أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ياسين طه - أوكرانيا وإمبريالية القرن الحادي والعشرين















المزيد.....


أوكرانيا وإمبريالية القرن الحادي والعشرين


ياسين طه

الحوار المتمدن-العدد: 7191 - 2022 / 3 / 15 - 22:40
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


تؤكد لنا الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا ليس فقط أننا لا نزال نعيش في عالم قائم على التنافس الإمبريالي بين الدول الكبرى على المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي والمواقع الجيوستراتيجية، بل أن المرحلة الحالية من ذلك التنافس تهدد باندلاع حرب عالمية ثالثة، وهو تهديد لم نر مثله منذ ستينيات القرن الماضي.

أين ذهبت إذًا كل تلك النظريات حول أن العولمة انتصار الرأسمالية الغربية وسيادة نفوذها وهيمنتها حول العالم قد دشن حقبة جديدة لم تعد فيها إمكانية للحروب بين الدول الكبرى؟ ألم يقل نفس هؤلاء المنظرين (فرانسيس فوكوياما وتوماس فريدمان على سبيل المثال) في بدايات هذا القرن أننا نعيش في مرحلة جديدة من الرأسمالية تجاوزنا فيها إمكانية الأزمات الرأسمالية العالمية؟ ثم جاء الركود الكبير في 2008 واكتشفنا جميعًا أن الرأسمالية رغم التغيرات والتطورات التكنولوجية لا تزال مصدرًا دائمًا للأزمات الطاحنة؟ وها هي الحرب الروسية الأوكرانية والنزاع بين الإمبريالية الأمريكية والروسية والعودة ليس فقط للحرب الباردة بل لإمكانية حرب شديدة السخونة.

ألم يقل نفس هؤلاء أيضًا أن انتشار الليبرالية الاقتصادية (يقصدون سياسات الليبرالية الجديدة) سيؤدي بالضرورة وبالتوازي إلى انتشار الديمقراطية في العالم؟ انظر حولك عزيزي القارئ!

إذا كان التغير المناخي يشير إلى أن استمرار الرأسمالية الصناعية سيؤدي إلى غرق ودمار في مختلف أنحاء الأرض في المستقبل المنظور، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا تشير ليس فقط إلى أن الرأسمالية والحروب ظاهرتان متلازمتان، بل أن خطر فناء البشرية في حرب نووية ربما يجعل موضوع التغير المناخي مسألة نظرية لن تأخذ فرصتها على أرض الواقع.

لنعود إذًا إلى أرض الواقع والى الحرب الحالية.

ظلت أوكرانيا إحدى مناطق النزاع بين القوى الغربية وبين روسيا، سواء في المرحلة القيصرية أو السوفييتية أو مرحلة روسيا الفيدرالية الحالية. وقد اختلفت بالطبع التبريرات الأيديولوجية والحجج الدعائية لأطراف النزاع، ولكن ظل النزاع بطبيعته الرأسمالية التوسعية الخلفية الدائمة للتاريخ الأوكراني الحديث.

توسع الناتو وأزمة الإمبريالية الأمريكية
يتحدث الكثيرون عن حلف شمال الأطلسي وكأنه مجرد تحالف دفاعي بين الدول الغربية، في حين أن تاريخ وتطور هذا الحلف يؤكد حقيقة أنه يمثل بشكل مباشر المصالح التوسعية للإمبريالية الأمريكية. فحلف الناتو قد تشكل بمبادرة من الولايات المتحدة الأمريكية في 4 أبريل 1949 وقد ضم في بدايته 12 دولة وهي الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا وكندا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج وإيطاليا والبرتغال والنرويج والدنمارك وأيسلندا. ورغم أن الهدف المعلن للتحالف كان الدفاع المشترك ضد أي غزو أو هجوم سوفييتي محتمل، فقد توسع الحلف بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ليضم 30 دولة منها جمهورية المجر والتشيك وبولندا (1999)، ثم بلغاريا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا (2004)، ليتم عمليًا تطويق عسكري أمريكي أوروبي لروسيا الفيدرالية.

