أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - سجون وسجون وسجون















المزيد.....

سجون وسجون وسجون


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7416 - 2022 / 10 / 29 - 18:19
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


تنصرف أذهننا عند سماع كلمة سجن إلى مكان خاص، مُسوّر ومحروس، يعزل فيه سجناء، لآماد تتفاوت، قد تكون "مدى الحياة". السجون الجنائية تبدو كلها من هذا الصنف، وحتى السجون السياسية التي يبدو أنها تعرض تنوعاً أكبر تندرج ضمن المقولة العامة للسجن المكاني أو السجن في المكان. قد نكون حيال معسكر تعذيب مثل سجن تدمر السوري في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، أو شقيقه سجن صيدنايا في سنوات بشار، أو حتى معسكرات الاعتقال النازية التي كان بعضها معسكرات إبادة لم يكد ينجو منها أحد، وبعضها معسكرات تشغيل وتعذيب قتل في كل منها ألوف أو عشرات الألوف، أو أرخبيل الغولاغ الستاليني الذي أودى خلال عشرين عاماً بحياة الملايين، أو "معسكرات ترشيح" يحتجز فيها الناس عشوائياً، قبل أن يحتفظ بالمرشحين للاعتقال المديد أو التصفية مثلما مارست روسيا البوتينية في الشيشان، أو غوانتانامو الأميركي المقام على أراض كوبية، والذي تنكر العدالة على "نزلائه" الموصوفين بأنهم "مقاتلون غير شرعيين"، لكن هذه الاختلافات لا تلغي خاصية جامعة لهذه السجون: إنها سجون مكانية. ولا تنتفي هذه الخاصية إلا أن بانتفاء شرط واحد: معرفة الأهالي بأن أخصائهم محجوزون هناك. وستتضح دلالة هذا التحفظ في ما يأتي من المقال.
وما يسوغ الكلام على سجون في المكان هو وجود سجون في الزمان، وهو وجود يستحق أن يصاغ مفهومياً وأن يطور خطاب بشأنه. المقصود بالسجن الزماني أو في الزمان هو حالة اللابديل، الدوام المفروض لبنية اجتماعية سياسية قائمة. حالة اللابديل تعني العيش في حاضر مؤبد كأنه سجن، بلا وعود ولا آت مغاير، أي بلا مستقبل، ما دام المستقبل هو المستقبل البديل أو المختلف. حين لا يكون المستقبل مختلفاً، فإننا حيال دوام وأبد، تكرار الشيء نفسه. يشبه الأمر حالتنا في سورية طوال 52 من الحكم الأسدي الذي يتكلم صراحة على الأبد، مع كل ما ينطوي عليه مدرك الأبد من تَسيُّد وعتو فاشي وحرب ضد المستقبل. لكن حالة اللابديل اليوم عالمية. العالم كله يعيش في سجن زمني، محروم من مستقبل مختلف، منذ أيام مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، والثورة الليبرالية الجديدة، في ثمانينات القرن الماضي وأكثر بعد انهيار وتفكك المعسكر السوفييتي. هذا السجن الزماني يمكن أن يكون أخطر من سجون المكان لأنه محسوس أقل. وبينما يناضل سجناء المكان من أجل الحرية والعدالة، وربما من أجل عالم بلا سجون، يُحتمل لسجناء الزمان أن يفروا من الحاضر المؤبد نحو الماضي، مثلما يفعل الإسلاميون في مجالنا وما تفضله حركات اليمين الشعبوي في أوربا والغرب، أو نحو مستقبل متوهم، طوبى مجردة يمكنها أن تكون عدمية مثل الحركات الماضوية. وقد لا نكون اليوم بعيدين عن تولد مثل هذه الحركات العدمية التي سبق أن رأيناها يوماً في "روسيا الأبدية" في أواخر القرن التاسع عشر، بل وقد يمكن التفكير في البلشفية ذاتها كمستقبلية مجردة، مع منازع عدمية وإرهابية قوية.
ولتجسيم الفرق بين سجون المكان وسجون الزمان يمكن استحضار التجربة الشهيرة لفأر وضع في ماء ساخن فاستجمع قواه وقفز من الوعاء ناجياً بنفسه، فيما وُضِع فأر آخر في ماء يجري تسخينه ببطء، فمات في النهاية مسلوقاً. في السجن الزماني، نحن مثل الفأر الأخير. بيئياً، نحن نتسخن مثله، ونتجه لأن ننتهي مشويين. وسياسياً، نتعفن في سجن حاضر أبدي.
ما يبثه العالم اليوم من شعور بالضيق في نفوس أعداد تبدو متزايدة من الناس يتصل على الأرجح بتضيق العالم بفعل زوال أو ضمور البعد الزماني. الضيق المكاني نفسه ليس مجرد علاقة بين تزايد السكان والمساحة الجغرافية لمنطقة أو بلد ما، ليس مسألة كثافة سكانية، بل هو قبل ذلك علاقة سياسية تتصل بدرجات الرقابة والتقييد المحتملة لحركة السكان وتفاعلاتهم، وما قد يتولد عنها من بدائل ومستقبل مغاير. لقد بدا لعقود طويلة أن لبنان أكبر من سورية، ويعرف الناس أشياء كثيرة عنه وعن سياسييه وبرلمانييه وإعلامييه، بحكم ما تميز به البلد الصغير من تعدد وتفاعلات حرة، ضمنه ومع العالم. هذا اليوم في تراجع مؤلم، لكن لبنان لا يزال بهذا المعنى العلائقي أكبر من سورية التي تفوقه مساحة بنحو 18 مرة، وسكاناً بأربعة أضعاف. وتبدو أوربا كبيرة يقصدها الناس من أفريقيا والشرق الأوسط وغيرهما سعياً وراء سعة العيش فيها، مع كونها أصغر في المساحة بكثير. لكن أوربا نفسها متجهة نحو الضيق بفعل ضمور البعد الزماني. تضافر الضيقين المكاني والزماني لا يبعد أن يؤدي إلى انفجارات مهولة.
