أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبد الرؤوف الشريفي - سيرة ذاتية لفراشة ابو الخصيب















المزيد.....

سيرة ذاتية لفراشة ابو الخصيب


عبد الرؤوف الشريفي
كاتب.

(Abdul Rauf Al-shuraifi)


الحوار المتمدن-العدد: 7336 - 2022 / 8 / 10 - 02:59
المحور: سيرة ذاتية
    



أتراك سمعت عن رجل نحيف كعود بخور, سعيد يمضي موسميه في ثوبين ومعطف بلون الدنيا اهداه له حارسا. او ابتاعه رخيصا من سوق الجمعة. وبذلك فلن يحتاج الى الزوائد اليومية بعدما تكفل القدر بكيس التبغ وورق البافرا. وفاض عليه المحبون بحاجته من الخمرة. فعاش هازئا بملابين السنوات الارضية, بالأفكار التقدمية, والنظريات والثورات والتوقعات.
اذن سأتحدث لكم عن رجل لا اعرف اسمه واصله. ولم ار وجهه. لكنه عاش ابو الخصيب كما تمرق فراشة على وجه بستان, ستحبونه مثلي دون ريب. وهو قصير النسب, يكفيه تفرد كنيته. فلا يحتاج بعدها الى اسمه الثلاثي. وقد اشتقت من كلمة (عضيدي ...) التي تلازم حديثه مع جلاسه. فسمي ابو عضيدي. فالناس هم من وهبوه اسمه كما اغدقوه حبٱ.
كان ابو عضيدي عابدا للخشابة, عاشقا للجمال اليافع. ليس بسيطا وان كان بسيطا. فهو كالصوفي يبتكر لغة تخصه حين تعجز لغة الناس عن احتمال عبا وغموض تجربته. فيقول (كوتومبا كوتومبا ) مرحبا بالفتية المارين وهو يقف فاتحا ذراعيه لهم. وعند تغير مزاجه يردد بيّسليو. او فندلوس حين يرى صبيا حلوا ترفا.
١/ معبد العالم
ومع اول ملامح الظلمة, كان يلتقط كالبلبل عشاءه البسيط, ثم يدفع صينية الخوص لزوجته السمراء النحيفة مثل عذق قديم. ويمسك بعصاه وهي من الموهانج اهداها له قبطان انكليزي في ميناء ابو فلوس. من يدري! وينحر البيداء الى حفلة الخشابة في البساتين البعيدة حيث احد الاعراس. فالخشابة طقس ديني مادته الذهول والتعشق والشغف. وليست مجرد طبل وتصفيق وسطل عرق. وهي تبث مزاجا مختلفا تترك في مريديها مواصفات غريبة. كأنهم مخلوقون من ابراج مائية, طيبون, حساسون, وسريعو الانكسار مثل قلب الوالدة. وكان شغوفا بها يمنح الحفلة نكهة.
وراح يذوب في ظلمة العالم سادرا في توهانه. تسبقه عصاه تخرب وجه الهواء. وتعربد في جسد الظلمة. ترسم رماحا تطعن دوائر. وقلبه ينير طريقه كالأولياء في مسيره.
وقد يلتقيه احدهم فيساله عن وجهته. ثم يلومه لهذا العشق الغريب. فيرده (عضيدي، براسي الكيف) ويشير الى راسه تحت الكوفية التي يرتديها بلا عقال كعادة اهالي ابو الخصيب. فهم من البساطة انهم يحييون كل من يرونه. وذلك خلاف سواهم فقد ذكر لي سائقا من اهالي الناصرية انه يشعر بالشك والارتياب لكل سلم علي شخص ولا يعرفه, ويظل يسال عنه, لماذا سلم عليه متشككا بنواياه).
٢/ طقوس الذهول
وصل ابو عضيدي فلاحت المصابيح المشدودة بالسلك الى نخلتين بينهما ساحة للتجمع, وابتهج الحضور لمقدمه فوقفوا, وانحنى اليهم كقائد اوركسترا بيده عصاه. ثم اخترق (شدة) فرقة ابو عتيگة. فتخطى مكان الكاسور ربيع ابو الفالول (شقيق ابو عتيگة) الذي كان یسخّن طبلته الصغیرة التي یصنعھا بیده من غشاء جلد الأغنام أو السمك. وخلفه عازفو الطبول الثمانية. وجلس ابو عضيدي مع الروادید وھم يتحادثون عن العشاء وصفيحة العرق والاجور.
وما ان شرعت ریشة العازف تداعب أوتار العود، وحنكه یتطامن إلى قبة العود حتى تسلطن ابو عضيدي فيردع من يتكلم من بالحاضرين (عضيدي ، سماعي، سماعي، دع العود یتكلم). فيجيبه السامعون.
بعدها يمط ابو عتيگة بصوته العذب مقام البھیرزاوي, یصاحبه إیقاع بطيء:
من یوم فرقاگ جسمي من صدودك.... عود ھیھات عگبك یسليّني ندیم و..... عود كلما اعذّل النفس روحي تگللي..... عود لي صاحبا گط ما احد گال به ..... لوله وحیاة من بالمھد جبریل له .. لوله لو مایگولون واعرف بالحچي... لوله چنت احچي ویاك لكن بالزبیبة... عود
ثم صرخ بصوته الفطري "خيي خيي ,الليل لملم جيوشه علي، تخسين يا دنيتي انت وگومچ علي". ما احسبت ظني تراعين النذل احسن. وآنا الذي بين ربعي كالورود واحسن. استحسن الموت كل ساعه واقول احسن. شاصعب من الموت كلمات النواقص عليّ.
وراحت ايقاعات طبلة ربيع (الزنبورة) وهي بین فخذه وخاصرته كرقبة امرأة عنقاء, تتكسر بكفيه المتيبسة. والروادید يتمايلون: أحیا وأموت على البصرة.
عندها حان وقت التصفيق, فدار ابو عضيدي على الحضور منحن إلیھم، يصفق ويدعوهم للمشاركة. ويردد (شربكها شربكها شربكها). ویحدج من يتوانى. ومع وصول التصفيق أوجه، قفز إلى أعلى، وطارت معه الدشداشة والمعطف، وروحه تعرج الى سماواتها البيض, تترفع عن الماء والطين.
وحین هبط ولامست قدماه الأرض وهو يضربھا بكفه وھو یصیح (آآآآه) منھیا بذلك التصفيق. . وهو يشعر بجذل خفي بانتظار التصفیقة التالية. فقد ادى دوره الذي خلق لأجله. وحين حاول احدهم الھزأ به سعل سعلة زائفة للتنبيه, تبعها بصوت خافت (عضيدي, حتى البعير كبير!). وحين زاد الاخر من مضايقته رد عليه (عضيدي، احنا عفنا المنازل). وهم بالمغادرة. فيمسكون به يتوسلونه للبقاء. وفي نھایة المسرحیة المتقنة، يكرّ إلى مرتعه.
٣/ شاي الكصمول
وفي اليوم التالي، وجد أبو عضيدي شغلا في تشذيب النخيل من الكرب والسعف اليابس, ولعل صاحب البستان الكبير أوكله اليه العمل السهل محبة واشفاقا لقاء اجر يفوق اقرانه.
في اليوم الاول, شيد ابو عضيدي (سوباط) سقيفة. وعمل شاي الكصمول. وعلق معطفه على النخلة, وجلس ينتظر ليروي حكايات حفلة خشابة البارحة (عضيدي, الشاي خادر والجكاير بيادر). ومر الوقت مثل عقيق الجمر, وهفتت في قلبه النار حين مر احدهم.. وكان في عجلة. فلم يجلس. في اليوم التالي, كانت الوحشة تتورم والسوباط ما زال خال. وحين مر اثنان حديثا العهد بالتدين, لم يسلما عليه. فتعجب. فهل بدا يتجنبه الناس! وفي اليوم الثالث, جاء صاحب البستان غاضبا: أنت مخبل ابو عضيدي! عالة على الآخرين؟ لم تنجز في ثلاثة أيام نصف الشغل الذي ينهيه غيرك في يوم واحد. ظل أبو عضيدي ساهما. ينظر كالمأخوذ, ثم طأطئ على الاهانة. وتلقّف معطفه من على النخلة, ومضى كالسحلية القفيلة الحزينة. لم يلتفت, ولم يأكل بقية نهاره.
٣/ خراب العالم
وفي المساء التالي, نحر أبو عضيدي البيداء الى حفلة اخرى للخشابة. يبدو ان ليالي البهجة لا تنتهي. لكن حظه اجلسه جنب (تمساح), وهو سكران من انصاف الشقاوات. وكان وسخا على الدوام مثلما وجهه ورائحته يشبه التمساح! لا يميزه في الوجود سوى قدرته ان يمارس العادة السرية عشر مرات متتابعة كما يتحدى بها الجميع لإثبات حضوره. ومرة جرّوه من بين انقاض المرحاض بخرائه, و يده مكسورة. فقد حاول هش ذبابة مزعجة. فجاءت كفه الى الجدار, وهو طابوقات, وقد جلبها من الانقاض رتبها فوق بعض دون جص. فسقطت عليه الجدران الاربعة. وهو يتفادى انهيار سقف الصفيح .
وظل التمساح الوسخ يضايقه. وابو عضيدي يتصبر على مضض. اخذ منه عصاه. رماها في الظلمة, ثم راح يخلع معطف ابو عضيدي بالقوة. يدور به وسط الحفل ويترنح. والجالسون يضحكونْ، والمطرب محتار ويبطئ. وأبو عضيدي ينتظر مخرجا. لكنهم قالوا له أنه هو الغلطان! وحين رفع السكران كفه لصفعه, انتهى العالم في قلب ابو عضيدي. فغادر ميتا تاركا هيبته بين الاقدام مع معطفه وعصاه. لقد طردوه كي لا يسوء الأمر أكثر مخافة من الشقي. وشيعته الضحكات الساخرة تصك راسه, والهزء يخرق صدره النحيف. لابد ان ثمة خطأ كبيرا في العالم.

