أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى سليمان - جدلية الحياة والموت في مسرحية (القبْر) للدكتور أكرم شلغين















المزيد.....



جدلية الحياة والموت في مسرحية (القبْر) للدكتور أكرم شلغين


مصطفى سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 7607 - 2023 / 5 / 10 - 20:44
المحور: الادب والفن
    


لم أستطع التحرر من تثبيت الجنس الأدبي لهذه المسرحية المثيرة، فقد كنت وأنا أقرأ أتوهم أنني أقرأ مسرحية، وأحيانًا أخرى أنني أقرأ قصة، فتجوَّلت متمتَّعًا بين قصة مُمَسرَحة، ومَسرحَة قصّة.
حتى السرد التعليقي بين قوسين بعد كل حدث أو حوار ذاتي، يُذكَّرنا بتعليق الجوقة الإغريقية على الحدث المسرحي. وهذا تمازج فني خاص وموَفَّق لسرديات الحدث القصصي والمسرحي.
والقصة المُمَسرحة، من خلال توازن فني دقيق توهم القارئ بأنه يشهد مسرحية، أو يقرأ قصة ويتخيلها. والتخيل الفني جوهري في قراءة الملحمة والرواية والقصة النثرية أو الشعرية.
الفن المسرحي أصلًا هو فن خشبة المسرح. ولنتذكر عرض مسرحيات شكسبير وبخاصة مسرحية مأساة هملت التي قضى لورانس أوليفييه معظم حياته وهو يمثل مسرحيات شكسبير، وبالذات مأساة هملت، حتى كانت حياته الواقعية، كما صرَّح، تتلبَّسُها شخصيةُ هاملت لدرجة شبه الجنون. وهناك قول شهير لنابليون: أعطني مسرحًا أعطِك شعبًا. وكان المصريون خلال حملة نابليون يتفرّجون عبر شقوق خشب المسرح الخاص بالجنود مدهوشين، كما ذكر المؤرخ الجبرتي في تاريخه.
وقراءة مسرحية (القبر) تسيطر عليك ولا تترك لك فسحة من التقاط الأنفاس، وبخاصة لمن يقرؤها قراءة قصصية، أو لمن يعيش معها في مسرح ذهني مجرد، كالمسرح الذهني عند توفيق الحكيم، فهي تزخر بالمواقف والتلميحات والانتقادات الدينية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والفلسفية، وفي الطبيعة الكونية، وما بعد الطبيعة.
في مطلع المسرحية نتعرف على رجل وحيد، مقيَّد، في حجرة مظلمة، ضيقة سقفها منخفض، (توحي بالقبر) وهو عاجز عن رؤية أي شيء، شاعرًا بضيق شديد، يتساءل عن الزمن والأشخاص الراحلين مستغربًا:ما هذا؟ لماذا هذا الضِّيق؟ لماذا هذا السكون القاتل؟ هل الوقت في النهار أم في الليل؟ لا، هذا لا أظنه الليل ولا النهار! لا أستطيع رؤية الساعة. هنا نشعر بأن الزمن صار خارج أقاليم الليل والنهار وكأنه تجمّد. وقد تذكرتُ لوحة الزمن الذي يتدلّى (من خلال رمز ساعة) متجمَّدًا على أغصان جرداء يابسة في طبيعة سريالية، من خلال لوحة سلفادور دالي الشهيرة (ثبات الذاكرة أو إصرار الذاكرة).
بعد دقائق من الصمت يحاول النهوض فيفشل: يبدو لي أن الوقت قد هلك هنا وضاع الزمن وتلاشت الحركة. إنه في حالة ضياع أبدي، يبدو مطلقًا، للزمن وحركة الحياة، كما في رواية " البحث الزمن الضائع" لمارسيل بروست. وكما في استهلال رواية عودة الوعي لتوفيق الحكيم، المقتبَس من نشيد الموتى الفرعوني: "عندما يصير الزمن إلى خلود. سوف نراك من جديد. لأنك سائر إلى هناك. حيث الكل في واحد".
