أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - نجاة طلحة - قراءة أُفقية لخريطة الراهن السياسي (السودان) (1)















المزيد.....


قراءة أُفقية لخريطة الراهن السياسي (السودان) (1)


نجاة طلحة
(Najat Talha)


الحوار المتمدن-العدد: 7111 - 2021 / 12 / 19 - 23:43
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


يفرض الواقع نفسه الآن فوق كل الحسابات النظرية وفوق كل قراءة عميقة. الواقع وحده هو الذي سيحدد خطوات الإنقلابيين القادمة ويحدد بالموازي خطوات الجماهير. ففي حالة الظروف الإستثنائية لا يمكن تطبيق القواعد العامة، فالواقع فقط هو الذي يحدد ما سيحدث. حسابات الواقع هي التي تفرض القرارعلى كل الأطراف. لذلك فهذه المساهمة ستكون أُفقية المنحى وقراءة مباشرة للواقع. ليست براغماتية السيد حمدوك، التي يتشدق بها، لكنه جدل المادة.

الإنقــلاب:

فالتجربة الراهنة هي منتوج حي لحسابات الواقع التي فرضت على البرهان معادلة متناقضة المعطيات، فهو يستجير بالإمارات وبمصر، ويستعين بالأخوان المسلمين في الداخل. لكن ورغم أنه منهم وقائد لجنتهم الأمنية، لكن الخطوات التي إتخذها البرهان لإعادة تكريس سلطة الأخوان بدءاً من حل لجنة إزالة التمكين ثم إعادتهم لمواقع إتخاذ القرار في الخدمة المدنية، وليس نهاية بما يشاع عن نقله البشيرللإقامة معه في القصر الجمهوري، كل هذا لم يكن دافعه الولاء أو الإنتماء للأخوان المسلمين، بل كان الهدف منه الإستزادة بسند شعبي، مهما ضؤل حجمه، ليضاف إلى ما تجود به الإنتهازية من مجموعة ميثاق قاعة الصداقة وإعتصام القصر الجمهوري. فالقليل يكفي، ذلك لأنه لا يسعى لسند حقيقي بل شكل مكمل لأكذوبة أن إنقلابه كان "لحماية الثورة". هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ليقدم لما يسمى زوراً بالمجتمع الدولي مبرراً لدعمه. أما القوة العسكرية، فهو وإن لم يضمن الجيش فهنالك حسابات أخرى، إذ يربطة المصير المشترك مع السفاح حميدتي وهو المحاسبة/المشنقة. إن معركتهما هي معركة حياة أو موت. فالبرهان يحتاج حميدتي لأن ولاء الجيش له ليس بخالصاً. وحميدتي يحتاج البرهان بجانبه ضمانة وعهداً للجيش أنه هو الحليف وليس العدو.



هل أخطأ البرهان الحسابات؟ وهل كان إنقلابه خطوة غير محسوبة القواعد؟ الإجابة بالتأكيد نفياً، فالصورة كانت أمامه واضحة تبلورت في موكب 21 أكتوبر الذي كان عرضاً لقوة الجماهير بجانب إعلانها التصعيد نحو المدنية الكاملة ورفع شعار الإضراب السياسي العام والعصيان المدني الشامل. وكان هذا يعني إقتراب وقت الحساب. فالبرهان لم يتهور ولم يخطئ الحسابات. فقد كان أمامه خياران لا ثالث لهما، الإنقلاب أو مواجهة مصيره المحتوم دون جدل.

