أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - الهادي هبَّاني - جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك الدوليين















المزيد.....


جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك الدوليين


الهادي هبَّاني
(Elhadi Habbani)


الحوار المتمدن-العدد: 7578 - 2023 / 4 / 11 - 14:24
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


الهادي هبَّاني 11 أبريل 2023م
تسير الحكومة في سياسة التبعية والخضوع لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين ولا تري سبيلا لحل مشاكل السودان الاقتصادية غير وصفتها الثابتة وشروطها التي وافقت عليها ونفذتها كلها أو غالبيتها العظمي حتى الآن والمتمثلة في رفع الدعم، تعويم سعر الصرف، تحرير التجارة والخصخصة وإبعاد الدولة عن الاقتصاد، زيادة الضرائب، تحرير اسعار الكهرباء، تخفيض العمالة والإنفاق على الصحة والتعليم …إلخ. ويحتدم الصراع بينها وبين المناهضين لسياسة التبعية ويرون أنها ستدمر الاقتصاد وستزيد معاناة الشعب، ويطرحون سياسة الاعتماد على الذات وحشد الموارد المحلية بديلا لها. وفي ظل هذا الصراع تدور العديد من الأسئلة المشروعة لدي قطاعات واسعة من الناس خاصة الشباب، أهمها ماذا تستفيد تلك المؤسسات الدولية من فرض تلك الشروط القاسية حتى يقال إنها شروط مجحفة تصب في مصالح هذه المؤسسات وتجعل العلاقة معها قائمة على التبعية. وللإجابة على هذا السؤال لابد من الحديث أولا عن مفهوم التبعية الاقتصادية وعن جذورها وأسبابها ومعرفة لماذا تُصِر تلك المؤسسات الدولية على هذه الشروط أو الوصفة الثابتة، وهل هي بالفعل تصلح لكل زمان ومكان أم هي مجرد وسيلة لتحقيق اهداف أخري غير معلنة.
فقد أصبح المثل الأمريكي الشائع (لا توجد وجبة مجانية) (No free Lunch) ثقافة راسخة انعكست على العلاقات الاقتصادية الدولية سواء كانت في شكل تبادل تجاري للسلع والخدمات أو في شكل انتقال لرؤوس الأموال من الدول الغنية ومؤسسات التمويل الدولية للدول الفقيرة في شكل استثمارات أوفي شكل قروض أو منح. ودائما ما يفرض الطرف الدائن أو الأقوي شروطه على الطرف المدين أو الأضعف بطبيعة الحال. فقد ارتبط هذا التبادل التجاري والانتقال المشروط لرؤوس الأموال بما يعرف في عصرنا الحالي بالعولمة أو إزالة الحدود الاقتصادية والعلمية والمعرفية بين الدول ليكون العالم عبارة عن سوق كبير بلا حدود تهيمن عليه الدول الأقوي وتخضع لها الدول الأضعف. وأن صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية ما هي إلا مؤسسات دولية أفرزتها هذه العولمة لتخدم في الأساس مصالح الأطراف الدائنة أو الأقوي في المعادلة.