ونقرأ في أسطورة إيزيس وأوزيريس الفرعونية طلبَ إيزيس من زوجها أوزيريس الذي قتله (سِتْ):" انهض أوزيريس! انهض! وصارت تبكي حتى فاضت دموعها نهرًا هو نهر النيل. بطلنا هنا يحاول النهوض فيفشل. فهو في مقبرة، والزمن ضائع. يصرخ من القبرداعيًا إلى الإنقاذ من الموت:" هل يأتي أحد إلى المقبرة، من خارجها؟ مَن سيأتي ويخرجني من المقبرة؟
إنه في انتظار مُخَلَّص. فلنُسَمِّ المخلِّصَ- الأملَ يسوعاً، أو مَهْديّاً منتظَراً، أو" غودو" صموئيل بيكيت، أو" إنكيدو" جلجامش، أو أعورَ دجّالاً .... أو ما شئت من الأسماء الحسنى للمُخَلَّصين! يريد مخلِّصًا، منقذًا له كفرد وأُمّة من الواقع الميت، من بيت الموتى، من القبر.
وعندما يبلغ به اليأس مداه يتمنى الخلاص من هذه المقبرة بأي طريقة:" سأصبح جثةً وأتعفَّن. لو أحرقوني لا أتعفُّن. هل ستأكلني الديدان؟ في القبر يتساوى الجميع".
للموت، للقبر، عدالة بين البشر ليست موجودة في حياتهم فوق القبور. مهما بنّوا قبورهم من رخام وزخرفوها بالذهب. يقول جبران خليل جبران عن عدم العدالة بين البشر في الحياة:
العدل في الأرض يُبكي الجنَّ لو سمعوا
به ويستضحكُ الأمواتَ لو نظروا
فالموتُ والسجنُ للجانين إنْ صــغروا
والمجدُ والفخرُ للجانين إنْ كبروا
وتتوالى التساؤلات الوجودية القلقة الحائرة:
" من أنا؟ ماذا أنا؟ هل أنا طفل صغير؟ هل أنا لعبة؟ هل أنا ضحية؟ أين أهلي وأقاربي؟ أين زوجتي وأولادي؟ نعم إنني متزوج ولي أولاد. هل لهم وجود الآن؟ أين الأشجار؟ الحشرات؟ ليتني كنت حشرة! أين هم البشر الآن. الطبيعة، البحر، السماء؟ هل الوجود حقيقي أم من نسج الخيال...ما القبح؟ ما الجمال؟ وهذا الاقتباس المكثف يثير كثيرًا من القضايا المتطابقة.
وتطابق المعاني بين شاعر وشاعر أو مفكر ومفكر، قضية متداولة في الأدب والفكر العربي والعالمي. وفي تراثنا النقدي قول يؤكد هذه الظاهرة: " قد يتوافق الشاعر مع الشاعر، كما يتطابق الحافر مع الحافر". وهي ملاحظة دقيقة من طبيعة البيئة الصحراوية خاصة عندما ينطبق حافر الدابّة مع حافر دابة أخرى: ناقة، حصان، حمار....
في سيرة الشاعر أبي العتاهية أنه أوصى أن تُكتَب على قبره عدة أبيات، منها:
صَرَعَتنْي الحتوفُ في التُّرْبِ، يا ذُلَّ مصرعي
أين أُخوانــــي الذيـــــــن إليــــــهمُ تـــطَلُّــعي
مــتُّ وحــدي، فلـم يمـتْ واحـدٌ منهمُ مـــــعي
وقرأ الأصمعي على قبر في الحِيرة عدة أبيات منها:
فأصبحوا قوتًـًا لـدود الثـّرى
والدّهرُ لا يَبقى له صاحبُ
كأنّـــــما حياتـُـــهم لعبــــــةٌ
سرى إلى بَيْـني بهم راكبُ
ومالك بن الرّيب يتذكر وهو حي مَن سيبكي عليه بعد موته؟:
تذكَّرتُ من يبكي عليَّ قلم أجد
سوى السّيف والرمحِ الرُّدينيِّ باكيا
وأشقرَ محبوكٍ يجرُّ لجامَه
إلى الموتِ لم يترك له الموتُ ساقيا
يقولون: لا تبعُدْ وهم يدفنونني
وأين مكانُ البُعدِ إلا مكانيا؟
الدكتور أكرم شلغين يثير دائمًا في (القبر) تساؤلات فلسفية وجودية، عن عبثية الحياة، ومعنى الوجود وماهيته. فالكل يومًا ما إلى الفناء في هذا الوجود، الإنسان، والطبيعة، حتى الحشرات، ففي شريط سينمائي شهير بعنوان (اليوم التالي) يطرح الشريط فكرة عبث الإنسان بالعلم وتسخيره للحروب، وتدمير الحضارة التي بنتها البشرية من آلاف السنين؛ فالحروب الذرية تقع، ويتم تدمير كل شيء في الطبيعة من بشر، وشجر، وحجر.. وينتهي الشريط بأن تصبح الحضارة البشرية والطبيعة ميتة صامتة، رمادّا تذروه الرياح...ولكن نشاهد صرصورًا ( صرصارًا) يتجول حيًّا بين خرائب ورماد الحضارة البشرية، والطبيعةِ الجرداء الميتة!
