أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - المصطفى حميمو - حرية الشعوب بين الوازع الديني والفكر التنويري















المزيد.....



حرية الشعوب بين الوازع الديني والفكر التنويري


المصطفى حميمو

الحوار المتمدن-العدد: 7533 - 2023 / 2 / 25 - 11:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



المصطفى حميمو
1) مآل مطلب الحرية عبر ثورات الربيع العربي


منذ مدة أصبحنا نرى ونسمع شعوبا عربية هنا وهناك تطالب بالحرية. فما المقصود بالحرية ؟ بحسب جان جاك روسو، المواطن الحر هو : "المواطن السيّد souverain الذي لا يخضع لإرادات وأهواء الناس بل للقوانين" . والسيّادة تكون من نصيب من يشرع. فالمواطن السيّد هو الذي يشارك في التشريع في وطنه، إما بصفة مباشرة عن طريق الاستفتاء أو عن طريق ممثليه في المجلس التشريعي. وعليه يبقى الشعب الحر هو الذي يتشكل كله من المواطنين الأحرار. فهذا هو تعريف الشعب الحر المتعارف عليه حتى اليوم.

وبالأمس القريب، وفقط خلال النصف الثاني من القرن الماضي، انتقل نظام الحكم في كل من إسبانيا والبرتغال واليونان من قبضة الاستبداد العسكري إلى الحكم المدني النيابي الديمقراطي، من دون ضجيج ولا مشاكل تذكر. وحصل الشيء نفسه بدول شرق أوروبا منذ سقوط جدار برلين سنة 1989 . في فقط المغرب خرج سالما من ثورات ما عُرف بالربيع العربي سنة 2011، بمراجعة لدستوره. تبعتها انتخابات تشريعية فاز فيها الحزب ذو المرجعية الإسلامية مرتين متتاليتين بالرتبة الأولى وبفراق كبير في الأصوات بينه وبين الحزب الثاني، وترأس فيهما الحكومة وفق مقتضيات الدستور الجديد. ولايتان تحالف فيهما مع عدة أحزاب بما فيها حزب يساري كان خصما عنيدا له.

وفي الانتخابات التشريعية الثالثة تفاجأ نفس الحزب بنزوله إلى مرتبة جد متدنية من دون أن يُسمع منه أي اعتراض على نتائجها. الأمر الذي يدل على ما يظهر أن التناوب الطبيعي على السلطة بالبلاد صار يتم بشكل سليم كما هو الحال بالديمقراطيات العريقة، وأن الشعب، على ما يظهر مرة أخرى، صار بوعيه السياسي يتحكم في اختيار من يحكمه، فيقدّم من يشاء ويؤخر من يشاء وبكل حرية. وأخذت البلاد مسارها العادي في النمو الاقتصادي والاجتماعي في ظل حياة سياسية تكاد لا تختلف عن مثيلاتها بالدول الديمقراطية.

أما باقي ثورات الربيع العربي فقد باءت جلها بالفشل. ومنها ما تحول إلى فوضى وانقلابات وحروب طاحنة، اللهم ثورة الياسمين بتونس التي، مع الأسف الشديد، لا تزال ديمقراطيتها هشة حتى يومنا هذا، وكأنها على كف عفريت. ففي الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبحسب ما سمعناه من مختلف وسائل الإعلام التونسية، قد تجنّد الشباب التونسي وعبّر عن سخطه من كل الأحزاب المتواجدة في الساحة السياسية لمّا قلب عليها الطاولة، وعلى غير عادته استعمل الصندوق بشكل كثيف، وانتخب الأستاذ الجامعي قيس سعيد رئيسا للدولة كمرشح مستقل من خارج المنظومة السياسية. لكن ماذا بعد ؟ والرجل المشهور عند الموالين له بأمانته وصدقه ليست له تجربة في الحكم، وصلاحياته وفق دستور ما بعد الثورة جد محدودة، ولا يزال يكرر هو بأن الحل ينبغي أن يأتي من الشعب كي يحقق ما يريده، ولا سيما من الشباب الذي ساهم بقوة في انتخابه في مقابل اعتراض قوي من قبل جل أطياف الطبقة السياسية وحتى من قبل اتحاد العام التونسي للشغل العتيد. ومؤخرا دستور الرئيس لم يحصل على التأييد الشعبي المنتظر. بل عرف نسبة مشاركة في الاستفتاء عليه جد متدنية تطعن في مشروعيته بحسب المعارضة.

ونفس الجيل من الشباب المتعلم بالمشرق العربي خرج للشارع متّحدا، ليلفظ هذه المرة كل الأحزاب التقليدية الطائفية، واصفا إياها بالفاسدة، ويرى الحل في حكومات تكنوقراط. لكن ماذا بعد ؟ ما عسى تلك الحكومة أن تصنعه، إن وُجدت أمينة وكُفأة، مع برلمان تتحكم فيه نفس الأحزاب الطائفية ؟ وهل الشعب السوداني خرج من عنق الزجاجة ؟ فأين يوجد الإشكال الذي يحول دون التحاق تلك الشعوب العربية بركب الشعوب الحرة بالعالم الحديث، مثل شعوب البرتغال وإسبانيا واليونان وأوربا الشرقية، وفقط في منتصف القرن الماضي ؟ التمسنا الجواب على ذلك السؤال في ما كُتب بالغرب عن الشعوب الحرة كما عرّفناها آنفا. فوجدناها تعرفها بشكل أوضح عبر تصنيف الشعوب بين حرة ووضيعة. كيف ذلك ؟ الجواب في المقال القادم.

2) تصنيف الشعوب بين حرة ووضيعة

في مقدمة المقال السابق عرفنا المقصود بالحرية لما قلنا أنه بحسب جان جاك روسو، المواطن الحر هو : "المواطن السيّد souverain الذي لا يخضع لإرادات وأهواء الناس بل للقوانين" . والسيّادة تكون من نصيب من يشرع. فالمواطن السيّد هو الذي يشارك في التشريع في وطنه، إما بصفة مباشرة عن طريق الاستفتاء أو عن طريق ممثليه في المجلس التشريعي. وعليه يبقى الشعب الحر هو الذي يتشكل كله من المواطنين الأحرار. فهذا هو تعريف الشعب الحر المتعارف عليه حتى اليوم.

ثم تساءلنا عن سبب نجاح الانتقال من أنظمة الحكم الاستبدادي إلى الحرية في النصف الثاني من القرن الماضي في كل من إسبانيا والبرتغال واليونان وبلدان أوروبا الشرقية، ثم تعذر بالوجه المطلوب بجل بلدان ما عرف بالربيع العربي منذ سنة 2011. ونلتمس الجواب عنه هنا في ما كتب بالغرب عن الشعوب الحرة كما ذكّرنا بتعريها أعلاه. ووجدناها تصنف الشعوب بين حرة ووضيعة. كبف ذلك ؟

تاريخ الشعوب الحرة قد أُشبِع بحثا في أوروبا منذ القرن الثامن عشر، ولا سيما طوال القرن التاسع عشر. وقد أدت تلك البحوث دورها الثقافي والتربوي هناك، فكف البحث فيه. وهذا ما يفسر قدم المراجع التي اعتمدناها في تدوين هذه الخواطر. لكنه مجال لا يزال البحث فيه عندنا، وعلى حد علمي، لم يحظى بعدُ بما يستحقه من الاهتمام.

فبحسب البحوث الأوروبية في تاريخ الشعوب الحرة، الإشكال لما يوجد، فيوجد في أحوال الشعوب ولا سيما في أحوال فئتيه المتوسطة الحال والبسيطة، وليس بالأساس في الحكام وأنظمة الحكم. ففي كتابه ESSAIS SUR L’HISTOIRE DE FRANCE يقول المؤرخ الفرنسي فرنسوا ڭيزو : "إنها حالة الشعب التي ينبغي فحصها أولاً وقبل كل شيء، لمعرفة نظام الحكم الذي يليق به، ولمعرفة طبيعة الحكم القائم في واقعه" .

أما الدساتير، فمهما كانت جيدة، فلا تغير شيئا في واقع الشعوب، إلّم تكن هي متشبعة بقيم الحرية. وذلك ما يزكيه المؤرخ الفرنسي لابولاي منذ القرن التاسع عشر بقوله في كتابه Histoire politique des États-Unis: "إذا لم يكن المواطنون أولا متعوّدين على الحرية في حياتهم اليومية، ثم إذا لم تكن الحرية عندهم حاجة من حاجيات القلب، فالدستور الأكثر كمالًا ولبرالية هو مجرد وهم خطير. وتجربة أمريكا اللاتينية تكفي لإثبات ذلك" . ومن المعلوم في هذا الصدد أن دستور إيران في عهد الشاه اشتهر بكونه تقربا نسخة طبق الأصل لدستور بلجيكا سنة 1830، ومع ذلك... ومرة أخرى كلمة الشعب هنا تعني الفئة المتوسطة ولا سيما الفئة البسيطة التي تشكل غالبية أفراد المجتمع. وكما تقدم، الشعوب الحرة هي التي يشارك أفراد كل منها في التشريع مباشرة أو عبر ممثليهم في المجالس التشريعية.

لكن هذا المفهوم للحرية ظل غريبا عن الموروث الثقافي والسياسي بالعالم العربي والمسلم. فمما جاء بخصوصه عند المتأخرين من العرب والمسلمين، قول الدكتور العروي في كتابه مفهوم الحرية : "يقول المؤرخ المغربي الشهير أحمد الناصري: واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعًا؛ لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسًا". جاء ذلك في كتاب الاستقصا. ثم يعلق عليه الدكتور العروي بقوله : "ويمكن أن نسوق أمثلة تدل على عدم استيعاب مفهوم الحرية الأوروبي عند مؤلفين أكثر التصاقا بالفكر الغربي مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي " . وعليه، فقد كانت مطالبة العرب والمسلمين قديما بالحديث عن نفس الحرية كمطالبة الضرير بأن يحدثك عن الألوان. وهي نفس الحرية التي أصبحت منذ 2011 مطلب فئات عريضة من شباب الشعوب العربية والمسلمة، بما فيها شبيبة العديد من الحركات الإسلامية.

وما دام الشعب الحر، بحسب التعريف المتداول حتى اليوم، هو المشكّل كله أو جله من المواطنين الأحرار، فماذا يقابله في أدبيات المؤرخين والفلاسفة الغربيين ؟ مما قال عنه مونتسكيو في كتابه ESPRIT DES LOIS وهو يتحدث عن الصينيين : "على الرغم من مناخ الصين، حيث يميل المرء بشكل طبيعي إلى الطاعة المُذلة ..." . فيقابل إذا الشعب الحر ذلك الشعب الذي يميل إلى الطاعة المذلة.

لكن مونتسكيو الذي كان يعرف جيدا الشعوب الحرة من حول بلده وفي عصره، كشعوب كل من سويسرا وهلندا وأنڭلترا، كان من المفروض فيه أن يدرك تواجد العديد من الشعوب الميّالة إلى الطاعة المذلة في أوروبا نفسها، وبخاصة في وطنه فرنسا، حيث بلغ الاستبداد ذروته في زمانه مع الملك لويز الرابع عشر. ويؤكد ذلك طوكڤيل في كتابه DE LA DEMOCRATIE EN AMERIQUE، بقوله : "على الرغم من خضوع شعب النظام القديم l’ancien régime لإرادة الملك، فقد كان عندهم نوع من الطاعة المطلقة التي لم يكونوا يشعرون بها. لم يعرفوا معنى الخضوع لسلطة غير شرعية ومعترض عليها ولا تستحق التقدير بل محتقرة. الإحساس بهذا الخضوع المهين ظل غريبًا عن وجدانهم" . هكذا طاعة الشعوب المذلة كما وصفها المؤلفان لا علاقة لها بطبيعة شعب دون آخر ولا بالمناخ كما كان يتصور ذلك مونتسكيو.

لكن في مقابل الحرية، كما عرّفها روسو أعلاه وكما هو متعارف عليها حتى اليوم، بماذا ينبغي توصيف الطاعة المذلة. وصفها المؤرخ الفرنسي فرنسوا ڭيزو بالوضاعة la servitude. وذلك لما قال : "عندما لا يمكن للناس أن يجدوا الحماية والأمن سوى مع أفراد آخرين أقوياء، أمران يفرضان نفسهما، هما الاستبداد الأرستقراطي والوضاعة" . فتقابل الحرية الوضاعة. ويقابل الشعب الحر الشعب الوضيع le peuple servile. الشعب الوضيع إذا هو الذي عند كل أفراده أو عند جلهم قابلية للطاعة المذلة.

