أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الدينُ والمقدَّسُ















المزيد.....

الدينُ والمقدَّسُ


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7061 - 2021 / 10 / 29 - 14:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يلتقي الدينُ بالمقدّس، لكنهما لا يتطابقان مفهومًا، ولا يتحدان مصداقًا دائمًا، إذ تتقدّس أشياءُ خارجَ الدين، كما أن هناك أشياءَ في الدين ليست مقدّسة. المقدّسُ والدين أحيانا تتحد وظيفتُهما، ويلتقيان ببعض مصاديقهما، وأحيانا تتنوع وظيفتُهما، ويختلف كلٌّ منهما عن الآخر في مصاديقَ أخرى.
ليس كلُّ مقدّس دينًا، وليس كلُّ ما في الدين مقدّسًا. في كلِّ دينٍ ما هو مقدّسٌ وما هو غيرُ مقدّس. حضورُ المقدّس الحقيقي محدودٌ جدًا في الأديان أو نادرٌ لحظةَ نشأتها، لكن المقدّسَ يتوالد بالتدريج بمرور الأيام، تبعًا لتضخّمِ المخيلة، وتوسع الميثولوجيا لدى أتباع الدين. كلما اتسع فضاءُ الميثولوجيا في الدين اتسع فضاءُ المقدّس، وكلما غاص الدينُ في باطنيةٍ غائمة تنامى فيه حضورُ المقدّس، لذلك نرى لدى الفرق الباطنية في الأديان تضخمًا للمقدّس وابهامًا والتباسًا في الرؤية، إلى الحدِّ الذي يصل أحيانًا إلى أن يبتلعَ المقدّسُ الدينَ كلَّه، فلا نجد شيئًا في الدين الباطني إلا مقدّسًا.
عندما نعودُ إلى التاريخ ونتفحصُ لحظةَ ظهور الأديان السماوية، خاصة الإسلام، وهو الدينُ الذي لم يتأخر تدوينُ السيرة والسنة فيه كثيرًا عن البعثة النبوية، في تلك اللحظة لا نعثر بوضوحٍ على غزارة في حضور صور المقدّس وأشكاله. مَنْ يبحث عن المقدّس لا يرى له حضورًا لافتًا له في إسلام عصر البعثة.كان الصحابةُ يتعاملون مع النبي محمد "ص" بشكل عفوي، بوصفه بشرًا مثلهم، بلا كُلفةٍ أو خوفٍ أو رهبة. يعيشُ النبي الكريم كما يعيشون، يأكلُ كما يأكلون، يلبسُ كما يلبسون، ويتحدّثُ كما يتحدثون. يتعاملُ معهم كأحدهم، ويرفضُ التعاملَ معه مثلما يتعامل الأتباع مع ملوكهم. لم يجدوا في تعامله بروتوكولًا، ولم يروا من حوله حاجبًا أو حارسًا أو حاشية أو بلاطًا، مثلما كان يفعل الملوكُ والسلاطينُ والزعماء في زمانه وفي أزمنة أخرى. ومن التبس عليه الأمرُ وتخيّل أن النبي الكريم "ص" ليس بشرًا نبهّهُ القرآنُ الكريم بقوله: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ"، الكهف، 110. "قلْ لا أقولُ لكم عندي خزائِنُ الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ لكم إنِّي مَلَكٌ إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يُوحى إليَّ"، الأنعام، 50. "قلْ لا أملكُ لنفسي نَفعاً ولا ضرَّاً إلاَّ ما شاءَ الله ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخيرِ وما مسَّنيَ السُّوءُ إن أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون"، الأعراف، 180. شدّد القرآنُ على بشرية النبي، مع إشارته إلى اختصاصه بالوحي من دونهم. متخيّلُ المسلمين بعد عصر البعثة ظلّ يطمح لتضييق حدود بشرية النبي باستمرار، بنحوٍ انتهى بعضُ المسلمين بعد عدة قرون إلى تضخيم البعد الغيبي في شخصيته، إلى الحدّ الذي تلاشت معه حدودُ بشريته، وتحوّلت صورته إلى ميتافيزيقية، انطمست فيها بشريتُه.