ويثير مؤلف المسرحية على لسان (الميت- الحي) تساؤلات جمالية، عن ماهية القبح والجمال وهي قضية فلسفية من قضايا علم الجمال. وللفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشي آراء خاصة بمفهوم الجمال. يقول: " إذا كان عليَّ أن أختار بين الجمال والحق فإنني لن أتردد باختيار الجمال؛ إذ أن الجمال هو الذي ينبغي أن أحتفظ به فليس هناك من شيء حقيقي في العالم ما عدا الجمال". ويرى أن وصْفنا لمنظر طبيعي بالجمال هو نوع من البلاغة؛لأن الطبيعة خرساء ولن تنطق إلا إذا فكّ الإنسان الفنان عقدةَ لسانها. ويرى الفيلسوف دافيد هيوم أن الجمال، ليس من خصائص الأشياء بل هو من صنع العقل الذي يتأملها.
تساؤل د. أكرم شلغين المكثَّف عن قضية الجمال يُذكَّرنا بقول العقاد عن قضية الجمال: فالجمال له أشكال ومعانٍ ووظائف، ويتلاشى الشكل الخارجي للجميل عند بروز معناه ووظيفته. فنحن في الواقع ندرك (معنى) الجميل، لا شكله. فقد يكون الشكل غير جميل، لكن معناه هو الذي يمنحه الجمال، إلى جانب وظيفته. فبروز الحدبة على ظهر الأحدب شكل قبيح؛ لأنه يشوّه معنى التناسق الجمالي للجسد الإنساني، لكن بروز النهدين الكاعبين في صدر المرأة شكل جميل تبعاً لمعناه، غيرالأمومي! كذلك جمال كلب الصيد الهزيل المعقوف الذي لصق ظهره ببطنه، ودقّت أطرافه، وكادت تَعرى من اللحم أعضاؤه يبدو شكله مستقبَحاً عند صاحب الكلب الإفرنجي الأبيض، المُدلَّل، المغسول بالشامبو المعطَّر...أما الصياد فيراه قبيحاً، لأن معناه ووظيفته لا تتناسب مع كلبه البري الشرس. فالجمال والقبح عند د. أكرم قضية نسبية، وليس حقيقة مطلقة. وما أكثر القضايا النسبية في مفاهيم الحياة!
التساؤلات المصيرية في المسرحية تعيدنا إلى تساؤلات إيليا أبو ماضي في قصيدته الطويلة (الطلاسم). فمسرحية الدكتور أكرم شلغين زاخرة بالتساؤلات المصيرية التي لا ولن تنتهي مادام الإنسان حيًّا فوق سطح هذا الكوكب، وربما في كواكب أخرى عندما يخترق الإنسان الآفاق ويسكن في كواكب أخرى. والطلاسم تنتهي بلازمة دائمة بعد كل مقطع وهي (لست أدري).
واللاأدرية مذهب فلسفي قديم وعريق. يقول سقراط:" إنني أعرف شيئًا واحدًا وهو أنني لا أعرف شيئًا. وفي الصوفية الإسلامية يقول النفَّري:" كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة". ويقول ابن قتيبة:" هناك أمور تحيط بها المعرفة ولا تدركها الصفة". فاللغة، على عظمتها وعبقريتها، عاجزة أحيانًا عن التعبيرعن كثير من دقائق الأمور، وخفايا النفس البشرية. لذلك نشأت الرمزية، والسريالية، والبرناسية.، والتكعيبية...
