة الزّائفة وكذلك العزف على أوتار أهوائهم من مثل: الطّائفيّة، إثارة النّعرات القوميّة، التّحريض على كراهية الأجانب والعنصريّة. أي اعتماد خطاب مخادع يستغلّ الأحاسيس العفويّة غير الواعيّة عند الجمهور، دونما اعتبار للحقائق الموضوعيّة والمحرّكات الخفيّة الكامنة وراء تلك الأحاسيس.
يعرّف جي هرمات Guy Hermet ، المفكّر المختصّ في التّنظير حول الشّعبويّة، كالتّالي:>.
في أوروبا، يستحضر مصطلح الشَّعبويّة لتعريفها كموقف متذبذب وغير محدّد، من خلال اعتماد خطاب يبدي محبّة للشّعب والاهتمام بالمسألة الاجتماعيّة. وهي ديماغوجيا مثقّفاتيّة لا يتبعها أيّ التزام بخوض النّضال لحلّ مشكلات الطّبقات الدّنيا أو ممارسة تتجاوز خطاب الثّناء على هذه الطّبقات والانسياق مع التّعبير عن إحساس التّعاطف معها. هذا الأنموذج معتمد أيضا، في البلدان المتخلّفة غير الدّيمقراطيّة، في بحثها عن خطاب مخلّص ويقرّب النّخب من الجماهير من دون السّعي لتغيير حقيقة الواقع.
أمّا بخصوص التّنظيم، فإنّ الشَّعبويّة تستبطن تجنّب فكرة التّنظّم سياسيّا، لأنّ في ذلك إحالة على العقيدة الليبراليّة، حيث يمثّل كلّ حزب شريحة أو طبقة من المجتمع. وهو ما يتنافى وما تروّجه عن نفسها، بأنّها تمثّل عموم الشّعب. وفي هذا الشّأن، يؤكّد "خوان دمينغو بيرون Juan Domingo Péron" مؤسّس تيّار "البرونيّة Péronisme" الشَّعبوي بأمريكا الجنوبيّة، في سنوات الأربعينات من القرن الماضي في قوله:>.
وهذا ما يجعل الشَّعبويّة حركة غامضة إلى حدّ بعيد، من وجهة نظر أيديولوجيّة وتنظيميّة، بحيث يمكن للجميع التّواجد ضمن أطرها، من دون اعتبار للتّفاوت الاجتماعي والتّقسيم الطّبقي وتضارب المصالح!..
أمّا المحاولة الأكثر عمقا وإعدادا لتوضيح فوضى تعريف مفهوم الشَّعبويّة المتداول، خاصّة في الاستعمال الصّحفي. هو ما ورد في كتاب "مارغريت كانوفان Margaret Canovan" بعنوان <<شَعبويّة Populism>>،الصّادر سنة 1981، تميّز فيه الكاتبة بين فئتين من الشَّعبويّة:"الشَّعبويات الزّراعيّة" القديمة و"الشَّعبويات السّياسيّة" التي تنقسم بدورها إلى أربع نماذج وهي: البرونيّة الجنوب أمريكيّة، الشَّعبويّة المحافظة وممثّلوها من القادة السّياسيين، شَعبويّة السّياسي الأمريكي "جورج ولاّس George Wallace" العنصريّة، الذي يرفض إلغاء الإجراءات العنصريّة بولايات الجنوب الأمريكي. وكذلك، شَعبويّة النّظام السّياسي السويسري، أو ما يطلق عليه "الدّيمقراطيّة المباشرة"،حيث تتوزّع السّلطة بين الكونفدراليّة والنّواحي والمحلّيات. وتشمل الكونفدراليّة الاتّحاد بين دويلات مستقلّة، فيها فصل بين السّلطات المتمثّلة في: البرلمان الفدرالي (جهاز تشريعي)، المجلس الفدرالي والإدارة الفدراليّة (جهاز تنفيذي) وكذلك المحكمة الفدراليّة (جهاز قضائي). ويقوم نظام الفدراليّة السويسري على توزيع سلطة الدّولة، فلا تقوم الفدراليّة سوى بالمهام التي تتجاوز إمكانات النّواحي، أو تلك التي تتطلّب ترتيبات موحّدة.. يحول هذا الفصل دون احتكار السّلطات من طرف الأفراد أو المؤسسات وتمنع إساءة استعمال السّلطة. كما أنّ الشّخص الواحد لا يمكنه أن ينتمي سوى إلى سلطة واحدة من السّلطات الثّلاثة.
وللتّدقيق في مفهوم الشَّعبويّة علينا أن نميّز بين التّعريف السّياسي لها، وبين تعريف علم الاجتماع لهذه الظّاهرة السياسيّة التّاريخيّة. فسياسيا، تعرّف الشَّعبويّة بأنّها ترتكز على خمس عناصر أساسيّة:
- العنصر الأوّل: هي الفصل بين "نحن" و"هم أو الآخرون". ونحن تجسّد رمزا لـ "الشّعب القائد"، أو ما يطلق عليه عندنا في تونس "الشّعب يريد". وهذا الشّعب لا يحدّد عند الشَّعبويين بالانتماء إلى هيكل اجتماعي، بل هو مفهوم هلامي غامض، غير محدّد الأطراف والمكوّنات. فشعب التّاريخ الحاضر عندهم، هو الحشد الذي يتصدّى للنّخبة. أي الذي يتصادم مع المتحكّمين بالسّلطة الاقتصاديّة، الاجتماعيّة والثّقافية، على اعتبار أنّهم يكوّنون كتلة للإبقاء على هيمنتهم وامتيازاتهم.
- العنصر الثّاني: هي نظريّة الشَّعبوية حول الدّيمقراطية، وترتكز على اعتماد الدّيمقراطيّة المباشرة (تقديس اللّجوء إلى الاستفتاء)، وهو تصوّر لاعتماد القطبيّة الواحدة للسّيادة التي تقصي الهيئات والمؤسسات الوسيطة غير المنتخبة مباشرة (المحكمة الدّستورية والهيئات المستقلّة، كهيئة مكافحة الفساد إلخ..). ومردّه أنّ المفهوم السّائد لدى الشَّعبويّة، هو الإعلاء من شأن الإرادة العامّة أو الشّعبية الكفيلة لوحدها، بالتّعبير تلقائيّا عن ذاتها.
- العنصر الثّالث: المفهوم الشَّعبوي للتّمثيلية: ومنطلقه الثّقافة التي تلفظ دور الأحزاب السّياسية وتعتبرها أجهزة لا تكتنفها الحقيقة، مشلولة بالصّراعات الدّائمة لفرض الهيمنة بين التنظيمات المتناحرة. فالشَّعبويّة تمجّد مقولة:<<الشّعب الأحد الموحّد>> المتماهي مع روح القائد الكاريزمي الذي يفترض به أن يكون ليس فقط، المختار أو المفوّض، بل أيضا، هو الذي يجعل الشّعب حاضرا دوما. أي أنّ دور الشّعب يتجسّد من خلال ما يمارسه هذا القائد.
- العنصر الرّابع: هو مفهوم الحمائيّة الوطنيّة. ويتمثّل في رفض توزيع سلطات الحكم بين هيئات ومؤسسات مختلفة والسّعي إلى تجميعها بيد القائد الكاريزمي. (مثلما حوّل رئيس تونس قيس سعيّد، من خلال دستوره الذي أصدره في 25 جويلية 2022، كافّة السّلطات بمختلف مهامها التقليديّة، إلى وظائف وحصر القررات والسّلطات بيد رئيس الدّولة. بالتّالي أصبحت سيادة الشّعب على مصيره مستحيلة).
- العنصر الخامس: ترتكز الثّقافة الشَّعبويّة على حشد الأنصار على أسس الانفعالات العاطفيّة مع خطابها، وليس على قاعدة البرنامج الحزبي ولا النّظرية السّياسية ذات مرجعيّة أيديولوجيّة متأصّلة في الفكر السّياسي. بل هي تعتمد جملة من المقولات والشّعارات الهلاميّة التي تستهدف إثارة عواطف الجمهور وتأجيج انفعالاته. فالشَّعبوية تستخدم بشكل كبير المؤثّرات الحسّية في السّياسة، متجاوزة الأساليب التقليديّة لجذب الجمهور والتأثير فيه. وهي تمقت النّسق الفكري وترابط المقولات السياسيّة، لأنّها انتقائيّة في خطابها وعشوائيّة في تصرّفاتها السّياسيّة.
يعرّف المنظّر ومؤرّخ الفكر السّياسي "بيار أندرى تاجييف Pierre-André Taguieff " مفهوم الشَّعبويّة بقوله:<<يمكن تحديد الشّعبوية إجمالا، بأنّه فعل توجيه حزب الشّعب ضدّ النّخب (الأحزاب السّياسيّة الأخرى، النّقابات، الإعلام، الجمعيات المدنيّة، مجاميع التّفكير والمثقّفون والمؤسسات الأكادميّة، المؤسسات المنتخبة، القضاء، المؤسسة العسكريّة والأمنيّة إلخ..)، بشكل علني أو عن طريق ما يطلق عليه الشَّعبيون "ثقافة الشّعب"، باعتماد إيحاءات متعدّدة: - سيادة الشّعب – ثقافة الشّعب إلخ..>>..
