أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لمياء الآلوسي - (حمدة ) قصة قصيرة















المزيد.....

(حمدة ) قصة قصيرة


لمياء الآلوسي

الحوار المتمدن-العدد: 7032 - 2021 / 9 / 28 - 14:30
المحور: الادب والفن
    


( حمدة )



منذ عودتها وهي تفتح خزانتها المرصعة بالصدف اللامع الأبيض المموه بالرمادي، لتخرج منه مجموعة كبيرة من الاسطوانات، ثم تعمد إلى تنظيفها بقطعة قماش مترفة، وكأنها تغدق عليها بعضا من روحها العطشى إلى تاريخها المعمد بالأمنيات اللات لم تنفصل عنهن كثيرا، ولم تحقق إلا القليل منهن، ثم تعيدها برفق إلى تلك الخزانة، بعد أن تختار إحداهن كي تلقمها الكرامافون الضخم الذي يتصدر الغرفة، عندها ينساب الصوت رخيا من زوايا الغرفة، ويغمرها شعور طاغٍ بالنشوة وهي تنهض بغلالتها البيضاء، لتدور حول سريرها الواسع، تترنح متمايلة، فينسدل شال الحرير عن رأسها، وعنقها الأهيف، وينهمر شلال شعرها ليغطي ظهرها، ويتماوج حتى يغطي عجيزتها مشكلاً مع بشرتها البيضاء التي أكسبها الانفعال، وحالة الوجد لونا زهريا، وثمة ابتسامة رضا تغفو على شفتيها، حيث يغيبها الزمان، وتغرق في عالمها الخاص، لا ترقص بل تحتضن عشرات الأجساد المتخيلة، وتفتح ذراعيها على سعتهما، فتدور حول نفسها، مودعةً وجودها قدرا من التفرد لا تملكه إلا هي، وبعد أن ينهكها الدوران، تقف في وسط الغرفة وهي تثبت بأصابعها الدقيقة أزرار فستانها الزهري، وتساوي خصلات شعرها ثم تجدلها بضفيرة واحدة، عندها تمد ساقيها على طول الأريكة الإسطنبولية، متكئة على ذراعها وقد شمرت كما فستانها عن ذراعين بضين بلون الثلج.
تغيب في عالمها السحري، وغالبا ما تزيل بأصابعها المترفة دمعة تنحدر على غفلة منها .
عندما يحل الصمت، تدنو صفية من باب الغرفة وهي تحمل صينية مستديرة أنيقة، وضعت عليها طقم الشاي الفضي، ثم تضعه بهدوء على المنضدة الصغيرة أمام حمدة .
تمارس تلك الطقوس المرهفة كل صباح، وغالبا ما يتكرر هذا المشهد بكل تفاصيله، وكانت تصر على إبقاء كل شيء كما هو، وليس لصفية سوى إطاعتها دون إبطاء، أو مناقشة، عندها يدخل خليل متلجلجا، تائها كعادته لا يقوده سوى هذا التكرار اليومي الذي تحول إلى عادة مستحبة لديه، فيبتسم وعيناه الغائمتان تسبحان في عالم حمدة المتفرد في ترفه، ورائحتها المتميزة، وغالبا ما تطربه الأغنية المنبعثة من آخر اسطوانة ربما أبقتها من أجله، فتجلسه إلى جوارها، وبحركة خجولة يتناول يدها ويمسها بشفتيه مسا رقيقا كأنه يترفق بها، وبه، وبحلمها الذي يشبه حلم العروس .
صفية التي تراقب هذه العلاقة الغريبة بين شقيقتها، والرجل الغريب الذي ادعت إنها تزوجته، أوقعتها في عشرات الأسئلة التي لا تجد لها جوابا، فكيف له ألا يدخل غرفتها، أو لا يجامعها، أو تأنس به إلا في لقاء لا يتعدى بضعة دقائق كل صباح، ثم يذهب كل لغايته .
بعد صمت محمَّل بالهواجس أجهدها سألت أختها:
- لا اعرف تفسيرا لهذه العلاقة التي تجمعك بهذا الغريب، فهو لا يدخل غرفتك إلا إذا أذنت له، ورغم ملابسه النظيفة التي تختارينها له، إلا إنه بعينيه السادرتين في عالمه المجهول، ويديه المعكوفتين، وساقه التي يجرها جرا، لا يختلف كثيرا عن البلهاء والمعوقين الذين يجوبون الأزقة في هذه المدينة، ويتعرضون لمضايقات الأطفال، ويتحملون الأذى، لم أسمعه يتكلم إلا بمقاطع خافتة، وكلمات متعثرة، يبدو تائها ضائعا، كل شيء فيه أخرق، لا تطأ قدماه الأرض إلا وأخشى عليه من التعثر والسقوط ، أي رجل هذا ؟ بعد كل سنوات غيابك تعودين برفقة نصف رجل .
- صفية كفى... لا اريد أن أسمع منك كلاما يجرح هذا الرجل.
جفلت صفية لكلمات حمدة الجازمة والتي قالتها بصوت قاطع وعال:
- هذا الرجل الذي تسخرين منه يحمل هموما لا طاقة للبشر على تحملها، وصوتا لا يجهر إلا بالحق، لكنهم تمكنوا من تحطيمه، فكيف لي أن اتخلى عنه.
ساد بينهما صمت مثقل بالحزن .