يقول المقبور في مسرحية القبر:" ...أموت وأساوي مَن سبقني من القدماء...ولكن أي قدماء؟ أأنا من الجُدُد أم من القدماء؟ أشك في أن هناك قديمًا أو جديدًا فالقديم والجديد هما من نسج خيالي"....
في قصيدة الطلاسم نقرأ:
أجديدٌ أم قديم أنا في هذا الوجودْ
هل أنا حرٌّ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أومَقودْ
أتمنى أنني أدري ولكنْ ...
لست أدري
ولقد قلت لنفسي وأنا بين المقابرْ
هل رأيتِ الأمنَ إلا في الحفائرْ
فأشارت:فإذا للدود عيَثٌ في المحاجرْ
ثم قالت: أيها السائل إني ...
لست أدري
إن يكُ المــوتُ رقادًا بعده صحوٌ طويلْ
فلماذا ليس يبقى صحوُنا هذا الجميلْ
ولماذا المرءُ لا يدري متى وقتُ الرحيلْ
ومتى ينكشف السّرُ ويدري؟
لست أدري
وعن التساؤل الذي جاء في المسرحية عن: ما القبح؟ وما الجمال؟ نقرأ في الطلاسم:
رُب قُبحٍ عند زيدٍ هو حُسنٌ عند بكرٍ
فهما ضدّان فيه، وهو وَهْم عند عَمْروٍ
فمنِ الصادقُ فيما يدّعيه، ليـت شعري
ولمــــاذا ليــــس للحُـــسْن قيــــــاسٌ؟
لست أدري!
حقًّا ليس للجمال مقياس واحد. بل ليس لكثير من القيم مقياس واحد. فالخير هنا قد يكون شرًّا هناك، والرذيلة هنا قد تكون فضيلة هناك.
وكما طرحت المسرحية قضية الزمن في المصيرالجنائزي الوجودي، نقرأ في الطلاسم مخاطَبةً للقبر ورميم العظام:
أيها القبـــر تــكلَّمْ واخبرينــــي يا رِمامْ
هل طــوى أحـلامَك الموتُ وهل مات الغرام
مَن هو المائتُ من عامٍ ومن مليـون عامْ
أيصيــر المـوت فــي الأرمـــاس مَحْـــوًا ؟
لست أدري!
ففي مسرحية (القبر) كثير من نقاط التلاقي مع قصيدة الطلاسم. وهذا شيء طبيعي فالمأساة مشتركة بين كل البشر.وهي زاخرة بالتساؤلات المصيرية، وبخاصة عن الحياة والموت والبعث والخلود. والتَّوق إلى المعرفة بعد الجهل أو الشكوك والظنون في ما نعرفه.
في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الطيب صالح نقرأ لبطل الرواية في نهاياتها: " أصبحت بين العمى والبصر. كنت أعي ولا أعي. هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ وصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها ".
وفي رواية: مئة عام من العزلة، لغابرييل غارثيا ماركيز، نتعرف على "مِلْكياديس"
العالمِ الكيميائي العجيب الذي يعرف أسرار الأشياء العجيبة، والذي كان يجترح المعجزات.. غرق يومًا في النهر، ورفض أن يدفنه "أركاديو" وقال: لماذا أدفنه مادام حيًّا"؟
وفي مسرحية القبر، تساؤلات كثيرة عن الواقع الفردي والجماعي عن حقيقة الحياة والموت: " هل أنا حي أم ميت؟ هل أنا ميت أم أنني حي؟ في القبر أم في بيتي؟". فالوطن صار البيت، والواقع، المأساوي المظلم، صار قبرًا للأحياء.
