أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات - عزيز محب - الطاعة او نهاية العالم : استراتيجية الردع















المزيد.....


الطاعة او نهاية العالم : استراتيجية الردع


عزيز محب

الحوار المتمدن-العدد: 7076 - 2021 / 11 / 13 - 22:38
المحور: ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات
    


"الطاعة أو نهاية العالم :إستراتيجية الردع" هو عنوان لمقال كتبه الفيلسوف الاسباني AMADOR FERNÁNDEZ-SAVATER (✸)بعد مرور حوالي 7 أشهر على ظهور فيروس كوفيذ 19 في الصين (نهاية دجنبر 2019) وبعد حوالي 3 أشهر (مارس 2020) على سريان "حالة الطوارئ" التي لجأت إليها غالبية حكومات العالم تحت غطاء "الحجر الصحي". ورغم مرور أكثر من سنة على تاريخ صدوره، فان المقال، لا يحتفظ براهنيته فحسب، بل يبدو أن راهنيته تزداد مع مرور الوقت. وهذا هو العامل الذي كان حافزا لترجمة هذا المقال،لكنه ليس هوالعامل الوحيد. فقد سبق لي أن كتبت مقالتين حول أزمة كورونا: الأول تحت عنوان "فيروس كورونا : أزمة الوعي الاجتماعي بمخاطر الأزمة البيئية" (ماي 2020) والثاني تحت عنوان " التوظيف السياسي لوباء كورونا"(شتنبر 2020 ) (✸✸) . المقالان يطرحان فكرتين رئيسيتين،الأولى حول الأسباب العميقة للوباء واعتبرت فيها: انه بغض النظر عن الرحم الذي خرج منه ،المختبر أو الطبيعة، فان فيروس كورونا هو في النهاية "من صنع بشري". فبوضعه في سياقه الاقتصادي (الأزمة الايكولوجية ) والتاريخي ( تحول الإنسان إلى قوة جيولوجية أو ما بات يعرف بحقبة الانتروبوسين) هناك احتمال أن يكون وباء كورونا احد نتائج تسمم النظام الايكولوجي العام الناجم عن علاقة العف بين الإنسان والطبيعة. والفكرة الثانية تتمحور حول "سياسة مكافحة الوباء" التي لجأت إليها حكومات العالم. فمن خلال مقارنة هذه السياسات مع الاستراتيجيات المعمول بها لمكافحة الأوبئة (إستراتيجية القضاء على الوباء وإستراتيجية احتوائه) يمكن أن نستنج أن ما يجري على ارض الواقع هو إستراتيجية ثالثة وضعتها تحت عنوان : التوظيف السياسي للوباء.
لكن المقالين يشكوان من حلقة ظلت مفقودة في خطهما التحليلي : ماهي الإستراتيجية السياسية التي تختفي خلف التوظيف السياسي للوباء؟ المقال الذي نقدمه مترجما للقارئ العربي، يوضح بشكل فريد هذه الإستراتيجية (إستراتيجية الردع). وهو لا يقف عند هذا الحد، بل يقدم بعض عناصر التفكير في إستراتيجية بديلة للتخلص مما سمته الفيلسوفة البلجيكية ايزابيل ستينغر، "البديل الجهنمي" .
يتناول الفيلسوف الاسباني أمادور فرنانديز بالتحليل، "وباء كورونا" ليس كوباء طبيعي، بل كوباء سياسي. وعلى خلاف التشخيصات "العلمية المزيفة" (العلم كايدولوجيا) التي جعلت من أصل الفيروس (طبيعي أم مصطنع) موضوعتها الرئيسية، وخلافا للنقد السطحي المتقوقع حول نقد القيمة العلمية للقاح (قيمة طبية أم قيمة تجارية)، يقدم أمادور فيرنانديز تشخيصا بديلا، ينطلق من دراسة الأعراض السياسية للوباء (سياسة الردع) ليقف على أسبابها ( فوضى النظام الرأسمالي). وبعد تشريحه الدقيق لإستراتيجية الردع يقدم عناصر استراتيجية بديلة للتخلص من "البديل الجهنمي" الذي تنشده القوى الرأسمالية لإعادة هيكلة نظام سيطرتها على العالم.