وماذا عن الجيـش؟ وأين يقـف؟

في بداية الإنتفاضة وعند المحاولات الأُولى لفض الإعتصام كانت هنالك مواقف فردية لبعض الضباط وكانت إشارة بعثت الأمل في دور الجيش التاريخي في الإنحياز للشعب وعمت قناعة بأن الضباط من الرتب الوسيطة والدنيا هم الذين سيبادرون لنصرة الجماهير. أما قيادة الجيش فلابد وأن تكون إخوانية، فالوصول لمواقع القيادة كان يرتكز على الولاء. وقد كانت اللجنة الأمنية هي صمام أمان حكم الحركة الإسلامية (هكذا إتضح تعريف التنظيم الشامل) وقد تأكد ذلك بالتجربة. فالحركة إستمرت في حكم البلد بواسطة لجنتها الأمنية. لكن سرعان ما تبدد الأمل في إنحياز قواعد الجيش للجماهير من خلال دليل واضح وهو أن أولئك الضباط الذين صدوا الهجوم على الشباب في الإعتصام حوكموا وسجنوا ولم يحرك زملاؤهم في الجيش ساكناً. هذا مؤشر يجب أخذه في الإعتبار والعودة للتقييم المنطقي الحقيقي وهو أن الجيش ولطيلة ثلاثة عقود قد تمت أسلمته، بداية بالغربلة وإحالة كل من لا يكون ولاؤه للحركة الإسلامية للمعاش (وقد بدأت الغربلة منذ أيام المصالحة ومشاركة نميري الحكم). ثم رفد الجيش بالكوادر الإسلامية بمزهبة القبول للكلية الحربية. قد تكون هنالك بعض الإستثناءات، لكن غلبة العناصر الإسلامية مؤكدة وبديهية. فكيف نطمع أو نتوقع من الجيش مناهضة إنقلاب البرهان وهو يمثل العودة لإستئناف المشروع الذي جُندوا له والذي إقتضى وجودهم في القوات المسلحة. فإن لم يكن دعم البرهان فعلى الأقل يكون الحياد.



كذلك فهنالك حقيقة تجعل التجربة الحالية تختلف عن سابقاتها التي إنحاز فيها الجيش للجماهير، وقد تُربك حسابات اولئك الضباط، وهي أنه في السابق كانت إنتفاضة الجماهير على أنظمة ديكتاتورية أما الآن، فقبل إنقلاب البرهان الأخير، قد كانت للسلطة شكل توافق عليه العسكر والمدنيون. فإذا كانت هنالك إخفاقات فتلك قضايا السياسة، ومنتوجها بالنسبة للجيش هو تحييده. هذه هي المعطيات المربكة التي سبقت إنقلاب البرهان وهي حالة شبيهة بفشل حكومة الديمقراطية الثالثة وحالة الإحباط التي حيدت الجيش وأوصلته لسلبية ساعدت في إنجاح إنقلاب الأخوان في 1989. ثم إننا لا يمكن أن نفصل الجيش من طبيعته العسكرية فالكلام والخطب عن الديمقراطية والحكم الديمقراطي ليست بكافية لإقناع منسوبيه، فهم يحتكمون لمبدأهم المعروف "البيان بالعمل" والبلد في حالة أزمة طاحنة، وقعها على المواطنين أقرب إلى المجاعة منها إلى أزمة إقتصادية. فلماذا يتدخل الجيش وعلى ماذا عساه يحافظ؟ قد تكون هنالك إستثناءات قليلة لكن تمرد بحجم مؤثر لمقاومة إنقلاب لا يمكن أن ينجح بتمرد صغار الضباط وجنود منفردين ومتمردين على قيادتهم المباشرة والعليا.



هنالك مسألة قد تكون ثانوية، نسبياً، لكن لها دور تكاملي بجانب تلك المعطيات الأساسية، ألا وهي إمبراطورية الصناعات العسكرية التي قاتل البرهان للمحافظة عليها خالصة للجيش. فهل منسوبي الجيش راضين عن الدعوة لإتباعها للقطاع العام؟ هل هم على إستعداد للتخلي عن الإمتيازات التي ترفدهم بها عائداتها، وفي ظل الغلاء الطاحن الذي يضرب البلد. من المؤكد أن قِسطاً معتبراً من العائد الضخم يذهب للقيادة ولتنظيم الأخوان، لكن وبلاشك فإن الجيش عامة له نصيب. المستفيدين الأوائل هم قيادة الجيش لكن ذلك لا ينفي أنهم يتبعهم الأدني فالأدنى.



وفي نفس هذا السياق، حميدتي والبرهان حلفاء المصير المشترك وشبح المحاسبة على جرائم القتل الجماعي والتصفية العرقية وجرائم الحرب فوق رأسيهما يجعل من تحالفهما الخيار الوحيد. لكن أن يتحالف الجيش السوداني وجيش حميدتي فهذا من الصعب. لذلك فكل ما يقال عن أن البرهان يقوم بتصفية الجيش لحساب الدعم السريع هو حقيقة بل هو ضرورة قصوى بالنسبة للبرهان. وكل يوم يمر تتقدم المخططات وتصبح طريقة ووسائل إفشالها ليست مستحيلة لكنها أصعب. فخطب البرهان الموجهة للجيش ليست بخالصة لوجه الولاء له بل (موية تحت تبن). هذه هي بواطن أمور البرهان وقد يكون هنالك إضافات يصعب إختراقها من خلال قراة الظواهر فقط لكن من المؤكد أن للبرهان خطط أخرى لضمان مستقبل مترف بنصيب من الكعكة مؤكد. أما حميدتي وقد أصبح نجما عالمياً تعمل له اللصوصية العالمية ألف حساب، بل هو رجلها في المنطقة المستعد لكل أشكال المساعدة فمهمة الإرتزاق غير محدودة العطاء. وكذلك طموحاته.



