أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي جواد الطاهر - بير وشناشيل .. مسرحية عراقية















المزيد.....


بير وشناشيل .. مسرحية عراقية


علي جواد الطاهر

الحوار المتمدن-العدد: 7494 - 2023 / 1 / 17 - 00:26
المحور: الادب والفن
    


- كيف رأيتها ؟
- رائعة . وكاد يقول " جداً " ، و" عظيمة " لو لا حذر مبالغ فيه يمنعه من الانطلاق . ومضى في حماسته : عجيبة " فرقة المسرح الشعبي" هذه في احتفاظها بقاعدتها التي قامت عليها ومسيرتها نحو الاحسن والاحسن ، على الرغم من مثبطات منها ضيق ذات اليد ، ومنها تضييق – استمر هذه المرة مثلا ، ستة اشهر – في الحصول على قاعة ذات رقعة واسعة تستوعب قدراً من طموحها وتتسع لعدد مشاهديها ،وعلى الرغم من مغريات محيطة يمكن ان تجرها الى المال الوفير والجمهور الغفير ، عجيبة وعجيب رئيسها ، ومخرجها والاجيال المتعاقبة المتلاقية المتصافية المتناغمة .
ان مهمة الفرقة صعبة ، وفي هذه الصعوبة جمال مهمتها ، والا فقد خالفت اسمها ، وناقضت رسمها ، وانحطت الى ما لا تريد ان تنحط اليه ، ووقعت فيما لا تود ان يقع فيه غيرها .
واذا كنا قد هنأنا المخرج ومساعده ضمناً ، فلنهنئ الممثلين و(الممثلات) عموماً ، وان نقول خصوصاً انه قد صار لنا مع اقبال نعيم (زكية الخبازة) ممثلة من طراز عال عراقياً وعربياً .. و(عالمياً كذلك) . واذا كان عبدالواحد طه (خليل – الثري المقعد) لم يستوف حقه في ثناء النقاد فان عليهم ان يتذكروا تقصيرهم السابق فيستذكروه هنا وهم يرونه على عربة المعوقين حركة وسكوناً ، غفوة وصحوة ، ابوة مرتبطة بنكبة أسهمت بها يد انسان (انسانة) وعلقت – كذباً- على سبيل التداعي بقطار . انه ركن ركين في المسرحية .
ولقد جوّد الممثلون (الممثلات) ، وستزيدهم الايام انسجاما مع ادوارهم ، يتقدمهم شيخ يأخذ دور الحارس منسجماً مع تجاربه ولا يتحكم او يشتط .
ان تمثيله على خشبة هذا المسرح اعاد له شبابه وغمره بسعادة كبيرة ... ذلكم الشيخ وقد عرفتموه الاستاذ جعفر السعدي .
ونسير ، لنقف – تأدية لواجب – في تحية المؤلف (عباس الحربي) عرف كيف يمسك بالخيوط ، وكيف يختار مجتمعاً ينفذ الى اعماقه ، وكيف يكون جاداً حبيباً الى النفوس ، موشحاً ذلك الجد بمرارة تدعو الى الضحك ، وبسخرية تستثير ضحكاً وكأنه ضحك لذاته وبمواقف موغلة بالأسئلة تأخذ طريقاً طوعاً الى الاكف .
لنصف مسرحيته بالواقعية ، فقد اعتدنا ذلك حين تجري الاحداث في " خان" يسكنه معدمون مختلفون في العمل ، ومنهم من لا عمل له ، وهم كلهم فقراء لا يستطيعون ان يسددوا أجرة السكن على حقارتها وحقارة السكن في ضيقه وقذارته ، ومنهم من اقام تحت الدرج ، انهم تنكجي (كامل – عباس الحربي) ، زوجته المريضة (صبرية – خديجة منخي) ، وخبازة فارقها زوجها على ما قيل لها بحادث قطار ، وسكير يعيش بالقراقوز (جواد – ميمون الخالدي) ، وعطال بطال (هوبي – د. فاضل خليل) لا يعرف أصله وفصله .