مقال امادور فيرنانديز سافاتير (ترجمة عزيز محب)

لنفترض ظهور بؤر وبائية جديدة، وموجة ثانية وثالثة...، وكجواب عن ذلك، الإعلان عن حالة الطوارئ والتصعيد من جديد. في هذه الحالة سيكون شبح نهاية العالم هو الديكور المناسب والأمثل لتنشيط إستراتيجية الردع: الامتثال أو نهاية العالم.

بالرغم من كون كلمة "التصعيد" و"تخفيف التصعيد"تدخل ضمن قاموس الحرب، فان عددا كبيرا من الحكومات لجأت إلى توظيفها لإنتاج وإعطاء معنى (خطاب) لنمط تدبيرها السياسي للجائحة وفق معادلة التكلفة والربح .
ويعود استعمال هذه الكلمات إلى ما يسمى "إستراتيجية الردع" خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. حيث كانت هذه الإستراتيجية تقتضي بعث رسالة إلى العدو لتحذيره من القدرة على الرد بقصف نووي حتى في حالة التعرض لهجوم قاتل.

سياسية الردع هي "فن إنتاج الرعب في ذهنية العدو" حسب تعبير الدكتور فولمار (1) (بيتر سيلر) في المسرحية الهزلية لكوبريك (الدكتور فولمار) النازي السابق الذي تحول إلى مستشار للرئيس الأمريكي. و قد كان هذا هو المبدأ الأول الذي تأسس عليه "نظام عالمي جديد" قائم على بديل جهنمي : السلام أو نهاية العالم. وحسب تعريف الجنرال والمنظر (النازي) فون كلاوس فيتش، فان "التصعيد إلى الحد الأقصى" هو جوهر الحرب كاقتتال " حتى الموت". التصعيد لتجنب الهزيمة.....انه "توازن الرعب": الموت أو العيش المشترك.
لكن الرعب ليس شيئا آخر غير "الحرب بوسائل أخرى"، فسياسة "التصعيد" هي رسالة تحذير إلى الآخر بالقدرة على تدميره. وقد وجدت هذه الرسالة ترجمتها إبان الحرب الباردة في سياسة السباق نحو التسلح وحرب النجوم وزيادة حدة التوترات والتهديد في كل نزاع صغير، كما هو الحال في أزمة الصواريخ سنة1962، بخطر حرب مدمرة للعالم.
من يريد السلم عليه الاستعداد للحرب. لان هذا الاستعداد هو السبيل لتجنبها: هذه هي دبلوماسية العنف في ظل نظام قائم على التهديد بالموت كسيد مطلق.

هل من معنى اليوم لتجديد خطاب الردع في سياق تدبير جائحة كورونا؟. لا يبدو أي معنى لذلك. فالوباء لن يتراجع لان حكوماتنا "تهدده" بقوة سلاحها و تحذره بالتصعيد حتى التذمير الشامل. كما ان فيروس كوفيذ 19 لا يمكن حتى مقارنته مع "خلية نائمة" في "الحرب ضد الإرهاب"التي خيم شبحها خلال العقود الأخيرة : فالفيروس لا ينوي القضاء على الحضارة الغربية ولا يحمل مشروعا لفرض خلفية من سلالة الفيروسات. كل ما يسعى إليه هو ضمان استمرار وجوده (أكان هذا الوجود فيزيائيا أو كيميائيا).
لكن الإستراتيجية الفعلية والعملية والحقيقية التي تنهجها الحكومات ضد الفيروس، هي في الواقع اقرب إلى تكتيك عسكري لمكافحة الانتفاضات: قطع الماء عن السمك لكي يموت..... ولا يختلف الحجر الشامل على السكان في حالة أزمة كورونا عن هذا التكتيك.
الكلمات ليست بريئة ولم تكن يوما كذلك، واقلها براءة تلك المستعملة من قبل حكومات العالم بأسره في مثل هذه اللحظات. فهي بمثابة عمليات تستهدف إنتاج مفعول يمارس تأثيرا على السلوكات والتخيلات. فالتهديدات والتعليمات والاستعارات التي تفكر فينا، قد حولت سياسة تدبير الأزمة بكاملها إلى آلية دعائية. لهذا لا ينبغي أن يكون المرء مغفلا أو ساذجا إزاء الكلمات التي تستعملها الدوائر العليا للدولة، بل عليه أن يتعلم كيفية قراءتها على المستوى الاستراتيجي.
ما هي ادن هذه الرسالة التي تريد حكوماتنا بعثها من خلال خطاب الردع؟ ولمن تتوجه برسالتها؟.
الإخوة الأعداء
لنعد قليلا إلى الحرب الباردة. فمن منظور المحللين النقديين الأكثر فطنة، لم يكن خطاب الردع خلال تلك الحرب مجرد شكل من أشكال "الحوار" و"التأثير المتبادل" بين القوى العظمى، بل كان أيضا وأساسا أداة من أدوات "الحكم المشترك للعالم". فقد ساعدت جدلية "الولايات –الاتحاد" على تقسيم الكوكب بين هاتين القوتين، لإخضاع الأمم الصغيرة الحديثة العهد بالاستقلال واستبعاد إمكانية بروز "لاعب ثالث" غير مرغوب فيه.
لم يكن النظام الذي خرج من أحشاء "الردع النووي" أمريكيا أو سوفياتيا، بل كان بمثابة رقعة شطرنج لترتيب العالم بأسره بين "بيض وسود" وإخضاع كل نزاع محلي- مسلسل تحرر وطني، حركة اجتماعية- لضوابط مخطط اكبر منها. فقد كان التوازن المرعب بين "الإخوة الأعداء" يشتغل كآلية إستراتيجية لإغلاق كل المنافذ لتجنب المفاجئ واستبعاد غير المتوقع . السلام للجميع، نعم، لكن تحت وصاية ولي الأمر والسيادة البوليسية للقوى العظمى. كما كان التوتر بين الكبار آلية لخفض التو ثر بين الصغار. فكل نزاع كبير يؤدي عادة إلى وقف النزاعات الصغرى أو تخفيف حدتها . وبهذا الشكل تم ردع كل إمكانية لصعود لاعب ثالث محتمل.

