أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنمار رحمة الله - مدينةُ الأفلام















المزيد.....

مدينةُ الأفلام


أنمار رحمة الله

الحوار المتمدن-العدد: 7411 - 2022 / 10 / 24 - 20:38
المحور: الادب والفن
    


"شيئان لا ترهق نفسكَ في التفكير بهما. الماضي لأنه مضى فلا نستطيع تغييره، والمستقبل لأنه لم يحدث ومازال في علم الغيب. أما الحاضر فباستطاعتنا أن نفكر في قراراتنا به على أقل تقدير لأننا نعيش فيه". هذا ما كان يقوله لي أبي ناصحاً، حين يراني حزيناً على شيء مضى، أو قلقاً من شيء سيأتي. ولكن كعادة ذاكرتي، التي تتزحلق النصائحُ فيها كما يتزحلق الأطفالُ في ملاعيب المدينة، لم تحفظ الدرس النفيس الذي أعطاني إياه أبي الراحل. فأنا متورّط في الحاضر وفي معضلة أُصيب قراري فيها بشلل نصفي. وانقسم عقلي إلى نصف يلحّ عليّ بالمواصلة في هذا الجنون بسبب عملي الوظيفي والقَسَم الذي أقسمته، والنصف الآخر يلحّ عليّ بالهروب فوراً من هذه المدينة، والنجاة بما تبقى من عقلي وعمري قبل وقوع كارثة لا تحمد عاقبتها. لم يمض على عملي هنا سوى ستة أشهر، وكنتُ أعاني طوال هذه المدة من الأرق. ولستُ أدري كيف يتحول النوم إلى أرنب جبان، يهرب من جحر إلى جحر، وقد عجزت من الإمساك به في غابة أفكاري. وكنتُ أتساءل أيضاً، هل ينام الناسُ هنا براحة على الرغم من هذا الهذيان الذي يبدل جلده كأفعى؟!. "الناس هنا لا يستقرّون على حال واحد" هذا ما قاله لي المأمور في قسم الشرطة الذي أعمل فيه، حين باشرت في عملي أول الأمر. ولكم ندبت حظي الذي رمى بي وسط حفنة من المجانين. فالمكان الذي لا يرتاح فيه الإنسان، يصير حتى الهواء فيه ثقيلاً، وكأنك تتنفس زجاجاً مطحوناً..
سألت المأمور في وقتها والذي شارف على التقاعد في هذه الأيام، عن بداية هذا الخبل في المدينة فأجابني:
- لم يكن الناس هكذا من قبل!! إنها مدينة صغيرة والناس فيها بسطاء. هذا ما رأيته في أول مرة تم نقلي إلى هذا المركز قبل سنوات. لكنهم تبدلوا كما ترى.. نعم فطبائع الناس تتبدل كما تتبدل أشكال النقود.
ثمَّ أن السؤال الذي صار يداهمني في هذه اللحظة، هل سأستمر في العمل هنا حتى تقاعدي أم أنني سأموت مقتولاً على يد أحدهم، أو على يد حسرتي؟!. إنها مهمة شاقة ومخيّبة للآمال. كيف أستطيع العيش والمواصلة مع هؤلاء البشر في حفلة الجنون هذه؟!.
هذه المدينة بحاجة إلى التعاقد مع عشرات الأطباء النفسيين لعلاجهم، وأن يستوردوا أدوية لعلاج الجنون والهلوسة والخبل، إلى جانب استيرادهم للرز والطحين والسكر. فليس من المعقول أن أدوّن في محضر قسم الشرطة التابع لنا، على مدى الشهور الستة التي قضيتها، مئات الشجارات، لأسباب غريبة ينتصب شعر بدني منها كإبر الصبّار..
***
من نصائح أبي التي مازلت أتذكرها أنه كان يقول: للنفس مزاج راعه كما تراعي طفلاً. وبالفعل كان مزاجي في الأيام الأخيرة مضطرباً ومشوّشاً. لهذا قرَّرتُ في إحدى العطل الترويح عن نفسي، والذهاب إلى السينما الوحيدة في المدينة والتي كانت تعرض أحدث الأفلام الأجنبية. وهذه المرة ستعرض فيلماً من أفلام العصابات. عرفتُ هذا حين طالعت الإعلان الذي علقه عمّال السينما على الواجهة العالية لبنايتها، وقد كان مالك السينما يقف في الأسفل يشرف بنفسه على تعليق اللافتة التي طُبعت فيها صورة من الفيلم الجديد. مالك السينما لم يكن من أهل المدينة، فهو رجل ثري وغريب، أراد استثمار رأس ماله في هذا الجانب بعد أن رأى خلو المدينة من وسيلة ترفيه. وبالكاد قطعت تذكرة، بعد أن وصلت إلى شبّاك التذاكر بمعجزة، نتيجة الزحام والتدافع. عجبت خلالها من هذا النهم الشديد عند أهل المدينة في متابعة الأفلام السينمائية!!.