فلم يكن ذلك الصباح الشتوي البارد غير مألوف في بيوت، وشوارع، وأزقة تلك المدينة الصغيرة، إلا إنه لم يكن كذلك في بيت حمدة الرحمن، فمنذ الفجر أدركت صفية الأخت الصغرى إن طارئا غريبا قد حدث، إذ إنها عندما أفاقت وقد أقض مضجعها البرد المتسرب إليها عبر شقوق الباب الخشبي، والريح المزمجرة في الخارج التي ضاعفت من اصطفاق أغصان شجرة اليوكالبتوس على ظلفتي نافذة غرفتها غير المحكمة، وخرجت تتفقد أكياس الجريش التي استغرقتها وشقيقتها ساعات طويلة من العمل في اليوم السابق لإتمام جرشها، وتعبئتها، لاحظت رغم عتمة الفجر الغائم التي بدأت بالانجلاء قليلا، أن قفل الباب الخارجي لم يكن في موضعه، بل إن إحدى ظلفتيه مفتوحة على سعتها، وجل ما تخشاه دائما هي وشقيقتها سطو اللصوص على أكياس الجريش قبل تسليمها إلى أصحابها، تلددت قليلا حائرة، لكن ما طمأنها وأبعد عنها الشك أن كل شيء في مكانه تحت سقيفة المخزن كما تركتاه قبل أن تهجعا للنوم، وربما تكون الرياح هي التي عبثت بظلفة الباب ولكن كيف ذلك ؟ وأين القفل ؟ أخرسها الخوف وأوقف تساؤلاتها عندما لاحظت شبحا متشحا بالسواد يمرق من غرفة حمدة باتجاهها، فأرتجف قلبها هلعا، لكنها تماسكت عندما انجلى لها وجه شقيقتها تقف أمامها متوهجة كالعروس، عابقة في كامل زينتها، ترتدي فستانها الأحمر وحذائها الذي تحتفظ بهما للمناسبات الخاصة، تتخايل كأيكة كساها الندى فتعطفت أردانها، واهتزت وجلة، وقد فوجئت بوجود صفية، عندها وضعت سبابتها على شفتيها تتوسلها الصمت، مما اوقع الكثير من التساؤل في الاثنتين :
- حمدة .. كنت اريد إيقاظك، فالباب لم يغلق جيدا .
حملقت برهة في وجه صفية النحيف الذي زاده برد الفجر اسمرارا، وتصلبا، وكعادتها عندما تمعن بالتفكير ولا تريد أن تعلن عن أفكارها، أو يختلجها طارئ ما، ترددت وحركت رأسها كثيرا، وزمت شفتيها المكتنزتين وقد زادها أحمر الشفاه الذي وضعته توا سحرا، وكأنها أمام اختبار قد لا ينتهي على خير، فقربت وجهها من أختها لتعلن لها هامسة:
- أعرف ذلك، فلم أقفل الباب البارحة مساءً، وأبقيته مواربا، وربما فتحته الريح أكثر مما ينبغي .
- لماذا؟ ألا تخشين على أرزاق الناس من اللصوص؟
تحركت متحيرة وكأنها تنوء بحمل أثقل كاهلها، ثم زفرت بقوة :
- اسمعي تركت الباب مواربا منذ البارحة، لأنني لا أريد ازعاجك أنت وحامد.
- وما الذي يزعجنا في ذلك؟ إنك تتصرفين اليوم بغرابة! ثم ما كل هذه البهرجة في هذه الساعة المبكرة؟
- سوف أسافر إلى بغداد، سيارة الأجرة تنتظرني في السوق الصغير، سيوصلني يحيى إلى هناك. قالتها مرة واحدة وبصوت جهدت أن يكون حازما.
- ماذا؟ ولكن لا أحد من معارفنا، أو أقاربنا هناك.
- وما حاجتي إلى المعارف، والأقارب، أخبرتك مرارا أن داوود أعطاني عنوان أحد الموسيقيين في ملهى البلدية، وهو سيقدمني إلى مسؤول الملهى.
- يا إلهي مازالت هذه الفكرة الشيطانية تراودك؟
- هششش، اخفضي صوتك، ستوقظين حامد، وعندها لن أتمكن من الإفلات منه ومن تساؤلاته.
ضربت صفية فخذيها وفيها رغبة للإمساك بتلابيب شقيقتها، واشباعها صفعا لكنها حمدة على أي حال، حمدة التي لا يمكنها هي وحامد من تجاوز شخصيتها، وقدرتها الجبارة:
- ومن تحقيق أحلامك؟! وهل يهمك حامد؟ هل بمقدور هذا المسكين منعك من السفر؟ ومتى تعودين إن شاء الله؟
- أعود؟ من قال لك ذلك؟ لن أعود أبدا، لن اساوم على حياتي ومستقبلي، أنتِ تعرفين ذلك جيدا.
صمتت قليلا وهي تخفي صرة ملابسها تحت عباءتها:
- عندما يدرك حامد أنني لست هنا، سأكون في بغداد.
