أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الترجمة توطين المعنى في فضاء لا يغترب فيه















المزيد.....

الترجمة توطين المعنى في فضاء لا يغترب فيه


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7552 - 2023 / 3 / 16 - 10:14
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كثيرًا ما نقرأ ترجماتٍ ملتبسةً مشوشة، تُغرِق القاريءَ بفائضٍ لفظي من دون أن تفيد معنى واضحًا. الترجمات الحرفية أسوأ الترجمات، أحيانًا نقرأ نصًا منقولًا من لغة أخرى من دون أن يلوح لنا أيُّ ضوء في كلماته، لا نرى إلا كلمات مظلمة لا نتحسّس فيها معنى مفيدًا. أن تتملك معاني الكلمات شيء، وأن تنقلها للغتك كودائع مغترِبة عنها وعن فضائها الدلالي ورؤيتها للعالم شيء آخر. تملّك المعنى يعني توطينَه في فضاء لا يغترب فيه، وتحويلَه إلى عنصرٍ حيّ في نسيج ثقافة موازية، بعد اكتشافِ ما تنطق فيه اللغتان، والإصغاءِ للصوت العميق فيهما معًا. التملّك غير تلقي الكلمات كما هي بمعناها الحرفي، عدم تملّكها يعني استنباتها حرفيًا في فضاءٍ دلالي لا يمدّها بشيء من نهر الحياة. تملّك معاني الكلمات يعني أن تتكلم كلُّ واحدة من اللغتين إلى الأخرى بما هو خارج دلالة كلماتهما الحرفية، ويتحقّق ذلك باكتشاف منطق الفهم المشترّك للغتين معًا. المترجم المحترف حين يعمل على تملّك معاني الكلمات يتعاطى مع اللغة وكأنها مادةٌ خام يغرسها في فضاءٍ دلالي لا تجد ذاتَها مغترِبة فيه، ولا تتنكر له اللغةُ المنقولة إليها. تصير اللغة المُترجَم منها عنصرًا فاعلًا في اللغة المُترجَم إليها، تغذّي فضاءها الدلالي وتتغذى منه. عندما تهاجر الكلمة من لغتها الأم إلى لغة أخرى تلتقي بمعناها العميق، الذي تظلّ تبحث عنه في الطبقات القصية للغة الراحلة إليها، وتظلّ تسعى لذلك في أية لغة تقيم فيها مجدّدًا. الترجمة كما تعمل على تجديدِ حياة اللغة وإثراءِ معجمها بتوالد ونحت كلمات ومصطلحات جديدة، وإثراءِ لغة المترجم واغناء رصيد معجمه، واتساعِ فضاء وعيه اللغوي، تعمل أيضًا على تجديدِ حياة اللغة والأدب والثقافة وتغذيتِها بما يتيح لها أن تنفتح على آفاق رحبة للمعنى. المترجم الحاذق راءٍ تمكّنه استبصاراتُه من أن ينصت لصوتٍ لا يسمعه القارئُ المتعجّل للنصوص، يقظة الرائي تدلّه على الصوت الواحد في لغات متعدّدة. فرادة الرائي بقدرته على التذوق كمتصوف حالة شهود.
تنبه الجاحظ في وقت مبكر إلى عدّة المترجم وما ينبغي أن يتسلح به من أدوات، وهو يعيد إنتاجَ المعاني بلغته، وكيف يجعل المترجم لغةً تتحدث إلى لغةٍ أخرى وتتفاعل معها بالأخذ والعطاء، بقوله: "ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه" .
‏ الترجمة مرآةُ ذات المترجم وثقافتُه، ليست هناك ترجمةٌ مبرأة من بصمة الذات.كلُّ ترجمة محترفة قراءة للنصّ، ترجمات النصّ هي محصلة قراءات المترجمين له، في كلّ ترجمة صوتٌ مميز لا يكرّر غيرَه، مثلما ننصت لصوتٍ موحد يبوح بما تستبطنه الكلماتُ، وما هو أقصى مما تكشّف للوهلة الأولى من دلالاتها. الترجمة ضربٌ من التأليف يتطلب استعداداتٍ تناظر ما تتطلبه عمليةُ كتابة النصوص الجادة، الترجمة المحترفة تغوص لتكتشف القاعَ التي تقف عليها مداليلُ الكلمات. الترجمة نهر حيوي لتغذية الثقافات وتلاقحها وتوالدها واتساع آفاق رؤيتها للعالم، وإثراء منابع العيش المشترَك فيها، وانفتاح مفاهيمها وقيمها الكلية بعضها على بعض، وتواصلها من أجل بناء فضاءٍ يستوعبها في إطار اختلافها وتنوعها. ‏الترجمه أعمق روافد إيقاظ المشتركات الكونية بين الأفراد والمجتمعات، وأجمل مرآة تتجلى فيها القيمُ الكلية في الثقافات والحضارات والأديان.
