أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميسون خليل - قطرات دم على رغيف ساخن















المزيد.....

قطرات دم على رغيف ساخن


ميسون خليل

الحوار المتمدن-العدد: 7484 - 2023 / 1 / 6 - 13:14
المحور: الادب والفن
    


حذاري... حذاري... نحن بحاجة أنْ نرى في ظلمة العاصفة.
الزمن... اليوم
الوقت... غروب خانق
عاصفة تنتظر عند الأبواب... كل الأبواب.
عاصفة شيطانية محملة بتراب محمر آت من ماض سحيق أحال الحقول والمباني والناس إلى اشكال غرائبية, كما لو أنّهم منحوتات لم تكتمل بعد.
العاصفة تضرب الأبواب والنوافذ لتمتحن ثباتها... تهتز بيوت الفقراء... تتساقط الواح وبقايا أشياء من فوق تلك السطوح... حتى أنّ القطط تكاثر عويلها دون أنْ تجرؤ على مغادرة الزوايا التي اندست فيها.
الطفل ذو الثالثة عشر من عمره أو الفتى كما يحلو له أنْ يكون... اقترب من الباب الخارجي بعد أنْ استلم من أمه المبلغ المحدد لشراء ارغفة الخبز كما يفعل كل يوم, وقبل أنْ يفتح الباب أكدت له أمه بأنْ يحتاط من العاصفة ويعود مسرعا. لف وجهه باليشماغ ودس قدميه بحذاء والده المقعد, الحذاء السميك الصلد الذي صمد أمام الأيام, حتى ما عاد احد يتذكر في أي زمن اشتراه. استدار الفتى وفتح الباب نشطاً متحدياً التراب الشيطاني بكثير من الاندفاع... مقتحماً الشارع... مواجهاً الرياح التي تدافعت معه حتى كادت أنْ تسقطه إلا أنّه ثبت واقفا... متماسكا... فدارت حوله واشتدت... تراجع خطوة ثم تقدم خطوتين, غالق عينيه, فهو يعرف الطريق, إلا أنّه سمع أصواتاً تتعالى... لم يهتم كثيراً لها, رغم غرابة حضورها في هذا الجو المغبر, لكنّ الأصوات أخذت تطرق مسامعه بوضوح أكثر كلما تقدم إلى الشارع... وما أن أزاح عن عينيه اليشماغ حتى شاهد كثيرا من الناس يعبرون في اتجاه واحد, ظن أنّهم يسرعون الى بيوتهم خشية العاصفة, مما جعله يسرع هو الآخر في اتجاه محل بيع الخبز, لينتهي هذا الغروب على خير, أما غداً فسيأتي نصيبه معه. تلك كلمة اعتاد على سماعها وترديدها كلما قفز من النوم صباحا, واثقا أنّ الأرزاق تنتظر عند الأبواب وعلى الناس قطافها, فيسرع مع الفجر دافعا العربة التي أطلق عليها اسم العرجاء منذ أن تآكل أحد إطارات عجلاتها وغدت تحدث صريراً أثناء دورانها, مما يلفت أنظار الناس من حوله ويفتح المجال للكثير من تعليقات الحمالين الآخرين فيشاركهم بدوره منتشيً, رغم الصعوبة البالغة التي يدفع بها العربة, حتى أنّه في كثير من الأحيان يفضل حمل البضائع على ظهره تاركاً العرجاء في مكانها تستريح, وحين يسأله أصحاب تلك الطلبات لماذا تترك العربة... يعلنها بمرح (تعبت المسكينة ).
نعم تتعب العربات... أما الفقراء فعليهم المواصلة حتى النهاية.
هكذا وصل إلى الشارع حيث يتربع محل الخباز أبو علي الذي يقصده كل يوم, إلا أنّه ذهل لما شاهد أنّ الخباز قد ترك لافتة عند باب المحل كتب عليها (شلع قلع كلهم... المحل مغلق).
لم يعرف من المقصود... ( كلهم )... إلا أنّ الكلمة ليست غريبة, فطالما سمع الكثير يرددونها في السوق غاضبين أو مازحين، بل حتى أنّ أحد الحمالين تقدم لخطبة فتاة أحبها كانت تأتي للتسوق, إلا أنّ أهلها رفضوا, فوقف الحمال أمام بيت الفتاة وصرخ عالياً (شلع قلع الكل... حتى أبوها).
آنذاك تبادل الحمالون والباعة تلك الحكاية بمزيدٍ من إضافات المخيلة الشعبية حتى صار لها تأريخ وأبطال.
بقي الفتى واقفاً لفترة عند المحل, محتمياً بأحد جدرانه من العاصفة, مراقباً الجموع التي كان الشارع يكتظ بها, إلا أنّ الأمر لم يكن ذا أهمية بالنسبة له أكثر من إغلاق الخباز للمحل فإنْ عاد بخفي حنين كما يقال سوف لن يجد أخوته ما يأكلون, وتجنبا لغضب أمه, عزم على المواصلة باتجاه محل آخر وإنْ كان على بعد مسافة, لهذا وجد نفسه يسير مع الجموع بذات الاتجاه, مصغياً لهتافاتهم، سارقاً النظر قليلاً الى الدرب مما جعله يشاهد أقداماً لا حصر لها من السائرين... الى أين؟ لم يكن يعرف غير أنّه كان مهتماً أنْ يسير بذات الهمة التي يخطون بها وإنْ كان حذاء أبيه أكبر حجما من قدميه اللتين ماتزال فيهما طراوة الطفولة... متنقلا بينهم متحاشيً الاصطدام بأي منهم... محتمياً بأجسادهم المندفعة الى الأمام, في حين أنّهم كانوا غير عابئين بالعاصفة والغبار والجو الخانق ووحشة الغروب, مرددين نريد وطن, مطالبين بإسقاط الحكومة والبرلمان والدوائر الرسمية, فكلها يغلب عليها الفساد كما كان يصرخ أحد العابرين من أمامه (كلهم... كلهم حتى المختار). عندها ضحك الفتى متذكراً أمه التي شتمت مختار المحلة ذات يوم, حين طالبها أنْ تدفع له مبلغاً مقابل ختم بعض الأوراق.
