أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام محمد عبد المعطي أحمد - كلية الآداب والعلوم - جامعة قطر - رفاعة الطهطاوي رائد التنوير المصري















المزيد.....


رفاعة الطهطاوي رائد التنوير المصري


حسام محمد عبد المعطي أحمد - كلية الآداب والعلوم - جامعة قطر

الحوار المتمدن-العدد: 7543 - 2023 / 3 / 7 - 08:06
المحور: الادب والفن
    


في الوقت الذي كانت الحملة الفرنسية تستعد لمغادرة مصر في العام 1801، بعد أن جعلت المصريين يدركون الفوارق الحضارية الكبيرة بينهم وبين الغرب الأوربي، جاء ميلاد أحد الفتية المصريين في قرية طهطا الواقعة في أقصي الصعيد المصري، حمل الفتي أسم رفاعة رافع الطهطاوي، كانت مصر تموج إبان ميلاده وطفولته بتيارات سياسية واقتصادية واجتماعية تكاد تعصف بها، فقد كان المخاض العنيف لميلاد الدولة المركزية الحديثة في مصر على يدي محمد علي باشا، وكان أهم ما متميزة به الدولة الحديثة هو ما أصطلح علي تسميته بعصر التنوير، وكلمة التنوير في معناها العام "حركة تعتد بالعقل وتعتمد عليه" وشعارها "تشجع وفكر بنفسك"، ومعناها الفلسفي " تحرير الإنسان من العجز عن إعمال العقل بغير مرشد" وكان رفاعة هو رائد هذا الفكر الجديد في الدولة الحديثة، لقد جمع الطهطاوي في شخصيته بين الأصالة من التراث والموروث الثقافي المصري والجديد في الفكر الغربي ولذلك فإن أهمية الطهطاوي تأتي من كونه قد شكل الإطار الفكري الكبير للدولة المصرية الحديثة.
وُلد رفاعة رافع الطهطاوي في الخامس عشر من شهر أكتوبر في العام 1801 بمدينة طهطا بسوهاج، وفي سيرته نلمحه فتي نشأ نشأة عادية من أبوين فقيرين كأبناء السواد العظم من الشعب، وتلقي في الكتاب تعليمه الأولي حيث حفظ القرآن، وتعلم بعض العلوم الدينية مثل الحديث، ولما بلغ رفاعة السادسة عشرة من عمره التحق بالأزهر في العام 1817، فتتلمذ على يد عدد من علماء الأزهر، وقد شملت دراسته في الأزهر الحديث والفقه والتصوف والتفسير والنحو والصرف... وغير ذلك. وتتلمذ عل يد عدد من علماء الأزهر العظام، وكان من بينهم من تولى مشيخة الجامع الأزهر، مثل الشيخ حسن القويسني، وإبراهيم البيجوري، والشيخ حسن العطار، وكان هذا الأخير أهمهم وأكثرهم أثرا في شخصية رفاعة وحثه علي التعلم، وقد وثق رفاعة صلته بهم ولازمهم وتأثر بهم، وتميز الشيخ العطار عن أقرانه من علماء عصره بالنظر في العلوم الأخرى غير الشرعية واللغوية، كالتاريخ والجغرافيا والطب، واستفاد من رحلاته الكثيرة واتصاله بعلماء الحملة الفرنسية.
وبعد أن أمضى في الأزهر ست سنوات، جلس للتدريس فيه سنة 1821 وهو في الحادية والعشرين من عمره، والتف حوله الطلبة يتلقون عنه علوم المنطق والحديث والبلاغة والعروض، وكانت له طريقة آسرة في الشرح جعلت الطلبة يتعلقون به ويقبلون على درسه ثم ترك التدريس بعد عامين والتحق بالجيش المصري النظامي الذي أنشأه محمد علي إماماً وواعظاً لإحدى فرقه واستمر في هذا العمل حتى سنة 1826.