هكذا يعيش الإنسان العربي تحت أنظمة القمع والاستبداد من سجن واعتقال، يعيش الموتَ كل يوم، ويموت في الحياة كل يوم. ويصبح في حالة اللاموت واللاحياة. يقول بطل القبر– وهو الكاتب نفسه: " كم حققوا معي"! و(كم) هنا خبرية للتكثير والتعجب وليس للاستفهام، فهي تخبر بكثرة أساليب التحقيق العربية كمشهد من مشاهد الجحيم:
منكر ونكير يأتيان إلى المسلم لسؤاله عن أمور دينه ودنياه. ولكن ألا يأتي منكر ونكير أيضًا في الأديان الأخرى للتحقيق مع الميت أيضًا؟ تحقيق، تحقيق. كم حققوا معي من قبل! ارتحت منهم ومن تحقيقاتهم. كم مرة تمنيت الموت على سماع كلماتهم والرد على أسئلتهم في التحقيق. أو حتى رؤيتهم! تُرى عندما مات (كبيرهم)! هل مرَّ بما أنا فيه الآن؟ ففي القبر يتساوى الجميع. والمؤلف هنا يتماهى مع بطل القبر، فلقد حدث معه ما حدث للمدفون الميت – الحي في القبر.
في مسرحية (القبر) قضايا كثيرة متشعبة. ويحتار الناقد في التعليق عليها وتحليل أبعادها. أحيانًا يقف عند جملة، أو كلمه تكون مختزنة بالدلالات المختلفة. فمن بين التساؤلات الكثيرة نقرأ: " هل تشرق الشمس أم تغرب"؟ فهناك كثير من الظواهر الطبيعية، والحياتية توقع المرء في اختيار إجابة واحدة واضحة محددة. إنها نسبية الحقائق بين هنا وهناك. بين الخير والشر...فالشمس تشرق هنا لتغرب هناك. وتغرب هنا لتشرق هناك. فالحقيقة الواقعية ليست دائمًا ما نراه أو ما نعرفه.
ومن القضايا الفلسفية أيضًا التي تطرحها المسرحية التساؤل عبر البطل - المؤلف عن ماهية الوجود: هل الوجود حقيقي أم من نسج الخيال... وهي من مسائل فلسفة الفينومينولوجيا أي المدرسة الظاهراتية، أو علم الظواهر، كما عند مؤسسها ( إدموند هوْسْرِل ) بالذات. وتبحث عن العلاقة الديالكتيكية (الجدلية) بين الفكرة والواقع. وهي رد فعل على المدرسة الوضعية؛ فالظاهراتيون ينتقدون الوضعية لأنها تُسَلِّم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي. والظاهراتية تؤمن بالوعي الإنساني؛ فهو السبيل إلى فهم الحقائق الاجتماعية عبر،النهج الذي يفكّر به الإنسان في التجربة، أو الخبرة التي يعيشها؛ أي كيف يشعر الإنسان بوعيه الفردي في الوجود.
فالتساؤل الإشكالي الذي تطرحه المسرحية: هل الوجود حقيقي خارج الذات الواعية؟ أم هو مجرد (فكرة) من نسج الخيال؟ وهكذا تتسم تساؤلات المسرحية بطرح مكثَّف لقضايا فلسفية معقَّدة تتحدّى القارئ الجاد غير العابر، وترغمه على التوقف متأمَّلًا في ذاته وفي الوجود حوله. ولو أراد القارئ الناقد الوقوف عند كل جملة أو عبارة، لكان نقده أوسع من المسرحية ذاتها بكثير. وهو دليل عمق التفكير الفلسفي الكوني، الحياتي، والوجودي، وبالتالي الاجتماعي لهذه المسرحي الرائعة، كما أبدعها د. أكرم شلغين.
والبطل - المؤلف، يتساءل فلسفيًّا عن ماهية الحقيقة في الحياة،وعن الحقيقة في الموت. وهنا نتذكر الفلسفة السُّفُسطائية اليونانية، بزعامة بروتاغوراس، وجورجياس عن النسبية في حقيقة الأشياء، فالإنسان في هذه الفلسفة هو مقياس الأشياء. فلا حقيقة مطلقة. فالحياة موت. والموت حياة.
يرى بطل مسرحيتنا حفنة تراب ويتساءل مذعورًا عمن وضعها هنا ولماذا. ويعقِّب على تقليد دفن الميت بوضع حفنة تراب في فمه: "إن حفنة التراب هي ما تشبع الإنسان فقط." ويذكِّرنا هذا بحديث شريف:" لا يملأ عينَي ابن آدم سوى حفنة من التراب".