اغرورقت عينا صفية بالدموع بالرغم من محاولتها تمالك حزنها، ورغبتها بالصراخ، والعويل، لكن قلبها رزح تحت حزن شعرت أنه لن ينجلي قريبا، فانحنت قامتها وتشبثت بيد أختها:
- حمدة بالله عليك تريثي، رحمة بنا جميعا.
راوغت صفية شقيقتها كي تمنعها من الرحيل، لكن الأخيرة قبلتها مودعة، ولم تجدِ نفعا كل محاولاتها في محاصرتها، ومنعها من تحقيق مغامرتها تلك.
منذ أن سمعت خفق عباءة أختها التي تتلاعب بها الرياح، وبعد أن غيبها الزقاق، وهي تترنح هائمة، تتقضقض أسنانها من البرد والشعور بالوحدة، والقهر، لم يعد هناك حدود لحزنها، والأرض ما عادت تثبت خطواتها. تذكرت حامد، والنسوة القادمات بعد قليل لاستلام جريشهن، كل هؤلاء، وغيرهم سيشكلون منذ الآن الحد الفاصل بين حرية شقيقتها، وحياتها هي، وكل ما في هذا البيت سيسمع همس روحها المعذبة إلى أبعد مما تتخيل، فلا مجال للتفاؤل في نهاية المطاف، ولن تجد مرفأ يعيدهما إلى بعضهما ذات يوم .
- يا إلهي.. أنا متعبة للغاية، من سينقذ روحي من هذا العذاب؟
مر الوقت بها بطيئا، موحشا، وهي تتحرك كالبندول على طول الباحة وعرضها، ثم تتوقف تحت شجرة اليوكالبتوس السرحة، الفارعة وقد أيقنت أنها يجب أن تكون مثلها متجذرة في هذا البيت، وحيدة، صامتة، ومثقلة بالأسرار، تلقفت قامتها نثيث المطر، مادة ذراعيها إلى السماء لأنها كانت بحاجة إلى أي شيء يرطب ذلك الوخز الملتهب في رأسها، وبعد أن أفاقت من حيرتها وصمتها في تلك اللحظات المحيرة والعصية على الفهم، دخلت المطبخ وانهمكت في إعداد الشاي، وتحضير الإفطار لحامد، وقد قررت أن تحجم عن الرد على تساؤلات حامد وغيره من المعارف التي ستحاصرها لاحقا .
هلعت عندما سمعت صوته الأجش يتنخم وهو يدنو من باب المطبخ، محاولا تسريح شعره المشعث المبلل بالمطر، محدثا زفيرا عاليا سائلا عن حمدة، قدمت له الإفطار مع قدح الشاي محاولة السيطرة على نبرات صوتها الخافت، حذرة من التقاء نظراتهما :
- لقد ذهبت إلى بيت أم مالك وستعود بعد قليل... لن تغيب طويلا.
بعد أن تناول إفطاره خرج قاصدا عمله في السوق، فجلست صفية أمام غرفة اختها كسيرة، تغالب دموعها، ورغبتها بالنحيب، وكل ساعة تمر عليها تجعلها تدرك بأنها كل شيء إلا نفسها.
رغم شجاعة حمدة الحازمة التي لا يثنيها شيء إن عزمت، إلا أن قرارا كهذا في مدينة صغيرة مغلقة كمدينتها، يحتاج إلى امرأة جسور، فمنذ أن أقنعها داوود اليهودي جارهم الذي كان يجيد المقامات بشكل استثنائي إلى جانب حياكة الحصران، وتحويل أعواد القصب إلى مزامير يعزف عليها اناشيده، فتنتشي بعزفه وتغني كما لا تغني بدون صوت مزماره، استعطفته كثيرا كي يسمح لها بساعتين من وقته، ليعلمها إجادة غناء المقامات العراقية .
كانت تشي سرا برغبتها للسفر إلى بغداد ولقد نوهت بذلك أكثر من مرة، وبأنها سترحل مهما كلفها الأمر، لكن صفية رغم أنها ما كانت تصدق تلك الرغبات المجنونة ، تشعر بالغصة، ويعمر قلبها الخوف فتكيل لشقيقتها النصح، محاولة اقناعها بالعدول عن تلك الرغبة التي ستجلب العار على العائلة وربما تودي بحياتها، رصاصة طائشة وينتهي كل شيء، أو تنحر كالنعاج.
عليها الآن أن تبتدع الحجج لغياب حمدة كي تقنع الجميع وأولهم حامد، لكن أي عذر سيقنعه ؟ وإلى متى عليها مراوغته ؟ وكيف ستكون ردة فعله عندما يتلقى الخبر وهي التي تأودت إعالة هذا البيت، وكل شيء خاضع لها، هل سيراوغ ويخفي استياءه ، أم يثور ويلعن ولية نعمته، التي خذلته، وبعد أن تلوكهم ألسنة الناس في هذه المدينة الصغيرة التي لا تخفي عنها خافية ؟
- آه يا ويلي .. أية لعنة حلت على هذا البيت .

