أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام عتال - الشاحنة الحمراء (قصة قصيرة)-















المزيد.....



الشاحنة الحمراء (قصة قصيرة)-


حسام عتال

الحوار المتمدن-العدد: 7432 - 2022 / 11 / 14 - 10:43
المحور: الادب والفن
    


وَقَفَتْ على الأرض بثبات من خاضَ الآف التجارب. عيناها لوزيتان بلمعة كريستالية. أنفها أشم القصبة تحده أخاديد رَسَمَتْ بدقة وجنتيها المرتفعتين. أما فمها فقد طغت عليه شفتها السفلية الممتلئة، المائلة الجانبين، فكأنها تسخر ممن حولها معلنةً: ابتعد عن طريقي، وإلا…
مع ارتفاع شمس الصباح، تطاول ظلها على الأرض مبرزاً تكامل جسدها الرياضي المتناسق، بقدها الأنيق وصدرها الشاخص. لَمَسَ نادر ردفها المكّور فشعر بقشعريرة سرت من رؤوس أصابعه حتى أسفل قدميه. لم يَنْسَ أن تحت هذا السطح المصقول تختبئ صلابة جوهرها الفولاذي، فاقترب منها حتى التصق بها ووضع أذنه على نحرها… سمعها تهمس له: حبيبي نادر، سأكون عوناً لك في طريقك، سنسير معاً أشواطاً وسأريك أماكن وأشياء لم تحلم بها من قبل؛ وإن كنت قد حَلِمْتَ بها، فأعِدُك بأنها ستكون أكثر إثارة من أجمل ما رأيت في أحلامك.
التفت نادر لمندوب البيع الذي كان قد لَحِقَ به لتوه، ووقفَ وراءه يدفعُ الحصى البيضاء المكسرة تحت حذائه يمنة ويسرة. "هذه الشاحنة الحمراء… هذه هي الشاحنة التي أريد." قال نادر.
حدث ذلك في وكالة بيع شاحنات ڤولڤو القاطرة والمقطورة شمال شيكاغو، في صباح الخميس في الرابع من تموز من عام 2022. في ذلك الصباح، بدلاً عن قيادة سيارته الى مشفى القديس يوحنا، وتوجهه لجناح عمليات الجراحة العظمية ليبدأ في تبديل مفاصل البشر المتآكلة بأخرى صناعية، ذلك الروتين الذي مارسه لإحدى وعشرين سنة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة؛ في ذلك الصباح ذهب نادر إلى وكالة فولفو للشاحنات حيث قد رتّب موعداً مع أحد مندوبي البيع لشراء شاحنة قاطرة ومقطورة.
فور رؤيته تلك الشاحنة الحمراء بين صف طويل من الشاحنات، ركض نادر تجاهها تاركاً المندوب خلفه يتلو مواصفات الشاحنة، كمن يتمتم ترانيم كَنَسيّة: "حجم المحرك 2800 سي سي، قوة 450 حصاناً، ديسكات المكابح من الفخار… الدواليب المزدوجة لها ضمانة… صندوق غيار السرعة يتحمل ال…"
جاء صوت المندوب خافتاً متقطعاً بسبب اختلاطه بضجيج سيارات الطريق السريع (رقم 80) المجاور، المار بمحاذاة وكالة البيع؛ وبدأت بقعتان دائريتان من عرقه بالاتساع تحت إبطيه، وثالثة مثلثة امتدت من قذاله حتى أسفل ظهره. رغم أن الساعة لم تتجاوز بعد العاشرة صباحاً، كانت شمس الصيف قد ألهبت أرض ساحة العرض المفروشة بالحصى، وامتدت حرارتها للهواء فوقها. ساعياً للاحتماء من القيظ، أو لتفادي المشي على الحصى التي انزلقت تحت قدميه، وجعلته يفقد توازنه مرتين، سأل المندوب نادر بلهجة الرجاء: هل تريد رؤية داخل مقصورة الشاحنة؟
كان نادر قد نسي يده في الأخدود في منتصف غطاء المحرك، تداعبه بحركة دائرية. توقف ثم أجابه: بكل تأكيد.
وضع المندوب يده في جيب بنطاله الرمادي الذي انزلق تحت كرشه الضخم، وكاد لينزلق أكثر لولا الحزام الجلدي الذي شدّه. حرّك يده في الجيب، تجعد جبينه، وضع يده الأخرى في الجيب الثاني وكرر نفس الحركة، تأفف: نسيت المفتاح، سأذهب الى المكتب لإحضاره، سأعود حالاً.
توجه المندوب باتجاه مبنى المكاتب، كتفاه منحنيان، قدماه تجران بقية جسده بعناء، حتى اختفى وراء رتل الشاحنات. نادر يعرف تلك الطريقة المتثاقلة في المشي، رآها الآف المرات خلال أربع وعشرين سنة حين عالج آلاف المرضى الذين احتاجوا مفاصل صناعية بسبب تلف مفاصلهم التي أنهكها الوزن؛ فأصبح يعرفهم، يعرف كيف يمشون، يعرف أسلوب حياتهم، ويعرف عاداتهم. وهذا المندوب لا يختلف عن أيٍ من مرضاه. لا بد أنه يعود لبيته بعد العمل ليجلس أمام التلفاز يتابع مباريات فريق البولز للسلة وهو يلتهم البيتزا أو التاكو التي طلبها من المطاعم السريعة، وهو في طريقه للبيت، من سيارته الشيڤي سبربان الضخمة؛ وستكون هناك ست علب من البيرة في الثلاجة ستساعده على ازدراد الطعام بأسرع ما يمكنه. وبين الطعام والبيرة سينقّل قنوات التلفاز بين مباريات الرياضة وبين أخبار فوكس نيوز كي لا يفوته برامج توكر كارلسون أو شان هانيتي، معلّقيْ الأخبار الشهيرين في تلك القناة ذات الميل اليميني المحافظ. وربما اتصلت به أخته الكبرى من سيراسوزا في فلوريدا أو الصغرى من سكوتسديل في أريزونا، لتشكيا له من المشاكل التي يسببها النازحون الجدد من جنوب أمريكا، كيف يستغلون نظام الولايات المتحدة الذي يسهّل لهم اللجوء متى عبروا الحدود بشكل غير قانوني، وكيف يحصلون على معونات كانت مخصصة للمواطنين المحتاجين. المندوب رجل عائلة متدين، ويهمه التواصل الدائم مع أفراد عائلته وأقربائه، وحوارهم في شؤون الحياة.