وعلى الرغم من أن الناتو شكليًا تحالفٌ متساوٍ ما بين الدول الأعضاء، فإن التفوق العسكري المطلق للولايات المتحدة يعني أن الحلف مجرد امتداد للقوة العسكرية الأمريكية. لابد أن نتذكر أن الإنفاق العسكري الأمريكي يقارب 800 مليار دولار سنويًا (بالمقارنة بـ252 مليار في الصين و62 مليار في روسيا) والجيش الأمريكي لديه أكثر من 750 قاعدة عسكرية عالميًا. وفي حين يُختار السكرتير العام للناتو من دولة مختلفة من دول الحلف في كل دورة، فقد ظلت القيادة العسكرية العليا للناتو في يد جنرالات من الولايات المتحدة منذ 1949 وحتى اليوم.

ولكن ورغم التفوق العسكري الأمريكي المستمر، تشير التطورات على مستوى الاقتصاد العالمي إلى أن هيمنة الإمبريالية الأمريكية عالميًا مهددة بالتراجع على المدى الطويل. ولابد من ملاحظة أنه عندما تشكل حلف الناتو كان الاقتصاد الأمريكي يمثل ما يقترب من 50% من إجمالي الناتج العالمي، وقد انخفضت تلك النسبة إلى حوالي 19% اليوم، في حين زادت نسبة الاقتصاد الصيني من إجمالي الناتج العالمي من أقل من 2% عام 1990 إلى حوالي 17% اليوم.

هذا هو التحدي الرئيسي الذي يواجه هيمنة الإمبريالية الأمريكية في المستقبل المنظور. وهذا أيضًا هو ما يدفع التوسع الشرقي للناتو منذ نهاية الحرب الباردة. إن تطويق روسيا الفيدرالية بكل هذا الإصرار والاندفاع لا يمكن فهمه إلا في سياق مكاسب جيوسياسية على حساب روسيا ولكن أيضًا استعدادًا لمواجهة التحدي الصيني.

ولا يمكن أيضًا من الجانب الآخر فهم الغزو الروسي لأوكرانيا بكل ما يحمله من مخاطر وجودية على الاقتصاد الروسي وعلى مستقبل نظام بوتين، إلا كرهان على التحالف الروسي مع الصين كقوة عظمى صاعدة.

بوتين وعودة الإمبريالية الروسية
يبدو أن بعض اليساريين (منهم قطاع من اليسار المصري) لا يزال يتأثر بالدعاية الروسية حول الحرب ضد الفاشية والنازية والإمبريالية الأمريكية. وأيضًا نرى لدى هؤلاء نوع من التجمد في عصر الحرب الباردة واعتبار بوتين زعيمًا قويًا يريد إستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، وأن ذلك يخدم بشكل ما قوى اليسار عالميًا! هذا النوع من الدعاية هو امتداد للدعاية الستالينية خلال الحرب الباردة، وهي في زمن بوتين كما كانت في زمن ستالين، مجرد غطاء أيديولوجي للتوسع الإمبريالي الروسي. وقد استخدمت نفس الدعاية في مواجهة انتفاضة 1953 في ألمانيا الشرقية والثورة المجرية في 1956 والتبرير لغزو تشيكوسلوفاكيا في 1968. كما استخدمت نفس الأفكار (محاربة الفاشية والنازية) لتعبئة القومية الروسية ضد كافة حركات الاستقلال الوطني في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق منذ الثمانينيات والتسعينيات.

ولكن كيف صعد بوتين ليصبح بمثابة قيصر جديد لروسيا؟ وهو بالمناسبة يحكم روسيا لفترة لم يتجاوزها في العصر الحديث سوى جوزيف ستالين نفسه.

اعتمد صعود بوتين في العقدين الماضيين على عنصرين أساسيين. العنصر الأول هو القضاء على أوليغارشية (طبقة المليارديرات المهيمنين على الاقتصاد) تسعينيات القرن الماضي والتي صعدت في فترة يلتسين من خلال الخصخصة الفاسدة لشركات القطاع العام السوفييتي. ولكن بوتين استبدل تلك الأوليغارشية بطاقم جديد من المليارديرات الموالين بالكامل للدولة الروسية والمنفذين للإستراتيجيات الاقتصادية المركزية لفريق بوتين الاقتصادي. إذًا لم يقض بوتين على الفساد بل هذبه ووجهه نحو خطة اقتصادية متماسكة بعد عقد من الفوضى والانهيار الاقتصادي. والعنصر الثاني كان ولا يزال التعبئة الشوفينية والقومية الروسية ومشروع استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية.