فالتبادل سواء كان تجاري أو انتقال لرؤوس الأموال فهو يتم من خلال هذه السوق. والسوق في تعريفه البسيط هو المكان الذي يلتقي فيه البائعين والمشترين للتنافس على بيع وشراء العديد من السلع والخدمات مهما كان موقع، أو مستوي، أو طبيعة، أو تخصص هذا المكان ومهما اختلفت الوسائط والأدوات والنظم المالية والإدارية والقانونية والتقنية المستخدمة فيه، سواء كان ذلك في سوق عكاظ قديما، أو في ملجة الخضار بالسوق المركزي، أو في مول عفراء، أو في أحد مولات دول الخليج ومانهاتن الراقية، أو حتي في بورصات لندن وطوكيو ونيويورك، أو في أحد مواقع التسوق في الإنترنت. ولعل أصدق تعبير عن ذلك هو ما قاله جاك ولش رئيس مجلس الإدارة السابق لشركة جنرال إلكتريك الأمريكية خلال الفترة 1981-2001م وأحد أبرز علماء الإدارة المعاصرين: (لا يوجد شيء يدعي اقتصاد قديم، التجارة هي نفسها كما كانت عليه قبل 500 سنة سابقة، الناس تبيع وتشتري سواء كان ذلك من خلال عربة متنقلة أو من خلال الإنترنت) (there is no such thing as an old economy. Commerce is the same as it was 500 years ago. People sell and people buy whether it is from a wagon´-or-the internet)
وانطلاقا من هذا التبسيط تصبح قضية السوق هي القضية المحورية في كل شئ متعلق بالتجارة وأن رأس المال مهما كان حجمه وجنسيته يبحث دائما عن سوق. ويشتمل هذا السوق على تبادل المواد الأولية والعمالة، وأيضا المنتجات والخدمات النهائية والوسيطة وأيضا سوق رأس المال (أو سوق الاستثمار والتمويل). وأن أول وأهم مرحلة من مراحل دراسات الجدوي الاقتصادية للمشاريع هي دراسة ومسح السوق التي تمثل مؤشراتها العامل الحاسم في المفاضلة بين المشاريع. ولا يختلف الأمر كثيرا في حالة استثمارات الأفراد عن استثمارات الشركات متعددة الجنسيات أو استثمارات الدول. كما أن البحث عن الأسواق مسألة قديمة منذ أن عرف العالم الملكية الخاصة والتخصص وتقسيم العمل وظهور فائض الإنتاج.
وبما أن السوق وفقا للتعريف السابق يتميز بالتنافس بين سلع وخدمات مختلفة، وأن الهدف الأساسي لهذه المنافسة هو الربح فقد تميز تاريخيا بقضيتين الأولي: إرتباطه بالدول الغربية التي تؤمن بالملكية الخاصة وحرية السوق وتتبناهما كأيديولوجية ومبادئ تقوم عليها أنظمتها، وسياستها، وقوانينها، وثقافتها. والثانية: إرتباطه بالمصالح الاجتماعية الخاصة للقوي المتباينة في هذه السوق أو تلك. وبالتالي فهو سوق غير متجانس تتداخل فيه عدة دوافع مثل الرغبة في التملك والاستثمار والمضاربة وتحقيق الأرباح ومراكمة الثروات. ولذلك فإن هذه الأقطاب تتنافس وتتسابق أيضا على امتلاك الوسائل والأدوات التي تساعدها على الفوز بالنصيب الأكبر أو الهيمنة على تلك الأسواق على النطاق المحلي أو الإقليمي، وعلى المستوي العالمي أيضا ومن هنا يأتي مفهوم العولمة.
وعلي الرغم من أن العديد من علماء التاريخ يذهبون إلى أن بدايات العولمة الأولى تعود إلى نهايات القرن السادس عشر مع بداية عملية الاستعمار الغربى لآسيا وأوربا والأمريكتين وإفريقيا بحثا عن الموارد والأسواق. إلا أنها أقدم من ذلك بكثير. فبداية الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وبداية تشكل الإمبراطورية الإسلامية، على سبيل المثال، تُعبِّر عن شكل من أشكال العولمة لأنها اقترنت بالبحث عن الموارد والأسواق الجديدة بجانب نشر الثقافة الإسلامية. وهكذا كان الأمر أيضا في حالة الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية وغيرها. وبالتالي فإن العولمة كظاهرة ليست بالجديدة، بل هي عبارة عن توجه توسعي وتسابق محموم قديم قدم التجمعات البشرية نحو الهيمنة على أسواق الموارد والسلع والخدمات ساعد تطور الإنتاج والتجارة والمواصلات والتبادل الثقافي على تطورها، وكانت ولا زالت سمة التنافس والصراع الاجتماعي، كأحد خصائصها، تقدم للشعوب دائما خيارات متباينة للتفاعل الحضاري وتولد بينهم في نفس الوقت عولمة مناهضة للهيمنة والتوسع الرأسمالي بمختلف أشكاله.
