أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - باسمة وراد - حين بكى جدّي العمرَ والبلاد














المزيد.....

حين بكى جدّي العمرَ والبلاد


باسمة وراد

الحوار المتمدن-العدد: 7302 - 2022 / 7 / 7 - 13:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بكى العُمرَ والبلادَ دَمعةً واحدة ومضى! مَن دلّني أنفه على أننا ننحدرُ من إحدى سلالات الشرق القديمة. بلغ عامه المائة، وجادت عليه الحياة ببضع سنين أخرى كانت حصَّتُنا. جَدّي ورّاد، إسمٌ حملهُ أو شربهُ من ماء العين التي وردتها أمه وولدته قُربها، تدبّرت أمرها كما لو أنها فرس، وملأت جرّتها وحملتهما سوية وعادت إلى البيت. أتذكر أوان سفره الأخير حين مضى بطوله الفارع وعظامه المكسوّة بالقليل، وسُمرة بشرته الخفيفة التي لوّحتها الشمس، وبأنفه المتعالي الذي كان يستهويني تأمله في زمنٍ كنتُ فيه أقلّبُ ما تيّسر من كتب التاريخ باحثة بشغف عن الدهشة. دّلني أنفه على أننا ننحدرُ من سُلالةٍ تحكي عنها تلك الكتب، أو هكذا خُيّلَ إليَ، ربما ما كان يضفيه حضوره الآتي من الزمن العتيق، الزمن الذي لم يترك منه شيئاً سوى "البارودة" التي حملها على كتفه جنديّاً شابّاً يتلقى الأوامر بالتركية نجا من الموت مراراً، في واحدة منها من سياط وصلت على جياد وقطارات "السفر برلك" أدمت ظهره العنيد، كان لو اعترفَ تحت وطأتها عن مكان رفيقٍ له هارب لمات شنقاً ولما وصلت إلينا اكياس اللوز المجفف، ولما تأملت أنفه طفلةً مأخوذة برائحة تبغ غليونه والعباءة التي كانت لا تنزاح عن كتفيه الشامختين سوى ساعات قليلة كان ينام فيها.
في البلاد بقيَ وجدّتي هناك بعد أن غادر كل الأبناء، سكنا البيت العتيق على التلة العالية المطلة على السهل الواسع. واظب على زيارتنا في عمّان مرة كل عام أواخر الصيف، "آن الكرمُ يُعتصرُ" منتظراً بتأمل القادرين على الصبر، أن تجف الثمار التي زرعها وسياج الصبر حارس البيت المشيّد بالحجارة النابت من بين شقوقها العشب، ينتظر نضوج الحبات المعلقة عليه ثمراته بأشواكها ليقطف بكل ما أوتي من استشعار للدهشة التي كانت تسكننا ثمرة تعبه، ويصل حاملا إياها بأكياس من الخيش. لم يتمكن منه المرض، كان مجرّد كسرٍ بسيط أصاب ساقه فأقعده، وتمكن من روحه التي كانت تسير على قدمين واحدثت شرخاً فيها تسللت عبرها إشارات وتلويحات من سبقو. مات عن عمرٍ ناهز المائة عام بضع سنين بعيداً عن بيته، أذكر تلك الليلة جيداً، سبقتها عدة أيام كان مستلقياً في الغرفة شاهدته بأم عيني ينظر إلى الجدار الذي يقابله، رأيت معه وسمعت شريط حياته، صوته يعلو، يحكي مع الفرس التي كان يمتطيها، يعيد أسماء من ماتوا منذ عقود ويحاكيهم، يرطن ببعض الكلمات التركية والإنجليزية، كانت إشارات الوداع تامّة الوضوح، بدأ أفراد العائلة بالتوافد للسلام الأخير، يأتون ويذهبون، قضيت ساعات طويلة بجواره، كانت جدتي قد سكتت تماماً قبلهُ بعامين وتوقفت عن سرد الحكايات ورحلت، لكنها كانت ممن خاطبهم فيعيد صوتاً وصورة الماضي الذي عاشه. غائب تماماً عنا، وحاضر بقوة حضور اللحظة، وأنا المشدودة المندهشة الممسكة بيده كيّ لا يبتعد، وقبل غيابه التام بوقتٍ قليل أسند ظهره للحائط ووافقَ إرضاءً لي على مساعدته في الجلوس، جلس باعتدال، استيقظ من الحلم أو الحقيقة الماثلة فيه، كنت أتمنى أن أموت في بيتي لا هنا قال !! تأمل النافذة وذهب بعينيه بعيداً بعيداً، ضمّني إلى رائحته، بلل وجهي بقطرات ساخنة، كانت دموعه الأولى والأخيرة إذ بكى العُمر والبلاد دمعةً واحدة ومضى!



#باسمة_وراد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نساء بلا أردية بيضاء!


المزيد.....




- الطاقة والحلول المتعثرة
- تقرير: إنتل توقف توسعة بقيمة 25 مليار دولار لمصنعها في إسرائ ...
- صفعة عمرو دياب: ما بين ضريبة الشهرة وحق النجوم في الخصوصية
- مجلس الأمن يتبنى مشروع قرار أمريكي يدعو لوقف إطلاق النار في ...
- اختفاء طائرة عسكرية تقل نائب رئيس مالاوي وتسعة آخرين
- اكثر من 19 ألف صاروخ غير موجه أطلق على إسرائيل منذ بدء الحرب ...
- مقتل شخص وإصابة العشرات إثر انفجار في مصنع للأسلحة شرق بولند ...
- فيديو: حريق هائل ينشب في مجمع سكني في ميامي
- عمليات التنظيف جارية بعد عواصف عاتية ضربت بلدات نمساوية عدة ...
- مجلس الأمن يتبنى مشروع قرار أمريكي حول وقف إطلاق النار في غز ...


المزيد.....

- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت
- قبو الثلاثين / السماح عبد الله
- والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور / وليد الخشاب
- ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - باسمة وراد - حين بكى جدّي العمرَ والبلاد