وإلى جانب الأفكار الشوفينية حول روسيا العظمى، لابد من ملاحظة أن الدعاية والتعبئة الأيديولوجية في زمن بوتين لها طابع شديد الرجعية، فإلى جانب النعرة القومية، هناك أيضًا دفاع هستيري عن الأخلاق والأسرة والدين في مواجهة “التحلل” و”الانحطاط” الأخلاقي الغربي.

وقد كان من غرائب تحولات التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي استعادة الكنيسة الاؤرثودوكسية ليس فقط لدورها في دعم ومباركة سياسات الدولة الروسية، ولكن أيضًا استعادتها لممتلكاتها وقوتها الاقتصادية (800 دير ذات أملاك عقارية وزراعية، وستة محطات راديو وقناتين تلفزيونيين، إلى جانب دور مركزي في كل المناسبات الرسمية).

وقد زاد بوتين من مركزية ودور الكنيسة والتي يعتبرها جزءًا أساسيًا من قوة الدولة الروسية، وقد أعلن بابا الكنيسة الروسية ألكسي الثاني أن “الدين الأرثوذكسي هو الأساس الوحيد لاستعادة الوطن الروسي لأمجاد الماضي”. وقد أعيد كتابة النشيد الوطني الروسي في عام 2000 ليعلن روسيا “وطن يحميه الله”.

ومن جانب آخر نفهمه في مصر جيدًا، أعاد بوتين ملكية وسيطرة الدولة، خاصة من خلال الأجهزة الأمنية، لغالبية الإنتاج السينمائي والتلفزيوني والثقافي. وفي 2005 على سبيل المثال أنتج نيكيتا ميخائيلوف فيلمًا يمجد بوتين ويصوره كقديس جاء لينقذ الوطن الروسي، وذلك بمناسبة عيد ميلاده الخامس والخمسين.

ويستثمر بوتين أيضًا الدعاية حول اضطهاد الأقليات الروسية خارج روسيا الفيدرالية، وهم في كثير من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق بالفعل يعانون من الاضطهاد. وقد قدر مركز بيو البحثي أن عدد ذوي الإثنية الروسية في الجمهوريات السوفييتية السابقة خارج روسيا يتجاوز 25 مليون روسي. ولكن ما لا تذكره دعاية بوتين هو أن ذلك الوضع نتج عن تاريخ طويل من اضطهاد واستغلال الدولة الروسية لتلك الجمهوريات والآثار طويلة المدى لسياسة ستالين في التهجير والتوطين من ثلاثينيات إلى خمسينيات القرن الماضي.

يأتي قرار بوتين بغزو أوكرانيا بعد عقدين من “العمليات العسكرية” للجيش الروسي في جورجيا والشيشان والقرم وليبيا وسوريا وإفريقيا الوسطى، وكل ذلك ضمن محاولة إستعادة دور روسيا كقوة عظمى بعد الانهيار المهين للاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي. وبالطبع يستخدم بوتين التعبئة القومية كوسيلة للبقاء في الحكم، فعلى سبيل المثال زادت شعبية بوتين في روسيا من 61% في ديسمبر 2013 إلى 83% مع غزو شبه جزيرة القرم في أوكرانيا في ربيع 2014.

أما توقيت الغزو فيبدو أنه مرتبط بما شعره بوتين من ضعف غربي مؤقت بسبب الانقسامات السياسية الحادة في أمريكا وضعف قيادة بايدن، وضعف بريطانيا في ظل خروجها من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت) وأزمات بوريس جونسون، والانشغال الفرنسي بالانتخابات، وغياب أنجيلا ميركل عن الساحة الألمانية.

أوكرانيا وتاريخ من النزاع الاستعماري
عندما بدأت الحرب العالمية الأولى كانت أوكرانيا تحت سيطرة روسيا القيصرية من جهة والإمبراطورية النمساوية المجرية من الجهة الأخرى. ومع اندلاع الثورة البلشفية في 1917، شهدت أوكرانيا صراعًا دمويًا بين الجيش الأحمر والشيوعيين في الشرق (خاصة في مناطق تمركز عمال المناجم في الدونباس) وبين الجيش الأبيض والقوميين الأوكرانيين والبولنديين في الغرب.