وصحيح أن هناك إحراج في توصيف أي شعب بالوضاعة. إحراج كالذي حصل لأليكسيس طوكڤيل لما قال في نفس الكتاب، في حق شعبه الفرنسي من قبل الثورة : "علينا ألا نهين آباءنا، ليس لنا الحق في ذلك" . وهو الذي وصفهم بالوضاعة كما تقدم، فصار يبحث لهم هنا عن أعذار حتى لا يظهر بمظهر المسيء لهم. لكن المؤرخ الفرنسي ڭيزو لم يجد حرجا في ذلك لما وصف الشعب الوضيع حتى بالقطيع، لما قال في نفس الكتاب : "يجب على الشعوب الوضيعة أن تتحمل تبعات مصيرها. فلا ينبغي أن يُنسب كل شيء إلى السادة أصحاب القطيع. الكراهية التي يستحقها الطاغية لا تُنجي من الاحتقار للأمم غير القادرة على الحرية" . وطوكڤيل يعترف بأن المستبدين أنفسهم يقدّرون قيمة الحرية حق قدرها، لكنهم يرون أن شعوبهم لا تستحقها. اعترف بذلك لما قال في نفس الكتاب : "المستبدون أنفسهم لا ينكرون أن الحرية ممتازة. هم فقط يريدونها لأنفسهم، ويُصرون على أن غيرهم لا يستحقونها" . ومعنى ذلك أن المستبدين أحرار ويحتقرون شعوبهم بقدر ما يحتقر السيد الحر عبيده.

ومن تاريخ الشعوب الحرة، نستنتج أن كل شعب وضيع لا ينتظم ولا يستقر سوى تحت نيْر الاستبداد، فيطلبه. حتى أنه يحب المستبدين به كحب الأسرة للأب المستبد بها. ويقدس الأشخاص بدلا من تقديس القانون والمؤسسات. ومنه نستفيد أيضًا بأن الشعب الوضيع لا يستطيع إقامة دولة الحق والقانون سوى من بعد تحرّره من وضاعته. فتحرير العقول من داء الوضاعة شرط ضروري لتحرير الأبدان من الاستبداد. لكن لماذا لا ينتظم ويستقر الشعب الوضيع سوى تحت نيْر الاستبداد ؟

بحسب طوكڤيل، وفي نفس الكتاب، وضاعة الشعوب تعني ذلك الخضوع المطلق، الذي يرى فيه الإنسان الحر والشعب الحر إهانة للكرامة الإنسانية. ومنه وضاعة العبيد والأقنان.

3) تقلب الشعب الوضيع بين الفوضى ونيْر الاستبداد

لكن الشعب الوضيع من جهته لا يرى في وضاعته سوى الخضوع الواجب والضروري للرجل القوي الذي باستبداده يحتكر القوة كي يؤمن له استقراره بعيدا عن الاحتكام إلى قوة أفراده لفض النزاعات فيما بينهم، وإلا ساد بينهم قانون الغاب، حيث القوي يفترس الضعيف. فهو مجتمع يستسلم للاقتتال بين القوات الفردية في غياب القوة العمومية المحتكرة التي تقمعها . اقتتال مستمر يغذيه خوف من لهم أموال وممتلكات وأعراض للدفاع عنها من جهة وبين من يريدون الاستحواذ عليها بالحيلة أو بالسلاح من جهة ثانية. والوضاعة لا تقتصر على فئة من الشعب الوضيع، بل قد تخترق كل فئاته، فتصيب حتى عليّة القوم. هكذا الشعب الوضيع يكون في حاجة ماسة للشخص القوي المستبد به، وقد يحبه بكل صدق. وإذا ما كرهه وعزم على خلعه، ففقط لاستبداله بمستبد آخر أقل منه قسوة عليه. وذلك بدلا من تقديس الحق والقانون الذي بسبب وضاعته لا يؤمن به ولا بجدواه. بل بحسب جان جاك روسو دائما، وكما سنرى ذلك لاحقا، الشعب الوضيع لا يطيق الامتثال الطوعي للقانون الذي تتطلبه أجواء الحرية.

لكن الشعوب الوضيعة لا تعي وضاعتها، فلا تستخف بنفسها. يحتقرها فقط المستبدون بها والشعوب الحرة التي تحكم نفسها بنفسها. فوضاعة الشعوب داء مثل الأمراض التي لا يشعر بها ولا يعيها المصاب بها كما أكد ذلك طوكڤيل. فليس من شتيمة في توصيف الشعب الوضيع بالوضاعة. الشعب الوضيع ليس مُذنبا بل هو ضحية وضاعته. وليس في توصيفه بالوضاعة كذلك من تبخيس لقدره. فهو بوضاعته مثل العبد، لكنه لا يشعر بذلك. فليس له من قدر أصلا، حتى يُبخّس. لكن يبقى في ذلك التوصيف قسوة. إلا أنها قسوة المرض وليست قسوة من يشخص المرض. وفي ظل الاستبداد غالبا ما تتميز الشعوب الوضيعة بالطيبوبة. لكن ما أن تزول قبضته من حول رقبتها حتى تعمها الفوضى وتسقط في المحظور الذي لا يطاق. فلا يلام المستبدين بها، بل تكون ممتنة لهم على توفير الأمن والاستقرار بين أفرادها وإن بباهظ الأثمان.

وقد يُستضعف الشعب الحر ثم يصير وضيعا. فيقول روسو في ذلك : "عندما يستبد رجل واحد بالسلطة السيادية، يسقط الشعب في حالة الوضاعة الرهيبة. حينها الرجل الحر حقًا، والمواطن السيّد souverain الذي لا يخضع لإرادات وأهواء الناس بل للقوانين، لا بد من أن تضمحل عزّته وأنفته من يوم لآخر حتى تختفي تماما" .

لكن يحصل ذلك للشعب الحر فقط لما لا يكون محصنًا بما يكفي من القناعات والمعتقدات كي يحافظ على كرامته وعزته بالرغم من الاستبداد به. وإلا ما أن يصير وضيعا حتى بفقد نضجه ويصبح غير أهل للتمتع بالحرية من جديد. بل لما يصير وضيعا فقد يفقد أمنه وسكينته كلما زالت قبضة نيْر الاستبداد من حول رقبته. حينها تجده يبحث عن مستبد جديد ليعيد له هدوؤه واستقراره. وهذا ما أكده مرة أخرى المؤرخ الفرنسي فرنسوا ڭيزو لما قال : "عندما لا يمكن للناس أن يجدوا الحماية والأمن سوى مع أفراد آخرين أقوياء، أمران يفرضان نفسهما، هما الاستبداد الأرستقراطي والوضاعة" .

فمرة أخرى، لا يمكن إرساء دولة الحق والقانون إلا عندما يتحرر الناس من داء الوضاعة ويصبحون ناضجين بدرجة كافية ليكونوا شعبا ذا سيادة. وإلا سقطوا في الفوضى والتسيب، لأنهم ليسوا ناضجين بما فيه الكفاية كي يتصرفوا كشعب راشد ومسؤول في بيئة تسود فيها الحرية.

ونسوق مثالا على ذلك من تاريخ الأندلس ومن خلال شهادة الأمير عبد الله بن بلقين، رابع وآخر ملوك الطوائف بغرناطة. نسوق لك حديثه عن حال أهالي مدينة البيرة، كأنموذج على حال باقي أهالي مدن وحواضر الأندلس سنة 422 هـ، لما أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية بسقوط دولة الحاجب محمد بن أبي عامر المنصور. فصارت البلاد من دون مستبد بشعبها ليقودها، كالسفينة في الحر من دون ربان، وسقطت في الفوضى. يقول الأمير عبد الله بن بلقين في كتاب التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة: "كان أهل البيرة في بسيط من الأرض. وكان بهم من الغش بعضهم لبعض ما إن الرجل منهم ليتخذ بإزاء داره مسجدا وحماما فرارا من جاره. لا يرجعون إلى طاعة ولا إلى حكم وال . وكانوا مع هذا من أجبن الناس" . فصار كبار القوم بالمدينة يستجدون استبداد قائد حامية الجيش من البربر حينها، كي يحمي الناس بسلطته المطلقة من شر و بأس بعضهم على بعض. وقال في ذلك الأمير ابن بلقين : "فجاؤوا شاكين مما هم فيه. ويقولون إن كنتم جاهدتم قبل اليوم فهذا الجهاد آكد عليكم : أنفس تحيونها، وديار تحمونها، وعزة تأوون إليها. ونحن شاركوكم بأموالنا وأنفسنا. لكم منا الأموال والسكنى، ولنا منكم الحماية والذب عنا" .

لكن ما أن يستتب الأمر للمستبد الجديد حتى يجد نفسه باقيا في صراع أفقي على الحكم مع غيره من بين أنداده. فيحتاج للمزيد من القوة للاحتفاظ به. والقوة تحتاج إلى المزيد من الأموال. وكان للمستبدين مصدران لتلك الأموال. واحد قارّ ويكمن في مختلف الجبايات الضريبية. والثاني ظرفي، ويتشكل من غنائم الانتصارات في الغزو والحروب ومن التوسع في الأمصار ما وراء الحدود. وفي كلا الحالتين يؤدي الشعب الوضيع ثمن أمنه واستقراره غاليا. في الأول يؤديه تحت الضغط الضريبي من مكاسب عرق جبينه. فانظر في ذلك مثلا الجرد لمختلف الضرائب والمكوس في كتاب الخراج لأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة. والثاني يؤديه من دم أبنائه.

وللمزيد من التدليل على تحول ثورات الشعوب الوضيعة إلى فوضى، نسوق مثالا آخر من تاريخ فرنسا هذه المرة. عاش الفرنسيون تحت نيْر الاستبداد منذ أن غزى بلادهم الجنرال الروماني يوليوز القيصر ، عقودا قبل الميلاد. وكانوا من قبل الثورة سنة 1789م ومن بعدها ينبهرون بما يرونه من بريق التقدم في كل المجالات، كلما زاروا بلدان الشعوب الحرة من حولهم، كجمهورية البندقية والأقاليم السبعة بهولندا وسويسرا وبريطانيا. لكن، فيما عدا النخب المتعلمة والمثقفة من بينهم، كانوا مثلهم مثل غالبية الشعوب الوضيعة اليوم عندما يزورون أو يقيمون أو حتى يتجنسون بجنسيات الشعوب الحرة. كانوا يتوهّمون أن طبيعتهم مختلفة عن طبيعة تلك الشعوب الحرة من حولهم. لكن كما تقدم، النخبة الفرنسية المثقفة كانت تدرك جيدا أن الذي صنع الفرق بين بلدها وتلك البلدان من حولها هو الحرية، وفقط الحرية. وتلك النخبة من النبلاء ومن الطبقة البرجوازية هي التي قادت الثورة من بعد ما شارك بعضها مثل هنري لافايات في حرب استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا الوطن الأم سنة 1776. لكن لما ظلت ثورتها تتعثر أدركت أن الحرية التي تدافع عنها كانت قضية تلك النخبة فقط وما كانت قضية الأمة الفرنسية بأكملها. لم تعرف أمتهم منذ قرون سوى التقلب بين سوء الاستبداد ومآسي الفوضى مع استفحال الفقر والأمية بين أبنائها. كانت متشبعة تأويلات للنصوص الدينية التي تبرر لها وضاعتها بالافتراء على صحيح الدين، لما كانت تُعلمها أنه من حق الملوك أن يحكموا شعوبهم حكما مطلقا بالحق الإلهي، فلا يصح الاعتراض عليهم مهما فعلوا.

فأي ثورة تقودها النخبة المستنيرة من الشعب الوضيع لتخليصه من نيْر الاستبداد وإقامة دولة الحق والقانون محكوم عليها بالفشل. وهذا ما أكده روسو عقودا قبل الثورة الفرنسية بقوله ساخرا : "أضحك من الشعوب الوضيعة التي تنجرّ من وراء صخب وحماس الثوريين، وتجرؤ على التحدث عن الحرية دون أن يكون لديها أية فكرة عنها. في حين قلوب ناسها مليئة بكل رذائل العبيد. وتجدهم يتخيلون أنه يكفيهم أن يكونوا متمردين كي يصبحوا أحرار" . ثم بنفس الأسلوب الساخر للغاية، ينتقدهم وهو يخاطب الحرية ليقول لها : "أيتها الحرية العزيزة والمقدسة، لو كان بإمكان هؤلاء الناس المساكين أن يعرفوك وأن يعرفوا بأي ثمن يتم الحصول عليك والحفاظ عليك، لو أدركوا مدى صرامة قوانينك ألأشد عليهم من نيْر الطغاة، فإن أنفسهم الضعيفة، والخاضعة للأهواء التي يجب خنقها، سوف تخشاك مائة مرة أكثر من خشيتها للعبودية. ستهرب منك وكأنك عبء ثقيل من فوقها جاهز ليسحقها" . في كلامه هذا قسوة شديدة على شعبه الفرنسي حينها. لكن ما تحرج منه في التعبير عنها. وقد تحققت تنبؤاته.