أمّا "تدوروف Tzvetan Todorov" النّاقد الأدبي ومؤرّخ الأفكار، فيعرّف الشّعبوية بقوله:<<الدّيماغوجيا هي أهمّ خاصّيات الشَّعبوية، لأنّ الشَّعبوي يرفض ويبتعد عن مفهوم "الهُنا والآن">>، عند توجّهه بالخطاب إلى الجمهور المرتبط به. فهو يستهدف المشاعر، يزعم أنّه يهتمّ بالصّعوبات التي تعترض كلّ فرد، مستغلاّ يقين الجمهور بصحّة خطابه، مقترحا حلولا مبسّطة لا يحتمل تنفيذها أيّ تأخير. وكلّ هذا، من أجل الحصول على الانخراط الفوري لمتلقّي الخطاب في المشروع الشَّعبوي>>.
تصنّف الشَّعبوية ضمن المفاهيم الأكثر جدلا ضمن تخصّصات العلوم الاجتماعيّة. حيث يعتبر حقل البحث في مجالها، مشّوشا ومضطربا. وهذا بحكم التّمطّط الشّديد في مفهومها وضبابيته. بالتّالي، غياب تعريف دقيق لعبارة "الشّعبويّة". وإن كانت في السّابق، تعدّ الأعمال الفرنسيّة في الدّراسات المقارنة للشّعبوية، هي الرّائدة، فهي حاليا، تجد نفسها في طريق مسدود. ممّا اضطرّها إلى التخلّي عن التّحديد القطعي للظّاهرة، حينما لا ينحصر في مطابقتها للفاشيّة. أمّا بعض البحوث الأخرى، الأقرب إلى النّظرية السّياسية، فتحدّد الشّعبوية بالنّقد الجذري للديمقراطيّة التمثيليّة، حيث تجد في هذا الرّأي، الآليّة التّجديدية لمفهومها.

العلاقة بين الشَّعبويّة والدّيمقراطيّة
في تأمّلاته الفكريّة حول العلاقة المعقّدة للشَّعبويّة بالدّيمقراطيّة، يشير "جي هارمات Guy Hermet" قائلا:<<..بالرّغم من أنّ الشَّعبويّة تبدو في ظاهرها ديمقراطيّة، وحتّى "ديمقراطيّة متطرّفة"، فإنّها تشكّك بالتّجربة الدّيمقراطيّة التي تتشكّل من المبادئ الدّستوريّة، المؤسّسات التمثيليّة والهيئات الوسيطة والقوانين التي تحمي الأقلّيات. كما ترفض مبدأ الحوار، التّفاهمات الصّعبة وتنسيب المكاسب. فالملامح المشتركة للأشكال الجديدة للشَّعبويّة المعادية للسّياسة تكمن تحديدا، في فعل الوعد بكلّ شيء وفورا، إلغاء الخاصّية الزّمنيّة التي يتطلّبها إنجاز الوعد السّياسي، إثارة النّفور لدى الجمهور من الممارسة السّياسية وترذيل فعلها. فهذه <<الشَّعبويّة الجديدة Néo-populisme>> هي في عمقها، شكل من التّحريض، ممّا يجعلها مثيرة للرّيبة ويبرّر التحلّي باليقظة تجاهها>>.
من ناحية أخرى يؤكّد "جي هارمات Guy Hermet" <<أنّ الشَّعبويّة هي محدودة عددّيا على الصّعيد الانتخابي، كما هي ظاهرة عابرة، لأنّها في العادة مرتبطة بحضور زعيم كاريزمي قادر على أداء دور المحفّز والموحّد (تتلاشى باختفائه). مع ذلك، لا يمكن الاستهانة بهذه الشَّعبويّة المعاديّة للسّياسة كما هو معهود منها. والاعتقاد الأرجح، أنّها فورة عابرة، شكل من ردّة فعل حتميّة تجاه الواقع السّياسي، أو هي مجرّد نزوة غريبة الأطوار، مردّها الاضطرابات الاجتماعيّة والسّياسية في واقع اليوم. وإن كانت الدّيمقراطيات هي من دون جدال، في حاجة للتّغيير ولتصوّرات جديدة، فإنّ الشَّعبويّة ليست البدعة المنقذة ولا هي الأفضل>>.
في سنة 2012، ذكر "كريستيان غودان Christian Goudin" أنّ شبح الشَّعبويّة يزعج العالم، خاصّة العالم الغربي الذي يتواجد به سبعة وعشرون حزبا يمينيّا متطرّفا.. وليس مستبعدا أن تكون الشَّعبويّة في القرن الواحد والعشرين، نظيرا للكليانيّة في القرن العشرين. كخطر رئيسي على الدّيمقراطيّة التّمثيليّة، والتي تعتبر الشَّعبويّة أحد تمظهراتها، كأزمة تعيشها الدّيمقراطيّة.
