|
أنتِ يا سيّدة الحرف الطَّليق
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 7367 - 2022 / 9 / 10 - 22:35
المحور:
الادب والفن
أتذكّرني، كلّما مسَّني مِن ذاكرة الأمس، شيءٌ من ليلٍ حزين. وحيداً كنتُ أنتظر البحر، يأتي هادئاً مُصغياً في السَّاعةِ مِن منتصف القلب. أُخبره عن ما كانَ وما كنتُ، وعن كثيرٍ مِن ذاكرةٍ ملأى بأحاديث العشّاق، وعن الذينَ يرحلون ولا يعودون، وأمنياتٍ اندثرت تحت تراب الأمنيات، وآمالٍ تلاشتْ في الضباب، وأوقاتٍ منذورةٍ للفراغ، وعن صباحاتٍ وقصائدَ لم تكتمل.
وتركتُ عند ناصية النسيانِ، وجعاً من خراب الأمس، وما لبثتُ أنْ عدتُّ. أتفقّدني مليّاً في احتشاد الذاكرة، وفي عينيّ تتدفّقُ لمعةٌ مِن حنين اللقاء. أتراها تجيء، أمْ تتركني ضريج الاشتياق؟ ألوذُ بأوهامي السحيقة، وأركض خلف قلبي ناحية العدم، وأنتظرها من جهة الضوء. لا أدري، ففي كلّ مَّرةٍ تأتي مسربلةً بِالحلم والنّدى والحرف الشّهيّ، تُطعمني من زهر عينيها رحيق الحياة، وتتركُ في راحتيّ شيئاً مِن دفء قلبها، وتغادرني كَالنّسيم في تلويحةٍ عاطرة.
في قلبِها تنامُ آلاف الحكايات، وأنا رهن حضورها. أتوسَّد نبض شوقي، وأشتاق إلى نفسي في نفسها، والوقتُ يخاتلني، يمرُّ خفافاً، وحروفها تنسابُ كَدفق الضّوءِ على ظلّي. أنصتُ ملءَ أشواقي، ويغمرني من حديثها، عبقٌ من أبجديّة الألوان والأنغام والعشق البديع، وأجدني أستجمع شتات أنفاسي في نطقِها السَّامي، وفي صوتها من حنين البداياتِ، همسُ النبيذ، وثمالة المطر.
لمْ يكن أحدٌ هناكَ سِواها، تنتظرني على خاصرة الحرفِ. ما إنْ ابتسمتْ، حتّى أحسستُ بِالنسيم رقيقاً، يغمر أعطافي بالشّوقِ والبهجة. والوقت ليل، وقد حانَ لي أنْ استدلَّ على وجهتي في عينيها، وكان الليل في حضورها يتهادى لامعاً مِن ذاكرةٍ بارقة. وكم في رفقتها اكتشفتُ الطريق إلى طريقي، وعرفتُ أنّ في خارطتي إلى عقلها رسمٌ من حروفها. وكلّما وجدتُّني هناكَ، أجدني بين نبضها، خلقاً جديداً.
كم يُربكني، أنّني لا أعرف كيف أقاسمها جنون اللذّةِ، حين يدوْزنُ الحرف حضوره على ايقاع الدهشةِ، تتلاشى كلّ حواسي في الفوضى، أحاولُ أنْ أستجمعها في كلّ مرَّةٍ، لكي أقتنص ومضة الضوءِ في حضورها، ولكنّها تسبقني إلى حيث تجدني غارقاً في شرودي. تنتشلني من نفسي، وتبعثني بريقاً في ضوء ذاكرتها هائماً في دروبي. أتبعُ خطوي في خطوها، وأنفذُ من عتمتي إلى ضوئي، وأخرجُ من شرودي إلى صفائي، وفي جنائن أحرفها أستريح من تَعبي.