فبمجرد الانتهاء من الإطاحة بالمستبد، وجد الثوار الفرنسيون أنفسهم قد ورثوا من ثورتهم شعبا وضيعا تائها وهائما على وجهه لا يدري معنى الحرية التي وجد نفسه فيها، ويبحث عمّن يستبد به من جديد كي يعيد له أمنه واستقراره. شعب ما كان يعرف معنى الحرية، فلم يبادر بطلبها، وإنما انساق بأعين مغمضة من وراء النخبة المستنيرة والمنادية بها حتى وجد نفسه في حالة من الفوضى. حينها، دخلت النخبة الثورية في صراع فيما بينها، يدمر بعضها البعض بحد المقصلة فأصبح الأقوى من بينها مستبدًا معيّنًا من أجل استعادة السلم والهدوء للشعب المسكين. فهذا هو ما آلت إليه الثورة الفرنسية، من بعد ما قامت تلك المقصلة بعملها في حق الثوار وعلى يد الثوار أنفسهم ومن بد ما سالت دماء الفرنسيين أنهارا وببشاعة وهمجية أحيانا كثيرة كتلك التي كان ضحيتها أهالي منطقة ﭬاندي غرب البلاد. وما هدأت الأوضاع حتى صار الجنرال نابليون بونابارت قنصلا ثم إمبراطورا منفردا بكل السلط من بعد عشر سنين من الفوضى والاضطرابات. فالرغبة في إقامة دولة الحق والقانون مع شعب وضيع، يعني وضع العربة أمام الحصان.

ينبغي البدء بتحرير عقول الشعوب من وضاعتها. وهذه هي وجهة النظر الحكيمة لنفس الفيلسوف الفرنسي روسو، لما قال : "إن تحرير الشعوب عملية نبيلة وعظيمة. لكنها جريئة ومحفوفة بالمخاطر. فيجب على المرء ألا يخوضها بتهور. ومن بين الاحتياطات الواجب اتخاذها، هناك عملية لا غنى عنها، وقد تستغرق وقتًا طويلاً. في البدء ينبغي أن تصبح تلك الشعوب جديرة بالحرية وقادرة على تحمل كل متطلباتها" . ثم يخاطب النخب الثورية ليقول لها : "لكن أيا كان الأمر، ففكروا في أن أناسها رجال مثلكم، وأن لديهم نفس المقومات كي يصبحوا على ما أنتم عليه. فلا تعملوا على تحرير أجسادهم إلا من بعد أن تحرروا أرواحهم. من دون هذه المقدمة الأولية، تحسّبوا أن مآل عمليتكم هو الفشل" . لكن كيف يمكن تغيير حال الشعب الوضيع ؟ كيف يمكن له أن يتحرر من وضاعته كي يصبح ناضجًا بدرجة كافية يستحق معها أن يكون صاحب السيادة في وطنه ؟ التمسنا الجواب عن هذا السؤال في نفس الأدبيات الغربية التي أشبعت الموضوع بحثا في القرنين الثمن والتاسع عشر. وذلك هو موضوع المقال القادم.

4) تحرير العقول من داء الوضاعة قبل تحرير الأبدان من نيْر الاستبداد

بحسب الأدبيات الغربية دائما لم يكن ذلك ممكنًا فحسب، بل قد حدث بالفعل، لكن في الماضي البعيد وحتى القريب. لقد حدث مثلا في المدن العتيقة والوثنية باليونان وبإيطالية، كما سنراى ذلك مع مكيافلي. وحدث مع اليهود أيضا، كما سنرى ذلك وفق وجهة نظر جان جاك روسو. وحدث كذلك مع المهاجرين من شمال إيطاليا إلى أرخبيل البندقية تحت ضغط هجمات القبائل الجرمانية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية. وحدث بفضل الإصلاح الديني البروتستانتي وفق ما جاء به تاريخ الشعوب الحرة بهولندا وبريطانيا ثم بمستعمراتها بشمال أمريكا، من قبل نشأة الولايات المتحدة. وله قصة في تاريخ المسلمين مع الرسول الكريم بمكة ثم بالمدينة المنورة.

ففيما عدا البندقية، لقد حدث ذلك التحوّل في باقي تلك الحالات بفضل مبدأ الحرية في معتقدات دينية وليس بفضل الفكر الفلسفي التنويري. شيء مذهل. ولكنه حقيقي. مذهل، لأن الثقافة الفرنسية المسيطرة عندنا تريد كل الأديان رجعية، وفقط الفكر وفلسفة الأنوار يشكلان طريقا سالكا للحرية وللخلاص من نيْر الاستبداد. لكنه أمر حقيقي باستقراء تاريخ الشعوب الحرة. فماذا عن كل من تلك الحالات مع اليهود وفي تاريخ الرومان الوثنيين ثم البروتستانت وأخيرا المسلمين من حول الرسول الكريم ؟

5) مبدأ الحرية في العقيدة اليهودية

بالنسبة لليهود، يقول جان جاك روسو في كتابه CONSIDÉRATIONS SUR LE GOUVERNEMENT DE POLOGNE: "تجرأ موسى على جعل هذه الجموع التائهة هيئة سياسية. جعل منها شعبا متحررا. بينما كانت هائمة على وجهها في الصحارى من دون حجر تضع رأسها عليه لتستريح". ويضيف قائلا : "أعطاها موسى هذه المؤسسة الدائمة التي لم تتمكن من تدميرها ولا حتى من تغييرها خمسة آلاف سنة من نوائب الدهر ومغريات الثراء وضربات الغزاة. وما تزال موجودة حتى اليوم بكل قوتها حتى عندما لم يعد جسد الأمة موجودا" .

فبحسب روسو، كان موسى عليه السلام بالنسبة لليهود رسول التحرر من الوضاعة كركن من أركان الإيمان بالله. تلك كانت القناعة الدينية التي غيّرت حالتهم من شعب وضيع إلى شعب متشبع بعشق الحرية في ظل هيئة سياسية قوية بما يكفي لتتحمل اختبار محن الدهر ومغريات الثروة واضطهاد الغزاة، وأن خمسة آلاف عام لم تكن قادرة على تدميرها أو على حتى تغييرها، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.

وبنظرنا للواقع في الماضي القريب وحتى من بعد عصره، ما كان روسو ليتصوّر كم كان محقا في ذلك. كل ملّاح وفي جميع أنحاء العالم، كان بمثابة بلدية حكم ذاتي عاش فيها أعيان اليهود كهيئة سياسية حرة تدير شؤونها العامة في استقلال عن سلطات بلدهم في الشتات. فغالبا ما كان اليهود في بلدانهم مستضعفين سياسيا، ولكن لم يُهضموا أبدا روحيا وعقديا ونفسيا. بذلك لم يكونوا راضين بوضعهم تحت نيْر الاستبداد، فلم يكونوا نفسيّا وضيعين. ولم يذوبوا في الشعوب التي كانوا يرونها مستأنسة بالاستبداد من حولهم. وتلك هي الصورة المعبّرة التي اعتمدها روسو عندما كان يتحدث عن بولندا المحتلة، لما قال في نفس الكتاب : "كانت هذه البلاد في أغلال الحديد الروسية. لكن البولنديين ظلوا أحرار. كانوا في القيود، لكنهم ظلوا يناقشون طرقا للحفاظ على أنفسهم أحرار" . ثم يخاطب البولنديين ليقول لهم : "لا يمكنكم منع الروس من استضعافكم، ولكن اعملوا على الأقل على ألا يهضموكم" . وهذه هي بالضبط الطريقة التي عاش بها اليهود دائمًا في أحيائهم الخاصة بهم في كل العالم. لقد عاشوا فيها أحرار فيما بينهم من دون أن تستطيع السلطات القائمة هضمهم. وذلك بفضل مبدأ الحرية دينهم الذي اعتبروه رسالة للتحرر السياسي بحسب روسو. بفضل معتقدهم عاشوا معتزين بالنفس ويدركون مدى وضاعة الشعوب من حولهم مهما استقوت عليهم بعددها واستضعفتهم. فتَعْجَب ممن كانوا يريدون لهم أن يتحولوا إلى مذاهبهم الدينية ويذوبون فيها، وهم عندهم معتقد يجعلهم يشعرون بعزة النفس وبأنهم أفضل من غيرهم، وإن كانوا مستضعفين سياسيا تحت نيْرهم.

فكان كل ملاح بمثابة جمهورية حقيقية تتمتع بالحكم الذاتي. وأعيان اليهود فيها كهيئة سياسية وفق معتقداتهم الدينية عملوا قدر المستطاع على إبعاد النظام القائم عن التدخل في شؤونهم الخاصة. وعملوا بقدر الإمكان على تجنب التعامل مع الشرطة أو العدالة في بلدان الشتات. حتى ما كان هناك في الغالب من سجناء يهود. لأنه ما كان في صالح أي منهم أن يُسجن فيها بسبب جرم ما. مثل الجزر الموجودة في وسط محيطات من الشعوب الخانعة، كانت الأحياء اليهودية شبه بلديات ديمقراطية غير رسمية، وتشتمل على ما يكفي من المؤسسات الخدماتية المشتركة والممولة ذاتيا من قبل المجتمع اليهودي فيها.

باختصار شديد، في بيئات معادية في كثير من الأحيان، تعلّم اليهود بفضل معتقداتهم التحررية أن يعيشوا مسؤولين عن مصيرهم في أحيائهم، في ظل مؤسسات بلدياتهم الديمقراطية. فهذا هو ما يفسر لماذا أقاموا كيانهم الصهيوني منذ اليوم الأول سنة 1948 وحتى يومنا هذا على أسس ديمقراطية. الأمر الذي تطلب من غيرهم قرونا من الزمن. الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، ظل ولا يزال ديمقراطيا، فلم يعرف ولا انقلابا واحدا بالرغم من كونه كيانا عسكريا بامتياز، حتى يقال أنه جيش له دولة وليس دولة لها جيش. وظل الصهاينة في فلسطين يفتخرون بأن كيانهم الغاصب جزيرة ديمقراطية في وسط محيط من الأنظمة الاستبدادية.

ومن دون تبجيله، فقد تشكل ذلك الكيان من مجموع أفراد وأسر الأحياء اليهودية الديمقراطية في العالم. صحيح أن هناك تمييز شنيع فيما بينهم بحسب بلدانهم الأصلية. لكن ضحاياه يتحمّلونه لكونه أقل سوء من التمييز ضدهم ببلدانهم الأصلية. وهكذا يكون اليهود قد تحرروا من داء الوضاعة منذ عهد موسى عليه السلام بفضل قناعاتهم الدينية كما يعتقد ذلك جان جاك روسو. فكونهم قد عاشوا في الشتات أحرار فيما بينهم هو الذي مكنهم من إقامة دولة الحق والقانون بالنسبة لهم من دون غيرهم في فلسطين المغتصبة. وفي ذلك دليل على أن الشعب الحر هو فقط القادر على إقامة دولته الديمقراطية. أما الرغبة في إقامتها من أجل شعب وضيع من قبل تحريره من قبضة وضاعته فيعني مرة أخرى وضع العربة أمام الحصان.