وقد كانت العولمة، بهذا الفهم، تتم في الأزمنة السابقة بالتوحيد والضم العسكري والاستعمار الاستيطاني وبناء الامبراطوريات والهيمنة المباشرة على أسواق المستعمرات ومواردها. فالأسباب الرئيسية لحملة محمد علي باشا علي السودان كانت هي الهيمنة على موارد السودان من عاج وأبنوس وريش نعام وثروات جبال بني شنقول الطائلة من الذهب، بجانب تأمين منابع النيل وزيادة رقعة الأراضي الزراعية والحصول على العمالة الجيدة والرخيصة للعمل كجنود في جيوشه لتوسيع إمبراطوريته وتأمينها ضد الغزو الأوروبي. وأن الاستعمار البريطاني للهند يمثل أحد مظاهر الصراع والتسابق المحموم للهيمنة على الموارد والأسواق. فالثراء الذي حققته كلٌّ من البرتغال وإسبانيا وهولندا، من خيرات الهند خلال الفترة التي أعقبت اكتشاف البرتغاليون لرأس الرجاء الصالح عام 1498م وحتى عام 1623م تاريخ هيمنة الإنجليز على مضيق هرمز، هو الذي شجع الإنجليز لاستصدار مرسوم مَلَكِيٍّ عام 1600 بتأسيس شركة الهند الشرقية الإنجليزية بالهند بهدف حرمان البرتغال وإسبانيا من احتكار التجارة الهندية التي كانت تعتبر من أكبر المناطق التجارية الرابحة خاصة تجارة التوابل والعطور. وقد تمددت هذه الشركة داخل الهند لتصبح هي الحاكم الفعلي للهند حتى انتقال الحكم منها إلى التاج البريطاني مباشرة عام 1854م والذي امتد بدوره حتى عام 1947م.
وبرغم أن العديد من المهتمين بالعولمة قد درجوا للتفرقة بين ما يعرف بالعولمة السياسية والعولمة الاقتصادية والعولمة الثقافية، وغيرها، إلا أن أساس العولمة هو أساس اقتصادي بحت بحثا عن الموارد والأسواق وأن التأثير السياسي والثقافي يخدم في الأساس المصالح الاقتصادية لدول النفوذ. ففي عصر الاستعمار أو الهيمنة المباشرة على أسواق المستعمرات كانت دولة الاستعمار تفرض فكرها السياسي وتنشر ثقافاتها على سكان المستعمرات وتنشئ حلفاء لها من زعماء القبائل وملاك الأراضي وكبار التجار وشرائح من المثقفين في دول المستعمرات يحملون أفكارها وثقافاتها ليشكلون فيما بعد الأساس الذي قام عليه ما يعرف بالاستعمار الحديث بعد نجاح حركات التحرر الوطني ونيل دول المستعمرات استقلالها السياسي وجلاء الاستعمار عنها، عبر التوكيلات التجارية والزراعية والصناعية وعبر الشركات متعددة الجنسيات وغيرها. فالإمبراطورية البريطانية التي تعتبر أكبر الإمبراطوريات في تاريخ العالم قد فرضت فكرها السياسي وثقافتها على نطاق واسع جدا في العالم. فقد نشأت كنتاج لعصر الاستكشاف الأوروبي الذي بدأ بالاكتشافات البحرية العالمية للدول الأيبيرية في أواخر القرن الخامس عشر لتصبح في عام 1913م مهيمنة على 33 مليون كيلومتر مربع أي حوالي ربع مساحة كوكب الأرض تقريبا، وعلى تعداد سكاني يقارب ال 458 مليون شخص، أي حوالي ربع سكان العالم وقتها حتى استحقت لقب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. فقد كانت الشمس بسبب اتساع نطاق الإمبراطورية تشرق دائما على الأقل في أحد مستعمراتها الممتدة على نطاق العالم طولا وعرضا. وعلي الرغم من أن هنالك العديد من مناطق العالم لم يطالها الاستعمار البريطاني إلا أن التأثير البريطاني لم يقتصر فقط على المستعمرات البريطانية، بل ظل واسع الانتشار في جميع بلدان العالم على مستوي اللغة والثقافة وفي النظم الاقتصادية، والقانونية، والدستورية، وغيرها.