هل هناك دواعي لإعادة بعث إستراتيجية الردع من جديد لتنشيطها خلال أزمة كورونا؟
إذا كان من غير الممكن البحث عن "توازن الرعب" في العلاقة مع الفيروس- أو مع مخاطر أخرى محتملة أو قائمة- فان ما يجري على ارض الواقع هو توظيف لشبح الكارثة كإستراتيجية لردع الشعوب. لكن ردعها ضد ماذا؟

كل أزمة، شخصية أو جماعية، يترتب عنها بروز ثقوب. فمن بين تجليات الأزمة ، تصدع الانسجام في المعنى الذي كانت تستند إليه الحياة اليومية والذي يتجسد من خلال سلوكاتنا واشتغال بنياتنا الاجتماعية. ونتيجة هذا التصدع، يتولد الإحساس بالقلق والمعاناة، و في نفس الوقت ينفتح بشكل موضوعي، المجال لطرح الأسئلة الجذرية حول حالة الحياة الاجتماعية ومستقبلها. يمكننا ادن الانطلاق من الثقوب الصغيرة التي فتحتها أزمة كورونا، للتفكير وطرح الأسئلة، كما يمكننا أيضا استغلال هذه الثقوب كمنافذ للخروج من النفق والمرور عبرها إلى الضفة الأخرى. فالثقوب، باعتبارها تشقق وتفكك في المعنى، تخلق الشروط الموضوعية، لانطلاق البحث عن معنى جديد والتفكير في عمليات التحول (الحميمي والاجتماعي).

خلال أزمة كورونا، ظهرت العديد من الثقوب الجديدة (وانفتحت أخرى قديمة) بشكل متوازي ،على صعيد كوني و على المستوى الفردي والاجتماعي. فمن كان يتصور (قبل الأزمة) خروجه من حالة اللامبالاة والتخدير، من كان يتصور عدم جدوى الرجوع إلى رصيدنا المعرفي السابق (لمواجهة الأزمة) ومن كان يتصور أن الثقوب تسمح برؤية ما لم تسمح برؤيته الشاشات؟
ومن بين ما سمحت هذه الثقوب برؤيته، وحشية الانقسام الاجتماعي،على المستوى الطبقي والعرقي وعلى مستوى النوع والعمر. هذا الانقسام الذي يخترق مجتمعاتنا كشرخ مهول: التمييز بين من يحضون بامتياز "المناعة" ومن لا مناعة لديهم، بين من يتمتعون بالحماية والذين لا حماية لديهم، بين من تمتعوا بالحجر الصحي والذين سهروا على تمتع الآخرين به، بين العلاجات الضرورية و قيمتها الاجتماعية، والذي وجد تجسيده الصارخ في الهشاشة الاجتماعية لشغيلة المرافق الصحية.
ومن بين ما كشفت عنه الرؤية من خلال الثقوب أيضا، طبيعة نظامنا الاقتصادي المفترس، القائم على تجاهل الطبيعة والعدوان المستمر عليها، تصورنا للمدينة كمصيدة والانتشاء بصور الحيوانات وهي تتلاشى أطرافا خلف جدرانها الإسمنتية، كما تناقلتها آلاف الفيديوهات عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
إن مجرد الاستماع إلى الطيور وهي تغرد في المدن والتجول في شوارعها دون هدف وهي خالية من وسائل النقل....يسمح باكتشاف ضرورة علاقة أخرى ممكنة مع عالمنا ويخلق الرغبة في رؤية شيء آخر مختلف.
ومن بين ما كشفت عنه أيضا هذه الثقوب، هذا الجنون القاتل المتمثل في إخضاع الحياة لنظام منطقه "هل من مزيد": الإنتاج من أجل الاستهلاك، كضرورة لا حد لها. كما فتحت تجربة الحجر أعيننا فجأة، على "الأنشطة الضرورية" وذلك من خلال تجربة ملموسة لحياة بطعم آخر، حياة متحررة من الضوضاء والتوتر اليومي. هذا الاكتشاف هو ما يجري احتقاره الآن، كرهاب للتخويف من العودة إلى حياة طبيعية بطعم جديد، كما أبانت عنه بوضوح ألاف الأمثلة حول عيشنا، في أمكنة مختلفة وبطرق متنوعة، لتجربة حياة فريدة.
و الأزمات الشخصية والايكولوجية والاجتماعية هي الأخرى لها تقويها. ومن شان تضافر هذه الثقوب، تفجير الغضب ضد هذا الشرخ بين واقع الأشياء والرغبة في أشياء أخرى وإمكانية العيش في هذا العالم بشكل مختلف. كما يمكن أن تشكل هذه الثقوب منفذا لبروز تعبيرات جديدة وصراعات ومقاومة وتمردات في الفترة القادمة.
أمام هذه الاحتمالات، وكرد فعل عليها،يسعى خطاب الحرب، إلى تبليط كل الفضاءات لسد ثقوبها، كي لا يمنحنا ما جرى فرصة للتفكير ودافعا للفعل.
لم تعد حرب الردع تجري بين الجيوش، بل أصبحت تدور رحاها بين نظام مثقوب وشعوب صاعدة، قادرة على اكتشاف هذه الثقوب واختراقها. هي حرب تسعى قبل كل شيء، إلى استغلال خوفنا من المجهول لردعنا بسلاح الرعب وشل قدراتنا على التفكير والفعل. كما تسعى إلى ردعنا عن الاصطفاف الجماعي في مواجهة خطر فعلي قائم، بحرف أنظارنا نحو عامل قد يتسبب في خطر محتمل. وهي تعمل على الاستثمار في عدم معرفتنا، لإعادة إنتاج الضعف فينا ودفعنا إلى تفويت إرادتنا لغيرنا: كل شيء يجب أن يتغير لكي لا يتغير أي شيء (معيارية جديدة).
إن سياسة الردع، باعتبارها استمرار للحرب بوسائل أخرى، تستهدف عسكرة المجتمع لشل حركته وحرف اتجاهها، لكي لا تقود إلى"نحن بدون تقسيم" (وحدة جماعية). ويجري هذا عبر تطهير المجتمع من كل ما هو حميمي وجماعي وكل ما من شأنه أن يفضي إلى وعي سياسي جديد. إن الهدف النهائي لسياسة الردع هو تحويل المجتمع إلى ساكنة يتألف أفرادها من ضحايا وناجون من الموت، ساكنة لا مطلب لها غير الإنقاذ.