٤/ نهاية فراشة
قعد ابو عضيدي لأيام في (الوكر) وهو منخفض خلف بيته الطيني يغطّيه السعف والجريد يستخدمه للشرب ولأغراضه الخاصة المريبة. وهذا الوكر من مكملات شخصيته وهو منخفض يغطّيه السعف والجريد خلف بيته البسيط يستخدمه. وراح يفرك يدا بيد ويردد (عضيدي... ماكو عضيدي بعد!).
في ظلمة الالم, خرج من الوكر, ثم هدمه تماما كمن يدمر تاريخه احتجاجا. وضاعت ملامحه في الغموض. ترافقه اصوات في راسه تصفق وتهزء, فتختلط. وربما ردد متأسفا على العالم كلمة لا احد يعرف معناها الا هو. يقولها لآخر مرة.
ان الفراشات تعيش امدا قصيرا بالألوان. العصافير والازاهير تموت باكرا لتكون شاهد ادانة على ديدان الفظاظة التي تنخر وجه العالم، مثلما هي سيرة ابو عضيدي. فقد كان شيئا عارضا, تفوق على الجميع. هزم الجدية, غَلبَ تفكير الإنسان من ملايين السنين. إن أعظم ما فيه انه لا يهتم بهذا كله, بل يزدريه. اليس التفكير هو النقمة الوحيدة التي نجيدها, مع أنها أكثر فتكا بالعالم من خلق الإنسان. لقد كان ابو عضيدي رسولآ بلا كتاب. شریعته شغفه بإتباع الروح نحو عوالم النشوة منتمیا للخشابة، بھجته التي یعیش بھا ولأجلھا وما تجلبه من قیم مع ان الجميع یضحك علیھا. فكان مجده أن لا مجد له.
بعدها, لم يتعرف احد على وجهته. فقيل انه شوهد لآخر مرة من قبل شرطة سيارة الكمارك وهو متوحش الراس والوجه والاظافر يصاحب الوحوش. فهي ارحم مما يدعونه جزافا الانسان.
لقد ماتت الفراشة.



#عبد_الرؤوف_الشريفي (هاشتاغ)       Abdul_Rauf_Al-shuraifi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كراج ساحة سعد


المزيد.....




- اخترقت غازاته طبقة الغلاف الجوي.. علماء يراقبون مدى تأثير بر ...
- البنتاغون.. بناء رصيف مؤقت سينفذ قريبا جدا في غزة
- نائب وزير الخارجية الروسي يبحث مع وفد سوري التسوية في البلاد ...
- تونس وليبيا والجزائر في قمة ثلاثية.. لماذا غاب كل من المغرب ...
- بالفيديو.. حصانان طليقان في وسط لندن
- الجيش الإسرائيلي يعلن استعداد لواءي احتياط جديدين للعمل في غ ...
- الخارجية الإيرانية تعلق على أحداث جامعة كولومبيا الأمريكية
- روسيا تخطط لبناء منشآت لإطلاق صواريخ -كورونا- في مطار -فوستو ...
- ما علاقة ضعف البصر بالميول الانتحارية؟
- -صاروخ سري روسي- يدمّر برج التلفزيون في خاركوف الأوكرانية (ف ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبد الرؤوف الشريفي - سيرة ذاتية لفراشة ابو الخصيب