فالعولمة إذن ليست كما يعتقد البعض مجرد ثورة علمية تكنولوجية واجتماعية تغطى العالم بشبكة دقيقة معقدة من نظم الاتصالات أنتجت أنماطا من المعايير والقيم السلوكية الغربية المقبولة قبولا عاما وتؤثر بشكل مباشر وفعَّال علي مختلف جوانب حياة البشر الخاصة والعامة وأنها وفقا لهذا الفهم تصبح غير قابلة للرد أو الاختيار أو التعديل أو ما يصطلح عليه بمصطلح (حتمية العولمة) المرتبط آيدويولجيا باللبرالية الجديدة القائمة علي نظرية نهاية التاريخ للفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما، ونظرية صدام الحضارات أو إعادة صنع العالم لصمويل هنتنغتون. كما أنها (أي العولمة) أيضا ليست، كما يعتقد البعض الآخر، مفهوم مثالى رومانسي يسعي لبناء عالم موحد يقوم على توحيد المعايير الكونية وتحرير العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية والتقريب بين الثقافات ونشر المعلومات وعولمة الإنتاج والتبادل التجاري والإعلام وتكنلوجيا المعلومات وتسخير كل ذلك لمصلحة الشعوب. فمثل هذا المفهوم المثالي لن يتحقق إلاّ جزئيا على المستويات الإقليمية الضيقة جدا بين قوى متكافئة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا تتمتع بالندية والمصالح المشتركة. فالعولمة كما كانت سابقا في العصور الاستعمارية أو في العصر الحالي تقسم العالم إلى قسمين الأول: قوي كبري تتسابق على أسواق الموارد والسلع والخدمات لها مصالح اقتصادية متبادلة وشركات عابرة للحدود، وتعتبر هي القوي صاحبة النفوذ والتأثير الأكبر على كافة الجوانب الاقتصادية والسياسية في العالم. والثاني: دول ضعيفة هي دول مستعمرة في السابق وتابعة ومرتبطة بمصالح الدول الكبري في الوقت الحالي عبر تلك الشركات عابرة المحيطات وعبر مختلف وسائط وأدوات ما يعرف اليوم بالعولمة من منظمات اقتصادية دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، أو عبر تكتلات وتحالفات سياسية وعسكرية، أو من خلال اتفاقيات سياسية واقتصادية دولية.
فالمقصود إذن بالعولمة، أنها مصطلح حديث لظاهرة تاريخية قديمة تُعبِّر في كل مرة عن مرحلة متقدمة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، وأصبحت اليوم أكثر تطورا وتعقيدا في عصر هيمنة القطب الواحد وسيادة نظام عالمي غير متكافئ ارتبط بحاجة تلك الدول للأسواق خارج حدودها للحصول علي المواد الأولية والعمالة الرخيصة ولتسويق منتجاتها النهائية والوسيطة لتجاوز أزماتها الاقتصادية الدورية وتوسيع نطاق هيمنة شركاتها الكبري علي الأسواق باستخدام وسائل تقنية واقتصادية وسياسية وعسكرية مستحدثة دون الاعتبار لحقوق الشعوب في تلك الأسواق وللتلوث البيئي والثقافات واللغات المحلية والصناعات الوطنية .
