أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 1699 - 2006 / 10 / 10 - 08:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل يمكن للعرب ، بعد أن اهتدوا أخيرا إلى أن مشكلتهم مشكلةُ ذهنيةِ تخلفٍ مستحكمة ، أن يتغيروا ؟ وهل يمكن لهذا التغيير أن يأتي من داخل منظومتهم الثقافية التي وقعت ، بشكل يكاد يبدو نهائيا ، في براثن التطرف والنزعات النكوصية المعادية لقيم العصر ؟
حضرني هذا السؤال قبل شهور بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة لمؤسسة الفكر العربي بمدينة مراكش تحت شعار " العرب بين ثقافة التغيير وتغيير الثقافة " ، وعاودني من جديد هذه الأيام وأنا أسمع عن تنظيم المؤتمر القومي العربي بالدار البيضاء بالشعارات إياها التي رددها منذ نصف قرن ، وقد كنت دُعيت لمناقشة القوميين العرب على الهواء مباشرة في برنامج بثته قناة الجزيرة خلال انعقاد المؤتمر ، غير أن صدورهم ضاقت عن حضوري والاستماع إلي ، فكان أن اختاروا أن يخاطبوا بعضهم بعضا بدلا من أن يحاوروا غيرهم ، وهو أمر يثبت على الأقل بأن شعار القناة التلفزية القطرية " الرأي و الرأي الآخر " شعار نسبي لا يحمل دائما نفس الدلالة التي قد تتبادر إلى ذهن المتلقي.
وقبل البدء في محاولة الإجابة على السؤال الذي طرحناه نتساءل قبل كل شيء : من هم العرب ؟ هل هم فقط المجتمعون داخل قاعة أو منتدى ، والهائمون في متاهات النظريات والمفاهيم الملتبسة ؟ أم أنهم شعوب ومجتمعات ودول ؟ أم أنهم فئات ومجموعات وعائلات داخل هذا البلد أو ذاك ؟ أم أنهم أبناء بلد معين يطمحون إلى تسويق بضاعتهم في بلدان أخرى ؟ أم أنهم مجرد فرضية قد تصدق أو تكذب ؟
إن مصدر الخلل في غموض المصطلح إنما يكمن في التاريخ وفي الذاكرة ، فالعرب قوم كان لهم حظ أن يكتبوا تاريخهم بأيديهم ، وكان لهم حظ أوفر في أن يكتبوا أيضا تاريخ غيرهم ، نيابة عن غيرهم . وبعد صدمة الحداثة واهتزاز القيم فرض سياق غير مسبوق على الشعوب المقهورة التي أنهكها الاستبداد أن تعيد النظر في ذاتها وفي موقعها ، مما جعل التاريخ يقفز إلى الواجهة من جديد ، التاريخ المسطور بأيدي الغير ومكره . لقد أدركت هذه الشعوب بأن انطلاقها نحو المستقبل لا يمكن أن يتم بدون استعادة تاريخها وتملكه ، وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون إعادة قراءته بوعي جديد وخارج هوية من كتبه .
هكذا أصبح المشكل اليوم هو إصرار العرب على طرح قضايا المجتمعات التي يتواجدون بها انطلاقا من مرجعيتهم الثقافية والفكرية وحدها ، في استخفاف تام بالمنظومات الثقافية لتلك المجتمعات التي قد لا يكونون فيها إلا أقلية ، وهو ما يعني استبعاد الأسباب الحقيقية للتخلف من دائرة اهتمامهم . نفهم من هذا أن تلك الشعوب والمجتمعات لن تغادر تخلفها أبدا ، لأن الذي يسهر على البحث لها عن حلول لمشاكلها المزمنة هو نفسه الذي عمل على تأبيد تخلفها، فـ" العقل العربي " الذي يستنفر الناس إلى المؤتمرات والمناظرات هو نفسه " العقل العربي" الذي يعمل " بحكمته " على تدبير شؤون الدول والمجتمعات المأزومة المسماة جميعها " عربية " ، وهو الذي يشرع للاستبداد بكل ألوانه وفنونه ، وهو الذي يحتقر المرأة والطفل ويشيع الظلامية باسم الخصوصية والأصالة العربية الإسلامية ، هل يمكن للعرب أن يكونوا الداء والدواء معا في الآن نفسه ؟
أعتقد أنه قد مضى من الزمن ما يكفي لكي تكتشف كل هذه الشعوب والبلدان الرازحة تحت هيمنة الأبوة الثقافية العربية ، بأن " العقل العربي " قد بلغ درجة من الشيخوخة والخرف أصبح معهما لا يؤتمن على مصير الأجيال وأرواح الناس وثرواتهم المادية والرمزية، ومن ثم وجب الحجر عليه وإحالته على المعاش .