كان الوصول الى محل بيع الخبز هو الغاية والرجاء لهذا ظل الفتى مواصلاً والأصوات تتعالى من حوله, حتى صار المحل على بعد خطوات, وعند تقاطع الشوارع رأى أبواب المحل مفتوحة والبعض يصطف هناك, شعر بالطمأنينة وانسل من بين الجموع ليقف مع الآخرين أمام المحل. عندها تمكن من أن يرى جموعاً أخرى تأتي من اتجاهات متعددة... جموع لا ترى بوضوح بفعل العاصفة والدخان, تتقاطع مع الآخرين, غليظة الخطوات, لا تحيد عن الاتجاهات التي رسمت لها, مرددين شعارات مختلفة تتقافز من بينها كلمات مثل الفاسدين... الإصلاح ثم شلع قلع... فابتسم الفتى مرة أخرى حين تذكر الحمال الذي رفض أهل الفتاة خطبته... وللمرة الثانية يمتلئ فمه بالتراب المر, انشغل بمعالجة الأمر وهو يفكر كيف لهؤلاء أنْ لا يكفوا عن الصراخ في هذا الجو المترب العاصف, ثم ما أنْ جاء دوره حتى سلم ما بيديه من مال والتقط أرغفة الخبز الساخنة كما يلتقط العداء جائزته. استدار ليعود مسرعاً إلا أنّ الاقدام التي كانت تواصل زحفها أخذته معها وهو يضم أرغفة الخبر الحار إلى صدره بكلتا يديه محاولاً النفاذ أو الإفلات من بين تلك الأقدام ... غير أنّ موجة أخرى من الغاضبين المتصارخين أخذته معها, فشعر بارتباك بل بخوف وهو يتعثر بين أرجل العابرين الذين لم ينتبهوا لوجوده اذ تداخلت الجموع, تصادمت وأحالهم تراب العاصفة الى أشكال مرعبة, فامتلأت افواههم بمرارة التراب الآتي من الجحيم... تساقط البعض ربما من التعب أو بفعل العاصفة أو بفعل فاعلٍ مجهول, وحركة الجموع دائرة كأنّها طوفان آتٍ من منحدرين متقابلين وما عاد هنالك غير الضجيج, أما الكلمات فقد ضاعت واختفت المعاني... صراخ... تدافع... دخان.
سقط الفتى بين الأقدام وتناثرت أرغفة الخبز... لم ينتبه أحد لذلك بل واصلوا التدافع وداست أقدامهم فوق رأسه وجسده وخبزه... كان يحاول أن يتمسك بأرغفة الخبز وينتشلها قبل أنْ ينتشل جسده حتى تلطخ الخبز ببقع من دم.
غرقت الجموع في ضجيجها بعد أنْ احتلت العتمة كل شيء, تاركة إياه يتلوى ويئن بين أقدامها المتصادمة, المتدافعة, ثم ابتعدت مواصلة دورانها. ساعتها سكنت العاصفة عند الفتى ذي الثالثة عشر... ساد صمت... وسجد التراب كله... وضربت المكان أحزمة حمراء من أشعة شمس الغروب.
فحملته أيادي الى كتف وهو ما يزال ممسكاً ببعض الأرغفة, وسار من يحمله ومن معه في طريق لم يسلكه أحد من قبل.
الحكاية لم تكتمل بعد... فتحولات الأيام تكتب ما سيأتي.



#ميسون_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكعب العالي
- نقد وتحليل فيلم دوكفيل


المزيد.....




- إلغاء حبس غادة والي وتأييد الغرامة في سرقة رسومات فنان روسي ...
- اعلان 2 الأحد ح164.. المؤسس عثمان الحلقة 164 مترجمة على قصة ...
- المجزرة المروّعة في النصيرات.. هل هي ترجمة لوعيد غالانت بالت ...
- -قد تنقذ مسيرته بعد صفعة الأوسكار-.. -مفاجأة- في فيلم ويل سم ...
- -فورين بوليسي-: الناتو يدرس إمكانية استحداث منصب -الممثل الخ ...
- والد الشاب صاحب واقعة الصفع من عمرو دياب: إحنا ناس صعايده وه ...
- النتيجة هُنا.. رابط الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2024 ...
- عمرو مصطفى يثير تفاعلا بعبارة على صورته..هل قصد عمرو دياب بع ...
- مصر.. نجيب ساويرس يعلق على فيديو عمرو دياب المثير للجدل (فيد ...
- صدور ديوان كمن يتمرّن على الموت لعفراء بيزوك دار جدار


المزيد.....

- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد
- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميسون خليل - قطرات دم على رغيف ساخن