ولعل أهم مراحل العولمة الحديثة التي مهدت لعصرها الحالي هي أولا: الفترة 1870-1914م حيث أدي تطور وسائل النقل والمواصلات إلي هيمنة بعض الدول الكبري خلال تلك الفترة علي أسواق جديدة ساعدتها علي مضاعفة معدلات إنتاجها وزيادة صادراتها، وازدادت تبعا لذلك رؤوس الأموال الأجنبية بما يزيد عن ثلاثة أضعاف حجم الناتج المحلي لدول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهاجر 60 مليون شخص من أوروبا إلي أمريكا الشمالية والعالم الجديد وزادت معدلات هجرة العمال إلي حوالي 10% من مجموع سكان العالم من الدول ذات الكثافة السكانية العالية كالصين والهند إلي الدول ذات الكثافة السكانية المنخفضة كسيريلانكا والفلبين وتايلاند وبعض الدول الإفريقية. وثانيا: الفترة 1940-1980 وهي الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولي والثانية والتي انتهت معها حقبة خوض الحروب واستعمار البلدان للحصول على الموارد وفتح الأسواق لمنتجاتها. فاضطرت الدول الكبرى المهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية لتطوير أشكال جديدة مستحدثة لتكريس الهيمنة واستمرار حصولها على الموارد الرخيصة وفتح الأسواق لمنتجاتها المتزايدة فأنشأت صندوق النقد والبنك الدوليين. وقد شهدت هذه المرحلة أيضا نهوض حركات التحرر الوطني في العديد من المستعمرات، وميلاد ما يعرف بالاستعمار الحديث وتميزت بالتكامل بين الدول الغنية عبر سلسلة من عمليات تحرير التجارة متعددة الأطراف كاتفاقية التعرفات الجمركية والتجارة (الجات)، بينما اقتصرت خلالها صادرات الدول النامية على المواد الأولية. وثالثا: الفترة التي أعقبت عام 1980 والتي ارتبطت ببدايات تطور تكنلوجيا المعلومات والاتصالات، وضاعفت خلالها مجموعة الدول الرأسمالية الكبري معدلات تبادلها التجاري وحجم ناتجها المحلي الإجمالي وظهرت خلالها منظمة التجارة العالمية. ورابعا: المرحلة الحالية للعولمة والتي تتميز بعدم التكافؤ دون الاعتبار للحريات العامة وحقوق العمال والضمان الاجتماعي وحماية البيئة والمنتجات والحرف والصناعات والثقافات المحلية وأفرزت بحسب تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي، واقع من الفجوة الضخمة بين أقلية غنية تهيمن على معظم موارد العالم وأغلبية محرومة (سمير أمين، فرانسوا أوتار، 2004). وتتميز هذه المرحلة أيضا بنمو حركة عولمة مناهضة للأبعاد الكارثية للعولمة الرأسمالية وهيمنة الشركات عابرة الحدود على موارد الكون دون اعتبار لقضايا الغالبية العظمي من شعوب العالم المضهدة. وتحولت حركة مناهضة العولمة إلى حركة عالمية كبرى تضم الملايين من الأفراد وعشرات الألاف من المؤسسات، والمنظمات الحقوقية، والاجتماعية، والإعلامية. والتي تتجلي سنويا في المظاهرات والاحتجاجات التي تحاصر مقار انعقاد قمة العشرين والتي تجعل المرء يتساءل يا تري ما الذي يجمع عشرات الآلاف من الشيب والشباب، نساء ورجال (على نفقتهم الخاصة ومساهماتهم الفردية الطوعية دون أن تربطهم جنسية واحدة، أو بلد واحد، أو فكر سياسي واحد، أو منظمة واحدة، ودون أن تنظمهم وتحركهم جهة واحدة أو كيان موحد) ويدفعهم لتنظيم مظاهرات وحركات احتجاجات واسعة ضد العولمة وتحرير التجارة وسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية؟ وما الذي أدي لاتساع نطاق هذه الحركة الاحتجاجية وزيادة أعداد المشاركين فيها بهذا المستوي؟