6) مبدأ الحرية في المذهب البرتستانتي

شعوب أخرى تمكنت من تغيير حالها بفضل معتقداتها الدينية. ويتعلق الأمر هذه المرة بالمسيحيين البروتستانت. كانوا في البدء مجتمعات كاثوليكية. ومن بعد قراءتهم للإنجيل مباشرة وبلغاتهم الدارجة محليا، اكتشفوا أيضًا أن المسيح عليه السلام كان مثل موسى من قبله رسولا للتحرير من الوضاعة. فانقلبوا على كل الموروث الكاثوليكي، وكفروا بكل الكنائس الأسقفية، باعتبارها آليات لإذلال المسيحيين واستضعافهم لصالح الأنظمة الاستبدادية. قال في ذلك المؤرخ أستي : "الكاثوليك يرون السيادة في البابا والأساقفة. أما البروتستانت فقد وضعوها في كل شعب الكنيسة" . وبالنسبة للكاثوليك يسترسل أستيي قائلا : "تعاليم الكنيسة تأمر بالطاعة المطلقة للملوك. وتسلم لكل ملك وورثته بالسيادة في مملكته. وبحكم سلطاته المطلقة، الملك فوق القانون. لذلك يجوز له أن يغير أو يوقف أي قانون معين يبدو له مضراً بالصالح العام" . وبالنسبة للكنيسة الأنڭليكانية الأسقفية في إنڭلترا، حيث كان الملوك منذ عام 1215م مقيّدين بمواد الميثاق العظيم الشهير، يقول أستيي : "حاشية الملك الدينية تشجعه على المثابرة في سبيل استرجاع الحكم المطلق بالحق الإلهي. الملك ليس ملزما بمراعاة قوانين المملكة فيما يتعلق بحقوق وحريات رعاياه. لكن في المقابل، وتحت وطأة اللعنة ، يدفع رعاياه الضرائب التي تُسعد جلالته، والتي يراها هو من المناسب فرضها عليهم من دون إذن من البرلمان. الملك يفعل ما يشاء. ومن يجرؤ على سؤاله "ماذا تفعل؟" " .

بينما في مذهب البروتستانت، يقول نفس أستي: "يتم استبدال نظرية حكم الملوك بالحق الإلهي بسيادة الشعب. الشعب هو مصدر كل القوانين. الشعب هو أول مؤسسات الحق الإلهي. وفي هذا الصدد بالتحديد، كون الشعب متدينًا، فإنه يقدم أول مثال على الخضوع لله. يسود الله من خلال الشعب الذي فوّض له الحق في الحكم وفقًا لإرادته المتجلية في الكتاب المقدس. فهذه ثيوقراطية ديمقراطية وتمثيلية" . هكذا مرة أخرى وبحسب أستيي دائما : "سيادة الشعب من سيادة المؤمنين. كنيستهم بلا أساقفة ومن دون كهنة. فتقع السلطة بين أيدي المؤمنين. هل يمكن أن يؤدي هذا إلى شيء آخر غير الديمقراطية ؟. عندما يكون كل مسيحي كاهناً وكل مسيحية كاهنة، أين يمكنك أن تجد عناصر الامتياز ؟ وكيف تنشأ سلطة من دون تفويض؟" . وبفضل هذا الاعتقاد الديني المتحرّر، ومثل اليهود، نجح البروتستانت البرسبيتيريين والمستقلين منذ القرن السابع عشر في تأسيس دولهم الديمقراطية في سويسرا، وفي الأقاليم السبعة المتحدة بهولندا، وفي إنڭلترا وفي المستعمرات الإنڭليزية بشمال أمريكا من قبل إعلان استقلالها عن أنڭلترا الوطن الأم سنة 1776م. تلك كانت أحوال الشعوب الجرمانية حيث ساد المذهب البرتستنتي. فماذا عن الشعوب اللاتينية ؟

في البلدان اللاتينية، الكنيسة الأسقفية الكاثوليكية، ابنة ووريثة الإمبراطورية الرومانية، حاربت المذهب البروتستانتي وقهرته. فبقيت للنخب النيرة فيها فقط المُثل العليا والفلسفية التنويرية كأدوات لتحرير شعوبها من الوضاعة. لكن من الواضح أن الفلسفة قد فشلت حيث نجحت من قبل فترة طويلة الديانة المسيحية الإصلاحية واليهودية منذ نشأتها. وهذا ما أكده الفرنسي طوكڤيل عندما تحدث عن المستوطنين البروتستانت في شمال أمريكا وقال : "في أمريكا، الدين هو الذي أدى إلى التنوير. احترام القوانين الإلهية هو الذي قاد فيها الإنسان إلى الحرية" . لماذا ؟ لأنه بنفس المثل العليا للحرية، لا يمكن للفلسفة التنويرية أن تلمس سوى النخب المثقفة والعالمة. ليس لها عمق شعبي كما هو للدين. فيبقى تأثيرها سطحيا، لما لا تصل إلى بقية فئات الشعب الوضيع، فيظل غير جدير بدولة الحق والقانون وغير قادر على إقامتها. وذلك كان السبب في فشل الثورة الفرنسية عام 1789 فشلا ذريعا. يؤكد ذلك طوكڤيل بقوله : "إن الاعتقاد بأن المجتمعات الديمقراطية معادية للدين بشكل طبيعي فيه ارتكاب لخطأ كبير. لا شيء في المسيحية، ولا حتى في الكاثوليكية، ما يتعارض تمامًا مع روح هذه المجتمعات. بل هناك أشياء كثيرة مواتية جدًا له. دلت التجربة عبر جميع العصور وفي كل مكان أن جذور الغريزة الدينية الأكثر حيوية ظلت دائما مغروسة في قلوب الشعوب. جميع الديانات التي تم اضطهادها ظلت تجد ملاذها الأخير هناك. وسيكون من الغريب أن المؤسسات التي تميل إلى أن تسود أفكار وعواطف الشعوب سيكون لها بالضرورة الأثر الدائم في دفع الروح الإنسانية نحو الكفر" . ويضيف قائلا : "يقول ميرابو في عام 1787 ، إنه من الأفكار المسبقة الخاطئة والمنتشرة عمومًا في ألمانيا، القول بأن المقاطعات البروسية ممتلئة بالملحدين. والحقيقة هي أنه إذا كان هناك بعض المفكرين الأحرار، فإن الناس مرتبطون بالدين كما هو الحال في البلدان الأكثر تقوى من غيرها، بل هناك عدد كبير من المتعصبين" .

وفي حديثه عن رسوخ قيم الحرية ومؤسساتها في شمال أمريكا وعن فشل الثورة الفرنسية في ترسيخها ببلاده، يقول المؤرخ لابولاي : " تجذّرت الحرية في روح المواطن بفضل الدين والتعليم ونظام حكم البلديات والاعتماد على الميليشيا الوطنية . فهذه هي الركائز الأربع التي تدعم الدستور". ثم يسترسل في شرح آثار تلك الركائز الأربع في حياة المواطنين وفي ترسيخ روح الحرية بينهم ليقول : "أولا انفصلت الكنيسة عن الدولة. وبالتالي انتفى الشجار الداخلي وانتفت المتاجرة بالدين. ثانيا التعليم ليس بيد الدولة، لكنه مفروض على البلدية، ويعتبر مسألة حياة أو موت للجمهورية. ثالثا تواجد الميليشيا الوطنية وضع صلاحيات الشرطة والدفاع عن البلد في أيدي المواطنين، واستبعد كل سياسات المغامرة والغزو. ورابعا البلدية هي المتمكنة الوحيدة من مصالحها، وهي المسؤولة والمحاسبة عن أخطائها وعن أغلاطها. هذه هي الشروط الأساسية الأربعة للحرية في الولايات المتحدة. وهي الشروط التي ظلت تنقصنا". وبقوله ظلت تنقصنا، يعني أنها ظلت تنقص في فرنسا من بعد الثورة. تلك الثورة التي اعتمدت من جهتها على فلسفة الأنوار ومعاداة الدين كله، لما انتصر فيها المذهب الكاثوليكي على المذهب البرتستنتي منذ سنة 1685م بإلغاء الملك لويز الرابع عشر لما عرف بمرسوم نانت الذي كان قد أقر التسامح مع الطائفة البرتستانتية في عهد جده هنري الرابع سنة 1598م.

فسواء أحب أم كره، الإنسان بطبيعته مخلوق متدين. الدين كيف ما كان، يجيب بحق أو بباطل على تساؤلات الإنسان الميطافزيقية الأربع، وهي : من أين جاء ؟ ولماذ ؟ وإلى أين هو ذاهب ؟، وما هو مآله من بعد الموت ؟ تساؤلات تطرحها الفلسفة أيضا. لكن تتحفظ عن الإجابة عنها من دون براهين ملموسة تؤيدها. ولهذا يبقى الدين وحده القادر على إشباع الروح بإجابته عن تلك الأسئلة، فيكون له عمق شعبي. ولما يحمل الدين المثل العليا للحرية، فإنها تصل بسهولة إلى عموم الناس وتستهويهم فيقدسونها ويتشبثون بها. ويصح ذلك أكثر عندما يتم دعم تلك المعتقدات الدينية التنويرية بتعليم عمومي إلزامي وعلى نفقة المجتمع.

ويقدم لنا الفرنسي طوكڤيل في هذا الصدد صورة واضحة في نفس الكتاب الذي يتناول الديمقراطية بين أوائل المستوطنين الإنڭليز البروتستانت في أمريكا الشمالية. كان أحد قوانينها الأولى التي سُنت في بدايات القرن السابع عشر، يتعلق بالتعليم العمومي الإلزامي. وهذا ما جاء في ديباجته: "بما أن الشيطان عدو الجنس البشري، فإنه يجد في جهل الناس أقوى أسلحته. ومن المهم ألا تبقى العلوم التي أوجدها آباؤنا مدفونة معهم في قبورهم. لهذا فإن تعليم الأطفال هو واحد من المصالح الأولى للدولة، ..." . ومما جاء في مراسيم ومذكرات تطبيقه ما يلي : "الأحكام التي تنشئ المدارس في كل البلديات، تلزم السكان، تحت طائلة الغرامات الثقيلة، بفرض ضرائب على أنفسهم لتموينها. ويتم إنشاء مدارس عليا بنفس الطريقة في المناطق الأكثر اكتظاظا بالسكان. ويجب على قضاة البلديات التأكد من أن الآباء يرسلون أطفالهم إلى المدارس. ولديهم الحق في فرض غرامات على أولئك الذين يرفضون القيام بذلك. وإذا استمرت المقاومة، فإن المجتمع يضع نفسه في مكان الأسرة، فيتمكن من الطفل، ويزيل بذلك من الآباء الحقوق التي أعطتها لهم الطبيعة، والتي لم يحسنوا استخدامها" . وفي غياب التعليم العمومي والإلزامي يتشكل الشعب حتما من الدهماء والغوغاء بدلاً من أن يتشكل من مواطنين أحرار وجديرين بأن يكونوا أصحاب السيادة في وطنهم. وفي المحصلة يبقى تخلّص الشعوب من نيْر الاستبداد مشروطا بتحرير عقولها من داء الوضاعة. فتحرير العقول يسبق تحرير الأبدان، وإلا جُعلت العربة أمام الحصان. لكن هل من قصة للحرية في تاريخ المسلمين ؟

7) مبدأ الحرية في السيرة النبوية

بالتأكيد نعم. لكن لا ندركها حتى نتتبع تاريخ الشعوب الحرة. كل الرسل جاؤوا بنفس قيم الحرية التي من دونها يستحيل قيام الناس بالقسط كغاية الغايات من إرسالهم. يقول تعالي : "لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ " سورة الحديد 12. وقيام الناس بالقسط لا يتحقق سوى في دولة الحق والقانون. تلك الدولة التي تتطلب بدورها أن يكون الشعب حرا معافى من داء الوضاعة، أي من داء الخضوع المذل لكرامة الإنسان،. فلا يخضع الشعب فيها بالمطلق إلا لله وللقوانين التي سنها هو بنفسه مباشرة أو بصفة غير مباشرة لتحقيق العيش المشترك والحر فيما بين أفراده. الشعب الحر له كامل السيادة في وطنه وهو مصدر كل السلطات التي يفوض ممارستها لمن يثق فيهم باختيار حر منه لولاية محددة وبشروطه. فيراقبهم ويحاسبهم على تصرفهم فيها. ثم يجدد ثقته فيهم أو يستبدلهم بغيرهم في نهاية كل ولاية. وتلك هي طاعة أولي الأمر الواردة في القرآن الكريم. "أولي الأمر منهم" يعني الذين اختارهم الشعب من بين أفراده وفوّض لهم ممارسة سلطاته بشروطه، كصاحب شركة مّا مثلا لما يفوض تدبيرها لمن يثق فيه وبشروطه. ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، أن الشعب الحر سيد في وطنه، وليس لمخلوق الحق في الاستبداد به. هكذا مثل موسى وعيسى عليهما السلام، كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم رُ سل الحرية. الحرية التي تعتق الإنسان من داء الوضاعة. وهي نفس الحرية التي يطالب بها اليوم العديد من الشعوب العربية والتي سبق أن تحققت للعديد من الشعوب عبر العصور. وهي نفس الحرية التي تحققت وعاشها شعب المدينة المنورة من حوله صلى الله عليه وسلم. فكيف حصل ذلك بالمدينة ؟ لكن كيف كان البدء بمكة ؟

مكة كدولة في حجم مدينة cité-Etat، كانت، على صغر حجمها، تتشكل كباقي الدول من أرض وشعب وحكم. والحكم فيها كان من نصيب طبقة الأشراف من دون غيرهم، كما كان عليه الحال بروما العتيقة حتى بدايات عهد الجمهورية. ذلك هو حكم الأخيار أو الحكم الأرستقراطي بلغة العصر، حيث لم يكن للعوام فيه حق المواطنة. فكانوا فيه مجرد رعايا، وكانوا وضيعين بخضوعهم المذل للمستبدين بهم. وكان مقرّه بدار النّدوة كنادي سياسي واجتماعي خاص بعليّة القوم. وذلك في مقابل المسجد لاحقا بالمدينة، الذي كان مفتوحا في وجه كافة فئات شعبها، على غرار الآڭورا l agora بأثينا اليونانية، والمنتدى le forum بروما.