ظاهـرة حميـدتي

حميدتي يؤسس لدولة كاملة الأركان؛ لها جيش جرار كامل العدة والعتاد والطاقة البشرية. وقاعدتها الشعبية هم مرتزقة الإدارة الأهلية. وما يحدث في الشرق ليس ببعيد عن مخطط حميدتي. فهو لم يستخدم تِرك فقط ليساهم في الفوضى الضاربة أطنابها في البلد لقطع الطريق أمام التحول الديمقراطي فقط،، بل دعم ترك ليكون قوة عسكرية وشعبية لها وزن. وأن تكون ذات تأثير ممتد ينعكس على استقرار البلد بشكل كامل.



هنالك أمر يستحق التوقف عنده، وهو أن حميدتي بدأ بتجنيد شباب القبائل في شرق السودان منذ أن كان البشير في السلطة. وقد استنكر الجميع تلك العملية لكن لم ينتبه إحد للبعد الإستراتيجي لها. فعندما أعلن حميدتي أنه لن يدعم البشير، رب نعمته، لم يكن ذلك وكما ظننا، لتاكده من أن أسهم البشير قد نفذت وأن البشير ساقط لا محالة فاختار جانب الجماهير التي كان انتصارها يلوح في الأفق. الآن يمكن أن نعيد قراءة موقفه، فحميدتي كان يعمل وفق مخطط مدروس وكانت تلك هي الظروف المواتية لذلك المنعطف واللحظة المناسبة للصعود.



قاطع الطرق السفاح هذا لا يمكن أن يكون بهذه العبقرية. ما هو مؤكد أنه ليس بالغبي بل من الضروري أن يكون هو من وضع الخطوط العريضة للمخطط، لكن هذه الخطط الاستراتيجية لابد وأن هنالك من يضعها. وكل العصابة الدولية على إستعداد لدعمه لوجستيا فهو النموذج المثالي الذي يضمن لها مصالحها في البلد ثم المنطفة. فهو مرتزق بطبيعة الحال. للأسف فإن العصابة الدولية قد استشرى نفوذها وإمتد من الولايات المتحدة غربا مرورا بالإتحاد الأوربي وروسيا وحتى الصين شرقا. تختلف الرؤى لكن الغرض واحد وهو الأطماع وتمدد النفوذ. وحتى تضارب مصالح كارتيلات هذه العصابة تدفع البلد ثمنها وثمن معاركها. فكلٌ يريد أن يستخدم هذا البلد الهامل، والذي ويا لجبن هؤلاء، شبابه يقدمون أرواحهم فداء لحريته وكرامته. وتسيل دماؤهم أنهاراً دون أن تلين لهم قناة. هذا عالم من الجبن والخسة سيقف عنده التاريخ محتاراً كيف يصنفه وفي أي خانةٍ يضعه.



ليس أمام الجماهير غير التصعيد المستمر والمواجهة المستمرة. فهذه هي الطريقة الوحيدة لإرباك خطط قاطع الطريق السفاح هذا. و"السفاح" هذه مهمة فهذا لن يتوانى عن إرتكاب أي مجازر. لذلك فمن المهم الآن وفي هذه اللحظة المفصلية أن نضع نصب أعيننا أن حميدتي أمام خيارين: المُلك أو مواجهة حكم القانون. وليس هنالك منطقة وسطى بل يستحيل وجودها حسب معطيات الواقع.