الترجمةُ أشدُّ وطأةً من التأليف. أنا مؤلفٌ ومترِجم، على الرغم من أن الكتابةَ تتعبني، لكن الترجمةَ تنهكني بل كانت تعذّبني أحيانًا، لذلك هجرتها منذ سنين طويلة. الترجمةُ ضربٌ من امتحان الضمير الأخلاقي للمترجم، إن كان كلامُ المؤلف ليس منطقيًا، أو لا يتفق مع معتقد المترجم وثقافته، يضع المترجمَ في مواجهة الكاتب، وأمام امتحان ضميره الأخلاقي.كنت أتحيّر مما أراه خطأ لدى الكاتب، وأتردّد في ترجمةِ مفاهيمَ لا أرى صوابَها، وعباراتٍ لا اقتنع بمضمونها، أنزعج وأتردّد في نقلها للقارئ العربي، وأخيرًا أترجمها مهما كانت، لشعوري بأن استبعادَها خيانةٌ لمؤلف أنا مُستأمَن على نصوصه عندما تطوعت بنقلها إلى العربية، وهي خيانةٌ لقارئٍ يتطلع لقراءة هذه الترجمة بلا تصرف بحذف واضافة أي شيء من أصلها.
بعد صدور: "الدين والظمأ الأنطولوجي" سنة 2016 أسعدني انتشارُه الواسع وتكرّرُ طبعاته، وتواصلُ الكتابة عنه حتى اليوم. قبل سنوات راسلني د. عثمان ياسين بعد أن قرأ الكتاب، وبعث بمقالات من كتاباتي ترجمها ونشرها مشكورًا في الصحافة الكردية. أعرب الأخ عثمان عن قناعته بضرورة حضور كتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ومؤلفاتي الأخرى في الحياة الدينية والثقافية للمجتمع الكردي، واقترح ترجمتَه للغة أهله. الكردية واحدة من لغات الإنسان المعروفة، وهي كما الشعب الناطق بها طالها كثيرٌ من التجاهل والإقصاء والظلم والتعسف، إذ حُرِم الإنسان الكردي من تعلّم لغته في المدارس مدة طويلة، وتعرضتْ آدابُه وفنونُه ومنتجاتُه الثقافية للإهمال والنسيان، على الرغم من عراقة شيءٍ من نصوص هذه الثقافة وتميّز آدابها وفنونها. في كردستان اليوم عدة جامعات حديثة، ويقظة ثقافية وأدبية وفنية تعد بحياة جديدة للغة وثقافة وآداب وفنون لبثت منفية عن موطنها وأهلها زمنًا طويلًا. أنفق الأخ الدكتور عثمان ياسين شيئًا من وقته الضيق، حاول وهو في زحمة أعماله في القضاء والتعليم والتأليف أن يترجم الكتابَ للكردية، وتعاون معه الأخُ الأستاذ عبدالله أحمد المعروف بـ "سرمد"، فأنجزا معًا مشكورَين هذه الترجمة، وهي تصدر بعد صدور الطبعة الجديدة عن دار الرافدين ببيروت من هذا الكتاب. يحاول الأخوان عثمان وسرمد ترجمةَ أعمالي الأخرى، آمل أن تصدر ترجمةُ الكتاب الثاني منها العام القادم، علمًا أن الكتاب التالي المقرّر ترجمته للكردية "مقدمة في علم الكلام الجديد" معتمَد كمقرّر دراسي في أقسام الفلسفة وعلوم الدين في جامعات متعدّدة خارج وداخل العراق.

تقديم الترجمة الكردية لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي".



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غواية الكتابة
- لا قيمة لكتابة تتنكر للاعتراف
- الكتابة بوصفها امتحانًا للضمير الأخلاقي
- الكتابة بوصفها تجربة وجود
- الكتابة بوصفها مِرَانًا متواصلًا
- يولد النص بكل ترجمة ولادة جديدة
- الولاء والبراء ‏في ضوء الإنسانية الإيمانية
- فلسفة التديّن
- القيمُ ضرورةٌ لأنسنة الإنسان
- سبيلُ الله هو سبيلُ الإنسان
- فعل الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء
- فعلُ الخير ليس مشروطًا
- القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي
- مفتاحُ تفسيرِ الكتاب الكتابُ نفسُه
- للإنسانِ في القرآن الكريم بُعدان
- حدود الديني والدنيوي
- مَنْ ينسى الفلسفةَ تنساه أعيادُ التاريخ
- ايقاظ النزعة الإنسانية في الدين
- الكتب كالأبناء يصعب الانفصال عنهم
- اقتصاديات الكلام


المزيد.....




- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الترجمة توطين المعنى في فضاء لا يغترب فيه