الخان من املاك مبتز اثرى باطلاً ، ولكنه الان – هو وهم – تحت رحمة نجية خاتون (عواطف نعيم) من هي باسم الزوجة الثانية للثري الذي آل مقعداً زحفت اليه طمعاً بالمال خلال عقيدة بأن المال كل شيء في الحياة ، والناس يطلبون المال اذا غاب الجمال وحملته – خلال زحفها – على طلاق زوجته حتى اذا تمكنت ، قتلت ابنته " سارة " عمداً بأكداس من اكياس الحبوب وادعت ان الاكياس قد قتلتها اذ سقطت عليها عفواً وهي تلعب بها . ثم كانت على المستأجرين ابعد قسوة واشد عقدة واعمق حقداً وأظلم تحكماً . ولا تسلم اختها الصغرى (احلام – انعام البطاط) من جورها وعقدها . ويكفي ان يكون بيدها المال ، وان الاخرين في عوز وحاجة اليها .
وحين يقيم المدقعون على " أرضية " الخان ويقيم المالك وزوجته واخت زوجته في دور اعلى ، فان ذلك يأتي دليلاً على التمايز الطبقي ، والفرق كبير كالفرق بين البير والشناشيل حتى لو كان الجميع " لآدم وآدم من تراب " .
وهذا – في مجمله – مما اعتدنا رؤية مثله في مسرحيات سابقة مرت على مشهد من الجمهور العراقي ، بدت ، مرة وكأنها ليست بذات هدف ، فهي تعرض على الخشبة فئة من عامة الناس في عيشها كما هم ، أو تعرض عادة مستحكمة مضى عهدها وبقيت كما هي . وبدت ، مرة أو مراراً ، ذات هدف واضح في الاصلاح الاجتماعي وفي الثورة السياسية وفي استنهاض المهضوم الى حقه .
ولك ان تصف المرة الاولى بالواقعية ، وتصف الثانية بالواقعية الانتقادية (وقد تبلغ الاشتراكية احياناً ..) . أجل – ولكن مسرحيتنا هذا اليوم – مسرحية "بير وشناشيل" التي ألفها عباس الحربي وأخرجها الدكتور عوني كرومي ومثلتها " فرقة المسرح الشعبي" على خشبة مسرح الرواد (معهد الفنون الجميلة سابقاً) – هي هاتان الواقعيتان ويكفي ما رأينا من حقارة الخان ، وما رأينا من جور الخاتون وخنوع المدقعين لها حيناً ، وتحديهم اوامرها حيناً وكأننا في مجتمع كبير خلال هذا المجتمع الصغير ..
وأشياء اخرى ، ابعد في المدى ، واعمق في الانسانية ، وادخل في الفن ، وهي كثيرة ، اقربها الى ما كنا فيه من الواقعيتين السابقتين انك تنحاز الى المدقعين في هدوء فترثي لحالهم وتتعاطف معهم وتحنق على الظالمين .. وهنا – في كلمة هدوء هذه – ندخل ابواب الفن الحقيقي ، فلا خطابة ولا تقرير ولا مباشرة . ان المؤلف لا يقول لك : كن مع الفقراء ولا يقول لك : احتقر المبتزين .
ولكنك تمضي الى هذا وهذا طواعية وتمتلئ نفسك غمّاً وتتقطع حسرات بل انك مع المدافعين او مع نفسك في تأمل الحال ، فلماذا ؟ وكيف ؟ والى متى ؟ وهنا تأتي مشاركتك عن وعي غير وعي ظاهر تمضي معهم حين يختلفون ويتنازعون ، وتمضي معهم حين يتفقون ويلتقون ... ويند عنهم السؤال والجواب صراحة او همساً ، قولاً أو فعلاً حين يتلاومون ، ويفكرون قليلا في حالهم فيهمون بعمل ما أو يتوجهون نحو عمل ما .