لا يعرف، ولا يمكنه أن يعرف ولا يريد أن يعرف
لنتخيل ظهور بؤر وبائية جديدة وموجة ثانية وثالثة .....من تفشي الوباء مع ما سيرافقها من حجر و إجراءات تصعيدية جديدة، كجواب وحيد على الكارثة....هل سيعود العالم من جديد في هذه الحالة إلى نوع من الحرب الباردة الدائمة؟. لكن في هذه الحالة، ستكون الحرب،في غياب عدو واضح، حربا ضد عدو محتمل، هلاميا لكنه دائم الحضور. سنكون أذاك وجها لوجه مع مختلف أوجه "اقتحام جايا" (2) ( ايزابيل ستينغر) لنمط حياتنا القائم على السيطرة وافتراس الكوكب؟
سيكون شبح "نهاية العالم" هو الديكور المثالي لإعادة تنشيط إستراتيجية الردع من جديد: الطاعة أو نهاية العالم. فهل نمتلك القدرة على التفكير المبكر في وضع كهذا؟ وبأي معنى سيكون تفكيرنا مختلفا عما كنا نعرفه إلى حد الآن؟
لننطلق من هذه الأطروحة: الردع سلطة لا تعرف، لا يمكنها أن تعرف وهي لا تريد أن تعرف.
لا يعرف: لم نشهد من قبل، اللهم في مناسبات نادرة، اعتناق القادة السياسيين بشكل واضح لعقيدة الجهل. لقد فاجئنا وهم يصرحون " نحن لا نعرف": لا نعرف نحن في مواجهة ماذا ولا نعرف حقيقة هذا الفيروس ولا نعرف هل سيتحور أم لا و لا نعرف إمكانية صعود موجات جديدة أم لا. والحال أننا قد تعودنا في السابق على سلطات تحتمي خلف خطاب المعرفة المطلقة بكل شيء: الايدولوجيا والخبرة كخطاب.
لكن هذا الإقرار بالجهل، لا يوازيه بأية حال، الاعتراف بالفشل في ممارسة السلطة أو الإقرار بضرورة إعادة تنظيمها و توزيعها بشكل مختلف. هم يقولون: نعم، نحن لا نعرف ولكن الجميع لا يعرف،طبعا بشكل متفاوت، لكن بعضنا أكثر جهالة من البعض الآخر. وفي هذه الحال يجب الاحتكام إلى الحد الأدنى من المعرفة، باعتبارها، رغم هشاشتها وعدم استقرارها،المعرفة الوحيدة القادرة على توقع الكارثة : سلطة الرادع لا تفرض اليقين بل تدبر عدم اليقين.
لا يمكنه أن يعرف: لم نتعود أيضا على سماع القادة السياسيين وهم يعترفون بعجزهم: نحن لا يمكننا...نحن لا نسيطر على الوضع، نحن عاجزون على ضمان أي شيء، نحن نشتغل على قاعدة بيانات تجريبية وغير دقيقة وبدون تخطيط ...بشكل عام، يستعرض قادتنا مظاهر القوة، لكنهم لا يقدمون غير وعد بالتحكم في الوضع. تطلب منا سلطة الردع الاختيار بين مستويين من الفوضى : بين الفوضى في حدها الأدنى من الارتجال وحالة الطوارئ "المتحورة" والتدبير اليومي... وبين الفوضى المطلقة: الكارثة النهائية، الانهيار الشامل والانقراض النهائي.... تبدو الدولة ضعيفة وفي موقع دفاعي كقلعة محاصرة والتوازن هش ومهدد من قبل عدو مجهول: سلطة الردع لا تفرض الاستقرار، بل تدبر عدم الاستقرار (ولا تخفيه).
لا يريد: لا تبشر سلطة الردع بأي أفق ايجابي ولا تعد بالجنة. كل ما تقترحه علينا هو إمكانية البقاء على قيد الحياة. لكن ليس حياة أفضل، بل حياة وليس أكثر من ذلك. ليس لديها حل نهائي، بل فقط احتواء الكارثة وربح الوقت. وهي لا تقدم أي وعد بالخير، بل فقط تجنب الشر. لا مكان للحلم، بل فقط استبعاد الكابوس. بمحو الأمل، تبقى الكارثة هي الأفق الوحيد وباختفاء كل العروض الجذابة حول تلبية الرغبات، يستمر الخوف وحده : سلطة الردع لا تعد بأي شيء، هي تستعرض القوة فقط.