تعدّ الشَّعبويّة خطابا أكثر منها أيديولوجيا، وهي تتخطّى الانقسامات السّياسيّة والمجتمعيّة المعهودة. لذا، فتحليل الشَّعبويّة كلغة خطاب سياسي يبيّن أنّه لا يتأتّى من أيديولوجيا ولا من برنامج محدّدين، لكن من تركيب خطابي غير واقعي ومخادع، وكظاهرة سياسيّة ناتجة عن الأزمات التي يمرّ بها المجتمع الليبرالي.
لا توجد شَعبويّة من دون قائد يعتمد مبدأ:<< للإقناع يجب التّبسيط Pour séduire, il faut réduire>>. ومثلما قال<<بلتزار غراسياس Baltazar Graciàs":<<يكمن هذا التّبسيط في إثارة العواطف والاختلاف مع الخطاب السّياسي المعهود، وإن كانت الشَّعبويّة خيانة للدّيمقراطيّة، فهي تعبيرة مشوّهة لها>>.
في مقال لها صدر سنة 2005، توضّح "أنّي كلّوفالد Annie Collovald" أستاذة علم الاجتماع بجامعة "نانت Nantes" الفرنسيّة" قائلة:<<.. يتمّ استعمال عبارة "شَعبويّة" عن سوء دراية، وننسى سريعا أنّ "ممارسة الشَّعبويّة" لا يمثّل تثمينا لقيمة الشّعب، بل العكس من ذلك، هم يستخدمونه لإضفاء شرعيّة اجتماعيّة موهومة على قضيّة غريبة عنه. فالشَّعبويّة في شكلها الجديد، تسعى إلى إضفاء ملامح شعبيّة ونقاوة أخلاقيّة على "المؤسسة المحافظة الجديدة Néoconservatrice"، في المجالين الاقتصادي والسّياسي، لتقديمها كثوريّة ضدّ المحافظين المحكوم عليهم بالماضويّة. ورهان الشَّعبويّة، لا ينطوي في حقيقته على التخلّص من النّظام القائم، لفائدة الطّبقات الأكثر حرمانا، بل بقصد الإطاحة به لمصلحة هؤلاء الطّامحين الجدد الأكثر راديكاليّة في توجّهاتهم الليبراليّة الاقتصاديّة من النّخبة الليبراليّة القديمة>>.
فممارسة الشَّعبويّة لا تتمثّل في تفضيل الشّعب، بل في استخدامه ضدّ مصلحته.

الشَّعبويّة التّمثيلية والدّيمقراطية
على امتداد تاريخها، قدّمت الشَّعبوية نفسها كبديل للدّيمقراطية اللّيبرالية، زاعمة أنّه بمقدورها تجسيد إرادة الشّعب أفضل من هذه الأخيرة، سواء بطرح نظام يختلف عنها جوهريا، أو بإدخال إصلاحات ديمقراطيّة على الدّستور الليبرالي، عن طريق الاستفتاء.. وفي ظلّ الحكم الشَّعبوي، تصبح الدّولة غير محايدة أكثر من ذي قبل، فتتحايل على الانتخابات لاستمرار الشَّعبويين في الحكم. كما تحاول إقصاء جزء من المواطنين من المنافسة السّياسية وتنحرف بالحقّ الدّستوري بالحدّ من الحقوق الأساسيّة، وتسعى إلى دسترة الخيارات المتحيّزة للشَّعبويين. مع تسليط الرّقابة على وسائل الإعلام العموميّة، حتّى وإن استمرّ وجود صحافة معارضة ومعارضة سياسيّة.
لا تهدم الشَّعبويّة الجديدة تماما الدّيمقراطيّة، مثلما نفّذته الشَّعبويات القديمة. مع ذلك، ترفض التعدّدية الدّيمقراطيّة. لأنّها تزعم لوحدها تمثيل الشّعب المتجانس. بالتّالي تَعِد بديمقراطيّة معيبة، تتأسّس على إضعاف دولة القانون والسّلطات المضادّة. وهكذا تكون الشَّعبوية نوبة من نوبات اللّيبرالية وحالة مرضيّة يستوعبها الفهم السّياسي، إن لم نقل "عاديّة" في ظلّ ديمقراطيّة الرّأي، كما تتلازم معها. لكن انتعاشتها الحاليّة التي تشهدها في عديد بلدان العالم، هي صورة معكوسة للدّيمقراطيّة المعاصرة، لتعبّر بطريقتها الخاصّة، عن محدوديّة اللّيبرالية الشّكلية وعن صعوبات الاندماج الاجتماعي وتختزل حقيقة الحوكمة السّيئة التي تعطي انطباعا بغياب الدّولة.