رفاعة في باريس:
اهتمت حكومة محمد على بإيفاد البعثات العلمية والفنية والصناعية إلى أوروبا، وكانت الدولة تهدف من وراء ذلك إلي تكوين جيلاً جديداً من ألأساتذة والعلماء والفنيين ممن تلقوا العلم في أوربا، ووقفوا على أهم ما أنجزه الغرب الأوربي في العلوم والمعرفة ليحلوا عند عودتهم محل الأساتذة والأطباء والمهندسين والضباط الأجانب، هذا بالإضافة إلي أن يكون أعضاء هذه البعثات أداة صالحة لنقل علوم الغرب وفنونه، وليس أدل على ذلك من حرص محمد علي على أن يقوم كل تلميذ من تلاميذ البعثات بترجمة الكتب التي كان يدرسها من اللغة الفرنسية أو الإيطالية إلى اللغة العربية، كما ألزم العائدين من البعثات بشراء وتجميع أكبر قدر من الكتب المهمة التي تعالج خصص كلٍ منهم، وفور وصولهم إلى مصر كان الباشا يلزمهم بترجمة أهم الكتب التي تفيد في نشر ومعرفة تخصص كلٍ منهم، كما أرادت الدولة من إرسال هذه البعثات إلى أوربا تكوين جيش مصري قوي، حيث كان الباشا يدرك جيداً مخاطر الاعتماد على ضباط من المرتزقة الغربيين فقد رأى ضرورة وجود ضباط محليين يمكنه الاعتماد عليهم بكل ثقة، ورأى ضرورة إيفاد هؤلاء الضباط والفنيين إلى أوربا للوقوف على أحدث ما وصلت إليه العسكرية الغربية سواء في عمليات تصنيع السلاح أو حتى في ‘دارة المعارك العسكرية، وكذلك كانت الدولة تهدف إلي تحديث الطب في القطر المصري كله، ذلك أن مسألة صغر الحجم السكاني لمصر كانت تؤرق الوالي دائماً، فقد كانت مشروعاته الطموحة تحتاج إلى أعداد سكانية ضخمة وشباب أصحاء للتجنيد، وكانت البلاد تمر بين الآن والآخر بمجوعة من الأوبئة المزمنة التي كانت تقضي على أعداد كبيرة من السكان ،وكان لابد من عملية واسعة النطاق لتحديث الطب في مصر، ومنذ البداية شغل مجال تطوير الطب والعلاج حيز كبير في فكر الوالي لتحديث الدولة، أمام ذلك لم يكن أمام الباشا لإرساء حجر الأساس لمدرسة الطب في مصر إلا إرسال البعثات إلى أوربا، فرغم مجهودات كلوت بك الدءوبة، وقيامه بترجمة قانون الطب الفرنسي إلى العربية، إلا أن البعثة الطبية الكبرى التي أرسلت إلى فرنسا عام 1832 والتي ضمت أثنى عشر طالباً كانت النواة الرئيسية لمدرسة الطب في مصر، وسوف يتضح أثر اهتمام الدولة بتحديث العملية الطبية في مصر من خلال اهتمامها الواضح بترجمة مؤلفات الطب الحديثة في أوربا.
على العموم فقد بلغ عدد من أرسلهم محمد علي باشا إلى أوروبا في زمنه 319 طالباً أنفق عليهم 224 ألف جنيه مصري. واستطاع هؤلاء التلاميذ أن يكونوا أداة المجتمع والدولة وان يسهموا بشكل مباشر وفعال في تغيير وجه المجتمع المصري على كافة الأصعدة والميادين الحياتية كما ساهموا في تغيير بنية المجتمع العقلية والفكرية هم وتلامذتهم الذين جاءوا من بعدهم تماماً كما أراد محمد علي باشا ومستشاروه.