غاب المندوب وبقي نادر مع أصوات سيارات الطريق السريع، ومع أفكاره التي شردت به لولا أنه، وهو يدور حول الشاحنة، رأى أن دقائق التصميم في خلفية الشاحنة لا تقل حِرَفيّة عن تلك الظاهرة في مقدمتها. آه، هؤلاء المصممين… هذا عمل متقن من كل نواحيه، تفاصيله مدروسة بإحكام. حتى الأخدود الأمامي جعلوا له مرادف من الخلف. لكن الأخدود الخلفي بدون تدرّج، فقط شرخ بعمق 5 سنتمترات، في منتصفه فتحة العادم من الكروم اللماع.
تراكمت التفاصيل وازداد شوق نادر، فقد اقترب موعده مع الحرية. سيأخذ معه هذه الشاحنة، بكل تفاصيلها، وسيضم هدير محركها جاعلاً منه موّالاً آخر في شريط أغاني الطرق السريعة. قطع حلم يقظته صوت الحصى تطقطق ورائه، التفت ورأى المندوب عائداً يلهث كالكلب العطشان، مفتاح الشاحنة تدلى بسلسلة من يده. تعثر المندوب مرتين وهو يحاول تسلق الدرجات المؤدية إلى باب الشاحنة وكاد يسقط. أراد نادر أن يساعده، لكنه خشي أن ينقلب المندوب للوراء، فينتهي مهروساً بين جثة المندوب وبين حصى الأرض الحارة، . فضّل الانتظار تاركاً المندوب لينهي مهمة التسلق بنفسه.
في جوف المقصورة وجد نادر تفاصيل إضافية أعجبته. جلس على مقعد القيادة، وضغط بثقل جسده عليه، فردّت الوسادة الهوائية تحته بشعور مريح، مزيج بين الليونة والدعم انتشر من اسفل عموده الفقري حتى أعلى رقبته. وضع يده اليسرى على المقود وأداره ربع دورة، وسَرَّه توازنه المحكم. بيمينه قبض على رأس عصا تغيير السرعة المغلّف بجلد طري، مصبوغ بلون الخردل، فأحس بهناء الرفاهية. نظر إلى العدادات الرقمية المصفوفة فلمعت عيناه وارتسمت ابتسامة طفيفة على شفتيه.
نادر يحب الحساب. في اختبارات الثانوية العامة، رغم فقر عائلته واضطراره للعمل والدراسة معاً، أحرز علامة كاملة في الرياضيات، وكان من أوائل الطلاب في سوريا عام 1990. كان يعتبر ملكته في معالجة الأرقام جزءاً من ولعه الغريزي بدراسة تفاصيل الأمور. لذلك كان يكره الذين يراهم يسيرون في الأرض لا يعرون انتباهاً لدقائق ما يحيط بهم، كأسراب السمك في الماء، تنحرف تارة لليمين وأخرى للشمال بدون سبب ظاهر.
عاين بدقة ساعات لوحة المفاتيح بعداداتها التي أغدقت عليه إحساساً بالتمكن الحسابي المحكم. كثرة العدادات في اللوحة أوحت إليه بأنه قد استأثر بزمام الأمور، كأنه قبطان سفينة فضائية وكأن ساعاتها تعدّ سنيناً ضوئية وتسجل مسافات بين كواكب ونجوم عبر مجرات. لكنه، في الواقع، يريد العودة الى عام 1998 فقط، وتحديداً مساء 15 ايلول، لا أكثر. اليوم الذي سبق يوم زواجه، ذلك اليوم النحس. اليوم الذي سجل بداية التراجع في حياته، في فلتان زمام الأمور من يديه، وفي تنازله المتدرج عن قناعاته، عن أهدافه، عن آماله. ذلك التراجع الذي لم تخفف من حدته أدوية الاكتئاب والقلق؛ وزاده استفحالاً أكواب الويسكي والفودكا التي جرعها حتى حاذت به إلى حافة الإدمان.
سمع المندوب وراءه ما انفك يحكي بنفس الوتيرة المملة. ما أغباه… من الذي علمه هذه الطريقة الترنيمية في الكلام؟ سمعه يقول "مقصورة النوم خلف المقعد مجهزة ببراااد ومكرويييڤ وتلفاااز وحماااام مع دوش ومغسلة صغيييرة… والسرييير…". يا إلهي، كيف له أن يُخرس هذا المعتوه في مونولوجه السرمدي. ها هو الآن يتكلم عن خصائص خرائط المواقع الموصولة بالأقمار الاصطناعية، تُبرمِج مراحل الرحلة، تُحدِد أماكن الوقوف، تُنّبِه لأماكن محطات الوزن الإجبارية, وتُخصِص أوقات الاستراحة المعتمدة؛ واستطرد يشرح عن الحساسات المحيطة بالشاحنة، والكاميرات التي تعطي منظر 180 درجة…. نظر نادر حوله يائساً، ووجد زراً أخضراً على حائط المقصورة، كبسه بسرعة علّه يكون الزر السحري الذي يخرس هذا المندوب، المفعم شحماً وغباءً، إلى الأبد… لكنه كان زر فتح السرير.