ونعود إلى المحور المركزي في المسرحية وهو الموت. ولو تحدثنا وفق منهج البنيوية لقلنا إن الموت – القبر، الدفن، التربة، التراب، كفّنوني، غسّلوني...هي البِنية التي تتفرع إلى موضوعات متشعبة، مثل شجرة بجذعها، وأغصانها، وفروع أغصانها، وأوراقها، وأزهارها ثم ثمارها.
نقرأ ما يلي: " لكنني لست ميِّتًا، إنني أتكلم، وأرى وأسمع وهذه الخصائص لا يقدر عليها إلا الحي. لا أدري إذا كنت ميِّتًا! إنني ميت وفي القبر. لا، لا إنني أتكلم والأموات لا يتكلّمون! لست ميِّتًا ولست حيًّا. إنني ميت حي! الميت لا يعرف. والحي يعرف."
هنا يطرح الكاتب على لسان المدفون- الميت الحي قضايا جوهرية: مثل التكلم، فاللغة هي التعبير بها عن القضايا المصيرية، عبر فنون الآدب والفلسفة والفنون التشكيلية والتعبيرية العامة بحرية وجرأة؛ فالتكُّلم- اللسان يشكِّل محور التطور والتقدم الحضاري البشري؛فهو يعبرعن أنه كائن بشري له قيمته السامية، فلا كائن غيره يتكلم. فالكلام عبقرية الإنسان. ونقرأ في مطلع إنجيل يوحنا:" في البدء كانت الكلمة". وللكلمة هنا مدلولات لاهوتية وفكرية إبداعية ودينية وكونية وفلسفية...
وكذلك هناك توظيف الحواس الأخرى مثل الرؤية (أرى) فكل الكائنات ترى، لكنها رؤية غريزية غير عقلية كفعل ورد فعل في الصراع من أجل البقاء، لكن رؤية الإنسان رؤية عقلية كاشفة وليست رؤية خارج العقل الناطق المفكر المبدع، وليست مجرد رؤية بصرية عبر عدسة زجاجية هي العين. وملحمة جلجِامش بترجمة عبد الحق فاضل عن السومرية والأكادية عنوانها (هو الذي رأى).
والفعل (أسمع) هو سماع عميق في تحليل المسموع عقليًّا، وليس فقط سماعًا غريزيًّا آليًّا عبر الأذن. فهو مرتبطً عقليًّا بالصراع من أجل البقاء حيًّا، بل وتطوير الحياة أيضًا، هو سماع يعقبه النفخ في أبواق القيامة الجديدة. فالأموات في مجتمعنا العربي لا يدركون سر قيامة هذه الأمة. لكن المفكر الحرالحي يعرف كيف يوقظهم من رقدة السبات، ومن الموت وهم أحياء في القبور.
وفي المسرحية تساؤلات عميقة حائرة عن الهوية وتشتت الانتماء، فالفرد هنا هو اللامنتمي بين أعراق وقوميات وأديان وطوائف؛ فهناك المسلم وطوائفه ومذاهبه، والمسيحي أيضًا مثله، واليهودي كذلك، واللاديني، والهندوسي، والبوذي...، يتساءل الإنسان العربي - المدفون الباحث عن هويته:
" أين بلدي؟ وما هي جنسيتي؟ هل من جنسية لي؟ لقد قرأت مرة سَجِّلْ أنا عَرَ... ورقم هويتي! هل عندي هوية أيضا!؟ أي من البلدان بلدي، وهل من بلد تحت أتربة القبور!؟ من القبور تزول البلدان ويصبح القبر هو البلد. نعم أنا جبّار عبد الباقي... هل أنا حقًا جبار!؟ وأين قوتي وجبروتي!؟ هل أنا عبد الباقي!؟ هل أنا العبد؟ أم الباقي!؟ إنها تساؤلات تحمل دلالات عميقة في ماهية الحياة، وما بعد الحياة، والانتماء البشري، والكوني، بل الانتماء اللاهوتي الديني الإلهي!