تنفر الشَّعبويّة من الحوار والتّداول في القضايا المطروحة، فقناعتها هي ثنائيّة (نحن/ الآخر) التي تتحكّم بمجموعة من الانفصامات في المفاهيم والتصوّرات (المعتاد/ الدّخيل- نافع لنا/معادي لنا- مطمئن/مريب). وبعيدا عن النّقد البنّاء، يتأرجح الشَّعبوي بين البحث عن كبش فداء وإنكار الواقع، فينفي أن تكون الصّعوبات وأزمات البلاد أساسها سياساته وتصرّفاته وخياراته هو ذاته. كما تستعيض الشَّعبويّة عن الشّرخ: يمين/ يسار، بآخر: الشّعب/النّخبة (هذه النّخبة التي يمكن أن تكون أحزابا، منظّمات، جمعيات، مجموعات مختلفة إلخ..). وهي تعتبر النّخبة بمختلف مكوّناتها واختلافاتها، مجموعة متجانسة ومتواطئة مع بعضها. هذا، وتعادي الشَّعبويّة المثقّفين بصفة عامّة، وتخشى المعرفة والفكر كأنّهما الطّاعون. كما تتوخّى الحذر تجاه العلم، لأنّ له صلابة الحجّة وقوّة البرهان اللّذين يدحضان كلّ التصوّرات والقناعات التي ليس لها مرتكزات عقليّة، وخاصّة أنّ رؤية العلم تتعارض وأسلوب إثارة الأحاسيس العاطفيّة الذي تعتمده الشَّعبوية، عوضا عن منطق الإقناع العقلي.
لا تعتمد الشَّعبويّة الإحصائيات وإثباتات الأرقام وتشكّك فيها، لأنّها ترفض التّدقيق والبيانات.

الشّعبويّة غوغائيّة البسطاء
يفسّر كافّة الشَّعبويين علاقات السّلطة واشتغال المؤسسات الاجتماعيّة، بالصّراع الأساسي بين الشّعب والنّخب المهينة، ثقتهم بالسّياسيين والأحزاب والحكومات متدنّية ويشعرون بعدم الاطمئنان في المستقبل والتّجديد. لذلك هم محافظون متزمّتون في عقيدتهم. مقابل ذلك، نشهد اليوم تصاعدا لخطابهم، بسبب انهيار القيم الدّيمقراطيّة اللّيبرالية التي ما عادت تعتمد معايير الكفاءة للارتقاء الاجتماعي ولا خصائص التّميز لاحتلال المواقع في المؤسسات الاجتماعيّة ومناصب الدّولة.

المرتكزات الثّلاثة للشَّعبوية:
أوّلا: يحدّد "جون فارنر مولّر Jean-Werner Muller " في مؤلّفه حول الشَّعبوية، هذه الظّاهرة السّياسية، في قوله:<<الشَّعبوية كأيديولوجيا هشّة تعتبر المجتمع مقسّما إلى شقّين متلاحمين ومتصارعين في نفس الوقت "الشّعب الخالص" و"النّخب الفاسدة". وتزعم أنّ السّياسة لا يمكن أن تكون سوى تعبير عن "الإرادة العامّة" للشّعب>>.
هذا التّعريف تمّ تقديمه أيضا، في مقال مختصر لـ "ميدّل Muddel" سنة 2004، بيّن فيه أنّ الشَّعبوية يمكن أن تحدّد انطلقا من ثلاث مكوّنات تشكّل نواتها: الشّعب الخالص، النّخبة الفاسدة والإرادة العامّة. أمّا المركز فهو الشّعب كمجموعة رمزيّة يتمّ السّموّ بها إلى درجة المثاليّة. وهو جسم سياسي "خالص" ومتجانس تكوّن عبر سلسلة من الدّلالات الثّقافية والعرقيّة، أو السّوسيو اقتصاديّة. وحسب هذا التصوّر، تكون الشَّعبوية تفرّدا أيديولوجيا فيما يتعلّق بصياغة مفاهيمها الخاضعة لمنطق "التّبسيط".
ثانيا: الشّعب هو في تعارض بصفة دائمة مع النّخبة "الفاسدة". وهذه النّخبة هي أيضا، مجموعة متجانسة تماما، متطابقة، متناقضة في كلّ مناحي الحياة مع الشّعب الذي تهيمن عليه وتحكمه عن طريق القمع. وهي تمثّل أوليغارشيّة أو طغمة مستبدّة تستفرد باحتكار السّلطة السياسيّة وكذلك الاقتصاديّة، الثّقافية وحتّى الاتّصال، وجميعه على حساب الشّعب.