وصحيح ان الظرف العام مسؤول كما يبدو ، وكما يريدون ان يقولوا ، وانهم ليسوا اغبياء بل ان المتعيش بالقراقوز يعلم جيداً ان وراء هذا القراقوز فكراً ، وانه ربما سعى الى تنبيه الغافلين خلال ما يبدو هزلاً على لسانه من عبارات مسجوعة وكلمات مغناة وحركات مستغربة ، وان التنكجي يمكن ان يجد له مهنة غير هذه المهنة ويخرج بزوجته المريضة عن هذه الدائرة المغلقة . وان هوبي العاطل لم يكن الوحيد الذي لا يعرف أصله وفصله ليبقى متسكعاً دون عمل .. وهكذا ..
صحيح . وانهم لعالمون بسوء حالهم ، عالمون بما في المجتمع – ما يجب ألا يكون من نفاق ، وعالمون – اكثر من ذلك – أمر المتحكمين بهم عارفون مناطق ضعفهم وكسلهم وحصرهم انفسهم في هذه البقعة الضيقة وقعودهم عن العمل او عن تنفيذ الفكر – فيزدادون ايغالاً ، وهم إذ يرفعون أسعار المادة الضرورية للعيش يقصدون الى ان يبقى الفقراء فقراء ، وان يزداد الفقراء تشبثاً بهم وخضوعاً لهم ، وخذ – مثلاً – زكية الخبازة ، انها تعيش ما دام لديها الحطب والطحين والتنور ، فتخبز وتبيع خبزها في محطة القطار فتحفظ بذلك شرفها وتربي طفلها وتترفع عن مواطن الذل . ولكن اهل الثراء الفاحش لا يرضيهم ذلك ، فلا بد من الايغال ، زيادة في الربح وقسراً للفقراء على التبعية . وها هم اولاً يرفعون سعر الحطب ... والبقية تأتي ، والخبازة تقاوم ، وتبقى انت تفكر في المدى الذي يمكن ان تبقى فيه الخبازة على كرامتها وقد غلا الحطب ومرض الطفل .
أقول : إن في (بير وشناشيل) ما اعتدنا ان نراه من قبل في مسرحنا العراقي من واقعية او واقعيات ، ولكنها – اي " بير وشناشيل" – تتقدم خطوة – أو خطوات – في الفن حيث تحتوي الواقعيات السابقة وتزيد عليها الهدوء في المعالجة ، والرقي في النفاذ الى نفوس المشاهدين ، والبراعة في ترك الاحداث تتكلم والوقائع تعرب عن الحال دون نصائح ومواعظ وخطب وتقارير ، بل اننا في (بير وشناشيل) في مرحلة نخرج بها عن الدفاع بكل سبب عن المضطهدين للدخول في مرحلة نحملهم بها جزءاً من المسؤولية لأنهم ارتضوا الخنوع وآثروا السلامة لأنهم متنافرون ، ولأنهم اختاروا من المواقف ما لا يجديهم .
هذا جديد . أو انه صفة في التأليف الواقعي تتقدم به خطوة او خطوات الى الامام .. ومع التأليف والاخراج والتمثيل ، والمشاهدون لان هذه المسرحية تتطلب مشاهداً ذواقة متأملاً يقرأ ما بين السطور من فضاءات وقد ارتفع عن الاساليب البدائية القائمة عللا التهريج حتى في المعاني الخيرة حين تكون المسرحيات معانٍ ،وحين تكون المعاني خيرة .
أشهد ان هذا قليل في تأريخ مسرحنا (الجاد – طبعاً) ، وانه هنا في هذه المسرحية – كثير يسجل مزية ويدعو الى الانتباه . ثم انه ضمن رسالة (فرقة المسرح الشعبي) تأييداً واصراراً .. وتعاوناً خاصاً بين المؤلف والمخرج والممثلين (من شيوخ وشباب) والمشاهدين ...