مخطط الجبروت المالي

هؤلاء الذين ينافقون في وقوفهم مع شعب السودان، يحملون هم وأذيالهم في المنطقة واللجنة الأمنية التي نفذت مخططهم لفرملة الإنتفاضة لتتوقف عند الهبوط الناعم، يحملون وزر سفك دماء كل الشهداء الجواسر الذين حلقوا في السماء ولم يسقطوا، بداية بجريمة فض الاعتصام الوحشية وحتى شهداء اليوم. هذه جريمة لن يحجب حقيقتها خداع هذا المبعوث أو ذلك المتحدث في الكونغرس، أو برقُ قانون الإنتقال الديمقراطي الخُلب والذي هو في حقيقته إنتهاك لكرامة هذا الشعب الجسور الذي لا يشبهه أن يحدد مصيره قرار يصدر من برلمان بلد آخر، أياً كان هذا البلد وحتى وإن حسُنت النوايا.



هؤلاء الآن يسعون بكل الوسائل كي يعود الحال كما كان عليه قبل خمسة وعشرين أكتوبر. ويحاولون طمس الحقيقة الساطعة وهي أن الشعب قد خرج في واحد وعشرين اكتوبر رافضا لحكم اللجنة الأمنية، ناشداً استعادة الإنتفاضة والسير بها إلى الحكم الديمقراطي الكامل واسقاط سلطة اللجنة الأمنية. ولم يكن إنقلاب البرهان إلا ردة فعل جبانة لإصرار الجماهير على إسقاط سلطته. هذا هو الحال قبل 25 أكتوبر الذي يتجاهله هؤلاء، لكن عصابة اللصوصية العالمية تريد أن تعيد كرة فرض الهبوط الناعم، ذلك لإستبقاء السلطة التي تنفذ أجندتها في البلد وفي المنطقة. وليجعلوا من السودان مركزًا لسيطرتهم على إفريقيا والشرق الأوسط. فهؤلاء لا يقدموا مساعدة مجانية. هم يخدمون أجندتهم التي يعلمها الجميع، والتي لا تخفى على أحد.



كل الجهود التي تمارسها العصابة الدولية الآن ما هي إلا إنزعاجاً من سقوط مخططها. فخوفهم الحقيقي ليس من البرهان. فهم يعرفون أن البرهان سيكون رهن إشارتهم، خاصة مع فقده لأي سند داخلي. لكن خوفهم الحقيقي هو الشارع الذي يرفض مشروعهم ويطالب بالتغيير الجذري. لذلك فهم يتعجلون قطع الطريق عليه.



ليس هنالك أنسب من الحكم العسكري لتنفيذ المخططات الخارجية.فالطغمة المالية يمكن أن تقف مع إنقلاب متخفي. ليس فقط الوقوف إلى جانبه بل التخطيط له وإيكال تنفيذه لعملائها. لكن من الصعب عليها الوقوف مع إنقلاب كامل الدسم والصورة كهذا، وهي التي تملأ العالم ضوضاءاً بأكذوبتها عن حماية الديمقراطية. إذ لا يمكنها أكل الكعكة والإحتفاط بها في نفس الوقت. لذلك فهي تسعى الآن لتجاوز المأزق الذي خلقه إنقلاب البرهان. أما تلك الترهات التي ترددها عن أن البرهان قد نفذ انقلابه دون علمها وتلك الصورة الهزلية سيئة الإخراج، وهي طلبها المساعدة من إسرائيل بالتوسط بينها والبرهان، فذلك عصي على التصديق. والدليل الواضح كالشمس أن الإنقلاب لم يأت فجأة ودون مقدمات، فقد سبقه إعداد مكثف وخطط تمهيدية أريد لها أن تطرحه كحل أوحد للفوضى الأمنية والمعاناة الطاحنة وقد أُخرجت موامرة تِرك وبتأثيرها الشامل على كل الجبهات لتمثل الإختناق الذي يستلزم التحرك العاجل الحاسم. لم يكن الإنقلاب على عجل يفاجئ الحلفاء الأقربون فهذه "لا تدخل الرأس". الحقيقة أن الإنقلاب كان محاولة للمضي الأعمق في مخططاتها رفقة البرهان فإن نجح ووجد الغطاء المدني المناسب كان بها، وإن فشل فهنالك الخطط البديلة. وفي الحالتين فليس هنالك خسارة. فقط قليل من الدماء، فهؤلاء تعودوا استرخاص دماء الشعوب.



