محمد فُتوح
الحوار المتمدن-العدد: 7223 - 2022 / 4 / 19 - 23:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
-------------------------------------------------
عقد – فى الفترة الأخيرة – مؤتمر فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، لمناقشة الفرق بين الدولة المدنية والدولة المدنية ذات المرجعية الدينية . وهو من الموضوعات التى تكتسب قدراً كبيراً من الأهمية ، خاصة فى الوقت الراهن ، حيث اختراق الثقافة الوهابية والاخوانية والسلفية , العقل المصرى والعربى , منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى . وكعادة أى مؤتمر نجد هناك آراء مختلفة ومتعددة ، منها ما يؤيد الدولة المدنية ، ومنها ما يقول بالدولة المدنية " ذات المرجعية الدينية ".
وهنا لابد أن أتوقف عند مفهوم الدولة المدنية ، وهى تعنى فصل الدين عن الدولة فى شئون الحكم ، وأن يبنى الدستور على قوانين وضعية .. أما الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية ، فهى تعنى أن نرجع إلى الدين بشكل أساسى ، لنستمد منه القوانين ، ولا مانع من أى يكون هناك بعض القوانين المدنية أيضاً .
وقد يتفق كثير من المفكرين والباحثين على المفهومين . ولكن ما يثير الجدل والاختلاف ، هو أيهما يطبق ، ويصبح دستوراً لدولة ما من الدول ؟ .
وأنا أتساءل : لماذا فى مصر ، هذا الحرص والدفاع المستميت ، والانحياز إلى اختيار الدولة المدنية " ذات المرجعية الدينية " ؟ . هل هو الحرص ، على تأكيد الصلة ، بين دستور الدولة والدين السائد لدى الأكثرية ؟ . فكثير ممن ينادون بهذا المفهوم دائماً ما يؤكدون على أننا دولة إسلامية .
إننى أرى أن هناك أموراً ، لا يجب فيها إرضاء الأطراف المتعارضة ، فنمسك بــ العصا من المنتصف ، بغرض إرضاء ومغازلة التيارات الدينية من جانب ، وإرضاء مَنْ ينادون بالمجتمع المدنى من جانب آخر .
ان المدنية ذات المرجعية الدينية ، هى صيغة مراوغة ومتناقضة ، طرفاها لا يمكن لأحدهما العيش بجوار الآخر . ومن هنا سنصل إلى صيغة ممسوخة لا هى مدنية والا هى دينية . بل إن فى أغلب الأحيان . ستقودنا هذه الصيغة إلى دولة دينية . فالمسحة الدينية ستصبغ أغلب القوانين حتى لو كانت مدنية . ثم شيئاً فشيئاً , وبالتدريج
تكتسى وتفسر تلك القوانين بالصبغة الدينية البحتة .
وجدير بالذكر ، أن هذه الصبغة ، لا ترضى مَنْ ينادى بالدولة المدنية ، وأيضاً من يتبنون الفكر الإسلامى ، على تنوعات الطيف الإسلامى ، سواء التيارات الوسيطة أو المتشددة .
ومن مفارقات القدر ، أن قطاعاً عريضاً من المفكرين والسياسيين فى العالم الإسلامى ، هم الذين يصرون ، على أن تكون الدولة مدنية ذات مرجعية دينية إسلامية . وقياساً على هذا التفكير ، يمكن أن نجد دولة مدنية ذات مرجعية مسيحية ، وأخرى ذات مرجعية يهودية ، وثالثة ذات مرجعية هندوسية .
إن هذا التفكير ، قد أدى وسيؤدى ، إلى إشكاليات عديدة . ففى مصر ، وهى دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية ، لأن الأكثرية يدينون بالإسلام ، سوف يهمش مَنْ يؤمنون بالدين المسيحى . وعلى ذلك فإن هذا التصور يضرب مبدأ المواطنة فى مقتل ، ويفتح الباب أمام أصحاب الاتجاهات الإسلامية على اختلافها ، إلى التدخل فى شئون حياتنا ، استناداً على هذه المرجعية الدينية ، ووفقاً لتفسيراتها المختلفة .
ومن هنا ، يفتح باب جهنم . فلا مكان للاعتراض ، وإلا ستكفر الآراء المخالفة ، وتهمش الأقليات الدينية ، وتضيع حقوق كثير من الفئات وخاصة حقوق المرأة , التى هى اصلا الطرف الاضعف فى اى خيار نختاره .
وتأكيداً لذلك وعلى سبيل المثال ، فإن قانون الحسبة حتى بعد تعديل التشريع ، وقصر دعاوى الحسبة على النيابة العامة ، مازال سيفاً مسلطاً على رقاب المبدعين والمفكرين. فتصادر الكتب ، وتلقى الاتهامات بازدراء الأديان ، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، لكل مَنْ يعبر عن رأيه بحرية . وبدلاً من إشاعة المناخ الذى يتميز بقدر من الحرية ، يجرون إلى غرف التحقيق ، فى ساحات المحاكم ، وكأنهم من فئة المجرمين والقتلة وتجار المخدرات .