ونقف عند كلمة (المتأمل) خشية أن تكون قد مرت عابرة . وأريد أن أقول أن مسرحياتنا الماضية الواقعية (الجادة) كانت تقدم للمشاهد كل شيء ما بين السبب والنتيجة ، وتعلمه أن هذا يجب أن يكون كذا ، وان هذا يجب ألا يكون . وهي معذورة في ذلك لأنها في البدايات تأليفاً وتمثيلاً وزمناً .. ونزولاً عند ضرورة تعليمية صرف وخدمة لمشاهدين حديثي عهد بالمسرح ! ولأن واجب المسرح الجاد أن يبرهن لأعدائه على ان المسرح غير " الملهى" ، واذا كنا قد أخذنا عن الغرب لفظ " تياترو" فان التياترو ولدى الغرب ليس الملهى الرخيص ، وانما هو مؤسسة اخلاقية اصلاحية . وكان هذا الهدف واضحاً في أول خطبة ألقاها مؤسس المسرح العربي " مارون النقاش" سنة 1948 (وقيل 1947) وسارت في طريقه " فرق" من الغيارى لم تسلم من العثرات والعقبات والمتعبات والمنغصات ، ولم يسلم الفن نفسه من الانحراف – أو الحرف – حتى الدنس أو العمالة على يد آخرين طلبا للمال وسيراً في ركاب الطغاة وصرفاً للطالبين عن حاجاتهم .
لقد كانت المباشرة – في التأليف السابق – ضرورة لإخراج المشاهد من مفهوم مصيري خطأ الى مفهوم صحيح . وحين تم ذلك انتفى – في الظاهر ، ولدى السير الطبيعي للاشياء – أي سبب النكسة . وصار المطلوب الاول من الخطوة الثانية ما حققته لدينا اليوم " فرقة المسرح الشعبي " في (بير وشناشيل) خاصة أي الواقعية التي تتجنب المباشرة وتسعى الى إثارة الفكر في هدوء الى فرص التأمل في الفن .
وهكـــذا أنت – هنا – في تأمل حين ترى الجــــو يذيـــــع ذلك تأليفاً وإخراجاً وتمثيــــلاً ومشــاهــــدة .
وهنا عرفنا السر في تعاون المؤلف والمخرج على ألا تنتهي المسرحية كما كانت تنتهي المسرحيات السابقة بوضوح لا لبس فيه من الحل ، وإلا فما أسهل أن يسقط خليل (المالك) من شناشيله الى البير فيموت الثري ، وأن تستعين الأخت الصغرى بهوبي على قتل أختها الكبرى فتقتل الخاتون وأن يمتلك الخان المدقعون من أبنائه ، ويقيموا عليه أركان سعادتهم شفاء المريض لتوفر الدواء ، واشتغال صاحب القراقوز بالمهنة اللائقة بمفكر ، وبفتح التنكجي محلاً مناسباً . ثم يقام – سريعاً – حفل بزواج هوبي من أحلام (وهي مظلومة كذلك) وعودة زوج الخبازة سالماً ..
هذا – أو ما يمكن أن يكون مثله أو قريباً منه – ممكن جداً وسهل جداً ، وقد اعتادت مسرحيات لنا أن تكدس هذه الاحداث في مشهد قصير أخير تسميه الحل مهدت له المسرحية طويلاً خلال العرض . ويخرج المشاهد كما دخل خالي الذهن ، فلقد أوضحت له المسرحية كل شيء .. كل شيء . وحلت له المسألة على ما اقتضت من حل . أما هنا – في بير وشناشيل – فلا . لأنها وضعت المشاهد في حال المتأمل داخل القاعة وخارجها . وإذا نهضت في خاطره أسئلة جديدة على الايام يصعب عليه الوصول بها الى حل رياضي ، فلا يعجب ، لأن ذلك جزء من الخطوة الجديدة . فمن شوه – مثلا – وجه نجيه خاتون ؟ وما مصير حمودي ابن الخبازة ؟ بل ماذا كان يقصد المؤلف - على وجه الدقة – من مسرحيته ؟ أيبغي الاصلاح أو يريد أن يقول إن الدنيا هي هي تتكرر ولا تتغير ، تنتهي كما تبتدئ ؟ وماذا يريد المخرج بهذه الملابس التي ملأت القاعة من بيرها الى شناشيلها ؟
المشاهد – هنا – مساهم في العملية ذهناً ونفساً وعاطفة بالتأمل والوعي للأحداث والمواقف وكأنه مسؤول عن المتابعة قهو جزء منها ، واذا لم يجد جواباً آنياً ، فيكفي من السؤال ما شغله وما سيشغله حين يعاوده الخاطر بما مر غائباً عنه .. مع ضمان أكيد خفي بأنه – على اي حال – مع الخير ، وانه على رقي من أمره .