لحظةَ ظهور أكثر الأديان في آسيا،كالبوذية والكونفوشيوسية وغيرها، لا نرى فيها ما هو مقدّس، كان مؤسّسوها حكماء، لم يقولوا أنهم يتصلون بالغيب، تعاليمُهم أقرب لحكمة الثقافة منها إلى روح الدين. لم يكن أشخاصُ المؤسّسين مقدّسين: بوذا أو كونفوشيوس، ولا كتبُهم، ولا إرشاداتُهم ووصاياهُم وتعاليمُهم، ولا رفاقُهم، ولا أيُّ شيءٍ ينتسب إليهم. إلا أن ذلك لم يستمر طويلا، فكلّما ابتعد الدينُ عن لحظة التأسيس لم يعد الواقعُ كافيًا لإشباع مخيلة الأتباع، لأنهم يرون الواقعَ ضحلًا واضحا لا يبوح بسرّ، ولا لغز فيه، والإنسانُ الديني مولعٌ بالأسرار، وبما هو ساحرٌ ملغز، ينجذب لما ينطوي على غموضٍ وحيرةٍ وابهام.
المقدَّسُ سرّ، المقدَّسُ مبهم،كنهُهُ مجهول. للمقدَّسِ سحرٌ وهالةٌ يشعرُ معها الإنسانُ الذي يعتقدُ به بهيبةٍ وسطوة، وصمتٍ ودهشة وذهول أحيانًا. المقدَّسُ قريبٌ بعيد، المقدَّسُ قريبٌ يشعرُ معه الإنسانُ كأنه حاضرٌ، المقدَّسُ بعيدٌ لا يمكن أن يقبضَ عليه الإنسانُ أو يراه أو يتلمس وجودَه حسيًا، لا يتجلّى المقدَّسُ إلا عبرَ آثاره. المقدَّسُ يشعرُ القلبُ بهيبته ورهبته وقوته، ويتلذّذُ مَنْ يعتقد به بالتواصل معه وتحسّس حضورَه. المقدَّسُ تجاوزيٌ، عابرٌ للزمان والمكان. وإن كان العقلُ يجهلُ ماهيةَ المقدَّس، غير أنه يكتشفُ تجلياتِه وتمثلاتِه، وشيئًا من فاعلياته في إثارة عواطف الناس، وطاقته المثيرة بتأجيج مشاعرهم وإيقادها.
مَنْ يعتقد بمقدّسٍ معيّن يراه متجاوزًا للمادة، ولكلٍّ حدودها وأبعادها وكيفياتها وأشكالها وأحوالها. فضاءُ المقدّس رحبٌ لا يخضع لشيءٍ من قيود ومضايق المحسوس. المقدَّسُ عابرٌ للمتناهي والمحدود والحّسي.
يتقدّسُ: الإنسانُ، والمكان، والزمان، والحيوان، والنبات، وكائنات أخرى، بل يمكن أن يتقدّسَ أيُّ شيء في الأرض والسماء. مَنْ يعتقد بمقدّس يفتّشُ عن ماهيته خارج حدود المكان، خارج حدود الزمان، خارج حدود الواقع المحسوس، خارج حدود التاريخ. يحتفظ المقدّس بقداسته الأبدية، ويظلّ مبهمًا عصيًا على الفهم. المقدّس متلفّع بالغموض،كأنه سرٌّ أبدي، يتغلب على الهشاشة والفناء. ربما لا يستغني عن المقدَّسِ إنسانٌ، حتى الملحد أحيانًا لديه مقدّساتُه الخاصة، أحيانًا يراه في شخصيات استثنائية، يعتقدُ أنها خارقةٌ تتجاوز تناهي الكائنِ البشري وقدراتِه المحدودة، ويتخيّلُ أنها عابرةٌ لحدود الطاقة البشرية. يتخيّلُ رموزًا وأشياء متنوعة يحسب فيها تمثّلاتٍ للمقدّس، وإن كان يُعلِن عن تنكّره لذلك.
يمكن أن يتقدّسَ الإنسانُ والحيوانُ والنباتُ والمكانُ والزمان وكلُّ شيء، ‏وكثيرًا ما يغدو رجلُ الدين مقدسًا في أديان سماوية وأرضية، وأوضحُ مثال على ذلك ما نراه في الأديان الهندية، وأديان متنوعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وغيرها في مجتمعات مختلفة.
أكثرُ الملوك والأباطرة والزعماء في التاريخ خلقوا لأنفسهم هالةً مقدّسة، إذ صوّروا أنفسَهم وهم يقفون بمحاذاة الآلهة، فمثلًا نرى حمورابي ملك بابل "1792 ق.م – 1750ق.م" يقف بمحاذاة إله الشمس "شمش" الجالس، ليتسلم منه الشرائع المدونة على المسلة المعروفة باسمه، والمشهورة بأنها أقدم وأوسع وأثرى شريعة مدونة ذلك العصر في تاريخ الحضارات البشرية.