ولا يكون السجن المكاني سجناً زمانياً في الوقت نفسه إلا حين يقضي السجناء حياتهم كلها فيه، فلا بديل أمامهم ولا مستقبل مختلف. المستقبل الوحيد بالأحرى هو الموت الذي لا يفرق بين الناس، أحرار كانوا أم مسجونين. بالمقابل، قلما يكون السجن الزماني سجناً مكانياً كذلك، ما دام أكثرنا غير معتقلين في سجون ضيقة، وهذا مع كوننا جميعاً سجناء عالم بلا بدائل؛ ثم ما دام بعضنا يتحركون بين البلدان، بمن فيها بلدان موصوفة بأنها سجون كبيرة. على أن من بين السجناء في الزمان، مثل جميع السوريين، من هم سجناء في المكان كذلك، مثل ما قد يزيد على 130 ألفاً من السوريين اليوم. هذه حال سجن مضاعف، مكاني وزماني في آن.
بيد أن هناك سجون ثالثة لا مكانية ولا زمانية، أو في اللامكان واللازمان، هي ما تُعرِّف وضع المُغيّبين. المغيبون سجناء في اللامكان لأنه ليس لهم مكان معلوم، بل ولا مصير معلوم. وهم سجناء في اللازمان بسبب مجهولية المصير هذه التي تتمادى وتمتد مثلما وقع لمعظم المغيبين في الأرجنتين قبل ما ينوف على أربعين عاماً، ومثلما حدث لألوف في سورية في ثمانينات القرن الماضي. هناك نحو 112 ألفاً من السوريين يضمهم شرط اللامكان واللازمان اليوم. فإذا اصطلحنا على تسمية لا-مكان التغييب بالمَغيب، فإن المغيب هذا يقع خارج الجغرافيا، تماماً مثلما هي اليوتوبيا. ويصلح المغيب اصطلاحاً لتسمية لا-زمان التغييب كذلك، وهو يقع خارج التاريخ بالنظر إلى أن التاريخ يحيل إلى ذوات ومواقع ومصائر معلومة أو يمكن أن تعلم. ثم أن المغيبين ليسوا في الحياة دون أن يكونوا في الموت بحكم مجهولية المصير ذاتها، وهذا مثلما أنهم ليسوا في المكان ولا الزمان. في المغيب، نحن في عالم مواز، عالم من الغيب الدنيوي.
في السجن الزماني الأكبر ثمة ما يقارب ثماني مليارات هم جميع سكان الكوكب اليوم. وفي السجون المكانية هناك نحو أحد عشر مليوناً ونصف المليون في العالم. أما أسرى المغيب من المغيبين في سجون لازمانية ولامكانية فعددهم غير معلوم، أصغر على الأرجح من مجموع السجناء في العالم، لكن فيهم يتمثل الغيب، القطب الآخر لهذا العالم المشهود.
كان السجن استعارة لوصف بلدان تحكمها دكتاتوريات قمعية. هو اليوم استعارة لوصف العالم ككل. ففي عالمنا الحالي لا تتقابل سجون بحرية، عالم تقييد وقمع بعالم حر، بل سجون بسجون. ليست السجون كلها مثل أسوئها، لكن قطب السجن هو ما ينمو اليوم وليس قطب الحرية. لقد صار تخيل عالم مغاير وبدائل من أجل عالم مغاير ضرورات ملحة.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
- القسوة والدلال: إسرائيل وتضافر فسادين
- في جذور -تغوّل- الدولة العربية خلال نصف قرن
- أهي نهاية الحرب ضد الإرهاب؟
- لاهوت التعذيب
- اللاجئون السوريون و-القابلية للعنصرية-
- سورية... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا
- رحل نبيل كمير
- علاء (مقدمة كتاب شبح الربيع)
- في الاختلاف السوري: المجزرة تفادياً للمجزرة
- علاء عبد الفتاح ودولة ما بعد الاستعمار
- معنى التغييب القسري
- أوجه المجزرة السبع
- أركان التغييب القسري الثلاث وجوهره
- نحن وإسرائيل والعالم، والتغير الواجب
- منطق تجميع القوى والقضية السورية اليوم
- العالم من منظور سوري
- في سنوية الثورة السورية: مواعيد معلومة ومصير مجهول
- لماذا أوكرانيا قضية سورية؟
- المتلاعب والقاتل، واليسار


المزيد.....




- شاهد ما جرى لحظة اقتحام الشرطة الأمريكية جامعة كاليفورنيا لف ...
- ساويرس يُعلق على تشبيه أحداث جامعة كاليفورنيا بـ-موقعة الجمل ...
- على غرار الجامعات الأمريكية.. الطلبة البريطانيون ينظمون احتج ...
- اليمين الأمريكي يستخدم نظرية -الاستبدال العظيم- لمهاجمة خصوم ...
- شاهد: لحظة اقتحام الشرطة لجامعة كاليفورنيا لفض اعتصام داعم ل ...
- بالأرقام.. عمّال غزة في مهب الحرب: بين قتيل وعاطل الآلاف يكا ...
- بوندسليغا.. طموح لمزيد من المجد الأوروبي وصراع شرس في القاع ...
- زعيم المعارضة الإسرائيلية لابيد يزور الإمارات ويلتقي بن زايد ...
- شاحنة آيس كريم تصدم عشرات الأطفال في قرغيزستان أثناء احتفال ...
- أوربان: البعض في قيادة الاتحاد الأوروبي يستفيد من الصراع في ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - سجون وسجون وسجون