انخفض السرير من حيّزه في أعلى السقف وسقط ليخبط رأس المندوب. صاح المندوب متألماً وقد بدأ ورم ينتفخ في أعلى صلعته. لأول مرة منذ لاقاه هذا الصباح شعر نادر بالشفقة عليه. تخيّله مرة أخرى في بيته، غائصاً في كرسيه العميق البطانة، على رأسه كيس ملئ بقطع الثلج، وهو يشتم اللاعبين الذين أضاعوا فرصة أو أخرى في إحدى مباريات السلة؛ الألم لم يكبح شهيته في التهام قطع البيتزا والتاكو، ولم يمنعه عن عبّ علب البيرة تباعاً.
سأله في محاولة لإرضاءه: اعتذر، ضغطت على الزر خطأً… هممم، ما ثمن هذه الشاحنة؟
انفرجت أسارير وجه المندوب، ونسي الورم الذي أخذ يكبر تحت جلدة رأسه. هناك وقت للتألم وآخر لعقد الصفقات:
ـ إن… إن أردت كل المواصفات …
ـ نعم كلها يعني كلها. (ضحك في سره، لن يفهم هذا الغبي المعنى الكامن وراء الترديد، ولم يتمالك نفسه عن إضافة تهكم مبطن) أضاف: نعم كلها… حتى السرير المخبأ في السقف.
ـ يمكن أن أجد لك…
ـ أقصد هذه الشاحنة بالذات، ما ثمنها؟
ـ هذه… هذه الشاحنة.. إذا أضفنا رسوم التسجيل والضرائب و…
ـ هل ستخبرني بثمنها الآن أم لا؟
ـ ثمنها 210 الآف دولار.
ـ سأشتريها منك.
ـ حس… حسنا… لدينا برنامج تقسيط بفائدة معقو…
ـ سأدفع نقدا.
ـ حقاً، ستدفع 210 الآف دولار نقداً؟
ـ نعم. هل يمكن تسجيل الشاحنة اليوم؟
ـ نعم.. نعم بالتأكيد. التسجيل الكتروني اذا كان عندك رخصة و…
ـ عندي رخصة. لقد أنهيت تدريبي على القيادة من مركز التدريب في نيپرڤيل، حصلت على الشهادة منذ أسبوعين، يوم عيد ميلادي الخمسين بالضبط .
ـ لا مشكلة إذا، يمكنك قيادة الشاحنة بعد التسجيل الالكتروني.
أشار نادر نحو سيارته المركونة أمام مبنى المكاتب، مازاراتي سپورت مكشوفة، حمراء نارية، مقاعدها الجلدية عاجية اللون. قال للمندوب:
ـ سأترك سيارتي هنا، يمكن لأحد عمالكم إيصالها إلى بيتي.
ـ هذه سيارتك؟ (منقلاً بصره بين الشاحنة وبينها، غامزاً بعينه) تابع: رائعة! قُلتَ لي أن عيد ميلادك الخمسيني كان منذ أسبوعين؟ أتفهم تماماً.
ـ هل يمكن إيصالها أم لا؟ قال نادر، صبره بدأ بالنفاذ.
ـ نعم بالطبع…يمكن ترتيب إيصالها لبيتك.
ـ هل هناك وقود في الشاحنة؟
ـ سأملأ الخزان على حساب الوكالة حالاً.

………………………………………………

إنه وقت انعتاقه! أوراق التسجيل مختومة قد احتلت مكانها في درج الشاحنة، وورقة الرخصة المؤقتة قد علقت بشريط لاصق شفاف على النافذة الخلفية. وقد طَلَبَ لائحة تسجيل خاصة "HURRIA".
قاد الشاحنة عبر الجسر المبني فوق الطريق السريع. أبطأ فوق الجسر وألقى نظرة تحته الى السيارات المسرعة في الاتجاهين. أصغى لهدير السيارات المقبلة. صوتها انتفخ باقترابها كفقاعة تتضخم ثم، مع إدبارها للجهة المعاكسة، انحسر بأزيز عال حتى اختفى. للحظات خمدت الأصوات عندما حصلت فجوة بين السيارات. حينما اختلطت أصوات عدة سيارات معاً، أصبحت جلبة أشبه بجوقة من آلات وترية تحاول عبثاً دوزنة إيقاعها، لكن هذه الأصوات وصلت أذنه رخيمة محببة، دليل على الحركة الدائمة وعلى الأمل في التغيير الوشيك. بدأت أبواق السيارات التي تعرقلت وراء شاحنة نادر بالتزمير المتواصل بسبب تباطؤه على الجسر، فمد ذراعه من الشباك وأعطاها الإصبع الوسطى وهو يصيح: حرييية ياحيواااان.
لن يدع شيئاً ما يقوّض مذاق حريته بعد الآن!
اتجه بشاحنته شرقاً مدة 20 دقيقة بمحاذاة أبنية المدينة العالية، ثم أخذ مخرجاً قبع على زاويته اليمنى مطعم پانيرا وعلى اليسرى مقهى ستاربكس. هناك انعطف للشمال تجاه الضاحية التي يقطن فيها. في بداية الضاحية مجموعة من بيوت سكنية رُتّبت في حلقات متداخلة كصدف البحر، بنيت بمعونات حكومية في خمسينيات القرن العشرين، لمساعدة الجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية كي يستأنفوا حياتهم المدنية، و يسترجعوا علاقات الجيرة التي مزقتها صدمات الحرب.
من الآجر الأصفر أو الأحمر كان طرازها من طابق واحد وبجانب كل منها مرآب سيارة فردي منفصل عن البيت. حين عُمِّرتْ، كانت تلك البيوت عنواناً لرفاهية ذوي الدخل المتوسط. مع الوقت تغير حالها ، فالآن تقطنها عائلات الطبقة الفقيرة، غالبيتها من الزنوج. تجدهم يجلسون في الشرفات الأمامية، أطفالهم يلعبون على دراجاتهم في الشارع أو يطبطبون كرات السلة، بينما يتجاذب الكبار الأحاديث مع جيرانهم بأصوات عالية، جانبياً أو عبر الشارع، غير عابئين بصفارات سيارة الشرطة أو الإسعاف المسرعة بين حين وحين. تتناثر على شرفاتها الأمامية وفي حدائقها كراسي بلاستيكية وكراكيب من أثاث غير مستعمل، غسالات قديمة، أو آلات صدئة لقص الحشيش. وعلى حيطانها غرافيتي: فهذا رسم زنجية تحمل طفلاً تحوم حولهما فراشة فاقعة الألوان، وعلى الحائط المجاور ثمة قبضة يد مشدودة كالحديد، تحتها كتب بخط عريض BLM، وبين رسمتي الزنجية والقبضة رموز عصابات مخدرات أو تهريب الأسلحة الممنوعة.
