من يشعر بوجع زكية جورج؟

كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن
(Karam Nama)

الحوار المتمدن-العدد: 7521 - 2023 / 2 / 13 - 00:31
المحور: الادب والفن
    

أتخيّل أن زكية جورج في آخر سنوات حياتها، كانت تُحدث نفسها بنفس السؤال الذي طالما تكرر مع عدد آخر من الفنانين في نهاية حياتهم التي تنتهي بالخيبة وليس غيرها، فالمجد يتحول إلى مجرد ذكرى تذروها رياح السنين.
أستعيد مرارة تجربة الفنانة العراقية الحلبية زكية جورج، لأن قسوتها تكررت بالأمس وتستمر بالتكرار مع العشرات من الفنانين في نهاية حياتهم.
كم فنانة عراقية اليوم تعيش نفس وجع زكية جورج في آخر حياتها؟ ستكون لدينا قائمة قاسية ولفرط وجعها ينبغي أن نحتفظ بها!
جلست فاطمة عاملة الخياطة في معمل بمدينة حلب السورية في ستينات القرن الماضي، بعد سنوات من المجد الغنائي الذي مثلته باسمها الفني "زكية جورج" بينما الإذاعة العراقية لم تتوقف عن بث أغانيها. تغني مع نفسها وتخشى أن تسمعها بقية عاملات الخياطة، كي لا يتبادر إلى الأذهان السؤال المحمل بسنين من الدهشة، ما الذي أتي بك إلى هذا المعمل؟
رحلت زكية عام 1966 وبعد سنوات من عودتها إلى حلب من بغداد، فقد هاجر قبل ذلك ملحنها البارع صالح الكويتي إلى إسرائيل من دون أن يترك لها شيئا من الأمل، فعادت إلى مدينتها السورية ولم تجد غير الذكريات وقسوة الحياة التي حولتها من أشهر مغنية عراقية إلى عاملة خياطة سورية.
من الأهمية بمكان استذكار زكية جورج اليوم لأن قصتها تمثل فاصلة تاريخية وإنسانية في الغناء العراقي، فيما لا نجد إجابات عن أسئلة ما الذي فعله الزمان بمائدة نزهت وأحلام وهبي وهناء وغادة سالم وأمل خضير وسيتا هوكبيان…
تركت لنا زكية دروسا في معنى الحنين، عندما يكون الغناء باعثا عليه، ومن حسن حظ الغناء أن السيد العظيم "يوتيوب" يوفر لنا تلك المساحة كلما استبد بنا الزمان وتأملنا تداعيات السنين في راح أكفنا.
تسنى لي أن أستمع إلى أكثر من سبع ساعات صوتية مسجلة بصوت الموسيقار العراقي الراحل صالح الكويتي، وفرها لي ابنه شلومو عندما التقينا في لندن قبل سنوات، يتحدث فيها عن زمنه العراقي وخيبته بعد الهجرة إلى إسرائيل بداية خمسينات القرن الماضي.
عندما يستذكر زكية كان يتحدث بوله وكأنه يصنع قطعة موسيقية، مع أن التاريخ يقول لنا إن صالح كان يذوب عشقا بسليمة مراد التي تشترك معه بالديانة نفسها وتزوجت لاحقا ناظم الغزالي.
وبمجرد العودة إلى ألحان صالح لصوت زكية نكتشف ما معنى أن تعبر الموسيقى عن الكوامن العميقة للروح الإنسانية، وكيف تحلّق بنا الأصوات الصادقة مثل طيور مبللة بالندى.
لقد توج تلك التجربة الفريدة في الغناء العراقي عندما اختار مقام "الصبا" في أغنية ليس بمقدور الغناء العراقي أن يكررها كما فعل ملحنها صالح ومغنيتها زكية "أنا من أقول آه وأتذكر أيامي". تلك فاصلة لامعة في الغناء لا يمكن أن تصدأ بعد أن مر عليها أكثر من ثمانين عاما. كذلك قلت أتخيّل أن زكية تغني بصوت هامس تلك المواجع وهي جالسة على ماكينة الخياطة في آخر أيامها بحلب، قبل أن يشفق على ألمها الموت!
ما أدرانا ما الذي تفعله بقية الفنانات اللواتي يعشن وحشة الإهمال والعمر وأذى المجد الآفل.
صالح الكويتي كان لا يجد في صوت زكية جورج إلا المعبر المخلص بعمق عن وجع عراقي تاريخي، لذلك كانت كل ألحانه لها محملة بالتساؤلات "وين رايح وين" "تأذيني يا ولفي ليش تأذيني"… لكن زيارة الشاعر الهندي طاغور إلى بغداد توجت ذلك بقصيدة "يا بلبل غني" التي ترجمها جميل صدقي الزهاوي إلى العربية.
هكذا علينا استذكار زكية جورج اليوم لنشعر بوجع غيرها من الأحياء!

#كرم_نعمة (هاشتاغ)       Karam_Nama#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات