|
في المسألة الروسية الأوكرانية
شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن-العدد: 7315 - 2022 / 7 / 20 - 04:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في المسألة الروسية - الأوكرانية، والخبل الفكري العالمي الحاجة إلى جبهة فكرية ثقافية عالمية لمواجهة الحروب ستُكتب مجلدات في المسألة الروسية - الأوكرانية، وستؤثر العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا ليس فقط في مستقبل أوكرانيا وروسيا وحدهما، بل في مستقبل البشرية ككل... بدايةً أجد مفيداً التنويه إلى عدة نقاط: - الثورات التي عرفتها المجتمعات البشرية على مرّ العصور هي عمليات تاريخية ناجمة عن تناقضات داخلية في تلك المجتمعات... - لقد لعبت ثورة أكتوبر الاشتراكية التي قادها ف.ا. لينين عام 1917 في روسيا دوراً تاريخياً عظيماً محلياً، وعالمياً، لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته الثورة الفرنسية... إذ نقلت روسيا من بنيتها الإقطاعية المتخلفة، إلى دولة صناعية، وقوة عظمى، وأسهمت في اعتماد مبادئ الضمان الاجتماعي، ونيل المرأة كثيراً من حقوقها، وحق أبناء المجتمع في التعليم المجاني والطبابة المجانية، تلك المبادئ والحقوق التي اقتبستها الدول الرأسمالية عن روسيا الاشتراكية... في تفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو والاتفاق على عدم تمدد حلف الناتو شرقاً: قاد صراع الاتحاد السوفيتي الطويل مع دول الغرب وحلف الناتو، وتراكم الأخطاء السياسية والاقتصادية، وتوافر أسباب موضوعية وذاتية ناجمة عن تناقضات اقتصادية واجتماعية وسياسية داخل الاتحاد السوفيتي، إلى اصطدم عملية التطور والتقدم داخله بعوائق كثيرة، ووصلت إلى طريق مسدود بسبب بنيته السياسية غير الدينامية العاجزة عن امتلاك أسس التقدم وفق متطلبات العصر الحديث، مما قاد إلى ذلك انهياره المريع... لقد سادت حالة القبول الطوعي لدى المجتمع الروسي كلّه تقريباً، بفكرة التقارب مع الغرب وطليعته – الولايات المتحدة الأمريكية، وقدمت روسيا تنازلات لم تكن متوقعة للأمريكيين، "كل ذلك أملاً في أن تصبح روسيا جزءاً من الطليعة العالمية، ومشاركاً مباشراً في الثورة المعلوماتية – التكنولوجية، ورفع مستوى معيشة الروس، وتحقيق حرية تنقلهم عبر المعمورة".(1) في بداية كانون الأول (ديسمبر) عام 1991 وقع رؤساء كل من روسيا، وأوكرانيا، وبيلاروسيا على وثيقة تفكيك الاتحاد السوفيتي، من دون أن يضعوا أسس معالجة كثير من القضايا الشائكة العالقة بين دوله، فتعرضت دول الاتحاد السوفيتي لصدمة وإذلال من قبل العالم الرأسمالي، وأخذت شعوبه تبحث عن هوية وطنية جديدة ووعي جديد، وساد في تلك الدول عقد من الفوضى، التي ترافقت مع حالة من التوتر والنزاعات العسكرية في عدد من تلك الدول، لا يزال فتيل عدد منها مشتعلاً حتى الآن. ...قَبِلَ الجانب الروسي الرغبة الغربية "الأمريكية" بحلّ حلف وارسو لقاء تعهد أمريكي شفهي، وتأكيدات متكررة بعدم تمدد حلف الناتو شرقاً باتجاه الحدود الروسية... ثم بدأ الجانب الأمريكي ينكص بوعوده، ويتخلف عن تطبيق ما كان قد تعهد به قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهج سياسة الهيمنة، وسادت فكرة "نهاية التاريخ"، والاستئثار بحكم العالم من قبل القطب الأمريكي الأوحد. كما ترافق تفكك الاتحاد السوفيتي مع غياب أي خطة سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية واضحة، باستثناء سياسة التخريب والتجريب، واستلم مواقع القرار في روسيا أفراد حاقدون على الاشتراكية، تربطهم علاقات وثيقة مع الإدارة الأمريكية والغرب، فتشكلت نخبة من الأوليغارشيا الروسية المتحالفة مع السلطات، والتي تهرب أموال روسيا إلى الخارج، وتبنت الفكر الليبرالي المتوحش، الذي تُرجم في قرارات اقتصادية وسياسية أثرت في البنية الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية، وحرمت روسيا من تقديم نمط حياة سياسي واجتماعي واقتصادي ينافس نمط الحياة الأمريكي والغربي، ويجذب الشعوب إليه؛ فالعلاقات الرأسمالية المافياوية الجديدة السائدة في روسيا تساهم في تشكيل نمط حياة رأسمالي استهلاكي يؤثر في تفكير النخبة، والكتاب والمثقفين، المتشبعين بالأخلاق الرأسمالية الفوقية المتغطرسة الذين ينظرون إلى عامة الناس لا سيما الفقراء منهم، كأنّهم: " Кусочки мяса, не знают как жить, и не дают нам жить " "قطع لحم، لا يعرفون كيف يعيشون، ولا يسمحون لنا أن نعيش"... لقد أرخت هذه البنية الاقتصادية الرأسمالية المشوهة بظلالها على البنية السياسية والقانونية والفكرية، وآلية تخاذ القرارات في روسيا... ومن الضروري ضمان عدم وصول العقلية الرأسمالية الفاسدة إلى المجمعات الصناعية الفضائية والدفاعية، كيلا تصبح مسألة الحروب حاجة من حاجات تلك المجمعات لتصريف بضاعتها، كما في الةلايات المتحدة الأمريكية... لقد أصبحت عملية بناء نمط حياة روسي عادل جديد تتطلب الافتراق مع البنية الاقتصادية الرأسمالية المشوهة، وبناء منظومة اقتصادية وسياسية وفكرية اشتراكية عادلة، تستفيد من نظرية لينين المعروفة بــ "السياسة الاقتصادية الجديدة"، وتنسجم مع طبيعة المجتمع الروسي وبيئته، وتستفيد من الإرث التاريخي للمفكرين والأدباء العباقرة الروس... الخلل الفكري أساس الفشل السياسي لقد دفعت روسيا تاريخياً ثمن الطوباوية الفكرية التي تأثر حكامها بها... ويلعب حالياً الترويج لفكرة أفول الحضارة الرأسمالية الغربية، وصعود الحضارة الشرقية، وانتقال مركز حركة بندول الحضارة العالمية من الغرب إلى الشرق، واقتناع القيادة السياسية الروسية بهذه الفكرة إلى اتخاذ قرارات تكلف روسيا والعالم ثمناً باهظاً... لقد تأثر متخذو قرار البدء بالعمليات العسكرية "الخاصة" في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022 بهذا الفكر... تثبت ذلك تصريحات المفكر الروسي ألكسندر دوغين، التي جاء فيها صراحة: "لكي نكون قطبًا مستقلاً في عالم متعدد الأقطاب، كان على روسيا أن تبدأ هذه العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا وهذا ضروري، وهو شرط ضروري من أجل أن تصبح روسيا قطبًا مستقلاً"... صحوة روسيا على الرغم من كلّ الصعاب والمشكلات، التي مرّت بها روسيا المترامية الأطراف، فقد حافظت على وحدتها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بفضل وحدة جيشها وقواتها المسلحة، العمود الفقري لتلك الوحدة... فنضجت الحاجة الماسة إلى صيغة جديدة للعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية... لكن واشنطن لم تؤيد نوعاً من ثنائية القطب في الوقت الذي قام فيه القطب الثاني بتدمير نفسه بهذا الشكل الدرامي.(2) في خطوة على طريق الصحوة قامت روسيا بمحاولة لإعادة تكامل دول الاتحاد السوفيتي السابق، في رابطة الدول المستقلة، لكنّها اصطدمت بمجموعة من العراقيل، من أهمها: - غياب الأيديولوجيا الواضحة المقبولة لدى زعماء دول الرابطة، والجذابة لشعوبها... - موقف الولايات المتحدة الأمريكية من رابطة الدول المستقلة، الذي مرّ بمرحلتين؛ في المرحلة الأولى، ساعد الجانب الأمريكي روسيا في استحواذها على السلاح الاستراتيجي، بسبب خشية الولايات المتحدة من السيادة النووية لكل من أوكرانيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، الذي تركته موسكو تحت تصرفها عن طيش. في المرحلة الثانية تحولت حلبة الرابطة إلى حلبة للتنافس الروسي – الأمريكي. إذ بدأت القوى القومية في الجمهوريات الوليدة تبحث عن وصي خارجي، لمواجهة تفوق المقدرة الروسية... وهيمن على مواقع القرار في الولايات المتحدة أنصار فكرة مقاومة عودة تكامل الاقتصاد السوفيتي، باعتبار هذا التكامل يهدد أمريكا بفقدان وضعها الجيوسياسي الفريد كدولة عظمى وحيدة. (3) ينتج عن التقاء روسيا وأوكرانيا، كدولتين صناعيتين دولة عظمى، تجذب نحوها دول الرابطة، لهذا بالذات وضعت واشنطن نصب عينيها كييف بالدرجة الأولى. ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الخبراء تشير إلى أنّ أنجع وسيلة لكبح جماح روسيا، هي تشجيع استقلال أوكرانيا... وأصبح هدفها الرئيس في رابطة الدول المستقلة هو الحيلولة دون حدوث التقارب الروسي – الأوكراني. وبدأت تجري مناورات عسكرية مشتركة، بين الناتو وأوكرانيا ووقعتا وثيقة خاصة بينهما(4). وأصبحت السفارة الأمريكية في أوكرانيا أكبر السفارات، وصارت أوكرانيا في طليعة الحاصلين على المعونة الأمريكية.(5) شكل انشقاق الدولتين السلافيتين ضربة لمواقع روسيا الجيوسياسية... وشكّل تبني الغرب مواقف تأجيج الصراع الداخلي في دول الرابطة، وتعزيز نزعات الانشقاق الداخلي، واستخدام أوكرانيا الموجه لشلّ مبادرات روسيا، وصراعها مع الجار الأقرب إليها إثنياً وحضارياّ أكبر تهديد لمستقبل روسيا.(6) في المسألة الأوكرانية - نظرة تاريخية سريعة: المزاج العام في أوكرانيا موزع تاريخياً بين روسيا والغرب فقد دخلت أوكرانيا الحرب العالمية الأولى إلى جانب كل من الدول المركزية في الشطر الخاضع للنمسا، وإلى جانب دول الوفاق الثلاثي في الشطر الخاضع لروسيا... أصبحت أوكرانيا لاحقاً عضواً مؤسساً للاتحاد السوفيتي في كانون الأول (ديسمبر) 1922. شجعت موسكو النهضة الوطنية في الأدب والفنون، تحت رعاية سياسة الأكرنة... في الحرب العالمية الثانية قاتلت أغلبية واسعة من الأوكرانيين إلى جانب الجيش الأحمر السوفيتي، إلا أن بعض العناصر القومية الأوكرانية شكلت جبهة قومية معادية للسوفييت. في عام 1954، في الذكرى 300 لمعاهدة ييرياسلاف تم نقل القرم من روسيا إلى أوكرانيا. ينحدر كثير من أعضاء القيادة السوفيتية من أوكرانيا، أهمهم خروشوف، وبريجنيف. يعيش في أوكرانيا حوالي 40 مليون نسمة، والدين السائد في البلاد المسيحية الأرثوذكسية الشرقية. وفقاً لإحصاء عام 2001 يشكل العرق الأوكراني 77.8 ٪ من السكان. المجموعات العرقية الأخرى الهامة هي: الروس (17.3 ٪)، البيلاروس (0.6 ٪)، المولداف (0.5 ٪)، تتار القرم (0.5 ٪)، البلغار (0.4٪)، المجر (0.3 ٪) والرومانيون (0.3 ٪) والبولنديين (0.3 ٪)، اليهود (0.2 ٪) والأرمن (0.2 ٪)، اليونان (0.2 ٪) والتتار (0.2 ٪). جرى الاستفتاء على استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي في 1 كانون الأول 1991 حيث صوت أكثر من 90% في صالح الاستقلال. انتخب ليونيد كرافتشوك أول رئيس لأوكرانيا عام 1991- 1994، ثم ليونيد كوتشما 1994-2005، وفيكتور يوتشيينكو 2005 – 2010، فيكتور يانوكونفيتش – 2010 – 2014. الحلم الأكراني بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي: ثمّة ظاهرة تستدعي التوقف عندها، هي ظاهرة ولع شعوب روسيا، ودول الاتحاد السوفيتي السابق، ودول أوربا الشرقية بنمط الحياة في أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية عموماً... في هذا السياق تأتي مساعي الحكومات الأوكرانية المتعاقبة منذ انفصالها عن الاتحاد السوفيتي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي... فضلاً عن ظاهرة تأرجح العلاقة بين روسيا وهذه الدول، إذ لوحظ مزاج لدى كثير من المسؤولين الروس في الاتحاد السوفيتي، كأنّ الدول السوفيتية الأخرى عبء على روسيا، ولم تول روسيا مهمة تعميق العلاقة الاستراتيجية مع شعوب تلك الدول الاهتمام الكافي، مما خلق ردة فعل معاكسة لد شعوبها... عند الحديث عن المسألة الأوكرانية كأحد ذيول التفكك اللاعقلاني للاتحاد السوفيتي، من الضروري التطرق إلى مسألة جمهوريتي أوسيتيا، وأبخازيا الروسيتين، اللتين كانتا تابعتين لجورجيا، وتفصلهما عن القوات الجورجية قوات حفظ سلام روسية، التي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية استغلالهما لدق اسفين في خاصرة روسيا إبان حكم الرئيس الجورجي الشاب سكاشفيلي المدلل لدى مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية... ففي عام 2008 أجرت القوات المسلحة الأمريكية مناورات مشتركة مع القوات الجورجية، وتم الاعتداء على قوات حفظ السلام الروس، مما استدعى تدخل روسي سريع، وأعلنت تلك الجمهوريتان استقلالهما عن جورجيا... لقد ساهم الحدث الجورجي في تسريع نشاط الغرب لزيادة ابتعاد دول الرابطة عن روسيا... في 22 يوليو 2008، جرى الإعلان عن توقيع اتفاقية بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي ... في عام 2010 انتخب فيكتور يانوكونفيتش المقرب من روسيا رئيساً لأوكرانيا، فواجه التصديق على الاتفاقية مشكلات كثيرة بسبب محاكمة رئيسة وزراء أوكرانيا السابقة، يوليا تيموشينكو... فبدأت الاضطرابات في كييف، ونشب عصيان عُرف بـ الميدان الأوروبي، وطالب المتظاهرون باستقالة الحكومة، وعزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، كما طالبوا بانتخابات مبكرة... يستدعي مصطلح "الميدان الأوربي" و"الثورات الملونة" التي يطيب للكثيرين، ولا سّما السياسيين الروس الحديث عنها، ووصفها بأنّها فعل غربي؛ وفي هذا الخصوص من المفيد إعادة التنويه إلى أنّ الانتفاضات وما عُرف بالثورات الملونة، ليست ناجمة عن فعل خارجي، ولا مؤامرات كونية، كما تُصور، بل ناجمة عن تناقضات وأسباب داخلية تعتمل داخل الدول التي نشبت فيها، ويتم استغلالها في كثير من الأحيان، خدمة لمشاريع مراكز القوى والدول الأقوى... ومن المفيد السؤال: لماذا الغرب يستطيع تنظيم تلك الانتفاضات، إن كان ذلك حقيقة، بينما الآخرون عاجزون عن ذلك؟... طبعاً هذا لا يبرر العنف والوحشية والجرائم التي اقترفتها مجموعات مسلحة حُسبت على "الميدان الأوربي"، وتوجيه "الميدان" لخدمة المصالح والسياسات الغربية في أوكرانيا. في كانون الأول (ديسمبر) 2013 قدم الرئيس الأوكراني شروطًا لانضمام بلاده إلى اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، هي استئناف تعاون أوكرانيا مع البنك الدولي، وإعادة النظر في القيود المفروضة على بعض قطاعات الاقتصاد الأوكراني، وإزالة التناقضات التي تعوق تعاون أوكرانيا التجاري مع دول الاتحاد الجمركي (روسيا وكازاخستان وبلاروسيا)، وتحدث رئيس الوزراء أيضًا عن حاجة البلاد إلى 20 مليار دولار من المساعدات الأوروبية لتوقيع اتفاقية الشراكة... في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2013، بعد توجه الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى روسيا، أعلن الرئيس الروسي أن بلاده ستستثمر 15 مليار دولار في السندات الحكومية الأوكرانية وأنها ستخفض سعر الغاز المورد إلى أوكرانيا بمقدار الثلث، وصرح بوتين قائلاً، إنّ الشعب الأوكراني: "شعب شقيق، وبلد شقيق، لذلك علينا التحرك تحرك الأهل ودعم الشعب الأوكراني الذي يواجه وضعًا صعبًا». علق أحد زعماء المعارضة الأوكرانية بالقول إنّ رئيس البلاد فرط في المصالح الوطنية بالموافقة على حزمة الإنقاذ الروسية. ازداد التوتر في الشارع، وارتفعت وتيرة العنف. في 1 آذار (مارس) عام 2014، طلب الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش من روسيا استخدام القوات العسكرية "لإحلال الشرعية والسلام والقانون والنظام والاستقرار والدفاع عن الشعب الأوكراني"... وفي ذلك اليوم سيطرت القوات العسكرية الروسية على شبه جزيرة القرم. هرب الرئيس فيكتور يانوكوفيتش من كييف، وبينت ثروته، ومحتويات قصره، ومتحف السيارات التي كان يقتنيها مدى فساده، وابتعاده عن هموم الشعب الأوكراني، الذي لم يدافع عنه، هو المقرب من موسكو، وظهر كأنّ موسكو تراهن على الحكام الفاسدين وتدعمهم، وتراهن على القوى التي تقف في الجانب الآخر (المعاكس) لمسيرة التاريخ، مما أثر في شعبية روسيا في أوكرانيا... فانتخب البرلمان تورتشينوف 2014 رئيساً للبلاد، ثم انتخب يورشينكو بالاقتراع العام 2014 – 2019. بعد ذلك تصاعدت مظاهرات مؤيدة لروسيا من قبل الروس في دونباس شرق البلاد، مما أدى إلى نشوب صراع مسلح بين الحكومة الأوكرانية وأولئك المواطنين. بلغ أوجه في شهر آب (أغسطس) 2014... في 5 أيلول (سبتمبر) 2014 تم التوقيع على بروتوكول مينسك لوقف القتال وحل النزاع في الدونباس... وقع على الاتفاق ممثلو اوكرانيا والاتحاد الروسي وجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا... لكنّ القتال في دونباس لم يتوقف... بحلول كانون الثاني (يناير) 2015 انهار بروتوكول مينسك تمامًا... استمر النزاع في دانتسك، ولوغانسك... واستمرت الولايات المتحدة في ضخ الاستثمارات في أوكرانيا، وأخذت تتشكل مجموعات ومنظمات قومية متطرفة مسلحة تحمل رموزاً معادية لروسياً، وشعارات بعضها لعبدة الشيطان والنازيين الجدد... وغضت الولايات المتحدة الطرف عن هذه المنظمات لأنّ مزاجها العام معادي لروسيا... واستمر توريد السلاح الغربي، وتوالى الحديث عن انضمام أوكرانيا لحلف الناتو... في عام 2019 انتخب الممثل المشهور في الاتحاد السوفيتي وروسيا فلاديمير زيلينسكي رئيساً جديداً لأوكرانيا... لقد كان هذا الرئيس والممثل السوفيتي المعروف جيداً لدى الشعب الروسي... إنّما لم تستطع للحكومة الروسية كسبه إلى صفها، فسقط في أحضان الغرب والولايات المتحدة الأمريكية... عودة إلى الصحوة الروسية: على الرغم من أنّ وزن روسيا في الميزان الدولي تقلص إلى حد كبير، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار حلف وارسو، بيد أنّها لم تتداع بشكل مطلق؛ "إذ احتفظت روسيا بكثير من موروث الاتحاد السوفيتي، فقد احتفظت بمقعد العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وبالسيف الصاروخي – النووي وحرية تشكيل الأحلاف، وليس بمقدور أي "مرونة" نخبوية أن تغير خلال ساعة واحدة ما يشكل جزءاً من الكود الجيني القومي الروسي الذي يمكن تلخيصه في: الرفض القاطع للتبعية لأي كان، والاستعداد لبذل التضحيات من أجل المكانة المستقلة في التاريخ، ومن أجل ضمان حرية الاختيار في المستقبل".(7) ترافقت الصحوة الروسية مع سعي روسيا لبناء تحالفات جديدة، أهمها مع الصين، ودول البريكس... وازدادت مبيعاتها من المفاعلات الذرية، ومن الأسلحة المتطورة، ومنها منظومة س400 إلى تركيا، وبعد غزو الولايات المتحدة للعراق، والحملات الغربية على ليبيا قررت روسيا أن تخرج خارج حدودها كيلا تفقد حضورها الدولي، كما ركزت اهتمامها على تنفيذ خطوط نقل الطاقة، لا سيّما إلى أوربا، فتوسعت خطوط نقل الغاز الروسي وتعدد اتجاهاتها، ولقد أثار ذلك غضب الولايات المتحدة الأمريكية، التي وجهت انتقادات لاذعة إلى ألمانيا، وقامت بمحاولات عديدة لعرقلة تلك الخطوط، ولا سيما، خط نورث ستريم2... في الوقت الذي كانت فيه روسيا تتباهى بتجريب أسلحتها العابرة للقارات في الشرق الأوسط، وترسل حاملة طائراتها العجوز، التي كادت أنفاسها تتقطع مقابل شواطئ إنكلترا، وهي تتهادى من القطب الشمالي إلى مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة، كانت حبيبتها وغريمتها أمريكا تقيم حفلات الغرام مع شقيقتها أوكرانيا في عقر دارها... - أثبتت سياسة القطب الواحد الأمريكية، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، فشلها في قيادة العالم، بل جرته إلى مزيد من الحروب والنزاعات والانقسامات، كما ترافق تفكك الاتحادي السوفيتي، وحل حلف الناتو مع تراجع في مستوى حقوق الإنسان، وتآكل الضمانات الاجتماعية وحقوق الطبقات الفقيرة في العالم أجمع، وازداد توحش رأسمال، وغدا العالم في حاجة إلى أسلوب جديد لقيادته، والاستجابة إلى التحديات التي تواجهه، أسلوب قائم على العدالة والتشاركية، وتكامل الحضارات، واحترام سيادة الدول، واستقلالها وخصوصياتها القومية، والمساواة في حقوقها ووجباتها، ونبذ كافة أشكال الحروب في حلّ النزاعات... توسع حلف الناتو لقد كان واضحاً لروسيا أنّ حلف الناتو سوف يتوسع شرقاً، وأنّ دول البلطيق أصبحت حصناً للغرب، وتحولت أوكرانيا إلى ساحة حرب ضروس، فما الذي فعلته لتلافي ذلك؟ حذرت روسيا كثيراً من مخاطر توسع حلف الناتو شرقاً، وفي آخر المطاف اقترحت على الغرب تنظيم اتفاقات جديدة لبناء "عالم يالطا" جديد، وفي كانون الثاني (يناير) 2022 طالبت بضمانات أمنية لحماية حدودها من صواريخ حلف الناتو، لكنّ ردّ الولايات المتحدة الأمريكية جاء مخيباً للآمال... ومع تراكم هذه الأحداث كانت تنضج لدى المفكرين الروس – كما نوهنا سابقاً - فكرة أنّ الحضارة الغربية بدأت في الانحدار، مقابل صعود الحضارة الشرقية، وانتقال مركز بندول الحضارة إلى الشرق، وأنّه آن الأوان لبناء عالم متعدد الأقطاب، وتملكت هذه الأفكار أفئدة القادة السياسيين والعسكريين الروس، الذين وجدوا كل المبررات ناضجة لشن "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا... في أسباب المشكلة الأوكرانية من كلّ ما تقدم يتبين أنّ ثمّة مجموعة من الأسباب الجوهرية لما يحدث في أوكرانيا، أهمها: - آلية تفكك الاتحاد السوفيتي... - التنازع داخل أوكرانيا وخارجها حول مستقبلها... - السياسة الأمريكية والغربية الخاطئة تجاه روسيا، ومحاولة عزلها دولياً عبر توسع حلف الناتو. - سعي عدد من القوى في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لاستنزاف روسيا وإضعافها... - سعي روسيا لإعادة الاعتبار لها كقوة عظمى وقطب مكافئ للقطب الأمريكي... فضلاً عن أن الحكومة الروسية ترى أن هذه "العملية العسكرية الخاصة" تأتي "رداً على الانقلاب الذي جرى في كييف عام 2014، ورداً على قتل السكان الناطقين بالروسية..." وغايتها "إحلال السلام على الأراضي الأوكرانية، ونزع السلاح من أوكرانيا، والقضاء على النزعة القومية النازية في أوكرانيا، وتحييد أوكرانيا". موقف الغرب استنزاف روسيا وإنهاكها استطاعت الولايات المتحدة بفضل بنيتها القانونية التاريخية، وسياستها الثقافية المميزة أن تبدو دائماً دولة ثورية تساند كل ما هو حديث ويسمو بحالة الإنسان ورفاهيته"(8) وهذا ما نجحت به في أوكرانيا، وفشلت روسيا في تطبيقه. تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى إضعاف مواقع روسيا داخل رابطة الدول المستقلة، وعرقلة التقارب الروسي الصيني، ووضع العراقيل أمام الاستثمارات الروسية في العالم... وسعت إلى تحقيق سياستها هذه في اتجاهين: تمثل الأول في تشكيل لوبي موالي للغرب لضمان جذب دول الرابطة المنظومة الاقتصادية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أما الاتجاه الثاني فتجلى في دعم واشنطن لتلك القوى في الرابطة، التي تتطلع إلى الابتعاد عن موسكو، وعززت ذلك بتنظيم المناورات الحربية المشتركة (في أوكرانيا، وجورجيا، وأذربيجان)، ومحاولة تكوين نوع من الحلف المعادي لروسيا من هذه الدول...(9) وجاء تأجيج النزاع بين روسيا وأوكرانيا لاستنزاف روسيا إلى أبعد حد ممكن... ردّ الفعل الروسي: خيب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية آمال روسيا، ولم تتحقق آمالها المنشودة، واجتمعت عوامل متنوعة، كي "تدفع البندول في حركة راجعة من "الإنسانية الكونية" نحو وعي الأنانية العالمية، وعبث الجهود التصالحية، وسذاجة الأوهام ذاتية الإيحاء، ورسوخ المصالح القومية. وأصبح القرن الحادي والعشرون، بالنسبة إلى روسيا، قرن العودة إلى المثل القومية، قرن العودة إلى الذاتية القومية الواعية".(10) فإذا مثّل تفكك الاتحاد السوفيتي، وحلّ حلف وارسو زلزالاً حقيقياً في الفضاء العالمي، فإن الحدث الأوكراني هو أحد الهزات الارتدادية لذلك الزلزال العنيف. انطباعات عامة: - ثمّة مثقفون روس يسعون لتزيين الحرب في أوكرانيا، ويصفونها بأنّها حرب حضارية، ذات طابع ديني مسيحي ضد عبدة الشيطان، لكنّ عبدة الشيطان في أوكرانيا أقل من 1% من السكان، ومحاربة عبدة الشيطان تتم عبر نشر الوعي، وإقامة نمط حياة اجتماعي اقتصادي سليم، فضلاً عن أنّ الحرب عموماً تعبير عن الفشل السياسي والفكري... علماً أنّ السياسة الغربية التي أججت النزاع، ولازالت تصب الزيت على النار، سياسة حمقاء تتعارض مع مصالح شعوب العالم ومستقبلها... - العلاقة بين روسيا وأوكرانيا علاقة حضارية متكاملة تاريخياً... القرم في التاريخ الحديث تابع لروسيا، والأسطول الروسي يتواجد قانونياً بحرية في البحر الأسود... ولشعبي دانتسك ولوغانسك حق تقرير المصير... أما مسألة توسع حلف الناتو شرقاً فهي مسألة تتعارض مع التعهدات الغربية والأمريكية المقدمة لقاء حلّ حلف وارسو، بالتالي تتناقض مع الأعراف الدولية... جذور الحضارة الروسية تعود إلى كييفسكا روس (كييف) عاصمة أوكرانيا حالياً، والكنيسة الروسية انطلقت من كييف... وحوالي 20% من سكان أوكرانيا روس، فضلاً عن الاختلاط الأسري الواسع، والعلاقات التاريخية التي تعمدت بدماء الجنود الأوكرانيين والروس معاً في الحرب الوطنية العظمى ضد الاحتلال النازي، وتعاهد العسكريون الروس والأكرانيون ألا يقاتل أي منهما الآخر، فكيف خسرت روسيا تعاطف الأوكرانيين معها، ولماذا نمت نزعة التعصب القومي والنزعات النازية، ومعاداة الروس في أوكرانيا، وماذا فعل الروس لتفادي وقوع ذلك؟ - من المعروف أنّ حوالي خمس سكان أوكرانيا روس، لماذا لم تستطع الحكومة الروسية أن تقدم نمط حياة رفاهية جذاب يستطيع بفضله كل فرد من أولئك الروس في أكرانيا كسب صداقة أوكراني واحد ليشكلوا أغلبية في الرأي العام الأوكراني في مواجهة "الميدان الأوربي" سلمياً؟ في الوقت الذي كانت فيه مليارات الدولارات التي نهبها الرأسماليون الروس الجدد والمقربون من الحكومة الروسية، تودع في البنوك الغربية، وتستثمر لشراء الأندية الرياضية، وبيوت الدعارة، واليخوت، والطائرات الخاصة، كانت عائدات هذه الرساميل تُستثمر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لكسب الرأي العام في أوكرانيا، ورابطة الدول المستقلة، وتوجيهه ضد روسيا، هذا مثال حي على دور الرأسمال الطفيلي في تدمير الأوطان... كيف يتفاعل المثقفون والأدباء الروس مع الحدث الأوكراني: بداية يجدر التنويه إلى أن الحكومة الروسية أصدرت منذ الأيام الأولى لبدء ما يعرف بــ"العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا" مجموعة من القوانين التي تتعلق بالنشر والإعلام، تتضمن الحكم بالسجن 15 عاماً على كل من يضعف من هيبة الجيش الروسي فضلاً عن تسديد غرامة مقدارها عشرة ملايين روبل، وأغلقت مجموعة من المحطات التلفازية ومواقع التواصل الاجتماعي، والصحف، وأخذت القنوات التلفزيونية الحكومية تبث حوارات خاصة عن الحرب يشرك فيها مفكرون وكتاب وصحفيون ورؤساء مراكز أبحاث وضباط أمن... أحد أهم تلك البرامج هو البرنامج الحواري التلفزيوني الذي يقدمه المذيع المشهور فلاديمير سولفيوف الذي تعرض إلى محاولة لاغتياله في الأسابيع الأولى من العملية العسكرية، كما يلاحظ التشويش المتعمد على هذه القنوات... في إحدى الحلقات أثير موضوع مقال للمفكر الروسي: ألكسندر سيرغيفيتش تسيبكو، في صحيفة "نيزافيسيما" يعزي فيه اتخاذ قرار الحرب إلى الحكم الفردي المطلق في روسيا، ومن المفيد أن يُقرأ هذا المقال، كأي مقال فكري مهم، قراءة نقدية، تحتمل الاتفاق والاختلاف معه، ومن الجدير بالذكر أن الكاتب نوه إلى أنّه لو لم يتجاوز التسعين من عمره لما تجرأ على نشر هذا المقال كتب ألكسندر سيرغيفيتش تسيبكو يقول: "أظهرت تجربة الثلاثين عامًا الماضية، أنّه لا يمكن لروسيا أن تقف على ساقيها، ولا يمكن وقف تفكك البلاد، من دون سلطة مطلقة، وحكم قوي." "إنّما من جهة أخرى ، من الواضح اليوم أنّ إحياء الحكم المطلق، ولا سيّما مع عسكرة الوعي، وإثارة النزعة العدوانية، وكراهية الأعداء، يقتل أي تربة ملائمة لصياغة وظهور القيم الإنسانية: قيمة حياة الإنسان وأهميتها، واحترام رأي الشخص الآخر كشخص متساوٍ في الحقوق والواجبات، لأنّ عبادة الأب - القيصر تتعارض مع القيم الإنسانية – فهي تقزّم الإنسان وتحط من شخصيته وتحقرها، وتقمع كرامته وعزة نفسه؛ بما أنّ الأب - القيصر هو كل شيء، فأنا لا شيء." "تحدث سيميون فرانك عن هذا بعبارات أكثر دقة، ولكن في دراساته في جوهر النظرة الروسية للعالم، إذ يكرر أنّ مأساتنا تكمن في أن الروس يفتقدون إلى ثقافة التفكير الضرورية واللازمة لـ "لمعرفة المنهجية والمفاهيمية"، بما في ذلك معرفة العالم. إذ يُستبدل عمل العقل بالحدس، وهذا ما يسميه فرانك "اللا عقلانية". فالحدس، والتحرر من معرفة عالم معرفة مفاهيمية حقيقية يولد الشجاعة، والمقدرة على التضحية، إنّما في الوقت نفسه، لا يمكن للحدس أن يحلّ محل ما هو مطلوب لخلق حياة حقيقية، ولا يمكن للحدس أن يدعم غريزة الحفاظ على الذات، التي يُعدّ عمل العقل تربتها السليمة." "ومن هنا جاءت صيغة مدير إدارة الرئاسة فيتشيسلاف فولودين: «Есть Путин – есть Россия, нет Путина – нет России» "بوتين هو روسيا، وروسيا هي بوتين." "أكثر ما يقلقني مقدرة الحكومة الحالية على تقييم الوضع، وتقدير إمكانيات البلد بشكل سليم. ما زلت أشعر بالصدمة من توقعات السلطات بأنّ الأوكرانيين سيستقبلون القوات الروسية التي عبرت حدودها في 24 شباط (فبراير) 2022 بالورود. لقد كان واضحاً أنّ موظفي السفارة الروسية في أوكرانيا أنفسهم، لم يكن بإمكانهم إلا أن يبلغوا قيادتهم بهذا الأمر، فالحرب المستمرة منذ ثماني سنوات في دونباس، والتي أدت إلى مقتل أكثر من 10 آلاف جندي أوكراني، أدت إلى تسعير مشاعر العداء اتجاه روسيا بين جزء معين من السكان. نعم، طبعاً، كان حوالي ربع سكان أوكرانيا يدعمون حزب "ميدفيدتشوك - الدب"، لاسيّما، الأوكرانيون الناطقون بالروسية. لكن كان من الواضح أنه بمجرد عبور القوات الروسية للحدود، ومقتل السكان المدنيين بسبب الاشتباكات مع الجيش، سيتبخر حزب "ميدفيدتشوك – الدب" ، الذي يتعاطف مع روسيا. أمن المعقول أنّ هذه العبثية لم تكن واضحة؟" (11) يعزو عدد من المفكرين الروس الحقد الأنغلوسكسوني على روسيا إلى عظمتها... الخلاصة والاستنتاجات: - إنّ دعوة روسيا إلى تعدد الأقطاب، في الساحة الدولية، هي دعوة منطقية صحيحة، تخدم القانون الدولي، إنّما ثمة متطلبات من أي دولة كي تصبح قطباً حضارياً عالمياً، تتلخص في التقدم العلمي والتكنولوجي، والازدهار الاقتصادي، والثقافي والأدبي، وامتلاك نمط حياة حضاري جذاب يحافظ على سلامة الإنسان ورفاهيته، ونظافة البيئة، فضلاً عن امتلاك القوة العسكرية المتطورة... - لقد أعطت الحرب الروسية في أوكرانيا عمراً جديداً للأنظمة الرأسمالية الغربية، فزادت من وحدتها، وأعادت إليها نوعاً من الحيوية، كما أنّ استمرار هذه الحرب ينهك أوكرانيا وروسيا واقتصاد العالم، وهذا الأمر لا يهمّ الرأسمال المتوحش، بل يغري الرأسمال الغربي الذي يستثمر في المجمّعات الصناعية الحربية... في صالح روسيا وأوكرانيا، والبشرية أن تتوقف الحرب اليوم قبل الغد... لن يستطيع الغرب تركيع روسيا، لكنها ستخسر كثيراً إن طالت الحرب... الغرب يعلم أنّ روسيا لن تركع، وعلى الرغم من ذلك يؤجج النزاع ويصب الزيت على النار... - العالم في حاجة إلى روسيا، وروسيا في حاجة إلى العالم، ومن الخطأ الكبير أن يخسر العالم روسيا... لقد دفع الغرب روسيا إلى أن ترتاب في صداقته، والحرب الأوكرانية دفعت الغرب إلى أن يرتاب في نوايا روسيا، وكلا الأمرين في حاجة إلى معالجة... ويكمن أساس المعالجة في إيقاف الحرب وتحقيق العدالة، ومحاسبة من ينشر الفكر النازي ومن يروج للحروب، والاتفاق على حلّ يرضي جميع الأطراف... لا يخدم عزل روسيا، وإضعافها عملية التنمية، ولا التقدم العلمي التكنولوجي، ولا السلام في العالم، بل يضر البشرية جمعاء، لذلك ينبغي إيجاد الحلول الوسط، وعودة روسيا كي تلعب دورها السليم في السياسة والاقتصاد العالميين... - الحرب عار على البشرية... إذا كانت المسألة الأوكرانية هي إحدى الموجات الارتدادية للزلزال التاريخي الذي نجم عن الانهيار اللاعقلاني للاتحاد السوفيتي، ذلك الانهيار الذي ترك في الفضاء السوفيتي مسائل تحتاج إلى معالجة وإلى حلول قانونية؛ كمسألة القرم، ومسألة الأسطول الروسي في البحر الأسود، ومسألة وضع الروس في الجمهوريات المستقلة... وأحد أسبابها هو استغلال الغرب لتلك المسائل، واستثمارها ضد روسيا بدلاً من المساعدة في حلّها، وسعيه المستمر لإذلال روسيا، وإحباطه لكل محاولاتها وآمالها في التقارب معه، و"الانضمام إلى ركب الحضارة التقنية العالية، ورفع مستوى معيشة الروس، وحرية تنقلهم بين الدول"، فإنّ المسؤولية التاريخية عن المسألة لأوكرانية تقع على عاتق جميع القوى العالمية العظمى المتناحرة فيما بينها، والتي تغلّب مصالحها الذاتية على المصالح الإنسانية العامة، وتقدم الغريزة على العقل؛ فـ روسيا لم تكن موفقة في معالجة خلافاتها مع أوكرانيا، ولم تقم بما هو مطلوب منها أمام الشعب الأوكراني الشقيق للشعب الروسي، كيلا تدفع أوكرانيا إلى أحضان الغرب... ولا يمكن تبرير إعلان أي حرب أو عملية عسكرية بين شعبين شقيقين، ولا سيّما أنّ السبل السلمية لمعالجة مسبباتها لم تستنفد تماماً... كما أنّ مواقف الساسة والمفكرين القوميين الأوكرانيين تعبر عن المراهقة الفكرية والسياسية ومدى الارتهان إلى الغرب والأمريكيين، وتجلى ذلك في عدم تطبيقها اتفاقيات مينسك، وعدم بحثها عن حلول توافقية مع شقيقتها التاريخية روسيا، وعدم تجنيب الشعب الأوكراني وزر معركة نتائجها معروفة... أما الولايات المتحدة وحلف الناتو والدول الغربية فهي مسؤولة مسؤولية أساسية ورئيسة عن هذه الحرب، لأنّ تلك القوى تعدّ نفسها القطب الأساسي والأقوى في العالم، والمركز الحضاري الأهم، وهذا يُرتب عليها مسؤوليات في حلّ النزاعات العالمية وفق قواعد وأسس القانون الدولي السلمية، وليس السعي لتأجيجها، وتفاقمها، ولأنّ القوى الغربية بدلاً من أن تتفهم هواجس روسيا، وتبحث عن حلول وسط لها، وضعت نصب أعينهما إضعاف روسيا، ودفعها إلى الحرب، ولعب دوراً في ذلك المزاج الشخصي لدى قادة عدد من تلك الدول، الذين يغلبون أمزجتهم الشخصية على العقل، ويدفعون الأطراف المتنازعة والعالم إلى حافة الهاوية، وهذا نوع من الخبل الفكري، يفضي إلى نهج سياسي يتناقض مع مبادئ السلم العالمي ومصالح البشرية... لكم كان كارل ماركس محقاً حينما قال: الرأسمالية تولد الحروب دورياً... من يحق له اتخاذ قرار الحرب؟ وكيف يُتخذ هذا القرار؟ في العقدين الماضيين كانت الولايات المتحدة سباقة إلى بدء الحروب، واعتماد ما يعرف بمذهب الحروب الاستباقية، كأنّها تؤسس مذهباً وتقليداً جديدين تحتذي بهما مختلف دول العالم لحلّ النزاعات فيما بينها عسكرياً، إنّه تقليد مرعب يهدد السلم العالمي، ينبغي تجاوزه باعتماد مبادئ جديدة في العلاقات الدولية تُحرّم الحروب... لقد أثبت مجلس الأمن الدولي فشله مجدداً في منع اندلاع الحروب، وهو المكلف برعاية السلم العالمي، وهذا يدل على ضرورة وجود بنية قانونية جديدة وآلية دولية جديدة لمنع نشوب الحروب... قد تبدو هذه الأفكار طوباوية، إنما ينبغي السعي لتحقيقها قبل حلول الكارثة الكبرى التي تهدد بفناء البشرية... في الحرب يخسر الجميع... ما الفائدة التي تقدمها إلى الإنسان كلّ الكتب السماوية، ومئات المجلدات من كتب الفلسفة، والأدب، والشعر، والثقافة، والاتفاقات والمعاهدات الدولية إن قُتل الإنسان؟ ما فائدتها إن لم تحمِ الحياة على الأرض؟ متى تصل البشرية إلى مرحلة من الوعي تُحرّم فيها الحروب؟ وتجرم من يتسبب بها ومن يشنها؟ الشعوب وحدها هي من تدفع ثمن الحروب، فما السبيل لإيقاف الحروب عامة، ومنع تكرارها... ينبغي للعقلاء في العالم أن يرفعوا أصواتهم في وجه الحروب ومؤججوها، وأن يناشدوا حكومات العالم أن: كفى، أوقفوا هذه اللعبة العبثية التي تستنزف العالم وتنهكه... فهل يستطيع عقلاء الأدباء والمفكرين في مختلف دول العالم من تشكيل جبهة عالمية لمواجهة الحروب؟ الكرة الأرضية بيت البشرية الواسع والضيق في آن معاً، واشتعال النيران في أي ركن من أركانه يهدد الجميع، بالتالي ينبغي إيجاد آلية لاتخاذ القرارات التي تهم البشرية بشفافية يشارك فيها ممثلو جميع الشعوب بمختلف فئاتهم وطبقاتهم... لقد بيّن النزاع في أوكرانيا، وردود الفعل الدولية حوله أنّ فئة محدودة من الأغنياء تحدد مصير العالم، وثمّة تجاهل تام لفئات واسعة من الشعوب كالنقابات العمالية، والفلاحين، والنساء، والأدباء، والكتاب، والمفكرين، فمن يمثّل هؤلاء؟ من يمثل الشعوب، ولا سيما، الفقراء منهم؟ ومن يتحدث باسمهم في المؤتمرات العالمية، وكيف يكون صوتهم مسموعاً، وفاعلاً ومؤثراً في الساحة الدولية؟ تحتاج الإجابة عن هذه الأسئلة إلى إيجاد السبل لإيصال صوت العقلاء إلى مواقع إصدار القرار في العالم، وهذا يحتاج إلى منابر توحد تلك الأصوات، لأنّه وكما يقال "ليس لدى فقراء العالم من سلاح ضد تجاهل الأغنياء لهم، إلا الاتحاد فيما بينهم". العالم بأكمله خاسر من هذه الحرب، وينبغي لعقلاء العالم إيجاد حلّ وسط لهذه الأزمة، ليس في صالح العالم إركاع روسيا، وروسيا لن تركع، لكنّها ستخسر، ولن ينهزم الغرب والولايات المتحدة الأمريكية... وليس في صالح روسيا ولا العالم تدمير أوكرانيا، ولا الاستمرار في حرب استنزاف... ستنتهي هذه الأزمة بالتفاوض، فلتقف الحرب، وليبدأ التفاوض اليوم قبل الغد، وفي ذلك صالح روسيا وأوكرانيا والعالم أجمع... تحضرني بهذه المناسبة كلمات وزير الخارجية السوفيتي المخضرم "أندريه غروميكو" الذي كان يردد ما معناه: عشر سنوات مفاوضات، ولا خمس دقائق حرب... لا بدّ للعقل أن ينتصر، في التغلب على المحن، هكذا تثبت التجارب التاريخية المتراكمة، ويعزز ذلك رجحان الفكر الإنسان السليم، والثقة بضرورة وجود، وانتصار القيم الرادعة الكامنة في الطبيعة البشرية... فالمسألة الأوكرانية مهما طال الزمن، وكثرت التدخلات فيها، ستعالج عن طريق الحوار، وإبرام معاهدات سلام بين الشعوب... طوق نجاة البشرية من محنتها هو: السلام، ونبذ الحرب، وسيادة العقل، والتقدم العلمي في بيئة نظيفة، وحرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها وتعاونها فيما بينها لنشر قيم المحبّة، والتقدم، والعدالة، والخير، والجمال. المراجع والهوامش (1) أ. ني. أوتكين – النظام العالمي في القرن الواحد والعشرين – ترجمة: يونس كامل ديب – د. هاشم حمادي – المركز الثقافي للنشر والتوزيع – دمشق 2007 ص 377 - 357 (2) (3) (4) المصدر السابق ص358 ص400 ص403 (5) Aslund A. Eurasia Letter: Ukraines,s Turnanound ("Forigan Policy", F~all. 1996, p. 133) (6) أ. ني. أوتكين – النظام العالمي في القرن الواحد والعشرين – ترجمة: يونس كامل ديب – د. هاشم حمادي – المركز الثقافي للنشر والتوزيع – دمشق 2007 ص386 (7) المصدر نفسه. ص373 (8) "Foreign Affairs" , May / June 2000, p. 64 (9) (10) أ. ني. أوتكين – النظام العالمي في القرن الواحد والعشرين – ترجمة: يونس كامل ديب – د. هاشم حمادي – المركز الثقافي للنشر والتوزيع – دمشق 2007 ص386 ص401 (11) انظر صحيفة "نيزافيسيما" الروسية موسكو - عدد 06.06.2022 17:16:00ـ ويمكن قراءته في موقعها الإلكتروني: НЕЗАВИСИМАЯ
#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظاهرة بلال حلوم وسمر سليمان
-
لا للحروب، نعم لثقافة السلام والمحبّة!
-
الترجمة رافعة للأدب – مدرسة -وجيه أسعد- أنموذجاً
-
هل فقد فكر -لينين- حيويته
-
في أهمية وفضائل تحرير المرأة
-
عبد المعين الملوحي وكسر احتكار الترجمات الغربية إلى اللغة ال
...
-
العَلمانية في الحضارة العربية الإسلامية (التحديات والآفاق)
-
الهم الإنساني والرمز في شاعرية ريم البياتي
-
ندوة طرطوس حول العلمانية
-
في يوم من أثمن الأيام، ازددت غنى بلقاء درة من أغلى الدرر: ري
...
-
باقة حب لكِ
-
في التكريم
-
الثقافة في مواجهة الموت
-
مقدمة ترجمة مجلد -عذاب الروح-
-
مقدمة رواية العسس الليلي كلمة لا بد منها
-
بعض من صفات الدكتور طيب تيزيني
-
الشعب السوداني والوصفة السحرية
-
شبح المكيافلية وبؤس الفكر السياسي المعاصر
-
الجزائر وصناعة التاريخ
-
لماذا الدولة العلمانية؟
المزيد.....
-
السيسي وابن سلمان.. تحذير من تصعيد إقليمي
-
كيف تؤثر ساعات النوم ليلا على نشاطك ومزاجك؟
-
نتنياهو يعارض وقف إطلاق نار في لبنان لا يمنع تسليح حزب الله
...
-
وزير الخارجية الإيراني يزور الأردن يوم الأربعاء
-
إيران.. قتيل ومصابون في حريق بمصفاة نفط بخوزستان
-
ترامب وهاريس يركزان حملاتهما على كتلتين كبيرتين للناخبين الأ
...
-
إسرائيل تُشغل الجبهات: تطورات جديدة في الجولان تهدد هيمنة حز
...
-
وزيرة خارجية ألمانيا: يمكن لإسرائيل قتل المدنيين في غزة لحما
...
-
رئيس البنك الدولي يقدر -تكلفة الدمار- في غزة ولبنان
-
نظام ثاد الصاروخي: هل سيحمي إسرائيل من صواريخ إيران؟
المزيد.....
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
-
التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري
/ عبد السلام أديب
-
فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا
...
/ نجم الدين فارس
-
The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun
/ سامي القسيمي
المزيد.....
|