في مسرحية (القبر)، كما في السطور المقتبسة أعلاه، نجد قلق الهوية والانتماء، والشعور بالغربة والاغتراب... فتتفاعل في الوجدان مشاعر العذاب والحزن. انظر إلى عبد الرحمن الداخل وقد حقق السلطة والجاه والثروة في الأندلس، لكنه رأى نخلة في الرصافة الأندلسية؛ فحرَّكت بقامتها الخضراء الهيفاء ذكرياتِ الجذر- الوطن، وأحاسيس الغربة، والشعور بمشاعر قلق الانتماء. فقال:
تَبَدَّتْ لنا وسْطَ الرصافة نخلةٌ تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض نت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وهذه هي حالة بطل القبر، بل أقول وحال كاتبها الذي شبع غربةً وتغرُّبًا قسريًّا عن الأوطان، وهي حالة نفسية تعرف في الطب النفسي بالنوستالجيا حيث يبقى الماضي يعيش في الحاضر، ويظل يحفر في الأعماق الحزينة أخاديدَ الزمن. لقد بقي العرب في الأندلس ما يقارب القرون الثمانية وامتزجوا بأهل البلاد وثقافتهم، وتزوجوا منهم، لكنهم عبر القرون بقوا متمسكين بهويتهم القومية والدينية واللغوية والثقافية العامة، بل عندما انصهر الشعب الإسباني والعربي، في بوتقة شعب جديد هو الشعب الأندلسي،غلبت على هذا الخليط مظاهرالهوية العربية الإسلامية بكل أبعادها وعاداتها. حتى كان زمنٌ ظهرت فيه النزعة القومية والدينية للإسبان لتؤسس الهوية الإسبانية الكاثوليكية، وكان للقس (ألفارو) دور تحريضي بارز بإعادة الروح القومية والدينية، وبعث هوية مغايرة لهوية (الدخيل – الغريب-)، فكان يقول: أصبحنا لا نرى إلا شبابًا يتأبطون الكتب العربية، ويتباهون بالتحدث باللغة العربية، ونسوا اللغة اللاتينية، لغةَ الكنيسة والتراث والآباء والأجداد. بل كان (ألفارو) يحذر الإسبان من التغرب والتعَرُّب، أوالتعريب، والتأسلم أوالأسلمة.
وترتبط الهوية في عصرنا بالعولمة، وبما يتماهى مع طروحات وتساؤلات القلق الوجودي في هذه المسرحية الفريدة، الغنية بالدلات المتشابكة، كما طرحها د. أكرم شلغين باقتدار وشمولية.
ولم ينل مصطلحٌ معرفي من التهم الفكرية والغموض والتعمية مثلما نال مصطلح " العولمة ". وأكبر الاتهامات الموجهة كانت، وما تزال، من التيارات الدينية، السماوية،وغير السماوية، كالبوذية والهندوسية، ومن التيارات الماركسية واليسارية، وأنصار الدولة القومية، والأمة الواحدة ذات الهوية المتفرّدة بخصائصها عن القوميات والهويات الأخرى، رغم شبه الاستحالة بوجود مثل هذه الأمة النقية، وكل هذا شكّل مضادّاً للدولة العالمية؛ بعولمة الثقافة، وثقافة العولمة والتجارة، والاقتصاد، والسياسة، والأمة، والهوية. فما حقيقة العلاقة الجدلية بين العولمة والهوية؟
ربما كان الإسكندر المقدوني " المُعولِم " الأول، كما كان أستاذه الإغريقي أرسطو المعلم الأول! فقد أراد الإسكندر إنشاء إمبراطورية عالمية ومزج الثقافة اليونانية بالثقافة الشرقية، بما عُرف بعد ذلك بالحضارة الهيلينستية. وكانت فكرة التوحيد الشغل الشاغل لأبيه الملك فيليب الذي استطاع توحيد اليونان المؤلفة من مئة دولة – مدينة مبعثرة. فقد كانت اليونان سياسياً تعتمد نظام الدولة – المدينة. وتحت تأثير فلسفة أرسطو وتدريسه الإسكندر لسنتين فقط،وبتأثير سياسة أبيه، وطموحه الجامح، انطلق الإسكندر في الغزو العولمي.