الطبقة المتوسطة قد انتقلت لعمق الضواحي، وعمّرت بيوتاً من طابقين أو ثلاثة تحد شوارع مستقيمة متوازية. هي بالمقارنة قصور صغيرة مرتبة بأناقة ضمن حدائقها الكثيفة الشجر. لكل بيت ثلاثة أو أربعة كراجات للسيارات؛ وشرفات تلك البيوت، خلافاً للبيوت القديمة، تقبع في الخلف بدلا من الأمام. أما الجوانب فتفصلها أشجار باسقة أو أسوار مرتفعة. الحيطان نظيفة الطلاء خالية من الغرافيتي أو إشارات العصابات. الضاحية هادئة، فليس هناك من أحاديث متبادلة بين الجيران عبر الشارع، والأطفال يلعبون خلف البيوت في حدائقهم الخاصة، أو يقفزون في المسابح مع أصدقائهم المنتقين، أما الكبار فلا تراهم إلا عندما يغادرون بيوتهم أو يعودون في سياراتهم الحديثة.
بيت نادر كان آخر تلك البيوت حيث ينتهي الشارع بدوار صغير في منتصفه نافورة ماء. سائقاً شاحنته الحمراء العالية السقف، توقف في منتصف الشارع ولم يستطع التقدم، فقد امتدت أغصان شجرة بلوط ضخمة عبر الشارع مانعة مروره. آااه، تلك الشجرة المنحوسة.
في سباقها التنافسي مع صديقاتها كانت زوجته لميس قد كلّفتْ تصميم بيتهم الجديد لمهندس معماري نرويجي شهير: "أريد بيتاً مختلفاً عن كل البيوت الأخرى، بيتاً لا يمكن تقليده." قالت للمصمم وهي تلف رجلاً على رجل، تنورتها القصيرة ترتفع وتشكل مع حديّ أعلى فخذيها ظلاً مثلثاً. بعد تمحيص المصمم في عتمة ذلك المثلث، ثم في قطعة الأرض المختارة، حكّ شعره المنكوش بسبابته، واقترح إدخال إحد فروع شجرة ضخمة في منتصف قطعة الأرض (بدلاً عن قطعها) في صلب البيت، حيث يدخل فرعها السميك من حائط غرفة الجلوس ثم تتجه للأعلى وتخرج من السقف مجاورة للمدخنة. بين نقطتي دخولها وخروجها صمم المهندس الحيطان والسقف داخل البيت كأنهم استمرار لفروع وأغصان الشجرة. كان المصمم طويلاً، رياضي الجسد، وحسن الطلعة، وكانت حركات جسده عفوية وفيها بعض الرعونة، كما الطفل الذي تُرك لحريته التامة. قال لها بلهجة غير متصنعة: "إن عصرنا هو عصر الحفاظ على البيئة، وبهذا التصميم لا تحصلين فقط على بيت مميز لا يمكن تقليده، لكنك أيضاً تظهرين اهتمامك بالبيئة". وافقت، في عينيها العسليتين مزيج من الدهشة ودمع الغبطة. ما راق لها فيه كان أكثر من موهبته المعمارية: كان في تلقائيته وسهولته في التعامل، في إطرائه الصادق لذوقها، في شكره الصرف لها (وعيناه الرماديتان بحدقتيهما الواسعتين مثبتتان في عمق عينيها) عندما قدمت أحد الأطباق التي أعدّتها، وفي احترامه وتقديره لرأيها في مخططاته (عندما نشر ورقها على طاولة المطبخ، مشيراً إلى ترتيب أقسام البيت، كتفه مائل على كتفها)، وتحاشيه انتقاد مقترحاتها المباشر. في الحقيقة، ما استطاب لها فيه كان كل شيء لم يكن في طبع نادر.
بعد بنائه أصبح البيت حديث الأصدقاء والمعارف، وانتشر صيته حتى للبلد القديم في سوريا. أما فرع الشجرة الآخر، الموازي في حجمه للفرع الذي اخترق جدار البيت وسقفه ، فكان هو العائق الذي امتد فوق الطريق مانعاً نادر من التقدم.
ركن نادر الشاحنة في منتصف الشارع، مشى بقية المسافة، ودخل البيت من باب المطبخ الجانبي. في الخلف، بجانب المسبح البيضاوي وجد زوجته لميس تتكلم على هاتفها المحمول، مستلقية على كرسي طويل، تلبس مايوه بيكيني عليه دوائر بألوان مختلفة، حوافه محاطة بكشكش متعرج، وعلى كتفيها برنس أبيض مفتوح من الأمام. استلقت في ظل الشجر، لكن حزمة من ضوء الشمس تخللت الأغصان وانعكست بوهج خفيف على زغب بطنها وفخذيها الناعم. لم يثره مرآها. منظر كهذا كان يجيّش شهوته في الشهور الأولى من زواجهما حين كان يحملها الى غرفة النوم (وهي تتظاهر بالتمنع) ويلقي بها على السرير. ولكنه الآن فقد كل مودة وحنان تجاهها. حتى صوتها ببحته الخاصة، التي كزغب جلدها الناعم كانت تضرم شبقه، قد أصبحت الآن، مع مئات التفاصيل الأخرى (كيف، عندما تحرد، تمط شفتها السفلى وتعض عليها بثنيتيها فتحتقن بلون قرمزي؛ أو كيف تضع أصابعها في شعرها وتدفعه للخلف ثم تتركه يتدحرج على كتفيها كالشلال، متصنعة اللامبالاة). ركام من التفاصيل، لم يبق منها الآن شأن سوى أنها كانت، يوماً ما، أشياء أحبها، وظنّه ملكاً له.