والمخرج عالم جيداً بتأريخنا المسرحي ، عالم كذلك بأنه يخطو الى الامام ، قاصد إدخال " وعي المتلقي" عنصراً في العملية الفنية .
والمؤلف – معه – يعي ما يقول وما يأخذ ويدع : " ... بير وشناشيل .. مسرحية شعبية تصور شرائح اجتماعية هاجسها الاساس هو الحب لخلق وإعادة توازن الحياة الداخلية . وتعتمد المسرحية في مصادرها على مفردات الواقع المعيش وبعض انجازات الادب المحلي والعالمي لتأسيس نموذج نقدي اجتماعي يحدد ملامح المسرحية الشعبية الجادة . انها خطوة متواضعة على طريق العطاء والابداع " .
وانها لخطوة على طريق الابداع .
وحسنا فعل إذ أعلن عن مصادره ، وفي مصادره – غير الواقع ، وهو مهم وغير انجازات الادب المحلي ، وهي تذكر دون شك حتى لو اعتراها ما اعتراها من نكسات – انجازات الادب العالمي . والمؤلف في هذا – كما هو في ذاك – مصيب متواضع – يطمعنا بالمزيد – بقدر ما يشير الى الطريق الذي لابد لنا فيه من المحلي والعالمي – المحلي وحده غير كافٍ ، ولم – ولن – نصل درجة الاستغناء عن العالمي – وهل استغنى – في العالم كله – أدب عن أدب ؟ ولم هذا الاستغناء الاستفقاري ؟ لابد لنا من العالمي فهو أصل التجربة المسرحية وسبيل التطور ، لن يكون المحلي وحده ذا قيمة دون امتزاج بالعالمي ودون ان يخرج من الضيق الى الواسع .
وهكذا خرجت مسرحيتنا كما خرج المسرح العالمي – منذ عهود – عن السذاجة ، وعن الاضحاك الرخيص والكسب السحت ، وعن الواقع كما هو ، وعن الواقعية النقدية التعليمية ، ودخل – منذ عقود – فيما هو رائع وراقٍ من دواعي التأمل . هذا اذا بدأنا الكلام بالتأمل الحديث المستأنف ، وإلا فهل كانت المسرحية الاغريقية بعيدة عن التأمل والمتأمل ؟
وأحداث مسرحيتنا هذه محلية صرف ، ويكفي هذا " الخان" ، وهؤلاء الساكنون بسلوكهم وأعمالهم وأفكارهم ومشكلاتهم وأزيائهم ... ولقد مرَ على المسرح العراقي العشرات والمئات من مثل هذه المحلية الضيقة التي أبقت المسرحيات فيها محلية فقط . وفي وقت كنا ننتظر فيه اجتياز النكسة والعودة الى السلّم الطبيعي في الترقي أطلت علينا بشائر " بير وشناشيل" فخرجت بتأمل المتأمل الى ما هو أبعد ، الى ما هو عالمي يعرفه ويعانيه الانسان – قصداً أو عفواً – اينما كان . ويقف " الحب" على رأس هذا العالمي . شيخ يحب من تصغره سناً وهي في شغل شاغل عنه بمصائبها الخاصة ، فيخرج الحكم على الشيخ عن المنطق اليومي أو المحلي على الرغم مما فيه من مضحك ! ومثل ذلك أن تكيد امرأة لإمرأة فتحل محلها لدى زوج ثري طمعاً بالمال وعن مفهوم خاص للمال وتزيد على الطلاق قتل ابنة الزوجة السابقة (سارة – التي لم تظهر على المسرح جسماً ولكنها ظلت تلونه بالكآبة روحاً) فتسبب للزوج عقدة تكون عصباً في بناء الدراما . ومثال ذلك ان تشترك أختان في حب واحد فتعمل الكبرى على اضطهاد الصغرى بأشكال من الحقد والخبث واللؤم والاعتماد على المال . ثم هذه الخبازة التي ظلت مخلصة لذكرى زوجها الذي لم تظمئن الى ما قاله الناس في رواية نهايته تحت عجلات القطار ، فاستحال القطار عقدة في نفسها ، كما استحال عقدة في نفس الثري المقعد حين لفق عليه قتل ابنته تحت عجلات القطار – والقطار بريء . والاتهام قائم لا يسلم منه حتى الجماد ، وانما هي حيل ، والقطار يجري والعيب فينا . واذا كانت نجية خاتون الحاقدة المتغطرسة مشوهة الوجه فلا يعني ذلك ان قلبها لا يخفق .