دوما ضد..و لا مرة واحدة لصالح.... الردع هو سياسة تتموقع على حافة الهاوية. وهي لا تخفي الموت بل تشهره، وتجعل من الخطر وتدبيره مفتاح سر مستقبل العالم، وكل من يرفض التعاون فهو متهم بالوقوف إلى جانب العدو. لكن من هو هذا العدو؟ هو الفيروس، هو الكارثة ، هو نهاية العالم....
الردع بشكل أفقي
اعتبر Achille Mbembe...... (3) أن الميزة الفريدة التي ميزت جائحة كورونا، تتمثل في "تحولنا جميعا إلى سلاح" حيث أصبح كل وحد منا يحمل معه في جسده سلاحا قاتلا. لم يعد الموت كما كان في السابق، بيد سلطة سيادية، بعد دمقرطة سلطة القتل المطلقة: كل واحد منا هو عبارة عن قنبلة نووية صغيرة. وقد استلزمت الضرورة ( الجواب عن هذا الخطر) أن يأخذ الردع هو الآخر شكلا أفقيا.
لعله هذا هو الجانب المظلم في فكرة التبعية المتبادلة التي كثر الحديث عنها مؤخرا: فبما أننا أصبحنا نشكل مصدرا للموت بالنسبة لبعضنا البعض، فعلينا أن نقوم بردع بعضنا البعض وحراسة ومراقبة بعضنا البعض وكمقدمة،التزام الحذر من بعضنا البعض، كل هذا في جو من الاستنكار والاستبطان الجماعي النشيط لمعايير مفروضة من خارجنا.
في ضل "توازن الرعب" المستجد هذا، نحن جميعا أنصار وليس مجرد متفرجين. فالردع قد تم تعميم توزيعه، بشكل أفقي وهو غير ممركز وخاضع للتدبير الذاتي. هو مجتمع المشتبه بهم، والدولة ليست فوق رؤوسنا، بل هي في رأس كل واحد منا.
نحن أيضا، لا نعرف من منا يحمل العدوى، لان الجميع مشتبه به. لكن المشتبه بهم أكثر من غيرهم : هم الذين لا يمكنهم البقاء في البيت، الذين تتوقف حياتهم على رابط اجتماعي أوسع، الذين لم يتعودوا في حياتهم اليومية على التدابير الوقائية، الفقراء، المهاجرون....الآخر: لا تقترب ....خطر الموت.
هذا هو ما يسمونه "العنصر الأخلاقي في الحرب": إنتاج ذوات طيعة بشكل نشيط، والتربية بالحرب من أجل الحرب.
بدائل جهنمية
"الطاعة أو نهاية العالم" هي الحالة القصوى لما تسميه ايزابيل ستينجر (Isabelle Stengers) "البدائل الجهنمية". ماهي هذه البدائل؟ (4)
يطرح البديل الجهنمي نفسه،حينما يتم تشخيص الوضع بطريقة لا تقود إلا إلى خيارين : الاستسلام أو الموت، كنوع من "الواقعية" التي لا تتصور من أفق غير الخضوع أو الكارثة.
كيف نتخلص من جهنمية هذا البديل؟ بالتأكيد، ليس فقط من خلال "نقد" البديل الجهنمي أو اعتباره مجرد أكذوبة أو مجرد وهم أو مؤامرة. لنأخذ على سبيل المثال وباء كورونا. هل هناك جدوى من اعتبار الفيروس مجرد "مشكلة مصطنعة" و إدانة المؤامرة وو.....؟ لا، ليس هذا هو المطلوب. أولا، لان البديل الجهنمي ليس أكذوبة أو وهم، بل هو مسالة جد عملية، تشتغل بشكل ملموس من خلال قطع الطريق أمام أي بديل آخر وتفكيك كل روابط التواصل وحظر التفكير.
لكن يمكننا الخروج من البديل الجهنمي عبر "نقطة الوسط"، من خلال فتح "مسارات جديدة للتعلم" حيث نمتلك القدرة على التفكير والإحساس بطريقة أخرى، القدرة على فتح وابتكار إمكانيات غير مسبوقة. ويقتضي هذا بداية، قراءة الوضع من زاوية ما نشكله نحن، ليس باعتبارنا مجرد ضحايا أو متفرجين شل الرعب قدراتهم، بل باعتبارنا ذوات قادرة على تعلم أشياء جديدة وابتكار ما كان من غير الممكن تصوره من قبل، والتخلص من الابتزاز الذي يأخذنا كرهائن، كما فعل ضحايا داء السيدا حينما وجدوا أنفسهم محاصرين داخل البديل الجهنمي، بين الموت المحقق و نظام صحي لا يعترف بهم كذوات.