لا شك أنها تكلم أختها غادة في دبي، فهما تدردشان ساعات كل يوم. سمعها تقول: ما تتخيلي العزيمة اللي عملتها شادية، يعني ما في صنف أكل بيخطر عبالك ما جابته، حتى الكاڤيار والسوشي. ودفعت بلاوي لشيف خاص لتزيين الطاولات وترتيب الصحون و.…
رأته بطرف عينها، رفعت حاجبها، وضعت يدها على الموبايل: أنت هنا، لم اسمع صوت الكراج يفتح.
كادت أن تفلت من فمه سخرية، بشكل أصبح دأبه في الرد عليها "لا لست هنا، إنه توأمي!" لكنه تمالك نفسه. لن يدخل في جدال معها اليوم، خصوصاً اليوم: لم أحضر بسيارتي. قال لها.
لميس بدورها لم تتمالك نفسها. كانت قد تعلمت منه السخرية في الحديث بلا ضابط: خير! هل ضربتها مرة اخرى وانت تلعب بتلفونك؟
ـ لا.
ـ اذا!
ـ تركتها عند بائع الشاحنات، سأحضرها من عنده لاحقا.
ـ بائع شو؟
ـ شاحنات… قاطرة ومقطورة… ڤولڤو.
ـ وشو عم تساوي هناك؟
ـ اشتريت شاحنة.
ـ اشتريت شاحنة؟ استثمار جديد من استثماراتك الذكية؟ ألا يكفي المصاري اللي خسرتها بتجارة لحوم الغنم وقبلها لعبك بالعملات الرقمية. عادت للموبايل، حواجبها منخفضة الآن: نورا، لازم روح، نادر هون، بحكي معك بعدين.
نظرت إليه ووضعت يدها تحت ذقنها ولوت شفتها بطريقتها الخاصة بالاستخفاف به: لم لا ترد؟
أخذ نفساً بأعمق ما تتحمل رئتيه. هي تعرف جيداً أنهم يملكون ثروة من مال لن يستطيعوا إنفاقه ولو عاشوا عدة حيوات. أجابها:
-لا مو استثمار.
ـ لاتتخاوت عليي، مو ناقصتك… الأولاد هلكوني اليوم.
كل يوم الأولاد هالكينها، نفس الاسطوانة القديمة، ما الجديد! نظر إلى أصابع قدميها الممتدين، أظافرها بلون أزرق لمّاع علامة زيارة لصالون تجميل الأظافر هذا الصباح، قال:
ـ راح أترك عملي في المشفى.
ـ والله ضحكتني… وشو بدك تشتغل؟
ـ راح اشتغل سائق شاحنة.
ـ لاتتخاوت عليي!
لماذا تظن أنه يتخاوت؟ يلعن أخت التخاوت، كل شيءٍ عندها لعبة تخاوت أو له غرض مشكوك به. سمعها تكرر:
- عم تخاوت عليي مو هيك؟
أراد أن يصفعها لكنه عصر قبضتي يديه بعزم وضم ساعده إلى جنبه كالجندي بوضع الاستعداد. من الأفضل ألا يرد، لقد اقترب وقت انفلاته من جحيم العيش اليومي معها، عليه أن يصبر ساعات قليلة فقط.
ـ لك احكي، شو جنّيت.
ـ لا ما جنّيت. متل ماقلتلك راح سوق شاحنة.
ـ والأولاد شو راح يصير فيهم؟
نقل نادر عينيه من أصابع قدميها بطلاء أظفارها الأزرق، عبر الأرض الرخامية، حتى حافة المسبح الفسيفسائية. كان هذا هو الجزء الذي يعكس الثقافة العربية في البيت، حسب رأي المصمم النرويجي. وكانت الحافة هي نفسها التي استند عليها ظهر لميس عندما أرسى المصمم قبلاته على رأسها وعينيها وشفتيها، ثم كتفيها العاريين ونحرها في طريقه حتى أخمص قدميها. راقب نادر انعكاس ضوء الشمس على سطح ماء المسبح ينعكس، يتلألأ، يتوارى مع حركة ورق الشجر، ثم يلمع من جديد. لمعاناً كان قد رأى مثيله في خلفية المشهد الذي سجّلته كاميرات المراقبة الخفّية ذلك اليوم.
بقي صامتاً.
ـ شبك ساكت؟ واللا قول لك، الاولاد ماراح تفرق معهم كثير، أنت اصلا بتطلع قبل ما يصحوا الصبح وما بترجع لآخر الليل. أصلا هم ما بيعرفوا شكل وجهك.
جذبت البرنس فوق فخذيها وبطنها وكأنها تريد أن تمنع عنه شيئاً ما. عندما التفَتَتْ إليه كان قد خرج، يخطو حثيثاً في الشارع باتجاه الشاحنة الحمراء، التي أحاطت بها شجرة البلوط كأكليلٍ من الغار، كأنه تاج فازت به بعد معركة طاحنة مع شاحنات معادية.
ركضت وراءه، البرنس يتطاير خلفها، دوائر المايوه في تماوج، الكشكش يترجرج، صاحت به:
ـ أولادك… ستترك أولادك؟
يا لها من كاذبة، ها هي تنكر كل ما فعله لأجل تربية أولاده، كل ما ضحّى به. ولكن لم لا تنكر، ألم تنكر ما رآه في سجّل كاميرات المراقبة. وكذبت بذريعة أن المرأة التي تظهر في الشريط بغباشة هي (في الحقيقة، كما ادعت) صديقة المصمم، أحضرها معه ليريها البيت بعد انتهائه، ثم شربا الخمرة احتفالاً، وانتهى بهما الأمر متعانقين في المسبح.