فكان شعب مكة يتشكل من فئتين اجتماعيتين، فئة المترفين من الأشراف أو النبلاء المستبدين بالحكم من جهة، وفئة العوام la plèbe الخاضعون لحكمهم والمستأنسون به من جهة ثانية. فالحرية فيها كانت من نصيب أسر الأشراف من دون غيرهم. والحرية التي جاء بها الإسلام مع مختلف الرسل تعني كون السيادة للشعب بالتساوي بين كل فئاته وأفراده كمواطنين أحرار، بغض النظر عن كونهم فقراء أو أغنياء، وعن كونهم ضعفاء أو أقوياء. لكل منهم نفس النصيب في الحق في التشريع، إما مباشرة في حال دولة في حجم مدينة مثل مكة وروما العتيقة، أو عن طريق مجلس تشريعي منتخب يمثل بقية الشعب، لما تكون الدولة شاسعة الأطراف. والحرية بهذا المعنى السياسي والديني هي التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه. وهو حق طبيعي لكل بني البشر الذين لا يمكنهم من دونه أن يقوموا بالقسط ويعيشوا كما ينبغي العيش الكريم في دولة الحق والقانون.

فلم يعترض نبلاء قريش على كون الله ربّا بوصفه على كل شيء قدير، يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويستعان به، إلى غير ذلك من صفات الربوبية. وحسبنا في ذلك قوله تعالى : "وَلَئِن سَألَتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأرضَ لَيَقُولُنَّ اللَه " (الزمر 19 ). وكانوا يتقربون إليه عن طريق الأصنام كما لا يزال ذلك شائعا بين المسلمين لما يزعمون أنهم يتقرّبون إليه بالتمسح بقبور الصالحين وبغيرها مما خلق. فما كان عند قريش من إشكال في التخلي عن عبادة الأصنام، ولا في إقامة الصلاة ولا في الصوم ولا في أداء الزكاة ولا في الحج الذي كانوا يقومون به.

الذي اعترضوا عليه هو كون الله إلها ينهى ويأمر، وليس مجرد ربّ يخلق ويرزق. إله يشرّع لعموم الناس بمكة بدلا من التشريع المفروض عليهم من دون رضاهم بدار النّدوة. إله يأمرهم بالعدل والإحسان وينهاهم عن الفحشاء والمنكر، فيقول : " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ". وكلمة الناس كانت تعني في آذان نبلاء قريش، وكما ينبغي، كل أفراد شعب مكة من دون تمييز. وقيام الناس بالقسط يتطلب حتما أن يكونوا كلهم أحرار أصحاب السيادة في وطنهم. إله يفرض على النبلاء المساواة في الحقوق السياسية بين كل أفراد شعب مكة، كما تحقق ذلك لاحقا بالمدينة بالنسبة لكل أفراد شعبها بما فيهم اليهود الذين احتفظوا بكامل حريتهم السياسية بأحيائهم وبدينهم وبتشريعهم فيما بينهم، مع الحرية علاوة على كل ذلك في ولوج المسجد كمنتدى ومجلس بلدي لكل أفراد الشعب لتداول الشأن العام الذي كان من شأنهم جميعا، اللهم من اختار الابتعاد عنه بمحض إرادته. من أجل ذلك حارب أشراف قريش بمكة العقيدة الجديدة التي تبتغي الحرية المُسوّية بين كل أهلها في الواجبات وفي الحقوق. شعب مواطنين أحرار من دون لا عوام ولا عبيد ولا غوغاء ولا دهماء.

فتجمّع من حوله صلى الله عليه وسلم نفر من المؤمنين الذين تعافوا من وضاعتهم وصاروا يطالبون بالمساواة في الحقوق والواجبات. شكل ذلك ثورة سياسية واجهها نبلاء قريش بالرفض وبالعنف الشديد. فزعموا أن الرسول الكريم كاذب مفتري على الله. وأنه ليس هناك من بعث من بعد الموت ولا حساب ولا جنة ولا نار. فلا داعي لتخويفهم بذلك. حتى قال أحدهم : "من يُحْيِي ا لعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم " (يس 79)، ثم قالوا : "مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ " (الجاثية 14). وانتهوا بالعزم على اغتياله صلى الله عليه وسلم واستئصال أتباعه من مكة.

فكان لا بد للفئات المستضعفة والمحرومة بقوة السلاح والاضطهاد من التمتع بحقها الطبيعي في حرياتها لما أصبحت تعي معناها من بعد ما كانت تجهلها. كان لا بد لها من مأوى تلجأ إليه وتمارس فيه حقها الطبيعي في الحرية. كان عليها التحرر من الاستضعاف الذي يطالها، حتى لا يقال في حقها : "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأرْضِ. قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ الأَرْضُ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا " (النساء 17)

لكن ما فرض الرسول الكريم نفسه على أي قوم آخر، وما كان ليُؤمر بذلك حتى في حال ما كان قويّا ويستطيع. وذلك صونا لمبدأ الحرية. بل صار يعرض ما لديه من قيم ومبادئ سامية على مختلف القبائل في كل موسم حج. إلى حين وافق وفد المدينة على عرضه في ما سمى ببيعة العقبة الأولى. لكن بمقتضى نفس مبدأ الحرية الذي جاء به، كان لا بد من رضا وموافقة على الأقل غالبية فئات شعب المدينة. وفي ظرف سنة من التعريف بعرضه بالمدينة جاءه منها في موسم الحج اللاحق وفد أكبر من الأول ومفوّض من شعب المدينة ليخبره بقبول غالبيته به كإمام ورسول، وبمن كان معه من المستضعفين الفارين بدينهم وبحريتهم من استبداد واضطهاد أشراف قريش. وتلك كانت بيعة العقبة الثانية.

فصار فيها من سُنّته صلى الله عليه وسلم أن الولايات لا تتم إلا بالموافقة الحرة من غالبية أفراد الشعب. فمن يكون أعلى منه مقاما حتى يتولى الأمر من بعده من دون تفويض حر من غالبية أفراد الشعب وبشروطها ؟ لكنها سنّة جليلة غمرتها الصراعات السياسية من بعده وبعد الخلفاء الراشدين على الاستبداد بالشعوب التي تفشى وساد فيها داء الوضاعة من جديد، وما عادت تعرف لا طعم ولا رائحة لنعمة الحرية التي جاءها بها الإسلام. تلك الحرية التي تشبث بها اليهود في أحيائهم في الشتات، والتي استعادها البروتستانت لما رجعوا إلى قراءة الإنجيل مباشرة كي يأخذوا منه دينهم الذي ارتضاه لهم الله، فأقاموا دوّلهم الحرة.

وقد ولاه صلى الله عليه وسلم على نفسه شعب المدينة الحر كإمام وكرسول، مع علمه بأن الرسول الكريم يأتيهم بتشريع من رب العالمين. بذلك يكونون قد قبلوا حتى بالله إلها مشرّعا، وبإرادتهم الحرة. فصار من سُنته أيضا أن ممارسة السلطة التشريعية لا تتم إلا بالإرادة الحرة من غالبية أفراد الشعب. فمن يكون أعلى مقاما من الله تعالى حتى ينتصب مشرّعا من بعد انقطاع الوحي من دون الرضا الحر من الشعب ؟ ومن هنا ستبدأ مرحلة قصة الحرية بالمدينة، من بعد مرحلة قصتها الأولى بمكة. فماذا عن تتمتها بالمدنية ؟

قدوم المهاجرين ثم الرسول الكريم من بعدهم، كان بموجب عقد بيعة العقبة الثانية وبرضا من غالبية شعب المدينة. وكان في ذلك صون لحريتهم وتأكيد عليها كقيمة من أهم القيم التي جاء بها الإسلام مع كل الرسل. وأول عمل تم القيام به هو بناء المسجد، ليس كمصلى فقط، بل وبالأساس كمنتدى اجتماعي وكمقر للمجلس البلدي الذي يجتمع فيه كل من أراد من شعب المدينة للتداول في شؤونها العامة. فكان مفتوحا للصغار والكبار والذكور والإيناث، مسلمين وغير مسلمين، كي يتربوا فيه علي التشبع بالحرية. بلغت فيه حرية التعبير حد رفع الأصوات على صوت الإمام صلى الله عليه وسلم الذي كان يستحيى من أصحابها حتى لا يظهر بمظهر المستبد بهم. فنزل القرآن الكريم ينهى عن ذلك، بقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ" (الحجرات 2)

فمن سنته صلى الله عليه وسلم إنشاء مجلس بلدي في كل مدينة وقرية يمارس فيه شعبها الحر كل سلطات السيادة. وليس بالضرورة أن يكون مقره هو المسجد. كونه مسجدا في عهده صلى الله عليه وسلم راجع لكونه إماما رسولا. بتدخل الوحي في الحكم كان نظاما تيوقراطيا وديمقراطيا. أما من بعده صلى الله عليه وسلم وبانقطاع الوحي يبقى الحكم مدنيا ديمقراطيا. فليس من حق أحد أن يُنتخب باسم الدين ولا أن يتولى الحكم باسم الدين. تلك خاصية الرسل. فلا يُتخد الحكم باسم الدين ذريعة للاستبداد بالشعوب وتحويلها إلى شعوب وضيعة من بعد ما كانت حرة. وذلك كان موقف البروتستانت الطهرانيين بشمال أمريكا، وقبلهم بهولندا وبسويسرا.

وثاني عمل كسُنّة لم يُقتضى بها من بعده صلى الله عليه وسلم، كان هو تحريره لوثيقة المدينة كدستور خاص بعهده كإمام ورسول يوحى إليه. وعلى أساسه ظل شعبها يفرّق بين ما هو وحي فيستسلم له، وبين ما كان من تدبيره كإمام مفوّ ض للحكم، فكان يراجعه فيه متى ما اقتضى الحال ذلك. ومنه على سبيل المثال، تدخل الخباب بن المنذر كجندي بسيط بخصوص موقع المسلمين بمعركة بدر التي خاضها صلى الله عليه وسلم مع المهاجرين أصحاب الحق المبتغى من اعتراض قوافل قريش من دون الأنصار. وكان منه أيضا استشارة السّعدين من الأنصار أصحاب الحق في المدينة من دون المهاجرين، في قضية اقتراح صلح مع غطفان على ثلث ثمرها كي تنسحب من الحصار في غزوة الأحزاب. ثم جاءه صلى الله عليه وسلم الأمر من الله تعالى باستشارة شعب المدينة في كل أمورها العامة، وبألا يتخذ أي قرار إلا من بعد استشارته، فقال تعالى : " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله " (آل عمران 159). وتأكيدا لمبدأ الحرية دائما، نزل قوله تعالى : " وَأَمْرُهُمْ شُورَ ى بَيْنَهُمْ " (الشورى 19). والأمر يعني الشأن العام. فمنه كلمة أمير وكلمة إمارة. والضمير "هم" في الآية الكريمة، يستغرق كل أفراد شعب المدينة كمواطنين أحرار، كي يشارك ويساهم كل من أراد منهم بنصيبه الطبيعي في الاستشارة في تدبير الشأن العام. لأنه ليس من بين الشعب الحر لا عوام ولا غوغاء ولا دهماء. ذلك شأن الشعوب الوضيعة.

كل ذلك وغيره كثير، يدل على أن شعب المدينة عاش حرا في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين من بعده، وتمتع بكل من الحرية الدينية والحرية السياسية، مع القبول والتسليم الحر دائما بتدخل الوحي في تدبير بعض شؤونهم الخاصة والعامة، إيمانا ويقينا بأنه وحي من رب العالمين، وليس من تدبير الإمام. والوحي المسَلّم به عن إيمان كان يحكم كلّا من الإمام والشعب الحر معا. بذلك ظل الشأن العام شأن كل فرد بالمدينة كمواطن حر، ويتم تداوله بالمسجد كمجلس بلدي أو برلمان لا يستثنى من ولوجه أحد من نساء ورجال، وحتى من الصغار ومن اليهود، كي يمارس فيه حقه الطبيعي في الحرية كسيد حر بموطنه.