عاد حامد على غير عادته، وقد أربد وجهه مثقل الخطوات، وتهدلت ذراعاه، وانحنى ظهره، يزدرد ريقه كل لحظة وكأنه يتجرع السم، عرفت صفية عندها أن العاصفة آتية لا ريب فيها، لذلك لبدت خلف نافذة المطبخ الصغيرة مرتعشة .

- هل كنت تعلمين بعزمها على الرحيل، والغناء كعاهرة رخيصة في ملهى البلدية كما أخبرني يحيى سائق السيارة التي اقلتها إلى هناك؟ هل تتسترين على اختك الفاسقة.
رغم محاولتها لملمة شتات شجاعتها، إلا إنها تهيئت لإطلاق ساقيها للريح هربا إن أصر حامد على محاصرتها بالأسئلة، وكانت كجدار متصدع قد ينهار في أيَّة لحظة، لذلك أحجمت وهي تتمايس، وقد دبّ فيها احساس بارتكابها الجرم ذاته، لأنها تسترت على رغبة شقيقتها .
بعد أيام قليلة هجر حامد البيت والمدينة، لم تغضب منه، فلقد سلبته شقيقتها كبريائه، وسحقت رجولته أمام مدينة لا ترحم.
مرت الأيام وصفية تتأود عيشها من هنا وهناك، بعد أن أيقنت أن العاصمة ابتلعت أختها وضيعتها، ولن تسمع يوما صوتها الرخيم الشجي يصدح عبر المذياع كما كانت تحلم، لذلك أيقنت إن هجرها الجميع، أو ماتت جوعا فالأمر سيان، وعليها أن تتحمل العقاب على ذنب لم ترتكبه، تجلدها العيون، وتعجزها كل همسة قيلت، فلن ينجدها في محنتها تلك سوى أن تقف مستقيمة، ولن تجد من يشد أزرها سوى أن تعيد فتح بابها لنساء الحي الاتي عدن إلى مجرشتها، دون ان ينبسن بكلمة عن حمدة وما جرى لها، تتأسى ببعض من تلطفهن، وكثيرا ما يطمئننَّها أن لا باس إن تأخرت في تسليم جريشهن في الوقت المتفق عليه، فتنتشي بتلك المشاعر التي ليست سوى بعض الندى الذي يرطب قلبها ومشاعرها المثقلة بالهموم، فمنذ طفولتها ووجودها الخافت مزروع على رحاها التي لم تزد جسدها إلا انعكافا، وأيامها قحطا، وسؤال محير يراودها دائما هل يكون ميراثها الوحيد في هذه الدنيا ان يتكرس فيها الشعور بالذنب ؟ وأن تغزل أشواقها انتظارا قد يطول العمر كله، لعل ولعل ولا شيء سوى التمني والترجي .