يصف وِل ديورَنت في كتابه: (قصة الفلسفة الإسكندر قائلاً: " كان، عند قدوم أرسطو، في الثالثة عشرة، وكان شاباً شرساً متوحشاً، شديد الانفعال، غضوباً، مصاباً بالصرع، ومدمناً على الخمرة تقريباً. وكانت هوايته ترويض الخيول التي يعجز الناس عن ترويضها؛فهجر الفلسفة ليتربع على العرش، وليركب ظهرالعالم ".
ورغم التأثير الثقافي العميق للثقافة الهيلينستية في الشرق، ومحاولة الإسكندر توحيد العالم تحت هوية واحدة إلا أن (الشرق بقي شرقاً والغرب بقي غربا)ً. وهي مقولة (رديارد كبلنغ) الشاعرالإمبراطوري الاستعماري. فهل نقول: ولن يلتقيا، بالمفهوم الذي أراده الإسكندر، وهو فرض الهوية الإغريقية على شعوب الشرق.من هنا نفهم مقولة غاندي: " إنني مستعد لأن أفتح جميع نوافذ بيتي لتهب عليه جميع رياح العالم بشرط ألا تقتلعني من جذوري".
وفي مسرحية ( القبر) للدكتور أكرم ، نجدالناطق من عتمة (القبر)، وخالقه الفني- المؤلف، يتردد عبرهما مفهوم الهوية، والانتماء، بأبعاده الموشورية المركبة، وذلك في كثير من المشاهد الغنية.
أمين معلوف يتهرب من تحديد مفهوم الهوية، فهذه المسألة برأيه مسألة فلسفية منذ قول سقراط: اعرف نفسك.إن مقولة سقراط حقاً مقولة فلسفية تتعلق بمعرفة الذات الفردية لا الجمعية معرفةً نفسيةً، كينونية، جوهرية، وليست معرفة هوية قومية أو دينية أو لغوية...وهذا ما لم يكن يدور حتماً في ذهن سقراط. لكن المعلوف يريد أن يتهرب من تحديد مفهوم الهوية العامة؛ فهو يحدد هويته الذاتية:"أنا مسيحي. لبناني. عربي. فرنسي". أي هويته هوية مركّبة. ويقول: " لقد علمتني حياة الكتابة أن أرتاب في الكلمات، فأكثرها شفافية غالباً ما يكون أكثرها خيانة، وأكثر هذه الكلمات المضللة هي كلمة " هوية " تحديداً ".!
هو يراها قاتلة. وطبعاً نرى أنها ستكون مقتولة أيضاً. وهذا مطابق لرأي المفكر الهندي (أماتيا سن) فهو يرى أنه علينا تذويب هويتنا من أجل السلام العالمي.
في حين أننا نرى غيرنا يتشبث بهويته (القاتلة) وأخطرها الهوية الصهيونية – اليهودية، والنازيّة، وبعض الهويات العنصرية الأميركية والأوروبية مثل حركة (بيغيدا) و(النازيون الجُدد) بألمانيا. وقد رأى المؤرخ البريطاني" أرنولد توينبي أن" أسوأ ما أنتجته الحضارة الأوروبية: النازية والفاشية والصهيونية.
وإشكالية الهوية طرحها مؤلف القبرعلى لسان بطله الميت - الحي بأربع كلمات: (من أنا؟ ماذا أنا)؟ وهو تساؤل عميق يعكس القلق الوجودي الذي ينتاب المؤلف (الحي)!
وأخيرًا لا بد من نهاية، رغم أن التبحر والتأمل في قضايا هذه المسرحية(الحية) يطول ويطول.
فأختم بما قاله الشاعر والرياضي والفلكي: عمر الخيام في (الرباعيات) وكأنه ينطق بلسان د. أكرم شلغين:
يا قـــلبُ كــم تشقــى بـــهذا الوجـــــودْ
وكــــلَّ يــــومٍ لـــــك هــــَمٌّ جديــــدْ
وأنـــــتِ يـــــا روحـــيَ مـــــــاذا جَنَت
نفسي وأُخــراكِ رحيـــلٌ بعيـــــــــدْ



#مصطفى_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من معالم الفن القصصي عند الأديبة السورية أمان السيد
- البيروقراطية والهوية بين علم الاجتماع والسسياسة والأدب


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى سليمان - جدلية الحياة والموت في مسرحية (القبْر) للدكتور أكرم شلغين