ثالثا: الإرادة الجماعيّة، وهي التي تجعل من الشّعب صاحب السّيادة والمصدر الوحيد للسّلطة السّياسية. فبالنّسبة للشَّعبوية، يجب أن تمارس السّيادة الشّعبية من دون قيود ولا سلطة مضادّة نابعة من تصوّر التّمثيل الدّيمقراطي. فمزاعم الشَّعبويين هو تحقيق انتصار الإرادة الجماعيّة لهذه الأغلبيّة الصّامتة، من خلال استخدام "الحسّ السّليم" للشّعب بتفضيل الارتباط المباشر من دون وسيط، وهو الإجراء الأسلم والأكثر شرعيّة.

الشّعبويّة كأيديولوجيا هشّة:
مثلما أشرنا إليه في السّابق، تعتمد الشًّعبويّة نظريّة الشّعب ضدّ النّخبة بالمفهوم الأخلاقي:<<الخير ضدّ الشرّ>>. وليس انطلاقا من المفهوم السّياسي للتّناقض، مثلما تعتمده عديد الأيديولوجيات الأخرى. فبالنّسبة للشَّعبويين، تكمن ماهية الشّعب في نقاوته، باعتبار أنّ هذا الأخير هو صاحب الشّرعية، بينما النّخب هي بالأساس نجسة وفاسدة.
بالإضافة إلى الخطاب الأخلاقي والتّلاعب بالعواطف، يرتكز الأسلوب السّياسي الشَّعبوي على إمكانات الزّعيم في تماهيه مع الشّعب. وأهمّ ما يميّزه هي العلاقة الخاصّة جدّا التي يقيمها مع الشّعب. فالشَّعبويّة تعتمد إلى حدّ كبير على التّشخيص المفرط للسّلطة. بما في ذلك، إضفاء صفة البطولة على الشّخص القائد. فحتّى إن وجدت أحزاب شَعبويّة، فستكون تحت هيمنة الأفراد الذين يشكّلون قيادتها، فيصعب وجود الحزب خارج ذواتهم المهيمنة عليه.. أمّا من حيث الخطاب، فإنّ القائد الشَّعبوي يستخدم ما يعرّفه "آرنست لا كلو Ernest Laclu" بـ<<الدّلالات الفارغة>> التي يشحن بها الفضاء العام. أمّ في المرحلة العليا من الدّعاية الشَّعبويّة، فإنّها تلجأ إلى استعمال ما يعرّفه "أوروال Orwell" بـ <<اللّغة الجديدة Novlangue>> أو<<اللغجديدة>>. وهو مصطلح تفقد فيه العبارات معناها، وحتّى تنطق بنقيض الحقيقة.
لا تنتعش الشَّعبويّة سوى في النّظم الدّيمقراطية وتستغلّها، لأنّها الوحيدة التي توفّر لها حريّة التّعبير الضّروريّة لتنفيذ خططها. ولئن كانت الشّعبويّة تنمو في رحم الدّيمقراطيّة، فإنّ طفرتها تضرّ بشكل منهجي بالدّيمقراطيّة. ويكون ذلك من تداعيتها، خاصّة حينما تكتسب نجاحات وتتوصّل إلى الاعتراف بها كصوت الشّعب الذي خنقته منظومة المؤسسات الليبراليّة.
في هذا السّياق، ومنذ بداية الألفيّة الجديدة، تمكّن الشَّعبويون من السّلطة في عديد البلدان الدّيمقراطيّة وشرعوا في تغيير قواعد التّنافس السّياسي. فأهمّ المبادئ السّياسية التي تشكّك بها الشَّعبويّة مطلقا، ما يتعلّق بقيمة الخبرة. فالشَّعبويون يستهدفون بازدراء وظيفة السّياسي، ولا يعترفون بها كاحتراف. وهي نفس النّظرة إلى وظيفة البرلمان، وللبرلمانيين أيضا، الذين تعادي الشَّعبويّة دورهم كمشرّعين للقوانين ويعتبرونهم مجرّد طفيليين. وغالبا ما يكون الزّعيم الشَّعبوي من خارج الدّائرة السّياسية المعهودة، غير محترف للسّياسة ووافد جديد على هذه المؤسسة. فعدم احتلاله لمنصب سياسي في السّابق، يعتبره الشَّعبويون ميزة تدعمه. كما أنّ زعمهم بأنّهم يجسّدون روح الشّعب تظفي عليهم حسب اعتقادهم واعتقاد اتباعهم، شرعيّة تعلو على المؤسّسات، انطلاقا من العدالة وحتّى الجيش، مرورا بالبرلمان والأحزاب. فهم الذين يختزلون في ذواتهم، إرادة الشّعب وطموحه إلى العدالة وبسط الأخلاق. ونتيجة لذلك، تصبح السّلطات الدّستوريّة المضادّة مكوّنات لا قيمة لها.
