أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميسون خليل - الكعب العالي















المزيد.....

الكعب العالي


ميسون خليل

الحوار المتمدن-العدد: 7298 - 2022 / 7 / 3 - 19:10
المحور: الادب والفن
    


((المآسي تعبد الطريق الى اخرى اكثر وجعا))
بعد الانتهاء من يوم شاق... لم يأت الباص كعادته.
قررت عبور الجسر مشيا من جهة منطقة باب المعظم الى الكرخ حيث ينزوي البيت الذي تسكن فيها, وبالرغم مما كانت تشعر به من تعب ومزاج متعكر بسبب عدم مجيء الباص, الا انها ما إنْ وضعت أولى خطواتها معتلية الجسر لامست وجهها نسمة منعشة كانت قد عبرت فوق مياه دجلة المسرعة باتجاه الجنوب, فانشغلت وهي تواصل الخطوات بالنظر الى النهر الذي كانت تتسع صورته كلما تقدمت باتجاه أعالي الجسر مودعة الرصافة, شوارع وأبنية وعابرين تكدسوا في ساحة الميدان على شكل كائن خرافي أدمن انتظار الباصات المتعبة التي قد تاتي وقد تخذلهم فتغيب.

تلك النسمة التي عبرت كانت قد حملت معها ورقتي شجر ذابلتين تدفع بهما بتثاقل... هبطتا على الجسر فبدت لها الورقتان مثل طائرين يلاحقان بعضهما, ثم سرعان ما قفزتا معا الى النهر لياخذهما بصحبة أوراق أشجار مختلفة وبعضا من سعف فسيلات نخلة صغيرة جرفها الماء حاملا إياها جنوبا الى المدن التي طالما تغنى أبوها بنشأته بها بعد أن هجرها واستقر ببغداد... المدينة التي بنيت بالتمر والحلوى كما يقال الا أنه لم يذق طعمها بل عاش مصاعب أيامها.

النهر الذي بدا منساباً هادئا كشيخ جليل أنساها التعب الذي كانت تعاني منه وإلاحباط, مسلية نفسها بتأمله مواصلة عبورها الجسر, مودعة بيوت الرصافة التي أخذت تنزاح عنها ولم يبق أمام عينيها غير بيوت اصطفت كقطع الحلوى بنيت منذ فترة ليست ببعيدة على أنقاض بيوت مثل صناديق قديمة قبل أن يحمل سكانها أمتعتهم ويندسون في الاحياء الفقيرة تأكلهم الحسرات ليس من اجل القصور التي تشبه الحلوى بل من أجل ذكرياتهم التي اندثرت تحت تلك الانقاض.

رأت من بعيد ساحة البيت الذي ولدت فيه مع اخوتها وكبروا معا... لعبوا وتزاحموا غير مدركين مصاعب الدنيا حتى فاجأتهم باختطاف الأب في زمن الحرب... اذ عاد جسدا محمولا... لاأكثر... سرعان ما وري التراب وتلاشت ذكراه كأنه لم يكن, إلا أنها ماتزال تتذكر كيف أن موته كان بداية الفواجع. فالمآسي تعبد الطريق الى أخرى اكثر وجعا.

هكذا لم يكن أمام الأم إلا أن تتحمل مسؤولية الحفاظ على البيت, ململة الخسارات والآلام عبر سنوات الجوع التي جعلت من غرف البيت كهوفا بأفواه مفتوحة, متنقلة من غرفة فقيرة الى أخرى عارية, بعد أن باعت كل ما يمكن بيعه في سنوات الصبر التي اتسمت بمحاولات لتدعيم بقاء البيت حيا... ثابتا, إلا أن أوصاله ارتجفت متحملا آلاما كبيرة ليمنحهم الوقت الكافي للهروب بانفسهم قبل أن يتداعى... ثم سقط اخيراً كثور نالت منه الجراح... مات بليل وتركهم واقفين على بعد أمتار يتطلعون الى إنهياره الدامي الذي أخذ معه الذكريات ولم يبق شيئا.