وبالتالي فإن صندوق النقد والبنك الدوليين هما مؤسسات غير مستقلة، بل منحازة بامتياز للدول الكبرى باعتبارها أدوات من خلالها تستمر هيمنة الدول العظمي على موارد البلدان النامية وعلي فتح أسواقها أمام منتجاتها وخدماتها وأصدق دليل علي ذلك هو هيمنة هذه الدول العظمي على هذه المؤسسات الدولية. فعلي سبيل المثال تمثل حصص الدول الخمس العظمي شاملة أمريكا، اليابان، الصين، ألمانيا، وفرنسا مجتمعة على 36.11% من حجم الحصص في صندوق النقد الدولي وتمتلك أمريكا لوحدها حق الفيتو بنسبة حصص 17.46% وحق تصويت بنسبة 16.52% هي الأكبر من بين جميع دول العالم. وانطلاقا من كل ذلك يمكن بكل سهولة الإجابة على الأسئلة الرئيسية التي تم طرحها في مقدمة المقال لماذا يفرض صندوق النقد والبنك الدوليين شروط مسبقة ثابتة لا تتغير؟ وما هي الفائدة التي تجنيها من هذه الشروط؟ وتبدأ حقيقةً سياسات الصندوق والبنك الدوليين غير المعلنة بالانكشاف من خلال فرض هذه الوصفة الثابتة الموحّدة التي لا تتغير أبدا على كل الدول في كل زمان ومكان دون أي اعتبار لتفاوت وتباين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تميز كل بلد عن الآخر وهو ما لا يتفق مع العلم والمنطق والفطرة السليمة. ويقول استاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا، وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، ومستشار الرئيس الأمريكي السابق كلينتون جوزيف ستيغليتز، أنّ وصفة صندوق النقد لا تهدف إلى تحقيق مصالح البلدان النامية، وإلا ما كانت وصفة ثابتة لا تراعي خصوصيات كل دولة على حدة، ولتنوعت وتعددت بتنوع وتعدد أوضاع وظروف تلك البلدان. وفيما يلي تحديد الفوائد التي تجنيها هذه المؤسسات والأغراض التي تكمن وراء فرض هذه الوصفة الثابتة من الشروط:
أولا: تهدف الشروط المتمثلة في رفع الدعم عن السلع الرئيسية، وزيادة الضرائب والرسوم، وخفض الإنفاق على الصحة والتعليم، وتحرير اسعار الكهرباء والماء، وتخفيض العمالة إلى ضمان توفير موارد كافية لتغطية عجز الموازنة لضمان سداد اقساط ديون الصندوق والبنك الدوليين فأي جهة تمويلية يهمها في المقام الأول التأكد من قدرة المقترض علي سداد أقساط ديونه في مواعيد استحقاقها، وفي نفس الوقت إبعاد حكومات تلك البلدان من الاقتصاد وتقليص فرص إنفاقها علي القطاعات الإنتاجية من مواردها المحلية وبالتالي ضمان ارتباط هذه البلدان بالصندوق والبنك الدوليين واستمرار منحها مزيد من القروض لنفس البلدان وهو ما يكرِّس التبعية الاقتصادية القديمة بأساليب حديثة مبتكرة.
ثانيا: أما الشروط الخاصة بخصخصة مؤسسات القطاع العام وابعاد الدولة عن الاقتصاد، ورفع الحواجز والقيود الجمركية عن السلع المستوردة فهي تهدف إلى فتح السوق المحلي أمام منتجات شركات الدول الكبرى عابرة القارات بحيث يتحول السوق المحلي إلى سوق مستهلك لمنتجات هذه البلدان واستمرار الأخيرة كمصدِّر للمواد الأولية وفي نفس الوقت يمكِّن الشركات عابرة القارات من فتح مكاتب تمثيل أو فروع لها بالبلدان الفقيرة مباشرة دون قيود او من خلال عقد تحالفات تجارية مع القطاع الخاص في تلك البلدان الفقيرة بموجب توكيلات تجارية أو حقوق امتياز لعلامات تجارية بشروط قاسية أقرب لعقود الإذعان التي تجعل شركات القطاع الخاص المحلي خاضعة للشركات الكبرى عابرة القارات وخاضعة لشروطها بل ومتورطة معها في كل جرائمها.