وكنفحة ريح هانئة، وكما لو أن السماء انجلت فجأة عن وجه متورد زاده الزمان جمالا، وفتنة، امرأة سامقة، طويلة، جلية ناعمة، كان لصدى خطواتها العجلى وقع كأسراب الطيور، تخبط إسمنت الباحة الصغيرة، فتضج حولها ألف حكاية وحكاية، امرأة الأسرار، والمواعيد غير المعلنة، وقفت أمام صفية التي اعتراها الذهول وهي ترى شقيقتها تحذي إليها، ما عاد للوم والعتاب مكان بينهما، بل أعولتا طوال الوقت، وصفية تضم جسد حمدة الذي زادته السنوات اكتنازا، وتناسقا إلى صدرها، ثم تقصيها كي تتنعم بوجودها الثر، وتكيل لها الصفعات الرقيقات كالقبل، كعتاب المشتاق اللذيذ، عتاب الأخت التي أضناها الانتظار، وكأن ذلك كل ما كانت تملكه للاحتفاء بعودة أختها .
جلستا وقد اضناهما الفرح، وربما الحزن، أو الرغبة في سرد كل شيء عما مضى لكنهما لم يقولا شيئا، وساد بينهما سكون مبهم تقطعه نهنهة، أو ضحكة، أو عبارة لا معنى لها، ترددها احداهن، فتضحك الثانية .

عندها فقط لاحظت صفية الرجل الغريب الذي كان يتفصد جبينه بعرق تسلل إلى رقبته، فغزى قميصه الرث الملتصق بصدره العريض فبلله، كان قد ارخى قميصه على سرواله الكالح الذي يرتفع قليلا عن حذاء علاه التراب وفقد لونه، يخطو بتؤدة متلعثما يحرك رأسه في كل الاتجاهات، محاولا الإفلات، وكأن شركا نصب له، ينوء بحمل حقيبة ثقيلة أحنت ظهره، وبدا كأن ساقاه ما عادت تحملانه، ينتظر أمرا يصدر كي يتخفف من حمله، صمتت صفية وهي تشير إليه، فانتبهت حمدة إلى وجوده الذي كادت في خضم ذلك الاحتفاء الذي يبدو إنها لم تكن تتوقعه أن تنساه، ابتسم لها بطيبة مذهلة، عندها فقط أرخى يديه وتخفف من الحقيبة، أعتدل وهو يلقى التحية على الأخت التي انتظرت مغادرة هذا الرجل الغريب البيت لذلك لم ترد له تحيته، لكنها صعقت وهي تسمع اختها وبشكل مرتبك، ومفتوح على الكثير من الاحتمالات، تقدمه إليها على إنه زوجها .