أسرع نادر بالمشي، عضلات وجهه تقلصت حد الألم.
ـ وابنك الصغير يا نادر، ابنك فؤاد… فؤاد المعاق، كمان راح تترك فؤاد؟
تجمد نادر كصنمٍ دقُّ بالأسافين في منصته. كانت هذه أول مرة تلفظ فيها لميس كلمة المعاق منذ كان فؤاد يبكي ويتقلب في المهد. كانا قد تعاهدا على عدم استخدام هذه الكلمة في حديثهما عن فؤاد. لم يلتفت، أجبر نفسه على متابعة سيره، ركب الشاحنة، أدار المفتاح، وضع الناقل في اتجاه الخلف، وعاد باتجاه الطريق السريع، صدره يرتفع وينخفض بضحالة، وكأن الهواء يتحاشى الدخول إلى رئتيه.

……………………………………………

أشعل واكين سيكارة كاميل، نفض التراب عن بنطاله الجينز الكاحت، وأشار بحاجبه تجاه نادر معلناً "الشاحنة جاهزة". تجهم وجه نادر… ماذا، هذا الجاهل يشير إليّ بحاجبه! لا أحد في المشفى كان يشير تجاهه بحاجبه، حتى في غرفة العمليات حيث كل وجه مكمم ومغطى، ينطق أعضاء الطاقم بما يريدون كلاماً صريحاً، كما يفعل المتحضرون من الناس. من يظن نفسه هذا الحقير!
كان طاقم العتّالين، الذين ملأوا مقطورة نادر بعلب مليئة بقطع غيار الطائرات، صبيان أكبرهم لا يتجاوز الثمانية عشر، كلهم مهاجرين من الهندوراس. قصار القامة أطولهم لا يتعدى المتر ونصف المتر. كان واكين أقدمهم في الولايات فقد هاجر إليها منذ ست سنوات. دؤوب في عمله، تجده ساهراً لمنتصف الليل، يصلّح دواليب عربات التحميل، أو ينهي تسجيل أوراق الشاحنات المتأخرة. أصبح المشرف على تحميل المقطورات، وعلى توزيع العمال في المصنع، بعد ثلاث سنوات من بدئه بالعمل فقط. رحلته للجوء إلى أمريكا كانت شاقة العذاب. كاد يغرق في نهر الريو غراندي مع زوجته وطفليه (أحدهما بعمر السنة والآخر ثلاث سنوات) حين تسلل ذات ليلة غير مقمرة؛ وعانى مع ضابط الهجرة (پول وايزنر، لا زال يذكر اسمه حرفياً) المسؤول عن ملفه، والذي أضناه في الحصول على رخصة عمل نظامية. رغم كل ذلك كان واكين قاسياً خشناً مع أبناء بلده من المهاجرين، لا يتهاون في عقوبة أي متقاعس من العمال الهندوراسيين بالتقريع، ثم بخصم جزءاً من راتبه، ثم بطرده نهائيا من العمل إن تكرر إهماله. "كنتم تشكون العطالة في الهندوراس، وها أنتم الان هنا في الولايات، ولديكم عمل تأكلون من ريعه، فلا حجة للكسل الآن". كانت تلك عبارته المعروفة، يرددها ويلقيها بنفس النبرة الخطابية، حتى أصبح أحد العمال، سيباستيان، ينهي له جملته متى بدأ بأول كلماتها، وبقية العمال يضحكون تحت أنوفهم، متجنبين النظر تجاه واكين.
شكره نادر بالكلمات القليلة التي يعرفها بالاسبانية، لكن واكين رد بالانكليزية قائلاً: أتمنى لك رحلة موفقة. ثم سأله: ما فترة غيابك؟
ـ ثمانية وعشرون يوماً.
ـ هذا وقت طويل بعيداً عن البيت!
ـ هل تظن كذلك؟
ـ آه، أنت إذا أحد هؤلاء، الذين يفضلون الطريق على البيت!
ـ لم أدر أن لدي أصحاباً على الطريق من "هؤلاء". أجابه نادر ضاحكاً. لكن ملاحظة واكين منحته بعض الرضى، ربما الفخر، متخيلاً أن هناك نزوحاً جماعياً للرجال من بيوتهم للطرقات في سعيهم للتخلص من سجونهم المنزلية. تسلق نادر شاحنته وقادها خارج مستودع التحميل.
على الطريق السريع (رقم 90) اتجه نادر شمالاً، ثم انعطف غرباً قاطعاً غابات وسكنسن الكثيفة، وجنوب داكوتا بهضابها السوداء وصخورها الناتئة، حتى وصل سفوح مونتانا. مونتانا! مونتانا ذات السماء الشاسعة والسهول العظيمة التي لا تنتهي . فتح الشباك الجانبي فدخلت نسمات باردة منعشة تحمل رائحة العتق، عبق الحرية. امتدت أمامه حقول الشوفان والشعير والقمح لأميال، تتماوج عيدانها كأنها لجة تحركها رحى في أعماقها لا تهدأ. لون سماء مونتانا الواسعة أزرق صاف كأنها صبغت بدم الملوك، لا يعكرها سوى بضعة خيوط من غيم الطائرات العابرة للقارة في كل اتجاه. الطائرات تكاد لا تُرى أمام خطوطها التي تنفثها كما التنين ينفث النار في أساطير قصص الأطفال. بخارها المتكاثف، عند تقاطعها يرسم اشكالاً متناثرة، تتمازج حيناً لتشكل ما يشبه حروفا، فهذه عين، وبجانبها راء، وتحتها باء (أو لعلها تاء) وربما تناثرت سين في مكان ما، لتنقلب ياءً في النهاية. ضحك للعبة الحروف، الحروف كالأرقام فيها تفاصيل وألغاز.