ومع انتصار الجيش الأحمر في تحرير القطاع الشرقي من أوكرانيا، جاء ربما أهم اختبار لسياسة البلاشفة حول حق تقرير المصير. كان اليمين الأوكراني يرفع راية الاستقلال الوطني وبالتالي اعتبرت مسألة استقلال أوكرانيا بمثابة انتصار لليمين. ومن جهة أخرى كان استقلال أوكرانيا يعني إمكانية فقدان القمح الأوكراني، وهو ما كان يشكل تهديدًا وجوديًا على الاتحاد السوفييتي الوليد. ولكن لينين أصر على مركزية سياسة حق تقرير المصير ومحاربة كافة أشكال الشوفينية والتكبر الروسيين ونال الشعب الأوكراني لأول مرة في تاريخه الاستقلال الوطني على غالبية أراضيه (ظل القطاع الغربي مندمجًا في بولندا).

وجاء صعود ستالين إلى السلطة وبداية ثورته المضادة بمثابة كابوس على الشعب الأوكراني، حيث خضعت أوكرانيا لسياسة التجميع الزراعية التي فرضها ستالين والتي تسببت في مجاعة في بداية الثلاثينيات مات فيها مئات الآلاف من الفلاحين الأوكرانيين. وعلى المستوى السياسي أدت مرحلة التطهير الستالينية إلى إعدام الغالبية العظمى من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني وتصفية 170 ألف من أعضاء الحزب.

وجاءت الحرب العالمية الثانية لتضيف المزيد من المآسي للشعب الأوكراني، ففي 1939 تم تقسيم بولندا (طبقًا لاتفاقية هتلر-ستالين) واستولت بالتالي موسكو على الغرب الأوكراني. ولكن ذلك لم يدم طويلًا حيث وقعت أوكرانيا بالكامل تحت الاحتلال النازي في 1941 مع اجتياح هتلر للاتحاد السوفييتي، وقتل النازيون أكثر من 5 ملايين أوكراني، ومع انتصار الجيش الأحمر وقعت أوكرانيا في أيدي ستالين مجددًا.

كانت إحدى النتائج السياسية لفترة الاحتلال النازي لأوكرانيا هو بروز حركة قومية يمينية متطرفة في الغرب تحالفت مع الاحتلال النازي على أمل الحصول على الاستقلال مستقبلًا، واعتبرت تلك الحركة الناطقين بالروسية في أوكرانيا الشرقية نوعًا من الامتداد لما اعتبروه احتلالًا سوفييتيًا يحاول إلغاء القومية واللغة الأوكرانيين. وظل لذلك التراث اليميني المتطرف وجودًا في الغرب الأوكراني. أما في الشرق فظل هناك شعورٌ معادٍ للتطرف القومي الأوكراني والذي اعتبروه سكان المناطق الشرقية أيضًا تهديدًا للغتهم وثقافتهم الروسية.

ولكن المبالغة في هذا التقسيم التبسيطي بين الغرب الأوكراني (كاثوليكي ناطق بالأوكرانية ومعادي للروس) والشرق (أرثودوكسي ناطق بالروسية وموالي لروسيا) يؤدي إلى استنتاجات خاطئة، فقد أصبحت أوكرانيا دولة حديثة واختلط سكانها من الأصول المختلفة في المدن الكبرى وزاد من الوعي الوطني الأوكراني والنزعة الاستقلالية على حساب الانقسامات الثقافية واللغوية التاريخية. وأصبحت الانقسامات مع الوقت ذات طابع سياسي واجتماعي كما تبين مع انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991. ففي استفتاء عام في جميع أنحاء أوكرانيا في ذلك العام، صوت 90% من السكان لصالح الاستقلال.