بعد أن أصبح أسلوب تبديل الحكومات الذي يدبره أخطبوط مخابرات الطغمة المالية بقيادة السي آي إيه، منتهي الصلاحية، في عالم المعرفة هذا والذي تقدمت فيه أدوات الحصول على المعلومة وسقط مصطلح الغموض من قاموسه، كان لابد من إيجاد بديل يقود الشعوب لحالة الإرتهان السياسي والإقتصادي. ولعلهم قد توصلوا، والشكر للفكر الإشتراكي، لِأن التبعية الإقتصادية هي القاطرة الناجحة للتبعية السياسية. وليس من الصعب وجود دول نامية، وهي وجهة الطغمة المالية التاريخية، تعاني من الأزمات الإقتصادية بما يجعلها صيدا سهلاً لِشراكِها. فهنالك من البلدان ما تعاني من سجل ضعيف للإقتصاد الكلي ومعدلات عالية من التضخم وعجز في الميزانية وفي ميزان المدفوعات، وعب ثقيل من الديون. وذلك كان حال السودان الذي عانى من هذه الأزمات مجتمعة ولا غرو في ذلك فهي مصادر مشتركة ومتشابكة.



مفهوم أن تعقيدات الواقع الإقتصادي للسودان تقيد خيارات الخروج من الأزمة ومواجهة الإحتياجات الملحة والضاغطة. فكل الحلول طويلة الأمد أو حتى الآنية محاصرة ببنية تحتية تجعل من الصعب الإتجاه لتوظيف الموارد وأن تكون هي وجهة للإسعاف أو الإصلاح الاقتصادي. فموارد البلد كانت دوما قاعدة لإقتصاد ريعي يصدر الخام ويستورده مصنعاً بأضعاف عائده. ثم، وما وافق هوى الرأسمالية الطفيلية، نسبة لسهولة نهبه، هو الإعتماد ريعيا على سلعة واحدة كانت البترول، وبإنفصال الجنوب ذهب 75٪ من انتاج النفط، فتبع ذلك انهيار متوقع للاقتصاد، مغالٍ من لا يسميه بالانهيار. وقد حاولت الرأسمالية الطفيلية تلافي ذلك الإنهيار بخطط اللصوصية على جنوب السودان بانتهازيتها المعهودة وبفرض جبايات عالية على العبور لم يكن لاقتصاد الجنوب أن يتحملها وهو الذي ولد متهالكا بدوره فكان لابد أن تفشل. اعتماد الاقتصاد على سلعة واحدة يعرضه للانهيار في حالات الصدمات المفاجئة. فصدمة حجبت 75% من إيرادات الموازنة العامة حرية بالتسبب في إنهيار غير مسبوق.



السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، هل كان صندوق النقد بعيدا عن ما حدث لاقتصاد البلد من إنهيا ر؟ وهل ترددت حكومة الرأسمالية الطفيلية في اتباع روشتات صندوق النقد فهل انقذتنا تلك الروشتات أم زادت إقتصادنا غرقاً بل إغراقاً لأنها هي المسئول الأول عن تواصل الإنهيار. فقد تبعت حكومة البشير سياسات الصندوق ونفذت وصفاته تلك التي يمنينا السيد حمدوك بأنها المنقذ "الباتع سره". لم تتردد الرأسمالية الطفيلية في تنفيذ تلك الوصفات لأن تبعاتها المدمرة تقع على الشعب، وهو آخر ما يعنيها. ما يؤكد أن السيد حمدوك قد أتانا متأبطاً إملاءات صندوق النقد ومتعهداً بالإلترام بتطبيقها مهما كلف الثمن، أن تلك المصفوفة تقف على النقيض تماماً من أي حل ممكن للقضية الإقتصادية الأولى في البلد والألح إطلاقاً، وهي المعاناة الطاحنة للشعب التي تضرب معايش الناس في حياتهم اليومية. فالمشروع الإقتصادي الذي يتبناه السيد حمدوك صب الزيت على نارها المشتعلة أصلاً. فسياسات التكيف الإقتصادي التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية والتي تشمل كل من التثبيت الإقتصادي، وهو تبني سياسات قصيرة المدى يعدها ويمليها صندوق النقد الدولي، والتكيف الهيكلي الذي تتبناه البنوك الإقليمية بقيادة البنك الدولي. ويشمل الأخير تحرير الاقتصاد والتجارة من خلال رفع السيطرة والضبط وإتباع الخصخصة، لكن ما يهمنا هنا وفي سياق قضية رفع المعاناة اليومية هو برنامج التثبيت الإقتصادي الذي يشترط صندوق النقد الإتفاق عليه مع الدولة المعنية قبل تقديم القروض. تلك القروض التي يدفع البلد ثمنها على مدى ليس بالبعيد، لكن لنبقى في القضية الملحة وهي المعاناة الطاحنة.