وكانت البعثة الكبرى إلى فرنسا في 1826م هي أكبر وأهم هذه البعثات فقد كانت بداية التحول من النقل والاقتباس عن الإيطالية إلى الفرنسية، كما كانت بما حوته من تخصصات في ميادين مختلفة جعلتها أكثر بعثات الدولة أثراً وأعمقها تغييراً،
كان قرار الحكومة المصرية إيفاد هذه البعثة العلمية إلى فرنسا أهم وأكبر الإنجازات الممتدة الأثر، حيث كان الهدف من إرسالها دراسة العلوم والمعارف الغربية، في الإدارة والهندسة الحربية، والكيمياء، والطب البشري والبيطري، وعلوم البحرية، والزراعة والعمارة والمعادن والتاريخ الطبيعي، وبالإضافة إلى هذه التخصصات يدرسون جميعا اللغة والحساب والرسم والتاريخ والجغرافيا.
وحرصاً من الدولة على أعضاء البعثة من الذوبان في المجتمع الفرنسي، فقد قرر محمد علي أن يصطحبهم ثلاثة من علماء الأزهر الشريف لإمامتهم في الصلاة ووعظهم وإرشادهم، وكان رفاعة الطهطاوي واحدا من هؤلاء الثلاثة، ورشحه لذلك شيخه حسن العطار.
وما إن تحركت السفينة التي تحمل أعضاء البعثة حتى بدأ الطهطاوي في تعلم الفرنسية في جدية ظاهرة، وكأنه يعد نفسه ليكون ضمن أعضاء البعثة لا أن يكون مرشدها وإمامها فحسب، ثم استكمل تعلم الفرنسية بعدما نزلت البعثة باريس؛ حيث استأجر لنفسه معلما خاصًا يعطيه دروسًا في الفرنسية نظير بضعة فرنكات كان يستقطعها من مصروفه الشخصي الذي كانت تقدمه له إدارة البعثة، وأخذ يشتري كتبًا خاصة إضافية غير مدرجة في البرنامج الدراسي، وانهمك في قراءتها. ومن شدة حرصه على مداومة القراءة والدرس تأثرت عينه اليسرى، ونصحه الطبيب بعدم الاطلاع ليلاً، لكنه لم يستجيب لنصحه، واستمر في إشباع نهمه للمعرفة.
وأمام هذه الرغبة الجامحة في التعلم قررت الحكومة المصرية ضم رفاعة إلى بعثتها التعليمية، وأن يتخصص في الترجمة؛ لتفوقه على زملائه في اللغة العربية والثقافة الأزهرية. وقد لقي الفتى النابه عناية ظاهرة من العالم الفرنسي جومار الذي عهد إليه محمد علي بالإشراف العلمي على البعثة، ومن المستشرق الفرنسي الكبير دي ساسي، واجتاز كل الامتحانات التي عقدت له بنجاح باهر، وكانت التقارير التي ترسل إلى محمد علي تتابع أخبار البعثة تخص رفاعة بالثناء والتقدير.
عاد رفاعة إلى مصر سنة (1831م) تسبقه تقارير أساتذته التي تشيد بنبوغه وذكائه، وكان إبراهيم باشا ابن محمد علي أول من استقبله من الأمراء في الإسكندرية، ثم حظي بمقابلة الوالي محمد علي في القاهرة. وفي نفس العام أي 1831 كان الشيخ حسن العطار قد أصبح الامام الأكبر للجامع الأزهر بعد وفاة الشيخ الدمهوجي وهو ما عزز من مكانة الطهطاوي لدي الباشا ورجاله.
وكانت أولى الوظائف التي تولاها رفاعة بعد عودته العمل مترجمًا في مدرسة الطب، وهو أول مصري يشغل هذه الوظيفة، ومكث بها عامين، ترجم خلالهما بعض الرسائل الطبية الصغيرة، وراجع ترجمة بعض الكتب، ثم نقل سنة (1833م) إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) لكي يعمل مترجمًا للعلوم الهندسية والفنون العسكرية. ولما اجتاح وباء الطاعون القاهرة سنة (1834م) غادرها إلى طهطا، ومكث هناك ستة أشهر، ترجم في شهرين مجلدًا من كتاب بلطبرون في الجغرافيا، وعندما عاد إلى القاهرة قدم ترجمته إلى محمد علي، فكافأه مكافأة مالية.