وخلال التسعينيات، ومع فوضى التحول إلى السوق، وكما كان الحال في بقية دول الاتحاد السوفييتي السابق، أدت سياسات الليبرالية الجديدة في أوكرانيا إلى انهيار اقتصادي كامل، ووصلت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وانخفض متوسط دخل الفرد من 1570 دولار في 1990 إلى 635 دولار في عام 2000. ومن جانب آخر صعد إلى القمة طبقة من كبار رجال الأعمال ليشكلوا، كما في روسيا، أوليغارشية حاكمة غارقة في الفساد ومحتكرة لمزارع ومناجم وثروات أوكرانيا في الغرب والشرق. وأصبح من مصلحة تلك الطبقة أن تستثمر سياسيًا النعرات القومية والانقسامات الثقافية والدينية والإقليمية القديمة لحرف الغضب الجماهيري عنها من جانب والتعبئة السياسية لخدمة مصالحهم من الجانب الآخر.

كانت النتيجة أنه بحلول بداية القرن الحالي عادت النعرات القومية للصعود من جديد مع اتجاه قومي أوكراني في الغرب وتعبئة يمينية متطرفة ذات تأثير في المناطق الغربية، وتبلور اتجاه راغب في الانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي. أما في الشرق، فكان هناك ميل في بعض المناطق، خاصة المتاخمة لروسيا وأيضًا في الجنوب نحو الاحتماء بروسيا وربما الاندماج فيها.

وبالطبع تدخلت الدول الأوروبية والولايات المتحدة من جانب، وروسيا من الجانب الآخر، بالتمويل والمساعدات الاستخبارية والإعلامية للتأثير على توازن القوى في الحكومة والبرلمان الأوكرانيين.

كان الملياردير رينات أخميتوف مثالًا صارخًا للطبقة الحاكمة الجديدة في أوكرانيا. وقد تركزت ثروة أخميتوف في مجالات المناجم وصناعات الحديد في الشرق، في حين تمتد مصالحه لأسواق روسيا وأوروبا الغربية معًا. تقدر ثروته بأكثر من 14 مليار دولار ويتحكم في أكثر من 50% من إنتاج الكهرباء والفحم وله استثمارات كبرى في مجالات البترول والغاز الطبيعي والمشاريع العقارية. وسرعان ما أصبح مثل هؤلاء مسيطرين على البرلمان والحكومة في كييف.

وإلى جانب التنافس بين المليارديرات الجدد والتوترات والخلافات الثقافية والدينية واللغوية بين المقاطعات المختلفة، كان هناك أيضًا إغراء الاندماج في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في الغرب. ومع محاولات بروكسل وواشنطن لجذب الدولة الأوكرانية نحو الغرب، بدأ بوتين والنظام في موسكو في التحضير طويل المدى لحسم الأمر عسكريًا. وإذا كان من البديهي أن بوتين هو المسئول عن شن الحرب على الشعب الأوكراني فمن البديهي أيضًا أن واشنطن وبروكسل لعبا دورًا في دفع الأزمة نحو الحرب.

ولعل ما حدث في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 يوضح التنافس الإجرامي بين الإمبريالية الغربية والإمبريالية الروسية على مصير أوكرانيا. فقد انهار الاقتصاد الأوكراني في أعقاب الأزمة ، حيث انخفض إجمالي الناتج المحلي بأكثر من 15%، مما أدى إلى ضرورة اللجوء للمساعدات الخارجية. وعلى الفور جاء عرض الاتحاد الأوروبي بخلق منطقة تجارة حرة مع اوكرانيا، ومن جانب آخر عرض صندوق النقد الدولي قرض بقيمة 15 مليار دولار بالشروط التقشفية المعتادة. وقد تدخل بوتين لوقف هذه الاتفاقات من خلال عرض أكثر سخاءً في نوفمبر 2013، وقد وافق يانكوفيتش، رئيس وزراء أوكرانيا في ذلك الوقت، على العرض الروسي في اللحظات الأخيرة. وقد اندلعت على الفور مظاهرات “ملونة” في كييف ضد رفض المساعدات الأوروبية الأمريكية.

لم يكن استخدام سلاح المساعدات الاقتصادية جديدًا، فحتى خلال فترة رئاسة بيل كلينتون في التسعينيات كانت أوكرانيا ثالث أكبر متلقٍ للمساعدات الاقتصادية الأمريكية بعد إسرائيل ومصر.

الحرب والتسونامي الاقتصادي
وإلى جانب التغييرات الجيوسياسية التي ستحدثها الحرب أيًا كانت نتائجها، فإن آثارها الاقتصادية المدمرة قد بدأت بالفعل، ليس فقط على الاقتصاد الروسي والأوكراني، بل على الاقتصاد العالمي وخاصة الدول النامية بما فيها مصر.