حين دخلتُ إلى المقعد المخصص لي داخل قاعة السينما العتيمة، كان الهدوء سائداً قبل بداية الفيلم وكأنني في مقبرة. وبعد ساعة ونصف من مطاردات عنيفة بين عصابات متقاتلة في الفيلم، خرجت ورأسي منفوخ كطبل من طبول الغجر. لكن رأسي قد زاد الألم فيه في اليوم التالي حين عجّ قسم الشرطة التابع لنا بعشرات وعشرات من الشجارات التي وقعت بين أهل المدينة!. وما أثار استغرابي أن أغلب المحاضر التي دوّنتها، والتي اخبرني المأمور المُسن أن أمزقها لاحقاً، فلا فائدة مرجوّة منها حسب قوله بعد أن صار الأمر عادياً. المحاضر فيها تفاصيل عن المتشاجرين الذين ألقينا القبض على بعضهم، والآخرين الذين جاءوا ليشتكوا، كلهم كانوا يدّعون أنهم إما عصابات أو ضحايا لتلك العصابات؟!. وبخصوص المحاضر كلها كانت عن أحداث واحدة متشابهة!!. انتبهت إلى أن تلك الأحداث التي سردها المشتكون والذين ألقينا القبض عليهم، كلها كانت مطابقة تماماً لأحداث الفيلم الذي رأيته ليلة البارحة في سينما المدينة!!.
***
"في بعض الأحيان إذا خفت من شيء اهجم عليه"، هكذا قال لي أبي حين خفت أيام طفولتي من أفعى صغيرة ظهرت في منزلنا قديماً. ومن حسن حظي مازالت هذه النصيحة عالقة في ذهني، وهي التي دفعتني إلى أن أهجم بسلاح الفضول على إيجاد تفسير معقول لما يحدث في المدينة. بعد ثلاثة أيام رفع عمّال السينما لوحة الإعلان القديمة عن فيلم العصابات، ووضعوا مكانها لوحة عريضة لفيلم رومانسي وصورة لرجل وسيم في حضنه امرأة شقراء، وكانا نائمين على سرير. كنت أقف في الجانب الآخر من الشارع، مرتدياً ملابسي الشخصية ولم أرتد ملابس الشرطة الرسمية. وأعتمر قبعة ونظارات شمسية تماماً كما يفعل المحققون البوليسيون في الأفلام. وحين اقتربت من بوّابة السينما العريضة، شاهدت مالك السينما ذا البذلة الفاخرة، بطوله الفارع وعطره الذي ملأ الشارع، وسيجارته الرفيعة وذلك الخاتم الكبير الذهبي الذي كان يلمع في أحد أصابع كفه. وهو يوجّه عمّاله إلى وضع اللافتة بالشكل الملائم. لم أنتظر طويلاً، هرعت إلى شبّاك التذاكر أنا وجحافل الناس كما يهجم جيش جراد جائع على حقل. الفيلم الذي كان سخيفاً يتحدث عن خيانة زوج لزوجته مع عشيقة. ولم يخب ظني، وتوصلت إلى خيط بسيط في حلّ هذا اللغز العجيب. لأنني في اليوم التالي وعلى مدار أسبوع كامل، كان مركزنا يعجُّ بمحاضر وشكاوى عن خيانات زوجية، ورؤوس أزواج تسيل دماً، وأزواج أخرون يجرون نساءهم بتهمة الخيانة، وزوجات لطمن على وجوههن ونثرن شعورهن بسبب خيانة أزواجهن. فلم أسكت طويلاً على هذا الأمر، وأبلغت المأمور بالسبب الذي يدفع أهل المدينة إلى هذه الأفعال. متوقعاً أن لهذه السينما التي تعرض تلك الأفلام، ومالكها ومن يعمل معه كل هذا التأثير البالغ على عقول الناس. لكن المأمور استلقى على أريكته وقال لي ضاحكاً:
- على رسلك يابني.. هل تظن أن فيلماً معروضاً في سينما هو السبب؟.. لا أعتقد هذا!!.
- ولكن سيدي الأمر واضح.. أرجو أن تلقي نظرة...
- ربما أنت متعب في هذه الأيام يا بني.. امنحك إجازة لمدة أيام لكي ترتاح
- عفواً سيدي.. أنا أتحدث بصراحة ولا أحتاج إلى إجازة بل إلى أن تصغي لما قلته لك
اعتدل المأمور في جلسته ونهرني قائلاً:
- قلت لا.. هذه السينما للترفيه واللهو من يصدق حماقة أن لها هذا التأثير.. لا أريد مشاكل تحدث هنا.. اذهب إلى عملك..