واصلت سيرها على الجسر وهي تواجه تلك الصور المنفلتة من خزين الذكريات مع محاولاتها المستمية لاختزال ما هو أشد إيلاما وانكسارا إلا أن الذكريات كانت تتدافع متناغمة مع ايقاع خطواتها فوق الجسر بفعل الكعب العالي, دون أن تلجم نفسها عن التمني... فلطالما أحبت أن تكون أيامها مقبولة وأحلامها ممكنة, لكن ذلك كله لم يتحقق وما بقي للنفس إلا عذابات ألايام الجرداء... اذ ذاك وجدت نفسها مسؤولة عن بقايا الخراب, فلم تمهل نفسها بل سرعان ما أخذتها نهارات العمل المضني على مر السنوات متحملة رعايتها لأخيها الأصغر عمراً الذي غيبه الشاذون فيما بعد, دون أن يعلم أحد أين اختفى. قيل رصاصة طائشة وقيل بعدها إن لجانا شُكلت ستضع يدها على الجاني وقيل إن البعض رَأوه مع جوق الملائكة كما إدعت جارتهم... قيل وقيل اكثر لكنه ضاع في نهاية ألامر مثل أمور كثيرة بعد أن أُسقط التمثال ألاكبر حجما وتناثرت أحجاره على الطرقات.

بكت عليه كما فعلت عند موت أبيها... آنذاك قيل لهم عليكم أن تفتخروا... لكنهم بكوا بصمت. أما الان فلهم الحرية المطلقة في البكاء ولطم الخدود... فانهم أحرار... وليبكوا كما أرادوا... لاأحد يسمع... لاأحد يهتم... فليس للجدران آذان أو قلب. وفي كل الإحوال فالبكاء بفعل الفجيعة ذاته... علنا كان أم سرا.

كل ذلك عبر سريعاً في مخيلتها قبل أن تتوقف فجأة وتطلق صرخة أعادتها للدنيا فقد انغرس الكعب العالي وعلق بين فكي حديد الجسر... الجسر العتيق الذي طالما تغنى به الناس (جسر الحديد انكسر من دوس رجليه) قد هب منتقماً من المشاة الذين داسوا فوق رأسه, وأمسك بالكعب العالي بقوة.

وقفت تنظر الى الحذاء حائرة والكعب مغروس بين فكي الحديد... عندها باغتتها فكرة, انها ستواصل سيرها إلى البيت حافية القدمين لامحال, احتلها الغضب فسحبت الحذاء بقوة إلا أن الكعب ظل شاخصا بعناد بين أضلاع الجسر بعد أن إنفصل عن الحذاء بسهولة كأنه يعلن لها بوضوح بأنه تعب من المواصلة.

رددت اللعنة وتذكرت قول صديقتها ألارملة التي فقدت زوجها في واحدة من الحروب التي لم تعد تتذكر أياً منها (اللعنة... لاخلاص... الفقير تتبعه الاحزان).
كان ذلك اخر ما سمعته منها قبل أن تفترقا جراء توقف عجلة العمل بالرغم من أن صاحب المعمل وعدهم بأنه سيعيدهم ما أن تتحسن ألاحوال.
إلا أن ذلك الانتظار بدا لها كموت بطيء او ضرب من الجنون, لهذا فهي تحاول منذ مدة طويلة البحث عن عمل آخر. تخرج كل صباح بأمل كبير ثم تعود بيأس أكبر. لكنها لم تكف... مؤملة نفسها بغدٍ افضل وأن كانت تدرك حقيقته العقيمة... تلك هي رحلتها اليومية.