ومن بعد التمكين جاء دور تحرير مكة من استبداد أشرافها. وبمنظار الحرية كما يمكن تتبع قصصها في تاريخ البشرية، فكلمة "الفتح" في القرآن الكريم تعني تحرير المستضعفين من استبداد وطغيان المستبدين. أما غزو قوم حر أو شعب وضيع ثم استضعافه واستعباده فهو، بمنظار مبدأ الحرية المقدس في الإسلام، احتلال ظالم وبغيظ. ففرق إذا بين الفتح والاحتلال الذي من بعد تلاشي منظومة القيم الإسلامية كان يُتعمّد الخلط بينهما لتبرير هذا بذاك.

ولما تم تحرير مكة، تحررت معها قبائل باقي الجزيرة العربية. فجاءت الوفود إلى المدينة مطمئنة على نفسها من الخوف من قريش الذي كان يخنقها. جاءت تستفتي وتسأل عن فحوى الرسالة المحمدية. وما استدعاها أحد ولا أجبرها أحد على الإيمان بها. وبقيت من بعد ذلك مستقلة وحرة في اختياراتها. فما شكلت فدرالية موثقة مع المدينة. وحسبنا في ذلك وفد اليمامة الذي ما أن وصل إلى موطنه حتى تنكّر لما آمن به. ومع ذلك ظل شعبها مستقلا وحرا. فما أشهرت في وجهه السيوف لإجباره على الإيمان بما عاد ليكفر به. والآيات القرآنية التي تؤكد كما يجب على حرية المعتقد عديدة وبصيّغ لا تقبل النسخ بأي حال من الأحوال. منها قوله تعالى : "لاا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" [البقرة:256] و قوله سبحانه " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر" (الكهف - 29). والمحاسبة على الإيمان والكفر من خصوصياته سبحانه "إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ" (الغاشية 26). فماذا عن الالتزام بهذا المبدأ النبيل والمقدس من بعده صلى الله عليه وسلم ؟

قال الراهب ميشون :"إنه لأمر محزن بالنسبة للأمم المسيحية أن التسامح الديني، وهو مبدأ الإحسان العظيم من الناس إلى الناس، قد تم تعليمه لها من قبل المسلمين. فمن تعاليم الدين احترام معتقدات الآخرين وعدم استخدام العنف لفرض أي معتقد." . وقال روبرتسن : "المسلمون هم المتحمسون الوحيدون الذين جمعوا بين روح التسامح وحماسة التبشير. مع حملهم للسلاح من أجل نشر عقيدة نبيهم، سمحوا لمن لم يرغبوا فيها أن يظلوا متمسكين معتقداتهم" . وقال كوستاف لو بون : "لما وصل الخليفة عمر إلى مدينة القدس أظهر أكبر قدر من التسامح تجاه سكانها، وترك لهم دينهم وعاداتهم وممتلكاتهم، وفرض عليهم فقط أداء جزية بسيطة" . فحرية المعتقد في الإسلام مع الحق في الحرية السياسية صنوان لا يفترقان. لكن حصل التفريط في الثانية فعادت الوضاعة لتأخذ مكان الحرية في النفوس. ومن شأن قراءة متجددة للقرآن الكريم وللسيرة الشريفة على ضوء تاريخ الشعوب الحرة أن تعيد الأمور إلى نصابها. بقيت نقطة ينبغي التطرق إليها. ففرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

توحيد الربوبية يعني الإيمان بأن الله هو وحده رب العالمين من دون غيره، يخلق ويحيي ويميت ويرزق وهو على كل شيء قدير. فمن يتوسل إلى غيره يشركه مع الله في الربوبية. وتوحيد الألوهية يعني أن الله وحده الإله الذي ينبغي ألا يُعصى له أمر. فالعبد لا يعصي أمرا ليسده بالحق أو بالباطل، فهو إلهه. أما الموحد للألوهية فهو المؤمن الذي لا يعصى لله أمرا بحـــــق. توحيد الربوبية أمر مفروغ منه بالنسبة لكل مخلوق، سواء آمن بذلك أم كفر. أما توحيد الأولوية فبمحض اختياره. إن شاء فعل وكان مؤمنا، وإن شاء رفض وكان كافرا. كذلك شاء الله أن يكون الإنسان حرا حتى في اتخاذه إلها من دون غيره، على أن يتحمل تبعات اختياره. والرافض يكون قد كفر باتخاذ نفسه أو غيره إلها مع الله أو من دون الله. فيستبد بالناس أو يسلم لغيره أن يستبد به. فيكون بذلك قد أشرك نفسه أو غيره في الألوهية مع الله. وهكذا المستبد بالناس هو مشرك بالله في الألوهية. والشيء نفسه بالنسبة لمن يُستبدّ به ويستأنس بذلك فلا يشعر بالاستضعاف. توحيد الألوهية يعني أنه لا حق لمخلوق في الاستبداد بالناس وأنه لا ينبغي للمستبد بهم أن يسلموا له بذلك ولو بالقلب. فتوحيد الألوهية بشهادة لا إله إلا الله يعني سيادة الحرية بين العباد. ومن يحكمهم ففقط برضاهم وبتفويض منهم وبشروطهم مع حقهم في المراقبة والمحاسبة والتثبيت والعزل. لكن لماذا وقع التركيز في القرآن الكريم على الشرك في الربوبية، من مثل التوسل إلى الحجر أو البشر وتعظيمهم بدلا من التوسل لله وحده وتقديسه من دون غيره؟

لأنه الشرك الذي يمهد للشرك في الألوهية. يمهد لوضاعة الشعوب ولاستبداد المستبدين بها. الطاعة المطلقة من حق الرب وحده. لكن فرعون ادعى أنه من حقه أن يكون إلها مستبدا بشعبه لما قال "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَ ى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ " (غافر 39). فاعترض موسى على ذلك بأن ليس له الحق فيه لأن الألوهية من حق الربّ وحده. وقد اعترض إبراهيم كذلك على من ادعى الألوهية أن آتاه الله الملك، بحجة أنه ليس بربّ. لكنه ادعى بأنه أيضا ربّ من دون الله. فقال له أبراهيم " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ" (البقرة 258). معنى ذلك أنه ليس من حق الإنسان أن يستبد بغيره لأنه ليس برب. فلا يُحكم الناس إلا برضاهم وبتفويض منهم. والمخالف مشرك في الألوهية لقوله تعالى : "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِ لَهَهُ هَوَاهُ" (الجاثية 23). ومثال ذلك فرعون وغيره كثير في تاريخ البشرية. وشعوبهم الوضيعة مشركة أيضا في الألوهية. وذلك لاستئناسها باستبدادهم أي بالتطبيع مع اتخاذ المستبدين بها آلهة من دون الله، لقوله تعالى في حقهم عن فرعون : "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فأطَاعُوه. إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" (الزخرف 54). فمن يسلم بالربوبية لمخلوق من حجر أو شجر أو بشر، سيسلم حتما لمخلوق غيره بالألوهية. المشرك في الربوبية إنسان وضيع بالنظر لما فيه من استعداد للشرك في الألوهية لمّا يسلم لمخلوق أن يستبد به ويكون إلها من دون الله. ولذلك تجد المستبدين يشجعون الشرك بالربوبية مثل قريش بمكة. والأصنام تتنوع بتطور العصور.

وخلاصة القول أن كل الرسل جاؤوا بنفس الحرية التي تطالب بها اليوم العديد من الشعوب العربية والتي تحققت لغيرهم من الشعوب في العالم وعبر العصور. وفي تقديرنا من شأن الاطلاع على تاريخ الشعوب الحرة أن يمكن من قراءة القرآن الكريم والسيرة الشريفة قراءة متجددة كي تُبرز ما تضمناه من قيم الحرية والكرامة الإنسانية التي من دونها يتعذر قيام الناس بالقسط في ظل دولة الحق والقانون كغاية الغايات من إرسال كل الرسل. كعرب ومسلمين لا زلنا في حاجة للإلمام بتاريخ الشعوب الحرة حتى يتضح لشعوبنا العربية والمسلمة ما في دينها من تعاليم نبيلة لا تقبل من المؤمنين سوى التشبع بالحرية كركن أساسي من أركان الإسلام والكامن في التشهد بأن لا إله إلا الله. ركن تلاشى استيعاب مغزاه مع توالي العصور.

8) قصة الحرية في الفكر المسلم

فابن خلدون مثلا، وعلى جلال قدره، يقول في المقدمة: "إن الانفراد بالمجد من طبيعة الملك" ثم يجد لذلك تبريرا بتأويل قوله تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَة إِلَّا الله لَفَسَدَتَا" (الأنبياء 22). مع العلم أنه ليس من حق الملوك وغيرهم أن يكونوا آلهة من فوق العباد، لما في ذلك، كما تقدم، من شرك في الألوهية من جهة المستبِد، ومن جهة الشعب المستبَد به. وابن خلدون معذور، ولا يلام على ذلك، لأنه ما أتيحت له الفرصة للاطلاع على نظام حكم الملكية الرومانية حيث كان اعتلاء العرش باختيار من الشعب الحر وليس بالوراثة، ولا الاطلع على نظام حكم الجمهورية الرومانية حيث كان كرسي الرئاسة من نصيب قنصلين منتخبين من طرف الشعب الحر ولولاية سنوية. وما اطلع أيضا على نظام حكم حاضرة إسبارتا اليونانية حيث كان الشعب حرا كذلك، وكان المُلك فيها شركة بين ثلاثة ملوك في آن واحد. والدولتان دامتا مستقرتين وقويتين قرونا طويلة تحت سيادة شعبين حرين.

ولما قال ابن خلدون في المقدمة إن تولي السلطة لا يتم إلا بالغلب، فهذا صحيح لكن فقط مع كل شعب وضيع، ما عرف المؤلف غيره، بالرغم من أن عصره تزامن مع وجود جمهورية البندقية حيث كان تولي السلطة يتم كل مرة بانتخاب دوق جديد مدى الحياة ومن دون توريث، وليس أبدا بالغلب. وبفضل ذلك عرفت تلك الجمهورية مائة وعشرين دوقا منتخبين على امتداد أحد عشر قرنا بالتمام والكمال من سنة 697م حتى 1797م لما قضى على وجودها نابلويون.

ومع ذلك لم يسلم العالم الجليل ابن خلدون من نقد الدكتور عبد الله العروي لما قال في حقه : "لا يحق لنا أن نؤاخذه بما جاء بعده من الاكتشافات الجغرافية والمكاسب في مجال الحفريات واللغويات. لكن أي عيب في مؤاخذته بما كان قبله، بتلك المراجع التي كانت جاهزة، في متناوله لو توافرت الشروط ؟ ما العيب أن نقول متأسفين آه، لو اطلع في النص على أخبار اليونان وروما ؟". ويسترسل الدكتور العروي عتابه لابن خلدون مع التماس بعض الأعذار في حقه، فيقوله : "اعتمد هو الآخر منهج المقارنة، لكن بين من ومن ؟ بين البدو والحضر، العرب والفرس، العرب والترك، العرب والبربر. ... تيقن أن الجمهورية، حكم الغوغاء، فاسد من الأصل، ينتهي حتما إلى الفوضى وعموم الظلم" . وهذا صحيح لكن مرة أخرى فقط بالنسبة للشعوب الوضيعة وليس للشعوب الحرة.

ثم يسترسل الدكتور العروي قائلا في حق ابن خلدون : "ماذا لو اطلع على نصوص الأوائل، وعلى أقوال قدماء اليونان والرومان دون تأويل الوسطاء وتحريف التراجمة ؟ ماذا لو أتيح له ما أتاحته الأقدار لمونتسكيو ؟ ... لا ينفع في هذا الباب السمع المبهم، لا بد من تلمس الأصول وفحصها بمثابرة وانتظام. يعترضنا هنا ذلك السقف المعرفي الذي أوضحنا في مناسبات عدة آثاره على المفكرين المصلحين" . وهذه الجملة الأخيرة تعفي ابن خلدون من كل لوم. لو كان بمقدوره الاطلاع رأسا على المصادر اليونانية والرومانية لاصطدم هو قبل المفكرين المصلحين بنفس السقف المعرفي. كيف كان يمكنه إدراك مفهوم الحرية في تلك المصادر ؟

فكما تقدم وعن الدكتور العروي نفسه بخصوص مفهوم الحرية عند المتأخرين من العرب والمسلمين قوله : "يقول المؤرخ المغربي الشهير أحمد الناصري: واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعًا؛ لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسًا". ثم قال : "ويمكن أن نسوق أمثلة تدل على عدم استيعاب مفهوم الحرية الأوروبي عند مؤلفين أكثر التصاقا بالفكر الغربي مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي " . يقول ذلك عن الحرية التي أصبحت منذ 2011 مطلب فئات عريضة من شباب الشعوب العربية والمسلمة، بما فيها شبيبة العديد من الحركات الإسلامية. فقد كانت مطالبة قدماء العرب والمسلمين بالحديث عن نفس الحرية كمطالبة الضرير بأن يحدثك عن الألوان.