الشاهد أن سياسات التكيف الإقتصادي هذه والتي يشترطها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هي إمتداد لنفس السياسات التى نفذتها حكومة الرأسمالية الطفيلية والتي أوصلت البلد لمرحلة الإنهيار. تلك النتيجة الحتمية التي لازمت تنفيذ وصفات صندوق النقد الدولي في تجارب كل الشعوب. الأمر الوحيد الذي يفرقنا عن تلك الدول، اليونان مثالاً، أنها تبنت تلك السياسات مرغمة وكشرط يفرضه عليها واقع البلد الإقتصادي، لكن وزير مالية حمدوك في حكومته الأولى قد أشبعنا إمتداحاً للبرنامج وأن تبنيه هو الطريق الأوحد للإصلاح الإقتصادي. وهذا ما طفق يمنينا به السيد حمدوك حتى الآن. هذه الوصفة هي أساس لموجهات كاملة للإقتصاد. ويمكن تلخيص هذا البرنامج في مبادئه العامة وهي: إدارة الطلب بالتركيز على خفض معدل الطلب المحلي. أي إلغاء البرامج المركزية. وغل يد الدولة عن فرض أي قيود على السوق. وهذه هي أطروحة النيوليبرالية التي يتبناها صندوق النقد الدولي. إنها ترتكز على تقليص صرف الدولة على الخدمات العامة من صحة وتعليم ودعم ذوي الدخول المحدودة. بما يعني أن المبدأ العام الذي تقوم عليه وصفة صندوق النقد الدولي هو التقشف. أفلا يكون مدهشاً حقاً أن تنفذ هذا البرنامج حكومة أُختيرت بتكليف من الجماهير لرفع المعاناة عن كاهلها كمهمة أولى. هذه لعمري لمهزلة. السياسات التي تمليها المؤسسات الدولية ويتبعها السيد حمدوك تستهجن تضحيات الشعب السوداني الذي سدد إستحقاقات التغيير مقدماً وكانت ضريبة عزيزة، دماء وأرواح، وعمل دوؤبٌ قاسٍ أستمر بإصرار ممتد وطويل من حيث الزمن والنوع.



وهل تجدي هذه السياسات في الإصلاح فعلاً؟ الإجابة تأتينا من اليونان فهي أقرب النماذج لواقع الإقتصاد السوداني حيث كانت نسبة الدين للناتج المحلي في إرتفاع مستمر. ومعروف دور القروض وشروط التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي والإتحاد الأوربي في معاناة الشعب اليوناني والذي صوت لإئتلاف سيريزا الذي رفع شعار رفض سياسات التقشف كأساس لبرنامجه الإنتخابي. فتخلى سيريزا تحت ضغوط الضائقة الإقتصادية عن وعوده وإضطر للإستعانة بصندوق النقد فماذا جنى من تلك الخطوة؟ وهل قاد صندوق النقد الإقتصاد إلى الى بر التعافي؟ فاقمت قروض صندوق النقد وشروطها وفوائدها ديون اليونان فكانت النتيجة الإنجرار وراء قروض بشروط أصعب قادت إلى عجز اليونان الكامل عن السداد. فأعلن صندوق النقد هذا العجز والذي يعتبر بالمقاييس الدولية بمثابة إعلان إفلاس للبلد المعني. وقد غرد صندوق النقد للشعب اليوناني بإنشودة أمل دنقل "لا تحلموا بعالم سعيد" حيث قدر" أن وصول دخل الفرد الحقيقي في اليونان، قد يستغرق نحو 15 عاما، للوصول إلى مستويات ما قبل الأزمة." وذلك في تقريره الصادر في سبتمبر 2019.