تنمو الشَّعبويّة في رحم الدّيمقراطيّة، لكنّها تدفع بها إلى الانحراف عن مساراتها المعهودة. ففي حين تستند الدّيمقراطيّة التمثيليّة على المرتكز الشّعبي (بما يتضمّن من انتخابات منتظمة يسري التّنافس فيها دوريّا) وعلى أسس ليبراليّة (دولة القانون تكون فيها العدالة المستقلّة هي الضّامن ومن دونها لا تتوفّر انتخابات حرّة مفتوحة لتنافس الجميع، أفراد وأحزاب وتكتّلات سياسيّة، من دون إقصاء). فالشَّعبوي يضخّم خياراته على حساب الخيار الليبرالي الدّيمقراطي، إذ هو يدين مصادرة السّلطة من طرف النوّاب المنتخَبين، ويزعم أنّه يمثّل الشّعب أفضل منهم، مروّجا أنّ الخيار الشَّعبوي هو ذاته الدّيمقراطيّة. ممّا يدفع النّظام الشَّعبوي في بعض الحالات القصوى نحو الانحراف إلى "السّلطانية Sultanisme". هذا المصطلح الذي أدخله "ماكس فيبر Max Weber " للإشارة إلى الأوضاع التي يكون فيها التصرّف في السّلطة على قاعدة الأهواء الفرديّة. وهو نظام يصير فيه الأفراد، المجتمع والمؤسسات، جميعهم خاضعين، وبصفة دائمة، للتّدخل غير المتوقّع والاستبدادي لرأس السّلطة. وبالتّالي، تصير التعدّديّة فجأة، هشّة وغير مستقرّة. كما أنّ تجميع السّلطات بيد شخص واحد يجسّد إرادة الشّعب، على حساب المؤسسات، يتمظهر أحيانا، من خلال تحويرات دستوريّة تهدف إلى تعزيز سلطات القائد ونفوذه وتمديد دورات رئاسته، مع إضعاف السّلطات المضادّة، شروعا بالجهاز التّشريعي.. في نفس الإطار، يسعى النّظام الشَّعبوي إلى إضعاف الخصوم وإلصاق التّهم بهم وجعلهم ممنوعين من الترشّح للمناصب، وحتّى سجنهم. مع تعيين الاتباع بالمراكز الهامّة للدّولة والإدارة، من دون مراعاة عامل الكفاءة والاقتدار على التّسيير.
ينكر الشَّعبوي التعدّدية، لأنّ الشّعب ليس سوى واحد، وهو يمثّله. وبذلك يستبعد منافسيه، زاعما عدم شرعيتهم، لأنّهم مقطوعون عن الشّعب، أو لأنّهم غير "أنقياء وفاسدين". علاوة على ذلك، يعتبر كلّ المنظّمات التي تهيكل المجتمع المدني والطّبقات التي تقسّم المجتمع كذلك، جميعها موسومة بالرّذيلة. تنضاف إليها الجمعيات غير الحكوميّة ومراكز النّشاط الفكري (كالجامعات) وهي مستهدفة بالدّرجة الأولى، لأنّ الشَّعبوي يعتبرها كثيرة التّنوع تمارس الفكر النّقدي المرفوض شَعبويّا وتقسّم الشّعب.
من المتّفق عليه لدى المنظّرين السّياسيين، أنّ الشَّعبوية يتوقّف بروزها على الظّرف، وتتطوّر عموما، بحسب الأزمة الاجتماعيّة والأخلاقيّة المرتبطة بانهيار اقتصادي أو فضائح انتشار الفساد. وهذا الطّابع الظّرفي يفسّر بأنّ الصّعود القويّ للشَّعبوية، مرتبط اليوم، بظواهر قابلة أن تصبح هيكليّة، أو هي صارت مستعصية على الحلّ، في ظلّ النّظام الرّأسمالي اللّيبرالي واتّساع الفوارق الاجتماعيّة والجغرافيّة (بين الدّول) وأهمّها (ارتفاع نسبة البطالة، الفروق الكبيرة التي تسبّبت بها العولمة على المستوى الاجتماعي "بين الطّبقات" وبين الدّول "الثّريّة والفقيرة"، الارتفاع المشطّ للمديونيّة وتفاقم الدّين على الدّول المقترضة، تخلّي الدّولة أو عجزها عن القيام بدورها الاجتماعي وعن الدّعم المالي للخدمات واعتماد سياسة التقشّف، تفشّي الفساد المالي والإداري والتّجاري وحتّى السّياسي، تخلّي الدّولة عن دورها الرّقابي، انتشار ظواهر الانحراف وزيادة نسبة الفقر، الشّطط في تكاليف المعيشة، مزيد تهميش الأطراف وإهمال العناية بالأرياف، إلخ..). فكلّ هذه الظواهر توفّر مناخا ملائما للدّعاية الشَّعبويّة. كما أنّ الأنماط الجديدة للاتّصال: وسائط التّواصل الاجتماعي التي انبثقت في المحيط الاجتماعي، خاصّة منذ بداية الألفيّة الجديدة، واستقرّت ضمنه كخدمة لبثّ المعلومة بأسلوب شَعبوي تبسيطي، إن لم يكن زائفا، عاطفيا وعامّيا مقصودا. ينضاف إليه السّلطة الممنوحة للمتنمّرين المسموح لهم بترهيب المعارضين بتهديدات جليّة، مجهولة المصدر.