تسعة عقود من الزمن تقريبا قبل الدكتور العروي تعرض الشيخ الأزهري علي عبد الرازق لنفس الموضوع لما قال: "من الملاحظ البيّن في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود. فلسنا نعرف لهم مؤلفا ولا بحثا في شيء من أنظمة الحكم ولا في أصول السياسة، اللهم إلا قليلا لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون . .. وقد كانت كتب اليونان التي انكبّوا على ترجمتها ودرسها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة وتحبّبه إليهم. فإن ذلك العلم قديم، وقد شغل كثيراً من قدماء الفلاسفة اليونانيين، وكان له فلسفة في اليونان، بل في حياتهم، شأن خطير" .

و أضاف الشيخ متسائلا : "فما لهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو، وما لهم رضوا أن يتركوا المسلمين بجهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان، وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو، وأن يروّضوهم برياضة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة، بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر؟ " .

ثم أجاب الشيخ أخيرا على تساؤله ذاك ملتمسا لهم العذر بقوله : " الغيرة على المُلك تحمل المَلك على أن يصون عرشه من كل شيء قد يزلزل أركانه، أو ينقص من حرمته، أو يقلل من قدسيته. لذلك كان طبيعيا أن يستحيل الملك وحشا سفاحا، وشيطانا ماردا، إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته، وتقويض كرسيه. وإنه لطبيعي كذلك أن يكون الملك عدوا لدودا لكل بحث ولو كان علميا يتخيل أنه قد يمس قواعد ملكه أو يريد من تلقائه ريح الخطر، ولو كان بعيدا. من هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم، واستبداد الملوك بمعاهد التعليم، كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. ولاشك أن علم السياسة هو من أخطر العلوم على الملك، بما يكشف من أنواع الحكم وخصائصه وأنظمته إلى آخره. لذلك كان حتما على الملوك أن يعادوه وأن يسدوا سبيله على الناس. و ذلك هو تأويل ما يلاحظ من قصور النهضة الإسلامية فى فروع السياسة، وخلو حركة المسلمين العلمية من مباحثها، ونكوص العلماء عن التعرض لها، على النحو الذي يليق بذكائهم، وعلى النحو الذي تعرضوا به لبقية العلوم" .

في نفس السياق وبالنظر لما احتواه كتاب المؤرخ الروماني تيت ليڤ من صراعات سياسية طويلة بين العوام والنبلاء بجمهورية روما العتيقة ومن انتصار للحرية على الاستبداد، فقد حصل له الشيء نفسه مع الإمبراطور الروماني كليݣولا Caligula (ت 49 م) لما شبّه مؤلفه بهومير وبڤيرجيل اللذين كان يحقد عليهما. فأمر بإبعاده عن كل المكتبات. أما بابا كنيسة روما ݣريݣوار السابع (ت 1085 م) ولنفس السبب المناصر للاستبداد ضد للحرية فقد أمر بإعدام كل النسخ لنفس الكتاب بدعوى أن فيه تمجيدا للوثنية .

وبخصوص ترجمة القدماء للتراث اليوناني والروماني إلى اللغة العربية يقول الدكتور عبدالله العروي : "يعتمد ابن خلدون فيما يتعلق بالتاريخ القديم... على نصوص معربة، لا لفظا فقط، بل مفهوما كذلك. وهنا مكمن الخطر. لكي تكون المقارنة مفيدة حقا، لابد من المحافظة على أصالة وفرادة المواد المزمع مقارنتها. لم يكن هذا الأمر متاحا لابن خلدون ولغيره من المفكرين المسلمين" . لكن حتى في حال ما كان ذلك متاحا لأحد منهم فما كان بوسعه الجهر بمختلف أنظمة الحكم بكل من روما وأتينا المفعمة بالصراع العمودي بين عشق الشعوب للحرية وتشبث الكبار بالهيمنة. وذلك، كما تقدم مع الشيخ علي عبد الرازق، خوفا من سيوف المستبدين المتغلبين والغيورين على استبدادهم. لنفس السبب تعمد منتسكيو الغموض والتلميح في عهد صاحب الحكم المطلق الملك لويز الرابع عشر، وهو يكتب عن تاريخ الرومان. ذلك ما أكده الدكتور العروي نفسه بقوله : "يكون مونتسكيو قد تعمد الغموض خشية الرقيب، إذ كان متهما عند رجال الكنيسة والدولة... نشر مونتسكيو كتابه أولا في أمستردام بعيداً عن الرقيب سنة 1734" .

الذي كان يخيف الأنظمة الاستبدادية في اطلاع شعوبها على تاريخ الشعوب الحرة هو تقليدها من بعد شفائها من وضاعتها والتشبع بقيم الحرية. والذي كان يخيف الأنظمة الاستبدادية كان هو مبتغى الحكومة الفرنسية من بعد خمس سنوات فقط من قيام الثورة سنة 1789 . وذلك لما أدرك الثوار أن الحرية كانت قضيتهم وحدهم كنخبة ولم تكن قضية الأمة الفرنسية التي ظلت وضيعة تحن للاستبداد من جديد كي تستقر من بعد ما عمّت البلاد الفوضى بسبب وضاعتها. ولإخراجها منها فكّر الثوار في فرض تعميم وإجبارية التعليم، وفي فرض تدريس تاريخ الشعوب الحرة انطلاقا من المستوى الابتدائي. وذلك هو ما تجده بالحرف في قانون Lakanal الصادر في نونبر من سنة 1794 .

وفي أقل من سبعين سنة على سَن ذلك القانون، ظهرت نتيجته في شهادة المؤرخ فوستيل دو كولانج في كتابه "الحاضرة العتيقة". وذلك لما احتج على تدريس تاريخ الشعوب الحرة بقوله : "نظامنا التعليمي الذي يجعلنا نعيش منذ الصغر ما بين اليونانيين والرومان، يُعوّدنا على مقارنتهم دائما بنا، وعلى الحكم على تاريخهم من خلال تاريخنا، وعلى تفسير ثوراتنا بثوراتهم. وما ورثناه منهم وما تركوه لنا يجعلنا نعتقد أننا نشبههم. ويصعب علينا تصورهم كشعوب غريبة عنا. ونكاد نرى دائما أنفسنا فيهم" . فمن خلال هذه الشهادة ندرك جيدا أن هذا المؤرخ الفرنسي غير متفق مع تلك النتيجة لأسباب سياسية تخصه. لكن نلمس من نفس الشهادة أن حال المزيد من الفرنسيين قد تغير بتغير ما بأنفسهم، بفضل فرض تدريس تاريخ الشعوب الحرة للناشئة انطلاقا من مرحلة السلك الابتدائي. قد أصبحت الحرية أخيرا وبدرجة ما قضية نخبة متعلمة أوسع من دي قبل، لكن ليس بعد قضية أمة. لم تبلغ مبلغ ما حققه الإصلاح الديني عند الشعوب البرتستانتية بدول شمال أوروبا وبشمال أمريكا. ومن شأن الاطلاع على تاريخ الشعوب الحرة وتدريسه أن يشجع على إصلاح ديني شبيه بالإصلاح الذي نتج عنه مذهب البروتستانت. إصلاح حصل من بعد قراءة متجددة للدين الذي أساسه الحرية اللازمة لقيام الناس بالقسط كغاية الغايات من إرسال كل الرسل. والحضارة الثقافية لا تضمن بالضرورة الأمن على الحرمات كما تضمنها الحرية في الحضارة السياسية. كيف ذلك ؟

9) الحرية بين الحضارة السياسية والحضارة الثقافية

الحضارة العربية المسلمة ببغداد، بقرطبة وبعموم الأندلس استحقت وستظل تستحق افتخار المسلمين بها كما استحقت و لا نزال الانبهار بها عبر العالم. لكنها حضارة ثقافية. وإذا كانت الحضارة الثقافية من الحاجيات فالحضارة السياسية من الضروريات لتكريم بني البشر. تأمل معنا ذلك في ما جاء في حديث المؤرخ الفرنسي لابولاي، وهو يعرّف الحضارة لما قال : "أنها مُركبة ومعقدة، من حيث تشمل عناصر مختلفة، من تشريع وفنون وعلوم وصناعة وتجارة ونوع من الذوق العام ونوع من التفاعل الاجتماعي. وهي الأمور التي قد توجد عند مختلف الشعوب متفرقة وبدراجات متباعدة جدا. فتساهم كل منها في تشكيل آداب أجيال أو أمة. هكذا نقول بأن حضارة اليونان كانت أرقى من حضارة روما لما أخضع الرومان اليونانيين لسلطانهم. في حين كانت المؤسسات السياسية الرومانية أرقي من نظيراتها اليونانية. وهكذا نجد اليوم أن عشق الحرية والاستئناس بفنون الحياة العامة هما أعظم وأقوى ببريطانيا مما هما عليه بفرنسا وألمانيا وإيطاليا . ومع ذلك من يجرأ على الادعاء بأن مدينة لندن البريطانية أرقى حضارة من مدينتي باريز الفرنسية وفلورنسا الإيطالية ؟ فهؤلاء الآلاف من الأجانب الذين يزورون بلدنا (فرنسا) كل سنة بحثا عن سحر مجتمع أكثر نعومة، سيحتجون على مثل هذا الادعاء" . ذلك لأن الحضارة الثقافية غالبا ما تبهر عقول الشعوب فتحجُب عنها الحضارة السياسية، التي هي بالنسبة لعموم البشرية نعمة بفضل نور الحرية الذي يبدد ظلم وظلمات الاستبداد، مهما ارتقت فيه الحضارة الثقافية.

ففي العديد من الدول عبر تاريخ البشرية، قد تـــــزامــــــن تواجد حضارات زاهرة ومبهرة، مع غياب تام لاحترام حقوق الإنسان فيها. كما تــــــزامــــــن في أخرى حضور تام لاحترام حقوق الإنسان مع غياب أي شكل من أشكال الحضارة الثقافية والعلمية والعمرانية فيها. وتلك كانت ما يُعرف اليوم بدولة الحق والقانون. مثل الجمهورية الرومانية العتيقة حتى من قبل أن تعرف حضارة عمرانية. ومَثَلها في أبهى صوّره هو عهد الرسول الكريم وعهد الخلفاء الراشدين. فتلك كانت دولة الحق والقانون ومن دون أي مظهر من مظاهر حضارة مبهرة. تلك الدولة التي بحسب ما جاء في كتب المؤرخين المسلمين أنفسهم وفي كل عصر، ما لبثت أن تلاشت تحت ضغط الاتساع السريع لرقعة بلاد الإسلام، وحتى لما ظهرت فيها حضارة زاهرة في فترة من عهد العباسيين ببغداد وفي أخرى من عهد الأمويين بقرطبة. وبخلاف الدولة العتيقة البائدة فالدولة الحديثة هي الأوفر حظا لاحتضان الحرية. كيف ذلك ؟

10) الحرية بين الدولة الحديثة والدولة العتيقة البائدة

الدولة الحديثة اليوم هي دولة الحق والقانون، التي جمعت بين تواجد الحضارة الثقافية بمختلف مظاهرها من جهة وبين حضارة سياسية تضمن أمن شعبها على حرماته من جهة ثانية. الحرمات التي تشكل مقاصد الشريعة عند الخاصة، وحقوق الإنسان بلغة عصرنا عند العامة كما تقدم.

ففي أوروبا الغربية، الدولة التقليدية العتيقة، التي سمّاها الفرنسيون النظام القديم l’ancien régime إثر ثورة 1789، توفرت لها منذ القرن الرابع عشر الظروف الجيوسياسية المواتيّة كي تتعزز تدريجياً بإدارة قوية. لجأ فيها الملوك والأمراء إلى خبرات المواطنين من الطبقة البرجوازية من رجال المال والأعمال ومن رجال القانون. خبرات اكتسبتها تلك الطبقة في الممارسات المالية والإدارية وفي تجديد القانون المرتبط بتزايد سيطرة القانون الروماني.