ليس العرب بحاجة إلى نظريات في السياسة أو " ثقافة التغيير " ، فقد أتخموا بها على مدى قرن كامل ، كما اجترّوا مضامينها زمنا غير يسير ، بل إنهم حوّلوها ، على عادتهم ، إلى خطب رنانة وملاحم وثورات بلاغية صاحبت إيقاع الحديد والنار وفوهات البنادق ، ولكنهم بالتأكيد بحاجة إلى " تغيير الثقافة " ، تغيير الذهنية ؛ وهو ما لا سبيل إليه إلا بكسر الطابوهات المستعصية ومحاربة الأساطير القديمة التي عملوا ، على مدى قرن كامل ، على ترسيخها في أذهان النشء وإشاعتها في كل مناحي حياة المجتمعات التي شاء التاريخ أن تتواجد بها بعض من ثقافتهم ولغتهم .
ومن ثم أرى من باب الإنسانية أن أقترح على القوميين العرب وعلى حراس العروبة والعقل العربي المقترحات التالية التي قد لا تروق لهم اليوم ولكنها أفكار المستقبل :
1 ـ على العرب ، قبل كل شيء ، أن يتوقفوا عن الحديث باسم غيرهم ؛ فالشعوب لا تقبل الوصاية ، كما أنها لا يمكن أن تقبل بجعل قضايا العرب تحظى بالأولوية على قضاياها الوطنية الخاصة ، إذ لا يمكن مواجهة المشاكل الداخلية لكل بلد بالسكوت عنها وتجاهلها إرضاء لنرجسية الذات العربية .
2 ـ على العرب من جهة ثانية أن يتخلصوا من وهم أنهم " ورثة " حضارة عظيمة ، ذلك أن هذا الوهم يساهم بنصيب كبير في إفشال أي تغيير في الثقافة السائدة ؛ فما يعتبرونه ميراثا هو في الأصل بمعايير الحضارة المعاصرة " تراث ميت " ، إنه يضم بعض مظاهر الازدهار التي عرفتها فترة معينة مضت عليها قرون طويلة ، ولكن تلك المظاهر نفسها تعد اليوم ، مقارنة بما وصلت إليه البشرية ، ثقافة عتيقة ومتجاوزة .
3 ـ يحاول العرب أن يستعيدوا بعض سطوتهم وأبوّتهم على مسرح الأحداث باستعمال إيديولوجيا التطرف الديني ، وذلك بعد أن انكسرت كل أحلامهم في التحديث على صخرة الماضي الذي ظل حيا في دواخلهم ، وها قد أصبح إسلام العرب كارثة معولمة ، و كأني بهم قرروا ، بعد أن يئسوا من أن يعثروا على مخرج من أزماتهم ، أن يُغرقوا فيها العالم بأسره.
ليس من حق العرب إشاعة الرعب وثقافة الانتحار في بلدان ما زالت تبذل الكثير من التضحيات من أجل الخروج من التخلف ، بعد أن ضحّت بدماء أبنائها عقودا طويلة من أجل الحرية والاستقلال.
4 ـ لن يكون للعرب مكان في عالم الغد إذا هم أصرّوا على البقاء على ثقافة الريع القديمة ، فأنا أتساءل : هل كان من الممكن للعرب ـ العرب الأقحاح ـ أن يصبحوا مصدر إزعاج للعالم لولا أنّ الإنجليز اكتشفوا تحت الرمال القاحلة ، منذ بدايات القرن العشرين ، كميات هائلة من الذهب الأسود ؛ هذا الذي أصبح اليوم خير وسيلة لتسويق طاعون الوهابية الذي نشأ أصلا في عزلة عن العالم داخل تجمعات عشائرية في الصحراء المترامية ؟؟؟
كما يبدو من حقنا التساؤل ، بعد كل الذي جرى ، إن لم يكن مشكل العرب في العمق هو مشكل من نزلت عليه فجأة ثروة هائلة دون أن تكون لديه أية مؤهلات لتدبيرها.
إن شعار " تغيير الثقافة " لا يُفهم ولا يستقيم إلا بأن يتخذ معنى تغيير ثقافة العرب بثقافة غيرهم ، وإعادة الاعتبار لعبقريات الشعوب وهوياتها العميقة والمتجذرة في أعماق التاريخ ، ذلك أنه يسهل كثيرا ربط الصلة الحضارية بين الثقافات العريقة والحضارة المعاصرة ، بينما يعد من ضروب المستحيل إعادة العقل العربي إلى رشده ، وجعله يعيش السياق المعاصر ، ذلك أنه بسبب نرجسيته وإصابته بنكوص مزمن ، يعتبر إهانة له التخلي عن بطولاته القديمة ـ الوهمية في معظمها ـ من أجل تعلم أبجدية العصر الذي نحن فيه.
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