أنتِ يا خالقة النجماتِ في الأحداق، ويا مَن تصنعينَ مِن النبيذِ حرفاً، ويا دفقة الاشراقة الأولى، ويا لهفة الضوء في اشتهاءات الصباح. حدَّثني البريق المشعُّ في عينيك عن الحرفِ حين يعانق هامة الحريّة، وعن الأبجديّة تنسابُ بِالقناديل من سفوح الضياء، وعن الرغبةِ في فصول النشوة الملهمة، وعن الحبّ ناصعاً في معارج النقاء، وعن الشغفِ يتهادى لذّةً في أعالي الوعيّ، وعن ذاكرةٍ تسمو في عنان الضوء.
ما أجملكِ حين ترحلين، تنثرينَ بين ثنايا قلبي شيئاً مِن عطر المسافات، ثمَّ ما تلبثينَ أنْ تعودي، وفي حديثكِ مِن ومض اللقاء، ذاكرة الحرف الأخير. وأنا كما أنا في حضوركِ، أخترع لِكلماتي ميقاتاً جديداً على إيقاع عينيك، وأنتظرها إلى أنْ تزهر ربيعاً في حروفكِ، فلا شيء يفنى في كلماتنا.
كيف لي أنْ أنساكِ، وأنا في كلّ حين أستطيع أنْ أرى عقلكِ. وفي حدائقَ قلبكِ الطَّليق أشتهي وجودي وحريّتي. ودائماً ما تجيئينَ من قلبِ النهار مكللةً باشراقةٍ جذلى، تسقيني الضوءَ زلالاً من جدوال عينيكِ، ومن ابتسامتكِ زهر الأمنيات. وأعرفُ أنّني كلّما اشتقتُ إليكِ، تداعبني نسمةٌ مشرقة، وحين يفيضُ الشّوق بي، تهمسينَ لي، ما كنتُ أقوله لكِ في كلّ مرَّةٍ: الشّوق الذي لا يأخذني إليكِ، شوقٌ خائن.
على بُعدِ نبضٍ ألتقيكِ، وفي وجهكِ تنسابُ المعاني، تُهديني مِن تلويحة الحبّ بريق الحريّة. وتأخذني إلى أبعد نقطةٍ في خارطة الحرف، حيث الأبجديّات تتجلّى لنا هناك، وهيَ تختالُ سطوعاً فوق هامة النجمات، كأنّها منارات مِن عشق عتيق، وكأنّها خرائطنا إلى الإنسان في همهماتهِ الأولى، وكأنّها دروبنا إلى أبعدِ مسافةٍ في ذاكرة الضوء، وكأنّها سطورنا الموشومة على خاصرة الأيّام.
يا حلوة الصباح، هذا الصمتُ الطَّليقُ في عينيكِ، يلهمني شغف الإنصات، وفي قلبي من دفءِ ابتسامتكِ شمسٌ صغيرة. تجيئينَ على كتفِ نسمةٍ مترعةٍ بالشوق، فاستيقظُ مِنّي كلّما مسَّني مِن سِحر عذوبتها دفقُ. ها أنتِ تغيبينَ ثانيةً، غِيبي يا سيّدة الحرف المضيء، أنّي أحتفظُ بكِ طريّةً في ثمالة لهفتي، وفي اشتهاءات حضوركِ، وفي هذا الحرف الناطقِ بالحريّة.
واضحةٌ أنتِ كَحرفٍ بازغٍ على ناصية الأبجديّات. وكم في عينيكِ الخاليتينِ من رماد الأوهام، تصفو الحقيقة. فأنتِ الحرف الطَّليقُ، وأنا الشّغوفُ المستهامُ. وأنتِ زرقة المدى، وأنا اللائذ بها. وكم في نبضي من نبضكِ نبضُ، وكم في حرفي مِن حرفكِ حرفُ. وأنتِ المعنى، وأنا العائد إليه. وأنتِ الليلُ وما تبقّى منه. وأنتِ الضَّوء، وأنا المسافر إليه.