ففي بعض الإمارت بشمال إيطالية، كفلورنسا بالخصوص حيث حصل ذلك التطور مبكرًا، تم إنشاء نوع حديث من الإدارة العمومية المحلية على غرار إدارة المال والأعمال في المجالين التجاري والصناعي. ثم تسارع نفس التطور خلال عصر النهضة عندما أمسكت الدولة بسيادتها الكاملة على ترابها بفضل تلك الإدارة القوية والفعالة التي لا تسمح لأي كان فيها أن يخرج عن سيطرتها.

فنشأت الدولة الحديثة بفضل ذلك التطور الإداري القوي. ثم بضغط متزايد ومتدرج من شعوبها تطورت وصارت محكومة بمبادئ الحق والقانون على أساس الفصل بين السلط الثلاث. وتحققت بفضل كل ذلك وبالتدريج دائما العدالة الضريبية، وخضعت ميزانية الدولة لقرار السلطة التشريعية المنتخبة نيابة عن الشعب مع مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية من طرف نفس السلطة التشريعية. فنمت فيها الخدمات العمومية من أمن وطني وجيش وطني وعدالة مستقلة وصحة عمومية وتعليم عمومي وأشغال عمومية تعنى بالمرافق الضرورية. فساد الأمن في كل ربوع البلاد برّا وبحرا، وامتد ليغطي القرى النائية والجبال. وبفضل ذلك استغنت المدن عن الأسوار ذات الأبراج التي كانت تحيط بها لحمايتها بمدافعها التي كانت موجهة صوب الداخل مثل ما كانت صوب الخارج، والتي بقيت شاهدة على هشاشة الأمن بالدولة التقليدية البائدة. لكن فقط المستقرئين لكتب المؤرخين، وما أقلهم مع الأسف الشديد، هم الذين يرون ويدركون ذلك الفارق الكبير في الأمن العام والاستقرار والعدل بين الدولة الحديثة والدولة التقليدية البائدة.

11) الدروس والعبر

خلاصة القول أن الدولة الحديثة هي تلك التي صارت ذات سيادة كاملة على كل ترابها بفضل الإمكانات الإدارية القوية غير المحدودة والتي يستخدمها صاحب السيادة، مستبدا كان أو شعبا، في ممارسة سلطته. أما الدولة التقليدية البائدة فقد كانت تعاني من ضعف الوسائل التي يمكنها تعبئتها لتنفيذ السياسات التي كان يصممها ويقررها صاحب السيادة، مهما حسنت نواياه. وبما أنه ما كان بإمكانها الاعتماد على إدارة قوية وفعاّلة فقد كانت مضطرة للتعامل مع أنظمة العلاقات المجتمعية المختلّة والمبنية على النفوذ والجاه وأحيانا كثيرة على استعمال قوة السلاح المشاع بين عموم الناس لفض النزاعات وللاستحواذ على الامتيازات.

فكان البسطاء من الأهالي يعيشون فيها بين ناريْن، وذلك مهما ازدهرت وتألقت حضارتها. كانوا عرضة لإجرام قطاع الطرق في المناطق الخارجة عن نفوذها من جهة. وكانوا يئنون تحت نيْر عسف وجور رجالها بالمناطق التي تتحكم فيها من جهة ثانية. فحيث ما وجدوا فيها ما كانوا يأمنون بما يكفي على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.

هكذا وبمعيار مقاصد الشريعة السمحاء تبقى الدولة الحديثة اليوم أرقى وبكثير من الدولة العتيقة البائدة، وذلك حتى في عز تألق حضارتها. ولا يدرك ذلك الفرق الشاسع بينهما سوى من يقرأون كتب التاريخ كما هو على حقيقته بحُلوه ومره، وما أقلهم مع الأسف الشديد، بالرغم من وفرتها وفي متناول اليد لكل من يبحث عنها على الإنترنت وبالمجان.

وما خلا يوم مجتمع بشري من ظلم وفساد، ولن يخلو منهما أبدا مهما تطوّر وازدهر. لكن بنفس معيار مقاصد الشريعة السمحاء، سيظل الظلم والفساد في الدولة الحديثة أقل وبكثير من ظلم وفساد الدولة العتيقة البائدة. وكما في باقي العالم، تشهد مرة أخرى بذلك كل كتب المؤرخين المسلمين في مختلف بقاع أرض الإسلام وعبر مختلف العصور، اللهم في عهد الرسول الكريم وعهد الخلفاء الراشدين.

فلا يصح أبدا أن يبغي بعض من شبابنا الدولة العتيقة البائدة بديلا عن الدولة الحديثة، مهما تألقت وازدهرت حضارتها، التي يحق لنا أن نفتخر بها، ولكن من دون أن تحجُب عنا تخلفها في مجال حقوق الإنسان التي تضمنتها مقاصد الشريعة السمحاء والتي هي أهم بكثير من بريق أية حضارة. وحتى يقتنع بذلك، فقد حان الوقت لتدريس تاريخ أسلافه كما هو على حقيقته بحُلوه وبمُرّه، وليس فقط ما عرفه من صفحات مجيدة ومشرقة وزاهية، فلا يُشمت في حقيقة طبيعة الدولة العتيقة البائدة، وفي مثالبها. كما من شأن تدريس تاريخ الشعوب الحرة أن يمكن النشء من التمييز بين الحضارة الثقافية والحضارة السياسية الضامنة لاحتضان الحرية ولتوفير الأمن على حرمات العباد. كيف ذلك ؟

من يقرأ كتب تاريخ شعوب الغرب، ككتب ميكيافلي ومونتسكي وغيرهما، سيلمس فيها ثراء الآثار الفكرية والسياسية التي خلّفتها في تلك الشعوب التقلبات السياسية في مختلف أنواع الحكم بسبب الصراع العمودي الذي احتدم فيها بين الفئات المستضعفة المطالبة بالحرية والفئات المترفة الميّالة بطبعها البشري للاستبداد على حساب حرية الرعية. فأنتج ذلك الصراع عبر العصور وعلى مراحل هذا الواقع الذي يميزها اليوم عن باقي شعوب العالم. فلا تجد مؤرخيها يتكلمون فقط عن الأحداث والأشخاص، كما هو حال الإخباريين بباقي العالم، بل سرعان ما تجدهم يتعدّونها إلى الحديث عن أحوال الشعوب وعن الظروف والآليات والقواعد والقوانين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت ولا تزال تتحكم فيها. فخلقت عندهم وعند شعوبهم وعيا سياسيا قل نظيره بباقي العالم. لذا تجدهم ينظرون للحياة السياسية في كل مكان وزمان كما ينظر الطبيب بعقله إلى داخل جسم المريض من بعد ما يرى بعينه مظهره الخارجي.

وبالنظر لما تقدم فالفهم الصحيح للدين هو أصل تشبّع اليهود بقيم الحرية في الشتات كما أشار إلى ذلك روسو، والذي مكنهم من إقامة الكيان الصهيوني الظالم والغاصب لفلسطين كيانا يهوديا ديمقراطيا من أول يوم. وهو أيضا أصل حرية الشعوب البروتستانتية بوسط وشمال أوروبا وبأمريكا الشمالية، المتميزة عن الشعوب اللاتينية الكاثوليكية وبجنوب أوروبا حيث سادت حضارة ثقافية مبهرة وبجنوب أمريكا. ومع ذلك بقى فهم الدين عندهم ناقصا لما أرادوا الحرية طائفية وقومية تخصّهم، وعلى حساب حرية غيرهم من البشر. في حين الالتزام بالدين الصحيح كما جاء به كل الرسل من شأنه أن يمكن من قيام الناس بالقسط. وكلمة الناس تشمل كل البشر من دون تمييز، كما قال تعالى في حق نبيه الكريم "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " (الأنبياء 997 ). أما الفلسفة التنويرية فما خلت يوما من قيم نبيلة في هذا الصدد. لكن ليس لها مثل ما للدين من عمق شعبي. فتبقى بها الحرية قضية نخبة وليست قضية أمة. لذا الاعتماد عليها لوحدها من دون الإصلاح الديني، على غرار ما عرفه البروتستانت في أوروبا، من شأنه أن يُبقي شريحة عريضة من الشعوب في منأى عما يحمله صحيح دينها من قيم الحرية والكرامة، فتبطئ من السير نحو الخلاص.

ويبقى أخيرا الاهتمام بتاريخ الشعوب الحرة والبحث فيه وتدريسه للناشئة من بين الوسائل الكفيلة بتجيعها على إعادة قراءة موروثوها العقدي فتتصالح مع حقيقة وصحيح دينها كعقيدة ربانية للخلاص من الوضاعة وللتشبع بالقيم الضامنة للكرامة الإنسانية، فتستطيع شق طريقها إلى الحرية عن إيمان ووعي وبصيرة وهي تعرف بالضبط ماذا تريد. ومن تاريخ الشعوب الحرة التي ينبغي الاهتمام بها تاريخ كل من شعب روما العتيقة وشعوب المدن اليونانية العريقة، وشعب كل من جمهورية البندقية وإنڭلترا وسويسرا وهولندا، وتاريخ المستوطنين الإنڭليز البروتستانت بشمال أمريكا. والكتب المتعلقة بها متوفرة على الشبكة العنكبوتية. فيكفي أن تحظى بما تستحقه من الاهتمام لترجمتها.


المصادر والمراجع

• طيبي، أمين توفيق ،"التبيان" لمؤلفه الأمير عبد الله بن بلقين، منشورات عكاظ،
• د. عبد الله العروي، ترجمة كتاب منتسكيوه :"تأملات في تاريخ الرومان" المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2011.
• د. عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، بيروث، الطبعة الخامسة 1993
• الشيخ علي عبد الرازق، الإسلام و أصول الحكم، مطبعة مصر، شركة ساهمة مصرية، الطبعة الثانية، 1925
• Astié, Jean-Frédéric, HISTOIRE DE LA REPUBLIQUE DES ÉTATS-UNIS, Grassart, libraire éditeur PARIS, 1865
• François Guizot, ESSAIS SUR L’HISTOIRE DE FRANCE, Pourrat frères, Paris, 1833
• Édouard LABOULAYE Histoire politique des États-Unis: Charpentier, Paris, 1867
• Charles de Secondat de Montesquieu DE ESPRIT DES LOIS, Barrillot & fils, Genève, 1748
• DE TOCQUEVILLE D’Alexis, DE LA DEMOCRATIE EN AMERIQUE, Michel Lévy Frères, Paris, 1864
• Jean-Jacques Rousseau, CONSIDÉRATIONS SUR LE GOUVERNEMENT DE POLOGNE, ET SUR SA RÉFORMATION PROJETÉE, in Collection complète des oeuvres, Genève, 1780-1789, vol. 1 in-4e.
• L abbé Jean-Hippolyte Michon, VOYAGE RELIGIEUX EN ORIENT, libr. Comon, Paris. (1853)
• Gustave Le bon, LA CIVILSATION DES ARABES, Firmin-Didot, Paris : 1884
• Numa-Denys Fustel de Coulanges, LA CITE ANTIQUE, Librairie Hachette, Paris 1900



#المصطفى_حميمو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرية الشعوب بين توفق صحيح الدين وإخفاق الفلسفة التنويرية
- حرية الشعوب بين توفق صحيح الدين وفشل الفلسفة العلمانية
- العبر والدروس من تاريخ الشعوب الحرة


المزيد.....




- لعلها -المرة الأولى بالتاريخ-.. فيديو رفع أذان المغرب بمنزل ...
- مصدر سوري: غارات إسرائيلية على حلب تسفر عن سقوط ضحايا عسكريي ...
- المرصد: ارتفاع حصيلة -الضربات الإسرائيلية- على سوريا إلى 42 ...
- سقوط قتلى وجرحى جرّاء الغارات الجوية الإسرائيلية بالقرب من م ...
- خبراء ألمان: نشر أحادي لقوات في أوكرانيا لن يجعل الناتو طرفا ...
- خبراء روس ينشرون مشاهد لمكونات صاروخ -ستورم شادو- بريطاني فر ...
- كم تستغرق وتكلف إعادة بناء الجسر المنهار في بالتيمور؟
- -بكرة هموت-.. 30 ثانية تشعل السوشيال ميديا وتنتهي بجثة -رحاب ...
- الهنود الحمر ووحش بحيرة شامبلين الغامض!
- مسلمو روسيا يقيمون الصلاة أمام مجمع -كروكوس- على أرواح ضحايا ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - المصطفى حميمو - حرية الشعوب بين الوازع الديني والفكر التنويري