آثار العقوبات الاقتصادية الغربية على الاقتصاد الروسي كارثية بالطبع، فقد مُنِعَ البنك المركزي الروسي من الوصول إلى احتياطي العملات الأجنبية المقدر بـ630 مليار دولار، وشهدت الاستثمارات الأجنبية هروبًا غير مسبوقًا من الأسواق الروسية تنفيذًا للعقوبات، ومُنِعَت غالبية البنوك الروسية من التعامل بنظام سويفت والذي يسمح بحركة الأموال بين البنوك على مستوى العالم. وعلى الفور انهار الروبل الروسي بنسبة تقارب 40% وانهارت البورصة الروسية بأكثر من 90% من قيمتها. وقد اضطر البنك المركزي أن يرفع أسعار الفائدة من 9.5% إلى 20% في محاولة لإنقاذ الروبل من الانهيار التام، وفرض على الشركات الأجنبية تحويل غالبية إيراداتها بالعملات الأجنبية إلى الروبل ومنعت البنوك الروسية من تصفية ودائع الأجانب لديها. وقد أعلن بوتين منذ أيام أنه لن يدفع التزاماته للبنوك العالمية إلا بالعملة الروسية، وهو ما يشكل عمليًا إعلان بالإفلاس.

وقد تحدث البعض عن إمكانية أن تؤدي العقوبات على روسيا إلى أن تلجأ اضطراريًا للصين كمنقذ اقتصادي (إن لم يكن أيضًا عسكريًا)، أي محاولات التخلي عن التعامل بالدولار الأمريكي والتحول نحو العملة الصينية. ولكن الصين غير مستعدة الآن لمثل هذه المغامرات، فالدولار الأمريكي لا يزال يشكل 40% من التعاملات المالية العالمية بالمقارنة بـ3% فقط لليوان الصيني.

وحتى قبل الحرب، كان الاقتصاد العالمي يعاني من موجة من التضخم لم يشهد مثلها منذ سبعينيات القرن الماضي، وبالطبع جاءت الحرب لتشعل أسعار السلع بشكل غير مسبوق. وهذا التصعيد للتضخم سيفرض على البنوك المركزية، وعلى رأسها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، زيادة سريعة لمعدلات الفائدة، وهذا سيكون له أثر شديد السلبية على اقتصادات الدول النامية فهو يعني هروب الاستثمارات الأجنبية وانهيار العملات المحلية (ومنها بالطبع الجنيه المصري).

ما يزيد من تأثيرات الحرب على الاقتصاد العالمي هو كون روسيا وأوكرانيا مصدرين رئيسيين، ليس فقط للنفط والغاز، ولكن أيضًا للمعادن النفيسة والصناعية والمنتجات الزراعية، وعلى رأسها القمح والذرة والزيوت النباتية.

تشكل صادرات القمح من روسيا وأوكرانيا حوالي ثلث الصادرات العالمية، وهذه كلها متوقفة الآن بسبب الحرب. وقد أدى ذلك إلى ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار القمح. هذا مع الأخذ بالاعتبار أن أسعار القمح عالميًا كانت قد ارتفعت بنسب تتراوح بين 10 و30%، وذلك لعدة أسباب، لعل أهمها ضعف المحاصيل خلال العام الماضي في كندا والولايات المتحدة والأرجنتين.

تحتاج مصر، على سبيل المثال، 21 مليون طن من القمح سنويًا ويتم استيراد نصف هذه الكمية من الخارج. وتأتي 86% من هذه الواردات من روسيا وأوكرانيا. وقد افترضت ميزانية العام الحالي أن سعر طن القمح سيكون 255 دولار، في حين وصلت الأسعار في أسواق العقود المؤجلة إلى 400 دولار للطن.

ولابد أيضًا ملاحظة أن 26% من واردات مصر من الذرة تأتي من أوكرانيا، وقد زادت أسعاره من 6 دولار للمكيال، إلى 7,6 دولار منذ بداية الحرب. وبما أن الذرة تستخدم كعلف للحيوانات والطيور فمن المتوقع أن تزيد أسعار اللحوم بشكل غير مسبوق في الشهور القادمة. ونفس الشيء ينطبق على الزيوت النباتية. ومن المتوقع أيضًا زيادات جديدة في أسعار الأسمدة (زاد سعر الأمونيا وهي مكون أساسي في السماد بنسبة 260% حتى قبل الحرب وتشكل بيلاروسيا وأوكرانيا مصدرًا أساسيًا للأمونيا).