الشَّعبويّة: هل هي ظاهرة عابرة أم دوريّة؟
هناك حدّان يجعلان موجة الشَّعبوية عابرة. وهما بضوابط مختلفة. أوّلهما يكمن في الفارق بين الوعود والنّتائج التي يحصل عليها الشَّعبويون حينما يتمكّنون من السّلطة. فوعودهم دوما مفخّمة وغير واقعيّة. من ناحية أخرى، يكتفي زعماء الشَّعبوية بإطلاق التّصريحات الصّاخبة والرنّانة، في محاولة لإثبات جوى الطّريقة التي يتصرّفون بها في شؤون الدّولة. وهو ما يؤدّي إلى الكشف سريعا، لزيف ادّعاءاتهم. ليس فقط لأنّهم لا يلائمون بين إمكانات الدّولة وقدراتها مع ما يطلقونه من وعود، بل لأنّهم محاطون أيضا، بعديمي الكفاءة وفاقدي الخبرة في إدارة الشّأن العام.
وفي محاولة للحفاظ على مصداقيته، فالشَّعبوي الذي يفشل في الحكم وإدارة شؤون الدّولة وتحقيق نتائج نموّ إيجابيّة، يلجأ إلى التصرّف وكأنّه مازال في المعارضة. كأنّه يخوض دوما حملة انتخابيّة وتوجيه التّهم للبيروقراطيّة والمعارضة البرلمانيّة والنّقابات، وكذلك للتّدخلات الخارجية ومثلها.. ليعتبرهم جميعا العائق الذي يحول دون تحقيق برنامجه. كما يمكنه اتّباع خيار الهروب إلى الأمام، مثل إطلاق شعارات مقاومة الفساد ومطاردة المتآمرين على أمن الدّولة والمتخابرين مع الخارج. وهذا للانحراف بالرّأي العام عن الفشل في تحقيق وعوده!..
والإجابة عن محدوديّة الشَّعبويّة تكمن في أنّها نتاج لعدم المساواة الاجتماعيّة وليست هي الحلّ لتعمّق التفاوتات. فهي في أصلها نخبة محافظة ومخادعة للشّعب في الآن نفسه، دافعها استباق بروز حركات اجتماعيّة تجمّع وراءها الشّعب وتوحّده على قاعدة مقاومة الفقر والبطالة والفساد، وتطالب بخيّارات اقتصاديّة واجتماعيّة مغايرة تتعارض مع ما هو قائم. وهنا تبرز الشَّعبويّة كصوت مغالط للشّعب، من خلال خطبها وشعاراتها الزّائفة، فتمتصّ غضبه، وليس في غايتها سوى المحافظة على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثّقافي المتوارث. وهذا يجعل الشّعبويّة أيديولوجيا وحركة سياسيّة رجعيّة تستبطن مغالطة الجماهير. وهي خادم أمين للرّأسمال الليبرالي المتوحّش.



#عبدالحميد_الطبّابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذّكاء الاصطناعي مستقبل الإنسان أم نهايته؟!..


المزيد.....




- اغتيال بلوغر عراقية شهيرة وسط بغداد والداخلية تصدر بيانا توض ...
- غالبية الإسرائيليين تطالب بمزيد من الاستقالات العسكرية
- السعودية.. فيديو لشخص تنكر بزي نسائي يثير جدلا والأمن يتحرك ...
- صحيفة: بلينكن سيزور إسرائيل الأسبوع المقبل لمناقشة صفقة الره ...
- الديوان الملكي يعلن وفاة أمير سعودي
- الحوثيون حول مغادرة حاملة الطائرات -أيزنهاور-: لن نخفض وتيرة ...
- وزارة الخارجية البولندية تنتقد الرئيس دودا بسبب تصريحه بشأن ...
- أردوغان يقول إن تركيا ستفرض مزيدا من القيود التجارية ضد إسرا ...
- وزير الدفاع الأمريكي يشكك في قدرة الغرب على تزويد كييف بمنظو ...
- مشاهد للوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير قبل لحظات من ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد الطبّابي - الشّعبويّة بين النّظريّة والتّطبيق