الخروج من البديل الجهنمي عبر منفذ وسط ،يوجد بين عنصري معادلات هذا البديل : الحجر الفوقي-البوليسي أو انهيار النظام الصحي العمومي،العودة إلى الحياة الطبيعية أو الفقر المعمم، الهلع أو انعدام المسؤولية في العلاج...الخ. ليست هذه المنافذ مجرد انتقادات بسيطة، بل هي إجراءات براغماتية، تجريبية،ملموسة و ذات مخاطر. نعم مخاطر، لأنه لا يجب أن ننسى أن حدود التي يرسمها البديل الجهنمي، هي قبل كل شيء محفورة بالرعب في دواخلنا.
الرعب كشكل من أشكال الحكم، هو جد منغرس في الثقافة الغربية، كما وصفه المفكر الأرجنتيني León Rozitchner (5). منغرس منذ دخول علم النفس إلى عالمنا لأول مرة، عبر قصة اخصاء اوديب، ومنغرس عبر عنف عمليات التجريد من الملكية الذي رافق على الدوام الاقتصاد الرأسمالي وهو منغرس من خلال الحرب كمصدر للسياسة كلما تجرأ من هم تحت على تحدي السلطة بشكل مباشر (الانقلاب). .....
الرعب يخترقنا، يقطع علاقتنا ببعضنا، يخنق نبض المقاومة الجماعية و يردعنا جسديا. لهذا فان تغيير الحدود من مكانها والتحرر من علامات الرعب في لحمنا وأفكارنا، يقتضي أولا، تجاوز القلق وإعادة تنشيط الجسم الفردي والجماعي، كي نجعل من التبعية المتبادلة قوة ومن عدم اليقين طاقة ومن الثقوب ممرا.
---------
الهوامش (من وضع المترجم)
(✸)أمادور فيرنانديز سافاتير هو فيلسوف اسباني برز اسمه بشكل خاص مع صعود الحركات الاجتماعية خلال العقد الأخير. وهو يعتبر من أهم منظري حركة 15 ماي (حركة الغاضبين). صدرت له عدد من الكتب من بينها " يتامى الثورة: يجب إعادة ابتكار الثورة" (2020) و" خارج الساحة" (2020). وهو منشط للعديد من المواقع والصفحات والجرائد اليسارية من خلال حواراته مع العديد من المفكرين النقديين ومقالاته حول القضايا الراهنة (الأزمة البيئية، الإعلام ،الهيمنة، الثورة....).
(✸✸)https://www.facebook.com/
1-الدكتور فولمور :فيلم كوميدي للمحرج البريطاني (Stanley Kubrick ) مقتبسة من ثلاثية "120 دقيقة لانقاد العالم" ( Peter George) تجري أحداتها خلال فترة الحرب الباردة. وهي تحكي قصة طبيب نازي تحول إلى مستشار للريس الأمريكي شخصها الممثل الكوميدي الشهير( (Peter Sellers.
2- Gaïa (جايا ): هي أول الآلهة في الأسطورة الإغريقية إلى يعود البها أصل الحياة. وقد تم استعارة اسم جايا من قبل بعض العلماء للإحالة على الأرض كمصدر للحياة. وقد استعارت الفيلسوفة من أصل بلجيكي Isabelle Stengers اسم جايا لتشبيه الكوارث الطبيعية بغضب هذه الالهة من العنف الذي يمارسه الانسان ضد الطبيعة.
3- Achille Mbembe, : فيلسوف ومؤرخ كاميروني (1957 ) أستاذ بجامعة جوهانسيورغ بجنوب إفريقيا وهو احد منظري التيار الفكري لما بعد الاستعمار.
4-البديل الجهنمي : ايزابيل ستينجر "في زمن الكوراث: مقاومة البربرية القادمة" (2009).
5- Leon Rozitchner (1924 – 2011) : فيلسوف وكاتب ارجنتيتي



#عزيز_محب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطاك المغرب من المؤتمر الاستثنائي إلى الجامعة الربيعية


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- جائحة الرأسمالية، فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية / اريك توسان
- الرواسب الثقافية وأساليب التعامل مع المرض في صعيد مصر فيروس ... / الفنجري أحمد محمد محمد
- التعاون الدولي في زمن -كوفيد-19- / محمد أوبالاك


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات - عزيز محب - الطاعة او نهاية العالم : استراتيجية الردع