ثالثا: بينما يؤدي تعويم سعر الصرف إلى تخفيض قيمة العملة المحلية مما يؤدي إلي زيادة صادرات هذه البلدان النامية إلى الدول الكبرى بأسعار متدنية جدا والتي هي عبارة عن مواد خام أولية مما يكرس نفس التبعية التي كانت سائدة خلال فترة الاستعمار القديم والحديث وتضمن بالتالي الدول الكبرى استمرار الدول النامية كمصدر رخيص للمواد الأولية وسوق لمنتجاتها المصنعة.
وعلي عكس ما يعلن صندوق النقد والبنك الدوليين في برنامج التكيف الهيكلي من أنه يحرص علي معالجة التشوهات في الاقتصاد الكلي فإن هذه الشروط ثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنها تؤدي إلى فقدان الدولة المقترضة القدرة على توفير عائدات محلية من مصادر إنتاجية حقيقية لسداد العجز في موازناتها العامة بسبب تدهور القطاعات الإنتاجية وفقدان إيرادات شركات القطاع العام التي يتم خصخصتها من ناحية وبسبب انخفاض أو انعدام الإيرادات الضريبية من الشركات المحلية نسبة لتراجع نشاطها وأدائها المالي بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي نسبة لزيادة حجم الضرائب والرسوم من ناحية أخري، وبالتالي عدم قدرتها علي منافسة الشركات الأجنبية والتغلب علي هيمنتها الأمر الذي يؤدي إلي تفاقم حجم الدين الخارجي وزيادة المتأخرات وتراكم فوائده المستحقة مما يجعلها تابعة وأسيرة للصندوق. كما يؤدي ارتفاع تكاليف الإنتاج إلى عجز مستمر في الميزان التجاري بسبب انخفاض الصادرات عن الواردات ويؤدي بدوره لانتشار ظاهرة التهريب إلى دول الجوار عبر القنوات غير الرسمية وقنوات الفساد بسبب ارتفاع تكاليف التصدير عبر القنوات الرسمية كنتيجة مباشرة لشرط زيادة الضرائب والرسوم التي يفرضها صندوق النقد والبنك الدوليين. الأمر الذي يؤدي إلي زيادة معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية وظهور السوق الموازي للنقد الأجنبي خارج قنوات القطاع المالي والمصرفي وتدهور القطاعات الإنتاجية مما يؤدي بدوره إلي زيادة معدلات البطالة وانخفاض معدلات الأجور وتراجع تعويضات العاملين في تلك القطاعات وينعكس ذلك مباشرة في تراجع معدلات النمو وتراجع قيمة الناتج المحلي الإجمالي وتدهور الأوضاع الاجتماعية وزيادة معدلات الفقر وتدني كل مؤشرات الاقتصاد الكلي.