مدرسة الألسن:
كان رفاعة الطهطاوي يأمل في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية، وإعداد طبقة من المترجمين المجيدين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب، وتقدم باقتراحه إلى محمد علي ونجح في إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة الألسن، مدة الدراسة بها خمس سنوات، قد تزاد إلى ست. وافتتحت المدرسة بالقاهرة سنة (1835م)، وتولي الطهطاوي نظارتها، وكانت تضم في أول أمرها فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية.
وقد بذل رفاعة جهدًا عظيمًا في إدارته للمدرسة، وكان يعمل فيها عمل أصحاب الرسالات ولا يتقيد بالمواعيد المحددة للدراسة، وربما استمر في درسه ثلاث ساعات أو أربعا دون توقف واقفًا على قدميه دون ملل أو تعب يشرح لهم الأدب والشرائع الإسلامية والغربية. وقد تخرجت الدفعة الأولى في المدرسة سنة (1255هـ = 1839م) وكان عددها عشرين خريجًا، وكانت مترجمات هؤلاء الخريجين قد طبعت أو في طريقها إلى الطبع.
وقد اتسعت مدرسة الألسن، فضمت قسمًا لدراسة الإدارة الملكية العمومية سنة (1844م)، لإعداد الموظفين اللازمين للعمل بالإدارة الحكومية، وقسمًا آخر لدراسة الإدارة الزراعية الخصوصية بعد ذلك بعامين، كما ضمت قسمًا أنشئ سنة (1847م) لدراسة الشريعة الإسلامية على مذهب أبي حنيفة النعمان لإعداد القضاة، وأصبحت بذلك مدرسة الألسن أشبه ما تكون بجامعة تضم كليات الآداب والحقوق والتجارة.
وظل جهد رفاعة يتنامى؛ ترجمةً، وتخطيطاً، وإشرافاً على التعليم والصحافة.. فأنشأ أقساماً متخصِّصة للترجمة (الرياضيات - الطبيعيات - الإنسانيات) وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد، ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية. وكانت ضمن مفاخره: استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية (وهي العلوم والمعارف التي تدرَّس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبية) وإصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلاً من التركية؛ هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته.
وكان رفاعة الطهطاوي يقوم إلى جانب إدارته الفنية للمدرسة باختيار الكتب التي يترجمها تلاميذ المدرسة، ومراجعتها وإصلاح ترجمتها.
الإقصاء إلى السودان:
ظلت المدرسة خمسة عشر عامًا، كانت خلالها مشعلاً للعلم، ومنارة للمعرفة، ومكانًا لالتقاء الثقافتين العربية والغربية، إلى أن عصفت بها يد الحاكم الجديد عباس الأول، فقام بإغلاقها لعدم رضاه عن سياسة جده محمد علي وعمه إبراهيم باشا وذلك في سنة (1849م)، كما أمر بإرسال رفاعة إلى السودان بحجة توليه نظارة مدرسة ابتدائية يقوم بإنشائها هناك، فتلقى رفاعة الأمر بجلد وصبر، وذهب إلى هناك، وظل هناك فترة دون عمل استغلها في ترجمة رواية فرنسية شهيرة بعنوان "مغامرات تلماك"، ثم قام بإنشاء المدرسة الابتدائية، وكان عدد المنتظمين بها نحو أربعين تلميذًا، ولم يستنكف المربي الكبير أن يدير هذه المدرسة الصغيرة، ويتعهد نجباءها برعاية خاصة.