هاهي حياته الجديدة أمامه تنضح كما الماء من بوابة السد، وخلفه الكثير، الكثير من الماء الراكد الذي أراد أن لا يراه مرة أخرى. لولا أن قوانين السياقة تحتم عليه الاستراحة كل سبع ساعات لما توقف أبداً. في مقصورته العالية أحاطت به نوافذ الشاحنة الواسعة كأنه في حوض سمك عملاق. عادت به ذكرياته ليوم اشترى فيه لأولاده الصغار حوضاً لأسماك الزينة، وكيف انتهى به الأمر راعياً له، مسؤولًا عن تغيير ماؤه ، وتنظيف بقاياه، وتعقيمه، وحتى إطعام تلك الكائنات الغريبة التي فشلت في التطور والخروج من الماء، كما بقية كائنات الكون. كان حوض السمك ذو العشرين غالوناً سبب أحد خلافاته الكثيرة مع لميس.
ألم نشتر حوض السمك كي يتعلّم الأولاد المسؤولية، لِمَ يهملونه؟ سأل مرة لميس.
كل الأولاد كذلك هذه الأيام.
ولكن علينا تربية أولادنا كما نشاء وليس كما يشاء الآخرون.
والله! وماذا تعرف عن تربية الأولاد. أنت غائب عن البيت معظم اليوم.
أنا غائب لأني أعمل، وتربية الأولاد مسؤوليتك لأنك لا تعملين.
أنت غير واقعي، .تفكر كأنك لسه عايش بسوريا. أنا لست خادمة لك ولأولادك.
هلأ صارت تربايتنا بسوريا غلط بغلط… غير واقعية؟
لا صح بصح. طيب ليش ما ضليت بسوريا أنت وواقعيتك؟ ترجيت أبي حتى دبرلك ڤيزا للسفر إلى أمريكا.
تركت سوريا لمصلحة العائلة و…
لا. تركتها لمصلحتك وحدك. أنت أناني لا تفكر سوى بنفسك، كيف تتقدم بالشغل، كيف تستخدم الناس حواليك، كيف تزيد مصاريك.
مصاريّي… مين الي عم يبعثر…
رجف صوته وتحشرج. أراد أن يرد عليها بأن المال لا يهمه، أن كل همّه هو عائلته، وأن الأمريكان (خلافاً لها) يربّون أولادهم على تحمل مشاق المسؤولية وعلى الاعتماد على النفس منذ الصغر، لكنها لن تفهم. هي لا تختلط بالأميركان أصلاً، فكل صديقاتها من العرب المهاجرين، الذين، عندما يتكلمون عن الأميركيين، يشيرون إليهم بعبارة "هدونيك الأميركان" وكأنهم من كوكب آخر. هي وصديقاتها في عزلة، منشغلين بالمظاهر: التنافس على أكبر بيت وأشهر مصمم معماري، وأفخم عفش وأغلى سيارة. فضّل السكوت لأنه يعرف أين سيقود به هذا النقاش.
لن يخرج منه بطائل. ألم يتزوج لميس لأنها كانت تحمل الجنسية الاميركية، وهي المولودة في نيوجرسي عندما كان والدها يَدْرُس إدارة الأعمال في جامعة رتغرز. انتقلت صغيرة مع عائلتها إلى دبي حيث حقق والدها ثروته بعد شراكته مع أحد المتنفذين في استيراد أجهزة غرف العمليات الجراحية، ونشأت هناك في ظل ناطحات السحاب، وفي دهاليز المولات الضخمة، وفي ساحات الملاهي والألعاب. لم يعد يطيق تعاليها عليه، هتكها لعرضه وأصله المتواضع عند كل نقاش، وتذكيره بأفضال أبيها عليه كل دقيقة وكل ساعة.
بعد ولادتها الأولى ازدادت حدة مزاجها. حاول معاملتها بقسوة وخشونة لتأديبها، لكنه فشل، فاستسلم أخيراً حتى صار يتجنب النقاش معها. كان يمضي ساعات، وأحياناً أياماً، دون التكلم معها، مفضلاً الخلوة في غرفة مكتبه. نفس المكتب الذي كان يراجع فيه أشرطة كاميرات المراقبة حين رآها، رأسها ملقى للخلف، الماء حولها يتموج مع تموج جسدها، بينما رأس النرويجي مدفون تحت بطنها. وبقيت تنكر وتكذب وتبرر. لكن الماضي هو الماضي، وهو حر الآن. في الواقع لم يشعر بحرية مثل اليوم سابقاً إلا عندما كان صغيراً، يركض في أزقة حماة القديمة حتى يصل النواعير، يتعلق بها، ثم يقفز من أعلاها لحوض الماء التي شكله نهر العاصي حولها، ويشعر للحظات وهو معلق في الهواء كأنه في عالمه الخاص للحظات بدت له وكأنها الدهر.
نفض صورتها عن ذهنه، أشعل سيجار كوهيبا كان قد أشتراه في إحدى زياراته لهافانا. أخذ نفسا عميقاً وشعر بلسعة حد التبغ على لسانه وبنشوة النيكوتين، وما اختلط من عبير الفتيات الكوبيات اللواتي لففن هذا السيجار على أفخاذهن العارية، ينتشر ببطء خدر في عروقه. لميس منعته من التدخين في البيت، أو حتى في الحديقة الخلفية، لأنها لا تريد أن "يتعلم الأولاد عادات سيئة". لكن إهمال الأولاد لمسؤولياتهم، كالعناية بحوض السمك، كان مقبولاً لديها حسب معاييرها المزدوجة، أو لعلها معايير متعددة الاتجاهات تُديرُها حيث تحب وتقلّبها كما تشتهي. يا ترى ماذا تفعل لميس الآن؟ من تأمر وتنهِ، من تغتاب وعلى من تسخر؟ ها هو يفكر فيها من جديد، عليه الكف عن ذلك. عليه الترفع عن تلك الأرض الموحلة، حظه الآن في السماء، في خطوط بخار الطائرات، تتشعب كما تتشعب على جدران فناجين القهوة بقايا الطحل راقشةً رسوماً وعلامات تشي بالمستقبل. لا عودة للماضي… الآن، وهنا، ليس من حاجة للاختباء وراء أدوية الاكتئاب، والسعي للسلوان بقوارير الويسكي والفودكا.