وتؤدي حالة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وتراجع قيمة العملة المحلية وانخفاض قوتها الشرائية وسياسة التقشف التي يفرضها عموما الصندوق والبنك الدوليين على الدول المقترضة وترشيد النفقات ورفع الدعم عن السلع الرئيسية إلى فقدان الدولة لوظيفتها ومسؤوليتها الاجتماعية، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع قاعدتها الاجتماعية وظهور الاضطرابات السياسية وتصاعد الاحتجاجات الشعبية مما يخلق حالة من عدم الاستقرار تقود إلى تراجع فرص الاستثمار الأجنبي وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية مجددا لداخل الدولة. وفي نفس الوقت يدفع هذا الوضع إلى فرض الدول الكبرى شروط سياسية قاسية على الدول المقترضة على حساب كرامتها واستقلاليتها وسيادتها الوطنية كأن يُطلب منها اتخاذ مواقف سياسية دولية متفقة مع مواقف الدول الكبرى، أو إقامة قواعد عسكرية على أراضيها، أو تقديم مساعدات عسكرية لوجستية لها كما في حالة السودان التي يفرض عليها الحلف السعودي الإماراتي إبقاء قواته في حرب اليمن، وأيضا القبول بالتطبيع مع إسرائيل في سبيل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإعفاء الديون والحصول على قروض ومنح جديدة من صندوق النقد والبنك الدوليين.
وبالتالي لابد من انتهاج الطريق الآمن الذي انتهجته البلدان التي مزقت وصفة صندوق النقد والبنك الدوليين وأعطتهما ظهرها وسارت في طريق حشد الموارد الذاتية وسياسة الاعتماد على النفس كماليزيا وسنغافورة والبرازيل ورواندا وتركيا وتمكنت من النهوض باقتصادياتها وبشعوبها لمصاف الدول الحديثة المتقدمة. فالسودان قادر كما كان سابقا على حشد موارده الذاتية وتوظيفها توظيف جيد في الخروج من أزمته الاقتصادية الراهنة واللحاق بمصاف الدول الحديثة المتقدمة. وهذا لا يعني قفل باب التعامل نهائيا مع هذه المؤسسات فالسودان عضو قديم فيها وكغيره من دول العالم له كامل الحق الاستفادة من مواردها ولكن وفقا لشروط السودان ولما تقتصيه أولويات التنمية بدون شروط مسبقة أو أي شكل من أشكال الانصياع كما كان يتعامل معها خلال فترة نهاية الخمسينات والستينات من القرن الماضي عندما كان السودان ينعم باقتصاد قوي وموارد حقيقية مستقلة ومن موقع القوة والسيادة الوطنية إذا دعي الأمر لذلك مستقبلا، وكما فعلت كثير من دول العالم وعلي رأسها فيتنام التي التفتت أولا للنهوض باقتصادها اعتمادا علي مواردها الطبيعية والبشرية الذاتية ثم بعد ذلك تعاملت مع هذه المؤسسات الدولية وفقل لشروطها وبدون أي شروط أو وصفات مسبقة.



#الهادي_هبَّاني (هاشتاغ)       Elhadi_Habbani#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هندسة مالية أم ضرب من ضروب الميسر حول أكذوبة المشتقات المالي ...
- آلية استعادة الأموال المنهوبة لخزينة الدولة بعد انتصار الثور ...
- في الذكرى المئوية لثورة أكتوبر 1917م الخالدة أهم أسباب إنهيا ...


المزيد.....




- وزير الاقتصاد الإيراني يزور السعودية
- التعاون الدولي والنمو والطاقة.. انطلاق فعاليات منتدى دافوس ف ...
- وزير المالية الجزائري: الانضمام إلى بنك بريكس بمرحلته النهائ ...
- الرياض.. انطلاق الاجتماع المفتوح للمنتدى الاقتصادي العالمي
- منتدى اقتصادي في الرياض وفلسطين موضوع للنقاش! .. ماالخبر؟
- مساعد وزير الخارجية للشؤون الاقتصادية يصل إلى الرياض
- فرنسا تنجو من عقوبات وكالات التصنيف.. فهل زال الخطر؟
- إغلاق معبر رأس جدير يقطع أوردة مدن تونسية وليبية
- معرض تونس الدولي للكتاب يتأثر بالصعوبات الاقتصادية
- ??مباشر: الحرب في غزة محور مناقشات قمة اقتصادية عالمية في ال ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - الهادي هبَّاني - جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك الدوليين