|
كيف تبقي التبرعات على منظومة الاستغلال وتديمها ؟
جودت محمود جودت
الحوار المتمدن-العدد: 7567 - 2023 / 3 / 31 - 23:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لنبدأ بحثنا بافتراض هذا المثال البسيط : لنفترض معاً ان سعر أحد الأدوية الضرورية لمرضى القلب قد ارتفع إلى الضعف، وذلك من دون أن يرافق هذا الارتفاع فى سعره ارتفاع مماثل فى مداخيل متلقيه من المرضى، ما الذى سنشهده فى هذه الحالة ؟ فى هذه الحالة سنشهد نقصاً فى الطلب على هذا الدواء قد يدفع بمنتجيه إلى تخفيض سعره وإعادته إلى السعر الأول، أو حتى قد يدفع بهم إلى تخفيضه دون هذا السعر الأول إذا ظهرت صعوبات تسويقية خاصة نشأت عن هذا الإرباك الذى أحدثته هذه الزيادة و لم تكن فى الحسبان. هذا مفهوم إذن وجلي على نحو واضح، ولكن ماذا لو أشترى بعض الناس هذا الدواء لمحتاجيه على سبيل التبرع لهم والإحسان إليهم، هل يضطر منتجو هذا الدواء إلى تخفيض سعره فى هذه الحالة والعودة به إلى السعر الأول ؟ هنا تحديداً تكمن كامل القضية التى نحن بصدد تناولها، فطالما هناك من يدفع ثمن الدواء بعد زيادة سعره، فلن ينزل هذا السعر مرة أخرى ليعود إلى ما كان عليه فى السابق قبل الزيادة، فالطلب على الدواء لا يزال على حاله لم ينخفض طالما هناك من أشترى لهؤلاء المرضى ما عجزوا عن شرائه لتدنى قواهم الشرائية، بل وأكثر حتى فقد يتخطى سعر الدواء هذه الزيادة الأولى ليبلغ زيادة أخرى جديدة طالما وجد من يدفع له هذه الزيادات ويؤديها.
فى واقع الأمر، لا تبدو لنا التبرعات التى يجرى تبنيها كنهج مستدام لتعويض ضحايا الفقر والاستغلال بصورة جزئية على انها آلية لمواجهة الاستغلال والتصدى له كما يحلو للبعض أن يراها ويسميها، بل تبدو لنا على العكس من ذلك كآلية لإدامة الاستغلال والإبقاء عليه، آلية تعمل لصالح الإستغلال لا ضده وذلك على مستويين رئيسيين : الأول يتعلق بتسويق سلعه وخدماته بالأسعار المرتفعة التى عينها لها. والثاني يتصل بتخفيف حدة الاحتقان والتزمر التى قد تنشأ وتنجم عن تقرير هذه الزيادة والعمل بها.
ان مايعنى مُنتِج السلعة والخدمة فى الأخير إنما هو تصريف منتوجه لا غير، وهو لذلك لا يولي أي أهمية خاصة لهذا الطرف اوذاك الذى آلت إليه ملكية سلعته، فسواء استهلكها مشتريها بشخصه أم وهبها لغيره من دون مقابل لا يغير من الأمر شيئاً بالنسبة إليه طالما هو قد قبض ثمنها وحول بذلك قيمته المتشيئة تلك من صورتها العينية السلعية إلى الصورة النقدية التى تمكنه من استخلاص ربحه منها بعد طرح تكاليفه ومصروفاته، ومن ثم القدرة على تجديد إنتاجه مرة أخرى لدورات جديدة.
يحق لنا إذن ان نرى فى التبرعات وفق السياق المطروح أعلاه، حيلة تسويقية واعية ليس إلا يلجأ إليها المنتجون الاحتكاريون لتصريف منتوجهم بالسعر الذى يريدون من دون الاضطرار إلى تخفيض سعره كنتيجة متأتية عن تلك الزيادة التى أقروها والتى تستتبع بدورها هبوطاً فى الطلب على هذا المنتوج قد يرغمهم على العودة عن هذه الزيادة. ويحق لنا أيضاً ان نستخلص نتيجة مؤداها ان التصدى لواقع الاستغلال لا يكون بجمع التبرعات لصالح المتضرين بغية تعويضهم جزئياً عما أصابهم من ضرر من جراء هذا الاستغلال، فمسلك كهذا لن يؤدى، كما سبق وأشرت، سوى إلى إثراء الاستغلال وإدامته طالما لم تتأثر مبيعاته وبقيت على حالها، بل هو يكون، أي التصدى للاستغلال، بالقضاء على الاستغلال ذاته وتجفيف منابعه للحيلولة دون وقوع ضحايا جدد وتجديد إنتاج الاستغلال نفسه.
ان غاية هذا المقال ليست فى الصد عن فعل الخير أو ذم تلك الجهود الفردية حسنة النية وتبكيتها على ما تقوم به من محاولات فى سبيل جعل حياة الأخرين أفضل، لا ليست هذه هي الغاية المتوخاة من وراء هذا المقال، ولكن الغاية التى نرمي إليها إنما هي التعريف بواقع حركة المشهد الكلية، بواقع ان التبرع وحده منفرداً وبمعزل عن خوض نضال جدي فى مواجهة الاستغلال الذى يولد الحاجة إليه لن يفعل سوى الإبقاء على الاستغلال الذى ندعى مواجهته بواسطة هذه التبرعات. وعليه يتحتم علينا ولا مناص، ان أردنا حقاً مواجهة الاستغلال والقضاء عليه، ان نعين بموضوعية وتجرد ذلك الأثر الذى يتولد عن تلك التبرعات وغيرها من الأعمال الخيرية حين نكتفى بها وحدها من دون السعي وراء اجتثاث الظرف الذى ولدها نفسه، وإلا فنحن نديم عملاً هذا الاستغلال ونبقيه بل ونثريه كذلك حين نوفر له الأموال التى طلبها ونقدمها له.
#جودت_محمود_جودت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكروية السياسية
المزيد.....
-
سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي
...
-
مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي
...
-
بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
-
النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
-
نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
-
الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار
...
-
ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
-
بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن
...
-
روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
-
أطعمة تضر المفاصل
المزيد.....
-
في يوم العمَّال العالمي!
/ ادم عربي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|