دوت خريطة تحديد المواقع طنيناً حاداً، ولمعت شاشتها لوناً احمرَ. لقد مر على محطة وزن الشاحنات دون ان يدخل اليها للوزن والتفتيش. سيحصل علي عقوبة… لا يهم… يمكنه دفع غرامة. إنه حر الآن ولن يسمح لخريطة موقع أو غيرها أن تعكر مزاجه. بدأت الشمس بالميل نحو الغروب. قرصها الأرجواني محاط بهالة صفراء. وبينها وبين منتصف السماء الزرقاء شريط أخضر لم يعهده لوناً من أطياف السماء من قبل. ما أجمله. هل غيّرت حريته المكتسبة موازين الكون؟ انفرجت أسارير وجهه موافقاً، حتى السماء أبدعت أصباغاً جديدة احتفالاً به!
فجأة، لمعت وراءه أضواء سيارة شرطة المرور وفزعت زماميرها عويلاً. كانت كاميرا محطة الوزن اللعينة قد أرسلت إشارة بمخالفته وعدم وقوفه للوزن. ضغط على دواسة البنزين وبدأ مؤشر السرعة بالارتفاع. 70-75-80، سمع ميكروفون سيارة الشرطة وراءه تأمره بالتوقف الفوري. ضغط على دواسة الوقود بشدّة 85-90-95. بدأ يشعر بارتجاج الشاحنة رغم ثقل المقطورة المليئة وراءه. انضمت سيارة شرطة أخرى لمتابعته. دخل في الطريق السريع (بيرتووث هايواي) الشهير بجمال طبيعته الفريدة التي لا تقل شهرةً وفرديةً عن تعرجاته المنحدرة الضيقة والعسيرة. لوحات الإشارات دلّت على بداية التعرج والهبوط في الطريق بزوايا حادة، مُعلنةً أنه على الشاحنات تخفيض السرعة للأربعين. مؤشر سرعته الآن تجاوز 110. سمع مروحية البوليس تحلق فوقه، شعاع ضوئها المركّز أنار مقصورته وأعماه. لوحة إشارة أخرى على الطريق أوعزت أن الطريق سينحني بحدة للجنوب قبل أن يمر فوق جسر معلق فوق الوادي العميق. الشمس تختفي رويدا وراء الأفق ووهج السماء أصبح بنفسجياً، ومع غياب الشمس أمسى ضوء المروحية المسلّط أكثر سطوة. هذه أمريكا بجبروتها تريد اللحاق به وانتزاع حريته منه. وضع السيجار بين أسنانه، ضغط على البنزين ببأس وقسوة. اختفت الشمس وراء الهضاب فأصبحت عاكسات الاضاءة الفوسفورية المثبتة على صدّامات حافتي الطريق تعكس وميض سيارات الشرطة المسرعة خلفه، مضيئة مقصورته بإيقاع نوادي الديسكو الليلية، تبرق بتردد سريع: أحمر، أزرق، أحمر، أزرق، أحمر، أزرق…
عند زاوية حادة، انفجر دولابه الأمامي بعد أن ارتفعت حرارته واحمرت أطرافه حتى ذاب إطاره المطاطي. أحس بصدمة خفيفة سببت ارتجاجاً في مقصورته، تبعها صرير حاد وشرارات صدرت من مقدمة الشاحنة ومن جانبها اليميني بينما شاحنته تخترق آخر الصدّامات الجانبية، تاركة وراءها كتلاً من المعدن المعجون، منحرفة عن المنعطف في الطريق وعن الجسر الممتد أمامه.
توقفت ضوضاء سيارات الشرطة وراءه، وغاب ضوء المروحية ونبض مروحتها السريع. ساد صمت وحل ظلام. تراقصت المؤشرات في المقصورة للحظة ثم استقرت على نقطة الصفر. شعر بانعدام الجاذبية وكأنه يحوم في هلام عديم اللون والرائحة، كأنه إحدى سمكات حوض سمك أولاده النائمة، معلق في سكون دون جهد خاص.
لم يمر به شريط أحداث حياته وهو معلّق بين السماء والوادي السحيق، كما كان يقرأ في الروايات عمّا يتراءى للإنسان في لحظاته الأخيرة. لم يشعر بلزوجة بركة الدم التي أحاطت صديقه معتز عندما أصابه أحد القناصة قبيل غروب الشمس في العاشر من شباط عام 1982. لم تثقل يد والد لميس الضخمة كتفه وهو يقول له: "لميس من عائلة عريقة الأصل، عليك أن تعاملها بنفس العز والكرم الذي اعتادته في بيت والدها". لم يرفرف قلبه كجناحي فراشة، كما شعر في صدره عندما شبك الكاهن يده مع يد لميس وهو يضع إكليلين من الزهور على رأسيهما، قائلاً: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب الله الكنيسة… أيتها النساء اخضعن لأزواجكن كما للرب". لم يسدل على عينيه سواد كما الدجى الذي طمسها وهو يراقب طبيب الأطفال الخدج عندما ضمّ كفيه فوق قلبه، هامساً، أن دماغ وليده فؤاد قد تأذى بسبب نقص في الاكسجين عندما تعسرت ولادته، وأنه لن يركض مجارياً زملائه، ولن يلعب مع فريق الكرة في مدرسته، ولن يسبح أشواطاً كبقية أترابه.
لم تومض عيناه بأي من أحلامه، ولم يرتعش جفناه خشية كوابيسه. لم يحس بغبطة وسرور، ولا بحسرة وأسى. كل ما شعر به هو أنه كان يسبح في فضاء واسع رحب شفاف، معلقاً خارج المكان والزمان، بلا بداية أو نهاية.



#حسام_عتال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام عتال - الشاحنة الحمراء (قصة قصيرة)-