ألا ينص الدستور المصرى ، على بند يكفل حرية الفرد فى اختيار عقيدته ، فلماذا لو جاهر شخص ما بعقيدة مغايرة ، يحاكم ويعاقب بازدراء الأديان ؟ . هذا التضارب أو التناقض ، يمكن فى الصيغة المراوغة للدولة المدنية ذات المرجعية الدينية .
وتأكيداً لهذا المناخ وتمشياً مع هذا النهج ، فقد تصادف وأن قرأت خبرين فى جريدة مصرية شهيرة , فى الصفحة الأولى . كل منهما يؤكد مفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية . الأول ، تحت عنوان رئيس نادى مجلس الدولة يرفض تعيين المرأة " قاضية " , لمخالفة الشرع والدستور ، ويرى أن جلوسها على المنصة وهى حامل يؤثر على هيبة القضاء .. واجتماعها مع الآخرين للمداولة خلوة غير شرعية .
وبرغم عدم اتفاقى مع هذا الرأى بشكل جذرى ، وكلى ، إلا أن هذا الرجل الذى يتقلد منصباً قضائياً له أهميته ، يظل متسقاً مع القانون والشرع كما يراه مجسداً فى الدستور.
فهو يرفض تولى المرأة للقضاء ، لأنه مبنى على الإجماع الفقهى ، ومبادىء الشريعة الإسلامية . فهو يقول عندما يُعلق على باب غرفة المداولة مع قاضيين ، أو أكثر من رُجُل ، وتكون المرأة معهم , ألا يعتبر اجتماعها معهم لساعات طويلة خلوة غير شرعية ؟ . وأضاف أن تولى المرأة القضاء ،يتناقض مع المادة الثانية من الدستور. أما ما يراه أن هيبة المنصة ستتأثر ، إذا كانت القاضية حاملاً ، فهذا كلام يثير الدهشة . هل مظهر المرأة الحامل ، يقلل من هيبتها ، عندما تسير فى الشارع ، أو تمارس عملاً من الأعمال خارج المنزل ؟!! ، أم أن هذا يعد شرفاً ، يضاعف من احترامها وتقديرها . فهى تحمل الحياة ، والعدل معاً .
أما الخبر الثانى ، فيطالب فيه وكيل المجلس المُلى ، بإضافة فقرة فى الدستور المصرى ، تشير إلى الوجود المسيحى ، وهذا من حقه فى حالة استناد الدستور على مرجعية دينية ، فلا غضاضة أن تكون إسلامية مسيحية .
إننا إذا حاولنا أن نمد هذا التصور إلى آخره ، كيف فى بلد مثل لبنان ، تتعايش الدولة المدنية مع المرجعية الدينية ؟ . فأى مرجعية دينية ، هنا يؤخذ بها , أهى إسلامية أم مسيحية ؟ . وحتى فى داخل الإسلام نفسه سنجد ذروة الخلاف ، أتكون مرجعية شيعية أم سنية ؟ كما يحدث الآن مثلا فى العراق ، حيث الصراع الدامى من أجل السلطة . ومن هنا ينشاً الصراع الذى قد يؤدى إلى التقاتل وإراقة الدماء .
إن صيغة الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية ، تفرق ولا توحد . وتثير العداوات والفتن بين أفراد الوطن الواحد . وهذا هو الحصاد المر ، الذى نجنيه ونحصده . إن الأعمال تضيع هباء ، فى مناقشة صيغ قد داس عليها الزمن . فهل نتوقف عن هذا الجدل العقيم ونفعل شيئاً ، نافعاً يصون حقوق الإنسان وكرامته فى هذا الوطن ؟! .
إن صيغة الدولة المدنية ، هى الكفيلة بتحقيق المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع الواحد ، مهما اختلفت الديانة أو الجنس . لأنها تقوم على أساس المواطنة . وهى التى ستكفل للمرأة التى تشكل نصف المجتمع ، حقوقها كاملة أسوة بالرجل . هى التى ستدفع الأذى وتحول دون رجم مَنْ يعملون بالفكر والإبداع ، بالتهم المعدة سلفاً من قبل محاكم التفتيش الدينية ومن سطوة رجال الدين . هى التى ستدفع المجتمع إلى التقدم والرقى والتطور ، والأخذ بأسباب العلم والبحث . هى التى ستحمى المجتمع ، من التطاحن والتقاتل باسم الدين . لأن الدين سيصبح علاقة شخصية بين الإنسان وربه .
إننى سوف أنهى مقالى هذا ، بمعنى يقترب من وصف الدكتور زكى نجيب محمود لحالنا فى أحد كتبه. وهو أن القرن العشرين قد أغلق أبوابه أمامنا ، وولى . ولن نستطيع الدخول إليه . وبدأ القرن الحادى والعشرين ومازلنا كما نحن , وقد يكون الباب مازال موارباً، فهل نستطيع أن نتسرب إليه ؟ أم أننا سنظل نتردد ونتعثر وننشغل بالجدل العقيم المتكرر , فنجد أنفسنا ، وقد لفظنا تعاقب الأزمنة , لنظل هائمين على وجوهنا ، مطرودين خارج التاريخ النافع لنا , وللبشرية ؟ .
من كتاب : استلاب الحرية باسم الدين والاخلاق 2009
#محمد_فُتوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