تحسرت, سخرت, ضحكت, حركت جسدها بلا مبالاة بعد أن رأت نفسها وحيدة على الجسر... حملت بقايا الحذاء مطوحة به في الهواء حتى كادت أن ترمي به في النهر لولا أنها تذكرت قد يمكن اصلاحه. واصلت العبور حافية والحذاء مازال معلقا بيدها تعلو وجهها ابتسامة ساخرة.
لسعت حرارة الجسر باطن قدميها فاستولى عليها شعور, أنها لم تكن ذاهبة آنذاك إلا إلى زمن الطفولة. كادت تقهقه ضاحكة لولا أنها شاهدت شابا مقبلا من الجانب الآخر من الجسر يتطلع اليها, فعزفت عن ذلك وهي تراقب الشاب الذي بدأ يعبر باتجاهها مبتسما مبديا استعداده لمساعدتها.
ارتبكت قليلا إلا أنه تخطاها باتجاه بقايا الكعب العالي محاولا انتزاعه دون جدوى. انشغاله ذاك منحها فرصة أن ترى بدقة قميصه المتهالك, رغم أن المسكين كما يبدو قد عمل على ترتيب مظهره, غير أن ملامح العوز لايمكن اخفاؤها.
رغم ذلك استلطفت أنه يحمل كتاباً قديماً فقد غلافه, فابتسمت وضحك هو منتشيا مشيرا لبقايا الحذاء. هكذا تبادلا السخرية من مظاهر الدنيا المتعِبة لكل منهما... وأدركا الأمر بجلاء من علّو الجسر... دون لغة تحجّم سعة ذلك الادراك.
فبقي واقفا مكانه... عالقا متعلقا حتى تركه ظله وعاد الى الجهة الاخرى حين مالت الشمس.

أما هي فقد نسيت حرارة الجسر... البحث عن الوظيفة... الفقر... أحزان السنوات... اكداس المآسي وخطت أمامه تعلو وجهها ابتسامة زادها الخجل رقة يدفعها نسيم بارد جاء من أماكن لايعرف ذلك الصيف مخبأها.

شاهد حبات العرق تتساقط من جبينها, لم يشأ مخاطبتها تاركا لها فضاء الجسر وقد حرك النسيم المجهول شعرها. ارتفعت عن الارض... ربما حلقت كفراشة, وبعد عدة خطوات استدارت الى دجلة ورمت ببقايا الحذاء بعيدا. فضحك منتشيا مدركا أن هذه الفتاة لم تعتل الجسر في مثل هذا اليوم إلا لأجله ولم تخرج إلا للبحث عنه ولم يمسك حديد الجسر بكعب حذائها إلا ليمنحه فرصة الاقتراب منها.
فمشى خلفها يردد أبيات شعر لم يكتبها من قبل.


بعد فترة غير محددة من عمر الزمن...
مرت عشرة اقدام على الجسر يطاردهم الفقر ويسخرون منه...
تعثرت الام ببقايا كعب حذاء عالق بين فكي الحديد, لم تنتبه وإنما أخرجت من حقيبتها التي فقدت لونها تفاحة بريئة, أكلت نصفها وقدمت النصف الاخرالى الرجل الذي كان يرتدي القميص ذاته.
ضحكا بسخرية من الزمن وواصلا العبور بحثا عن عمل.



#ميسون_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد وتحليل فيلم دوكفيل


المزيد.....




- وفاة الممثل البريطاني برنارد هيل، المعروف بدور القبطان في في ...
- -زرقاء اليمامة-.. أول أوبرا سعودية والأكبر في الشرق الأوسط
- نصائح لممثلة إسرائيل في مسابقة يوروفيجن بالبقاء في غرفتها با ...
- -رمز مقدس للعائلة والطفولة-.. أول مهرجان أوراسي -للمهود- في ...
- بطوط الكيوت! أجمل مغامرات الكارتون الكوميدي الشهير لما تنزل ...
- قصيدة بن راشد في رثاء الشاعر الراحل بدر بن عبد المحسن
- الحَلقة 159 من مسلسل قيامة عثمان 159 الجَديدة من المؤسس عثما ...
- أحلى مغامرات مش بتنتهي .. تردد قناة توم وجيري 2024 نايل سات ...
- انطلاق مؤتمر دولي حول ترجمة معاني القرآن الكريم في ليبيا
- ماركو رويس ـ فنان رافقته الإصابات وعاندته الألقاب


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميسون خليل - الكعب العالي