أنتِ يا مَن تُجيدينَ أبجديّات اللون والضّوء، وتُجيدينَ بها أنْ تُعيدي الحياةَ إلى نبضي. لِحرفكِ المضيء، ألفُ منارة في عقلي تشعُّ. وتلك اللمعةُ الوضّاءة في حضوركِ، كم تسربلني بالنّطق الأنيق. وكم في قلبكِ ألفُ حكايةٍ تشرق. وكم أحبُّني مستطعماً في حرفكِ مذاق الحريّة. فالحرفُ أنثى من زلال المعنى .
لا شيءَ ربما هناك، سوى ما يستحقُّ أنْ يكون شعوراً فارهاً، يتباهى ألقاً في حضرةِ حرفكِ الفسيح. وكلّما بحثتُ عن حقيقتي في حقيقتكِ، وجدتُّني كثيراً في حقيقة الجمال والحريّة والحبّ. عرفتكِ فعرفتُ نفسي، وعرفتُ أنّ مَن تصنع في كلّ خطوةٍ لها، طريقاً إلى الحياة، لن تسقط. وعشقتُ حرفي ينسابُ اشتهاءً كَالحلمِ في جداول حرفكِ. وعرفتُ أنّه لو لمْ يكن هذا الحرفُ أنتِ، لَما آمنتُ به وبكِ.
وعرفتُ أنّكِ حين ترحلينَ بعيداً، تعودينَ دائماً. تعودينَ كما لو أنّكِ لم تغادرينني أبداً، لأنّكِ نجمتي التي لا تغيب، ولأنّكِ رقصة الضّوءِ في صباحاتي، ولأنّكِ تُلهمينَ شغفي من بهاء حضوركِ دهشة الحرفِ، ولأنّكِ المعنى في معاني الحريّة، ولأنّكِ ألق الإبداع في جلال الوحيّ.
#محمود_كرم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإنسان في فلسفة التعبير
-
الإنسان.. متفلسِفاً
-
في أنْ يحضر الإنسان جميلاً
-
الإدراك في العقل الفلسفي
-
الحبُّ والمعرفة ... فلسفيّاً
-
الحياة في فلسفة الذّاكرة
-
المقدَّس وثقافة التّقديس
-
في التّفلسفِ جوهر الخَلق
-
الإنسانُ في فلسفة التّكامل
-
المباركية .. جماليّات في ذاكرة التراث
-
ذاتَ حلم
-
لذّة الفهم
-
الصُّورة في المنظور الفلسفيّ
-
الحياة في فلسفة الحريّة
-
الفنُّ وفلسفة المتعة
-
العقل الحديث وتجلّيات الوعيّ
-
في حريّة المعنى ومعنى الحريّة
-
الجمال ... ثراءٌ في فلسفة الخَلق
-
تجربة الحقيقة ... تجلّياتٌ في ممارسة الخَلق
-
فلسفة الذات الخلاّقة
المزيد.....
-
مخرج «جريرة» لـ(المدى): الجائزة اعتراف بتجربة عراقية شابة..
...
-
الجديد : مجموعة شعرية لمصطفى محمد غريب ( لحظات بلون الدم )
-
أصيلة تكرم الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الوزاني.. ناحت
...
-
المصري خالد العناني مديرًا لليونسكو: أول عربي يتولى قيادة ال
...
-
-نفى وجود ثقافة أمازيغية-.. القضاء الجزائري يثبت إدانة مؤرخ
...
-
عودة الثنائيات.. هل تبحث السينما المصرية عن وصفة للنجاح المض
...
-
اختفاء لوحة أثرية عمرها 4 آلاف عام من مقبرة في سقارة بالقاهر
...
-
جاكلين سلام في كتابها الجديد -دليل الهجرة...خطوات إمرأة بين
...
-
سوريا بين الاستثناء الديمقراطي والتمثيل المفقود
-
عامان على حرب الإبادة الثقافية في قطاع غزة: تدمير الذاكرة وا
...
المزيد.....
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
المزيد.....
|