عودة المشروع الثقافي:
وبعد وفاة عباس الأول سنة (1854م) عاد الطهطاوي إلى القاهرة، وأسندت إليه في عهد الوالي الجديد "سعيد باشا" عدة مناصب تربوية، فتولى نظارة المدرسة الحربية التي أنشأها سعيد لتخريج ضباط أركان حرب الجيش سنة (1277هـ = 1856م)، وقد عنى بها الطهطاوي عناية خاصة، وجعل دراسة اللغة العربية بها إجبارية على جميع الطلبة، وأعطى لهم حرية اختيار أجدى اللغتين الشرقيتين: التركية أو الفارسية، وإحدى اللغات الأوربية: الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، ثم أنشأ بها فرقة خاصة لدراسة المحاسبة، وقلمًا للترجمة برئاسة تلميذه وكاتب سيرته صالح مجدي، وأصبحت المدرسة الحربية قريبة الشبه بما كانت عليه مدرسة الألسن
تحقيق التراث:
ولم يكتف رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامي، ونجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربي على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازي المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادي، ومقامات الحريري، وغير ذلك من الكتب التي كانت نادرة الوجود في ذلك الوقت.
غير أن هذا النشاط الدءوب تعرض للتوقف سنة (1861م) حيث خرج رفاعة من الخدمة، وألغيت مدرسة أركان الحرب، وظل عاطلاً عن العمل حتى تولى الخديوي إسماعيل الحكم سنة (1863م)، فعاد رفاعة إلى ما كان عليه من عمل ونشاط على الرغم من تقدمه في السن، واقتحم مجالات التربية والتعليم بروح وثابة يحاول أن يأخذ بيد أمته إلى مدارج الرقي والتقدم، فأشرف على تدريس اللغة العربية بالمدارس، واختيار مدرسيها وتوجيههم، والكتب الدراسية المقررة، ورئاسة كثير من لجان امتحانات المدارس الأجنبية والمصرية.
قلم الترجمة: -
ومن أبرز الأعمال التي قام بها رفاعة في عهد الخديوي إسماعيل نظارته لقلم الترجمة الذي أنشئ سنة (1863م) لترجمة القوانين الفرنسية، ولم يكن هناك من أساطين المترجمين سوى تلاميذ الطهطاوي من خريجي مدرسة الألسن، فاستعان بهم في قلم الترجمة، ومن هؤلاء: عبد الله السيد وصالح مجدي ومحمد قدري.
وكان مقر قلم الترجمة حجرة واحدة بديوان المدارس، ولم يحل ذلك دون إنجاز أعظم الأعمال، فترجموا القانون الفرنسي في عدة مجلدات وطبع في مطبعة بولاق، ولم تكن هذه المهمة يسيرة، إذ كانت تتطلب إلمامًا واسعًا بالقوانين الفرنسية وبأحكام الشريعة الإسلامية، لاختيار المصطلحات الفقهية المطابقة لمثيلاتها في القانون الفرنسي.
دور الطهطاوي في النهضة الصحافية:
ويعتبر الطهطاوي أول منشئ لصحيفة أخبار في الديار المصرية حيث قام بتغيير شكل جريدة (الوقائع المصرية) التي صدر عددها الأول في سنة 3 ديسمبر 1828م أي عندما كان الطهطاوي في باريس لكنه لما عاد تولى الإشراف عليها سنة 1842م وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية حيث جعل الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية، وأول من أحيا المقال السياسي عبر افتتاحيته في جريدة الوقائع، أصبح للجريدة في عهده محررون من الكتاب كان من أبرزهم أحمد فارس الشديق، والسيد شهاب الدين.
وفى هذه الفترة تجلى المشروع الثقافي الكبير لرفاعة الطهطاوي؛ ووضع الأساس لحركة النهضة التي صارت في يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه، ونختلف حوله يسمى الأصالة أم المعاصرة! كان رفاعة أصيلاً ومعاصراً من دون إشكالٍ ولا اختلاف، ففي الوقت الذي ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربي، ونصوص العلم الأوروبي المتقدِّم؛ نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.
وحين عهد علي مبارك ناظر المدارس إلي رفاعة بإصدار مجلة روضة المدارس، سنة (1870م) جعل منها منارة لتعليم الأمة ونشر الثقافة بين أبنائها، فقد نظمها أقسامًا، وجعل على رأس كل قسم واحدًا من كبار العلماء من أمثال عبد الله فكري الأديب الكبير، وإسماعيل الفلكي العالم الرياضي والفلكي، ومحمد باشا قدري القانوني الضليع، وصالح مجدي، والشيخ حسونة النواوي الفقيه الحنفي المعروف، وغيرهم، وكانت المجلة تنشر مقالات تاريخية وجغرافية واجتماعية وصحية وأدبية وقصصا وأشعارا، كما كانت تنشر ملخصًا لكثير من الدروس التي كانت تلقى بمدرسة "دار العلوم".