تلك مسائل عالمية من نفس انسانية لا تعرف كبيراً أو صغيراً ، ولا تميز غنياً من فقير . وصحيح ان فيها الخير الذي يجب ان يسود ، والشرير الذي لا يليق بالبشرية . صحيح ولكنه كائن ذو دلالة ولا يتجاهل الفن العالمي كائناً عالمياً يتخذه سبيلاً الى الفكر والعاطفة . هو كائن ، ولو قلت : واقعي أيضاً ، ولما ابعدت عن الحقيقة . وكل ما في أمره اننا لم نألفه ولم نرم اليه من قبل فيما عرفنا من واقعيات فوتوغرافية أو نقدية أو اشتراكية على الرغم من انه ظل امداً طويلاً في تاريخ المسرح من لوازم الاغريق وشكسبير والكلاسيكية الجديدة متابعة للكلاسيكية القديمة – خارج ما رأينا من مستوردات صرف ، وتجريبيات بحت .
ثم اكتشفه العصر الحديث او عاد اليه وطعّم واقعيته به أو وسع مداها حتى امكن ان نسميها – كما في هذه المسرحية الراقية – الواقعية الانسانية . واذا كان للإنسانية لدينا ، وفي مسرحياتنا السابقة معنى نصرة المظلوم على الظالم ، وايقاظ مهضوم الى حقه ، وبيان عمق الطيبة في نفوس العامة .. وهذا حاصل في هذه المسرحية ، فان للإنسانية معنى آخر عرفه العالم وهو تصوير الانسان من حيث هو وكما هو في تصرفه وفي حالات مختلفة من أطواره النفسية لدى الحب أو الكره ، في المدح وقت الذم ، والذم وقت المدح على لسان امرأة طاغية شُوهت بعد الجمال ، وفي حالة من يقظة رهيبة تعتاد الثري المقعد المنكوب فيتذكر ابنته فيناديها بلطف وكأنها ما زالت حية قريبة منه ولا يهدأ الا بالحبوب المسكنة وحيلة تدبرها الزوجة المغتصبة . الحال انسانية ، مؤلمة مهما قيل في ثراء فاحش احتازه هذا الثري من قبل . وهي بهذا ، ولدى ترددها خلال يقظات متقطعة تضفي على المسرح حياة من نوع خاص ، تلتقي في جوهرها مع الحياة التي تتذكر بها الخبازة زوجها المغيب ، مع حب الحارس الشيخ للخبازة ، مع حب نجية خاتون لهوبي ... مع ... مع ... فيخرج المشاهد بتأمله الى عالم أوسع من الخان نفسه ، وما الخان الا رمز للعالم الواسع ، وكل ما فيه رمز لشيء ، بما في ذلك القطار وقد رأيناه ، والحبوب المهدئة وقد رأيناها كذلك ..
وهــذا هــــــــو الجـــديـــد الذي حصـــــل في مسرحيتنا مقترناً بالقديم اقتـــران امتــــــــــزاج وتكامل وتوحـــــد ..