لم تتبدّد هالةُ الملوك والأباطرة والزعماء التي يصنعونها لأنفسهم حتى اليوم، فما زال بعضُ الناس يشعرُ بهالة ورهبة وسطوة زعماء سياسيين، مثل: لينين، وماو تسي تونغ، وهتلر، وغيرهم، ويشعر كثيرٌ من أتباع الزعماء الروحيين في الأديان السماوية والأرضية بأن هؤلاء الزعماء شخصياتٌ استثنائية مقدّسة.
يزحف المقدَّسُ على ما هو دنيوي، فتتقدّسُ أشياءٌ وأيامٌ وأماكنُ وكائناتُ غيرُ مقدّسة بمرور الأيام، ويطمسُ المقدَّسُ الزائف ما هو أخلاقي في الدين، وتنضبُ منابعُ إلهام الروح فيه. لحظتها ينامُ العقل، وتتفشّى ظاهرةُ تقديس أشخاص لا يمتلكون الحدَّ الأدنى من طهارةِ الروح، وسلامةِ القلب، وصحوةِ الضميرِ الأخلاقي. إذا غابت العقلانيةُ النقديةُ تقدَّس غيرُ المقدَّس وتملّكَ مشاعرَ الناس، واستحوذَ على عواطفِهم، واستعبدَ عقولَهم. وتزامن مع ذلك تفشي الجهلِ في المجتمع، وانهيارُ أنظمة التربية والتعليم، وتجفيفُ روافد العلم والمعرفة. تضخّمُ المقدَّس وتغوّله، وتمدّدُه أُفقيًا ورأسيًا، يفرضُ سطوتَه بضراوة على الحياة، بنحوٍ يسقطُ كلُّ شيء في قبضة المقدَّس، ويستحوذ عليه مَنْ ينطق باسم المقدَّس. يستنزف تقديسُ غير المقدَّس طاقاتِ الفرد والمجتمع، ويستعبدُ العقلَ، ويعطّلُ قدراتِ الابداع، والتفكيرَ الخلّاق، ويطفئ جذوةَ الروح، ويستلبُ الضمير. لا يقع المقدّس موضوعًا للعقل النقدي، أو موضوعًا للعلم، لأن المقدَّسَ خارج حدود العلم وأدوات كشفه، ولا يخضع لـ "معيار قابلية التكذيب".كلُّ فكرةٍ لا تقبل الدحضَ والإبطالَ والتكذيبَ لا ينطبق عليها عنوانُ العلم، على وفق "منطق الكشف العلمي" لكارل بوبر.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحق في الخطأ ضرورة تربوية
- تقديم طبعة بغداد لكتاب مقدمة في علم الكلام الجديد
- كل القيم تجد معناها في حمايتها للكرامة
- محمد رضا حكيمي وإعادة إنتاج الأخبارية
- هل هناك حاجة للكراهية؟!
- كتاب الدين والكرامة الإنسانية
- الفردانية المطلقة وسوء فهم مفهوم الفرد
- المصيرُ المشترك يفرض قيمًا واحدة
- الإنسانُ كائنٌ غريبٌ في العالَم
- علم كلام جديد أو علم كلام معاصر
- في معاشرةِ الناسِ نحتاجُ القلبَ أكثر من العقل
- الحُبُّ بوصفه عطاءً
- الدينُ كائنٌ حيٌّ يطلبُ ما يمدُّه بالحياة
- القلب هو الطريق
- الجهلُ بالطبيعة الإنسانية و#أخطاءُ_التربية
- الإيمانُ يتكلّمُ لغةً واحدة
- الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقى الأضدادِ
- مقدمة في علم الكلام الجديد
- الدكتور عبد الجبار الرفاعي يفوز بجائزة البطريركية الكلدانية ...
- أثر رؤية المفسِّر للعالَم في التفسير


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف بيّاض بليدا والراهب والرا ...
- الاحتلال يقيد وصول المسيحيين لكنيسة القيامة بالقدس في -سبت ا ...
- الجبهة اللبنانية واحتمالات الحرب الشاملة مع الاحتلال.. وقمة ...
- جامعة الدول العربية تشارك فى أعمال القمة الاسلامية بجامبيا
- البطريرك كيريل يهنئ المؤمنين الأرثوذكس بعيد قيامة المسيح
- اجعل أطفالك يمرحون… مع دخول الإجازة اضبط تردد قناة طيور الجن ...
- ما سبب الاختلاف بين الطوائف المسيحية في الاحتفال بعيد الفصح؟ ...
- الرئيس الصيني يؤكد استعداد بلاده لتعزيز التعاون مع الدول الإ ...
- الاحتلال يشدد إجراءات دخول المسيحيين إلى القدس لإحياء شعائر ...
- “أحلى أغاني البيبي الصغير” ضبط الآن تردد قناة طيور الجنة بيب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الدينُ والمقدَّسُ