واعتادت المجلة أن تلحق بأعدادها كتبًا ألفت لها على أجزاء توزع مع كل عدد من أعدادها بحيث تكون في النهاية كتابًا مستقلاً، فنشرت كتاب "آثار الأفكار ومنثور الأزهار" لعبد الله فكري، و"حقائق الأخبار في أوصاف البحار" لعلي مبارك، و"الصحة التامة والمنحة العامة" للدكتور محمد بدر، و"القول السديد في الاجتهاد والتجديد" للطهطاوي.
وكان رفاعة قد بلغ السبعين حين ولي أمر مجلة الروضة، لكنه ظل مشتعل الذكاء وقاد الفكر، لم تنل الشيخوخة من عزيمته، فظل يكتب فيها مباحث ومقالات حتى توفي في (الأول من ربيع الآخر 1290هـ / 27 مايو 1873م).
وعلى الرغم من كثرة المسئوليات التي تحملها رفاعة وأخذت من وقته الكثير، فإنه لم ينقطع عن الترجمة والتأليف فيما يعود بالنفع على الأمة، ولم يقض وقته إلا فيما فيه فائدة، وقد وصفه تلميذه النابه صالح مجدي بأنه "قليل النوم، كثير الانهماك على التأليف والتراجم". وقد بدأ رفاعة إنتاجه الفكري منذ أن كان مبعوثًا في فرنسا، ومن أهم كتبه:
- مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية
- المرشد الأمين في تربية البنات والبنين
- أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل
- نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، وهو آخر كتاب ألفه رفاعة، وسلك فيه مسلكا جديدا في تأليف السيرة النبوية، كما أخذ يفند فيه مزاعم المستشرقين في هجومهم علي النبي محمد صلي الله عليه وسلام.
أما الكتب التي قام بترجمتها فهي تزيد عن خمسة وعشرين كتابًا، وذلك غير ما أشرف عليه من الترجمات وما راجعه وصححه وهذبه.
علاقة رفاعة الطهطاوي بالسلطة: -
جاء ميلاد رفاعة الطهطاوي من رحم السلطة، وبالتالي فلم يكن من الممكن أن يتصدي هذا المثقف لهذه السلطة وأن يطلب منها ما يري أنه مخالف لها، ولذلك فقد كان نجاح الطهطاوي يكمن في قدرته علي أن يطور مشروعه الثقافي من خلال هذه السلطة وليس بالمواجهة معها، فأهمية رفاعة الطهطاوي في الفكر المصري لا تتمثل في أنه أول مفكر ليبرالي في مصر، وإنما تتمثل في أن هذا المفكر كان سابقاً لعصره، فالفكر الليبرالي الحر لا ينشأ من فراغ، وإنما تنشئه ظروف المجتمع الاقتصادي التي يمر بها، ولم تكن ظروف المجتمع المصري لتستطيع إفراز مفكر ليبرالي ثوري، ذلك أن نظام محمد علي الاحتكاري والمركزي السلطوي قضي علي ظهور مثل هذا المفكر الليبرالي الثوري (عمر مكرم)، وكان مشروع الدولة الحديثة علي يدي محمد علي قد قضي على احتمال قيام طبقة رأسمالية مصرية ذات شأن كبير، يمكنها أن تحمل هذا الفكر، وعلي الرغم من ذلك فقد كان تخليص الابريز الذي طبع في العام 1834 هو البشارة الطهطاوية بمصر الجديدة الليبرالية التي لم يراها، فهو لم يكن رسولاً لأحدي الطبقات الاجتماعية القائمة في الواقع،
من الممكن لقد رضي محمد علي ومعظم أبنائه الولاة عن الشيخ رفاعة الطهطاوي فقد بلغت ثروته يوم وفاته 1600 ألف مائة فدان غير العقارات وهذه ثروته كما ذكرها علي مبارك باشا في خططه:
• أهدى له إبراهيم باشا حديقة نادرة المثال في (الخانقاة). وهي مدينة تبلغ 36 فداناً.