ويلتقي في هذا الجديد في الخطوة التي خطاها " المسرح الشعبي " إذ المؤلف والمخرج على تعاون تام وتفاهم مطلق ووئام نادر في الاخذ والرد والتبديل والتعديل .. ولنا أن نقرأ – ثانية – كلمة المخرج في دليل المسرحية واذا صعب علينا تحديد المطلوب منها بسبب من جدتها علينا ومن عمقها في نفس صاحبها ، فلنفهمها – في الاقل – في الحدود الواضحة من العالمية والانسانية والنفسية والخروج بالمحلي الى العالمي وبالعراقي الى الانساني .
وتبقى لنا وقفة خاصة مع المخرج أو مع السطر الذي ختم به كلمته فقال : " ... ويأتي العرض ليتخطى فكرة خداع المتلقي معتمداً (مشروعيته) فنلمح ما وراء العبارة من (برختية) . ولا بأس وأهلا وسهلا . وفيما قلناه عن التأمل الذي يؤديه المشاهد وما يبلغه التأمل من درجات الوعي في مسايرة الاحداث والاقوال علماً وتصوراً وتحليلاً ومسائلةً ... خلال العرض وبعده ما يرينا أن المشاهد فاعل في العملية ولا شك وان الذي سعى اليه المخرج " في تخطي فكرة الخداع " حاصل ولا ريب . ولي بعد ذلك ، ملاحظتان فأقول – عرضاً - : ليس صحيحاً ان المسرحيات القديمة – بما فيها الاغريقية ، وفي طليعتها الاغريقية – قائمة كلاً واساساً على فكرة الخداع ، وليس صحيحاً أو دقيقاً الالحاح على ربط الخداع بمقصود المحاكاة ، وهذه المناقضة المطلقة بين طرفين لا يلتقيان هما أرسطو وبريخت .
ثم أقول – جوهراً – لا بأس بقليل من " فكرة خداع المتلقي " بل ان المخرج – في بير وشناشيل – لم يستغن عن هذا القليل . الم تبد كثير من المواقف وكأنها من محاكاة الطبيعة لا تستدعي تأملاً ووعياً كما في انتصار هوبي لأحلام وقلق الخبازة على طفلها . ألم يبلغ الخداع ذروة حين تحترق القاعة بالتصفيق الحاد الصغير والكبير ، المفكر وغير المفكر . ألم يعش المشاهدون قلقاً غير واعٍ حين وقفت أحلام على ما يحتمل سقوطه وسقوطها على الارض من عل . ثم ماذا تسمي العيون تغرورق بالدموع – ومنها عيون كبار واساتذة – لهذا المشهد أو ذاك من مشاهد الدراما الانسانية ؟ أليس ذلك من " التطهير" ؟
ولا نطيل .. هناك أو هنا .. وما لنا وللنظريات ونحن في اعجاب بمسرحية " بير وشناشيل" ألفها عباس الحربي ، وأخرجها د. عوني كرومي ومثلتها " فرقة المسرح الشعبي" ومعها رئيسها الرائد جعفر السعدي ، على قاعة مسرح الرواد (معهد الفنون الجميلة سابقاً) ... شهدناها في الساعة السابعة والنصف من 24/12/1988م وستستمر بعدنا ...
انها عمل راقٍ (*) ..





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) " بير وشناشيل" تأليف عباس الحربي ، اخراج د. عوني كرومي ، انتاج : فرقة المسرح الشعبي ، تمثيل : د. فاضل خليل (ضيف الفرقة)، وجعفر السعدي ، وعبدالواحد طه ، وميمون الخالدي ، وعواطف نعيم ، واقبال نعيم ، وعباس الحربي ، وانعام البطاط ، وخديجة منخي ... على مسرح الرواد ببغداد منذ 22/12/1988م .



#علي_جواد_الطاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خيط البريسم أو فرقة المسرح الفني الحديث ... مازالت بخير


المزيد.....




- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي جواد الطاهر - بير وشناشيل .. مسرحية عراقية