وتجربة البرازيل كذلك قد تكون مشابهة لواقعنا أو في الحقيقة مشابهة لبداية خطوات الحكومة الإنتقالية مع صندوق النقد بل قد تكون متطابقة: بدأت حكايتها تماماً كما يحدث الآن مع السودان مع خدعة القروض التجسيرية. فقد قدم صندوق النقد للبرازيل قروضا جديدة مدعياً مساعدتها في سداد القروض القديمة فلم ينتج عن ذلك إلا مزيداً من التوحل. وبحسب الإقتصادي إبراهيم مصطفى، "العقد الضائع من حياة البرازيل شهد نقل هائل للثروة الوطنية إلى خارج البلاد حيث دفعت الحكومة البرازيلية بين عامي 1985 و1989 ، 148 مليار دولار : 90 مليار دولار منها لفوائد القروض الأجنبية. خلال أربع سنوات دفعت البرازيل 90 مليار دولار فوائد فقط للديون، وبسبب صندوق النقد هاجر 4 ملايين من الريف إلى المدينة، حتى أن البنك الدولي يتدخل في وضع الدستور البرازيلي ويشعل الصدامات في صفوف الشعب البرازيلي." (صحيفة البورصة المصرية 8 مارس 1917).



أما تجربة الأرجنتين فكانت فاضحة لدور دول اللصوصية الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة والتي تغرق الدول الفقيرة في الديون وتلزمها بتسديد القروض وعلى رأسها الفوائد التي تعود لدول الطغمة المالية ويفرض صندوق النقد وصفته التي تجعل سداد تلك الفوائد عبئاً يتحمله فقراء الدول النامية بتقليص كل المساعدات المباشرة وغير المباشرة التي تقدمها الحكومة للمواطنين وفرض الضرائب التي تزيد من معاناتهم.



وهنالك عشرات التجارب من تدمير لإقتصاد الدول النامية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وإفقار شعوبها بواسطة وصفات صندوق النقد التي لا تحمل معها إلا المزيد من الإفقار لا غير.



تحاول الطغمة المالية الآن إعطاء فرصة للجنة الأمنية لتتدبر أمر إجراءات تكون "معقولة" ومقنعة إلى حد يمكنها على الأقل من تجميد قراراتها المنافقة لمعاقبة الإنقلابيين. لن يكون التجميد معلن لكنه سيأخذ شكل المماطلة التي تعقب توقيع الرئيس جو بايدن. فهذه الإجرءات هي مادة للبروباغاندا فقط. يقرر الكونغرس وتملأ الإخبار الإعلام ثم وبعد إنتظار أيام بحجة التعطيلات البيروغراطية يوقع جو باين. وبعد أن يخفت مفعول توقيع بايدن تبدأ المطاولات والتمسك بكل تقدمٍ في السودان خادعٍ مفتعل كحجة لتأخير التطبيق.



#نجاة_طلحة (هاشتاغ)       Najat_Talha#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فقط كفوا أيديكم
- الإحتفاء بذكرى يوليو المجيدة
- في مئوية نجاح الثورة البلشفية - كيف يتحصن الحزب الثوري من ال ...
- إلى الثورة البلشفية العظمى في عيدها المئوي - راهنية الماركسي ...
- وداعاً فيدل الجسور فهكذا يجب أن يكون الشيوعي والا فلتنفض الم ...
- خواطر من وحي الجدل الشيوعي/الشيوعي حول إنهيار الرأسمالية
- المآزق تحاصر البرجوازية: الولايات المتحدة مثالاً (2)
- المآزق تحاصر البرجوازية: الولايات المتحدة مثالاً (1)
- لمن تقرع الأجراس - الحزب الشيوعي السوداني وسبعون عاماً من نش ...
- تعقيب على مقال الأستاذ امال الحسين -أي دلالة لفاتح ماي في عص ...
- الرأسمالية تنازع الإحتضار فهل نعيش عشية الثورة الإجتماعية ال ...
- الدفاع عن ديكتاتورية البروليتاريا دفاع عن الماركسية
- بوادر إنهيار النظام الرأسمالي
- صعود بيرني ساندرز: سقوط الدعاية البرجوازية ونهوض الجماهير ال ...
- الماركسية ودعوة الإنفتاح على المعارف الإنسانية
- عودة المعونة الأمريكية للسودان - وجب دق ناقوس الخطر
- الإقتصاد الصيني لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى - هل سينفض مولد ...
- برنامج الحزب الشيوعي السوداني - العدالة الإنتقالية والمصالحة ...
- تصدعات في عرش الرأسمالية - أزمة البطالة
- كارثة تعويم سعر صرف الجنيه السوداني


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - نجاة طلحة - قراءة أُفقية لخريطة الراهن السياسي (السودان) (1)