صدعتُ بما أمرني به جناب المأمور وأنا كلّي حيرة وحنق. السبب الأول أنني لم أقتنع بما قاله، والسبب الثاني وربما الأهم كما أظن، أن المأمور سيُحال على التقاعد بعد بضعة أيام قليلة، ويريد أن ينهي خدمته بلا أية مشاكل. لهذا قررت العمل بمفردي بعد أن دفعني فضولٌ ممزوج بغضب هذه المرة، لمعرفة الفيلم الجديد الذي سيتم عرضه في سينما المدينة. وهذا ما جعلني أرتدي ملابسي الرسمية، وأعود في الوقت الذي كان فيه مالك السينما وعمّاله يضعون لافتة لفيلم جديد..
***
قفزت مقولة من مقولات أبي الراحل في رأسي حين كنتُ سارحاً، وأنا اطالع أضواء قاعة السينما التي تم إطفاؤها قبل بداية الفيلم. المقولة التي كان ينصحني بها قائلاً : قلْ كلّ شيء ولكن لا تمد يدك ولا تشتم كي لا يضيع حقك. ربما لأن حدسي نبّهني إلى أن القادم لن يكون على مايرام.. وحدث ما توقعته.. فالفيلم الذي تم عرضه هذه المرة هو فيلم خيالي يحكي عن آلهة وسحرة ومشعوذين، وصراع مقدّس بين جماعات ينتهي بها المطاف إلى القتال دفاعاً عن آلهتها. لدرجة أنني قفزت من مكاني بلا وعي، وصرختُ في القاعة طالباً أن يتوقف الجميع عن هذا الجنون. وأمرتهم لكوني رجلاً يمثل القانون أن يكفوا عن مشاهدة هذه الأفلام. فتعالت أصوات شتائم نحوي من الجمهور الذي كان كما يبدو يطالع الفيلم بدهشة ورغبة جامحة. ولم أشعر إلا بعمّال السينما قد أخذوني من ذراعيّ. ورموني في الشارع المقابل للبناية. وانا أصرخ بأعلى صوتي: يا ويلكم.. أنا شرطي أمثل القانون في هذه المدينة.. سأعود ومعي أمر بإغلاق السينما. تبادل عمّال السينما الضحكات، ونفضوا أكفهم ودخلوا إلى البناية. وقفت على مهل وأنا أنفض بذلتي التي تلوثت بتراب الشارع. ولفت انتباهي أن مالك السينما كان يطالعني من شباك في بنايته في الطابق العلوي وهو يدخّن السيجار..
***
لم يتأخر ماكنت أظن أنه سيحدث. فبعد يومين فقط، كنت أسير إلى عملي صباحاً حيث رأيت بعيني السيارات وهي تحمل المسلحين بالأعمدة والسكاكين، والنساء التي تزغرد لهم، وهتافات هنا وهناك، لجماعة هنا وجماعة هناك. الجميع قد دخلوا في أحداث الفيلم وجسّدوها على أكمل وجه. كان زملائي من الشرطة واقفين يتفرجون على المشاهد والعراك في الشوارع. وحين دخلت راكضاً إلى غرفة المأمور نبهني الحارس عند الباب أن المأمور لديه اجتماع مع المأمور الجديد الذي وصل هذا الصباح. انتظرت قليلاً لكي أخبره عن المصيبة التي حلّت بالمدينة بسبب سكوته، وأنه المسؤول عن هذا لأنني قد ابلغته مسبقاً أن ما يحدث هو بسبب السينما اللعينة ومالكها والمجهول. وهي فرصة جيدة لكي يطّلع المأمور الجديد على ما يحدث، فأكون قد ضربت عصفورين بحجر. وبعد دقائق من بركان الغضب المكبوت في جوفي، والذهاب والمجيء في ممر غرفة المأمور، فُتِح البابُ وخرج مأمور المركز المتقاعد برفقة المأمور الجديد ومالك السينما!!. نظرت إليهم وقلبي يخفق بقوّة، حتى أنني نسيتُ ما يحدث خارج المركز. لقد كان مأمورنا القديم يرتدي الزي المدني الفاخر، كأنه عريس في ليلة دخلته. تكلموا قليلاً وضحكوا ثم تبادلوا عبارات الوداع والقبلات!!. وبعد أن ودّعهما المأمور الجديد دلف إلى غرفته وأغلق الباب. أما المأمور المتقاعد فقد غادر المكان برفقة مالك السينما، ولم يكترثا أو ربما لم ينتبها لوجودي بتاتاً..



#أنمار_رحمة_الله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لغز الهاتف الأرضي
- جزيرةُ المودَّة
- ((ضحكة واحدة تكفي))
- شاعر في الثلاثين


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنمار رحمة الله - مدينةُ الأفلام