وعلى الرغم من أن الزيادة الضخمة في أسعار الغاز والبترول لن تؤثر بشكل مباشر على السوق المصري لما لدى الحكومة من مخزون احتياطي وإنتاج محلي، فاستمرار الحرب لفترة أطول سيُترجم بشكل حتمي إلى زيادة في أسعار الوقود والطاقة.

اليسار بين الموقف من الحرب والموقف من آثار الحرب
تشكل الحرب الحالية تحديًا كبيرًا أمام اليسار العالمي والمصري. وكما أوضحنا أعلاه، هناك الكثير من التخبط في المواقف اليسارية؛ فهناك من يؤيد حرب بوتين سواء صراحةً أو ضمنيًا، لمجرد أن الإمبريالية الأمريكية والأوروبية تدعمان أوكرانيا عسكريًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا، وربما أيضًا كنوع من الحنين للماضي الستاليني. مثل هذه المواقف بالطبع خاطئة تمامًا، فهي تتغاضى عن الطابع الإمبريالي التوسعي للنظام الروسي ولمغامرة بوتين. وهناك أيضًا من يعارض الغزو الروسي دون اعتبار لدور الإمبريالية الأمريكية والاتحاد الأوروبي في دفع روسيا إلى الحرب من خلال التوسع شرقًا.

لابد بالطبع من الوقوف بشكل واضح ضد الغزو الروسي لأوكرانيا ومع حق شعب أوكرانيا في الاستقلال وفي حماية سيادته على أرضه، ولكن يجب أيضًا رفض دور الناتو في توسيع مناطق نفوذ الإمبريالية الأمريكية لتشمل أوكرانيا. لابد من رفض الإمبريالية الأمريكية والروسية معًا.

ومن البديهي ضرورة أن يشارك اليسار عالميًا في الحملات المناهضة للحرب، وقد رأينا كيف اندلعت على الفور حركة مناهضة للحرب في المدن الروسية من اللحظة الأولى، رغم القمع الأمني. وقد وقع أكثر من مليون شخص على بيان مناهض للحرب، واعتقل خلال الأيام الأولى للحرب أكثر من 7000 متظاهر يعارضون الغزو الروسي لأوكرانيا في سان بطرسبورج، منهم سيدة مسنة عاشت في المدينة خلال الحصار النازي للمدينة في الحرب العالمية الثانية، والذي دام 872 يومًا. وقد أدت المظاهرات المناهضة للحرب يوم 6 مارس إلى اعتقال 5000 شخص، نصفهم في موسكو. وتقوم الجامعات الروسية بفصل الطلاب المشاركين في المظاهرات. أما الشرطة فتقوم بتوقيف المارة في الشوارع والمترو وتفتيش الهواتف المحمولة بحثًا عن رسائل معارضة. على اليسار العالمي، بما فيه اليسار المصري، التضامن بكل الأشكال الممكنة مع حركة مناهضة الحرب في روسيا.

ولكن إلى جانب الحملات المناهضة للحرب، يواجه اليسار خاصة في مصر والبلدان المماثلة تحديًا لا يقل خطورة. فكما رأينا ستتضاعف أسعار السلع والخدمات الرئيسية من غذاء ومواصلات وطاقة وغيرها، وبالطبع ستحمل الحكومة العبء الأكبر من تلك الزيادات للغالبية العظمى من المصريين الفقراء من عمال وفلاحين وموظفين، وكما أوضح البيان الأخير لحركة الاشتراكيين الثوريين، فقد جردت الديكتاتورية الحالية الجماهير المصرية من كافة الأسلحة التي تمكنهم من النضال ضد الهجوم الآتي على مستوى معيشتهم، من نقابات وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني. إن إعادة بناء هذه الأسلحة وبناء معارضة قادرة على مواجهة سياسات التجويع القادمة هو التحدي الأكبر أمام اليسار المصري اليوم.



#ياسين_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ياسين طه - أوكرانيا وإمبريالية القرن الحادي والعشرين