• أهداه محمد علي 250 فداناً بمدينة طهطا..
• أهداه الخديو سعيد 200 فدانا..
• وأهداه الخديو إسماعيل 250 فداناً..
وأما حركة التعليم والبعثات في عهد محمد علي، فلم تكن إفرازاً لتطورات بورجوازية، وإنما كانت إفرازاً لنظام محمد علي الاحتكاري ولخدمة هذا النظام، وبمعني أخر أن هذه الطبقة المتعلمة التي أنشاها محمد علي كان الغرض منها أن تكون طبقة بيروقراطية يستعين بها محمد علي في القيام بأعمال الإدارة والعمران في الدولة، وتكون في خدمة هذه الدولة، ومعروف أن الأفكار الليبرالية تنشأ مستقلة عن الدولة الاستبدادية، ولا تشع منها، أي علي العكس من الأفكار البيروقراطية التي تنشأ داخل الدولة، كما ان هذه الأفكار الليبرالية التي تكون نقيضاً للأفكار البيروقراطية التي تترعرع عادة في مناخ الحكم المطلق، تحتمي به من سلطة الأمة ورقابة الشعب.
في مثل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية ظهر رفاعة الطهطاوي مفكراً تقدمياً ليبرالياً، فعن طريق رفاعة عرف المصريون نظم الحكم الغربية، وعرفوا لأول مرة كيف يمكن أن تتكتل الطبقات حول مبادئ سياسية واقتصادية عامة، وتنقسم إلي أحزاب متصارعة حول هذه المبادئ، وبالتالي انتقلت إليهم صورة متقدمة من العمل السياسي في الغرب، وكيف يمكن أن تتقيد سلطة الحكم بدستور يجعل منها رمز يملك ولا يحكم.
وقد عرف المصريون هذا الدرس في وقت مناسب تماماً، وحين أخذ الاستعمار الأوربي يتغلغل في صورته الاقتصادية تغلغلاً كبيراً في مصر، في مناخ الحكم المطلق الذي ضيع مصالح البلاد في نهاية الأمر فكان الفكر الليبرالي، وكان الحكم الدستوري بالمعني الغربي كما قدمه الطهطاوي جاهزاً كنظرية يستمد منها المصريون مبادئ كفاحهم للتغلب على الحكم المطلق من جهة، وعلى السيطرة الاستعمارية من التي تحولت إلى سيطرة سياسية من جهة أخري، وكانت الثورة العربية هي بداية دخول هذا الفكر الثوري في مرحلة التطبيق. لقد كان الطهطاوي في كل أطوار حياته معلمًا ومربيًا بالفطرة والسليقة، بدأ حياته شيخًا يتحلق حوله طلبة الأزهر، وأنهى حياته معلمًا للأمة، لا يرى سبيلا لتقدمها إلا بالعلم يتاح لكل الناس لا فرق فيه بين غني وفقير أو ذكر وأنثى، وبذل من نفسه ما بذل من جهد لتحقيق هذا الغرض، ووضع الكتب والمؤلفات التي تعين على ذلك.
والحق أن أعظم ما قدمه رفاعة الطهطاوي كان تلاميذه النوابغ الذين حملوا مصر في نهضتها الحديثة، وقدموا للأمة أكثر من ألفي كتاب خلال أقل من أربعين عامًا، ما بين مؤلف ومترجم.



#حسام_محمد_عبد_المعطي_أحمد_-_كلية_الآداب_والعلوم_-_جامعة_قطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام محمد عبد المعطي أحمد - كلية الآداب والعلوم - جامعة قطر - رفاعة الطهطاوي رائد التنوير المصري