رفعت رأسها على حين غرة فرأت ترقرق عينيها بدموع جاهدت ألا تنحدر:
- كنت أعيش حلما لم يتسنى لي تحقيقه، تبا له من حلم عانيت من أجل تحقيقه الكثير، لكنه لو تعلمين لم يكن سيئا، جعلني أحلق في أجواء ليست لي، لكنها لم تعتقني، وبمرور الوقت صرت أسيرة التمني، وأرضى باليسير اليسير، ولكن لو خيرت الآن بين أن أبقى هنا زوجة لحامد، أقضي العمر أغني على صوت الرحى، أو أرحل لأرتضي الغناء في ملهى البلدية الذي بسبب تقلبات الزمن تحول إلى ملهى بائس مليء بالسكارى، والحمقى، ولا أحظى إلا بأغنية يتيمة لا قيمة لها، برأيك ماذا سيكون اختياري ؟ أنا المرأة المسكونة بالوهم، هل سيبقى الرحيل اختياري الوحيد؟ هل تقودنا اقدارنا ؟ أم إننا خلقنا لنقودها ؟
صمتت قليلا وعادت ترتب اسطواناتها وتربت عليها بهدوء فهمست لها صفية وقد صفى ذهنها كثيرا وحلت الشفقة على شقيقتها بدلا عن الغضب :
- لقد كنت شجاعة بما فيه الكفاية لتتحيني الفرص، وتستغلينها لصالحك.
جفلت حمدة ثم التفتت إلى أختها تحدجها بعينيها الواسعتين بغرابة وكأنها تراها لأول مرة، فتراجعت صفية يرجفها بريق عيني شقيقتها الكحلاء، فتساءلت ببلاهة:
- ماذا؟!
- بين الشجاعة والرعونة خيط واهٍ بالكاد يُلحظ، ذلك الرجل الذي تسخرين منه كان دائما يقولها لي ، كان يقول لي أيضا : مازال الوقت مبكرا لتقرري إنك شجاعة بما يكفي، لكن اظهري مهارتك، عندها لن تكوني وحيدة، وسنكون جميعا صوتك الداخلي لتحققي ما عجزنا عن تحقيقه .
ساد الصمت بينهما وسط ذهول صفية وهي تتطلع إلى ذلك الرجل الذي كان في حينها يضع كرسيه تحت شجرة اليوكالبتوس، ويدخن بهدوء، افاقت على صوت حمدة:
- وكان يقول أيضا، لا تقومي بأي عمل غبي يرسب في داخلك الندم، لا تجعلي أي شخص يستحوذ على فكرك ومن ثم يسلبك حريتك .
بعد صمت قليل :
- هل هو سياسي ؟ شيوعي أليس كذلك ؟ فكلامه المبهم هذا يعني إنه كان كذلك.
- كان .. أما الآن فها أنت ترين ما حل به، ليس له سوانا، أنا، وأنت، وهذا البيت، جسد ينوء بآثار دياجيرهم المظلمة، فاضطرب عقله، رحماك فلتتلطفي بي وبه.
جاهدت صفية ذاتها طويلا كي تبوح ولو لمرة واحدة أمام شقيقتها بذلك العتب الذي كان يحاصرها منذ مغادرة حمدة ذلك الصباح، كي تزيح عن كيانها ثقلا ما عادت تتحمله:
- جلبت العار لهذا البيت والآن ...
قالتها هامسة معاتبة ولكنها لم تكمل فلقد صرخت حمدة وهي تضرب بقبضتها مسند الأريكة قائلة :
- قلتها هذه المرة، ولن اسامحك العمر إن أعدتها مرة أخرى .
عادتا إلى الصمت من جديد، ثم :
- دعيني أشاطره بعض آلامه، وغربة عقله، وغربته بيننا، يستحق مني الوقوف إلى جانبه، وتحمل كل الأخطار من أجله، ولن يمسه سوء ما دمت إلى جانبه، علّ الأيام تجلي كل ملمة، وربما لن تتمكن الأيام من ترميم كل نواقصنا، وعذاباتنا، فحياتنا مجرد تخمين، ربما ونتعلق بهذه الربما وينتهي كل شيء دون أن ينتهي هذا التخميمن .



#لمياء_الآلوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوقات تحت أجنحة الحُبارى !
- مملكتان في قبو !
- تلك نجمة عراقية
- على مسافةِ رغبات
- إمرأة


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لمياء الآلوسي - (حمدة ) قصة قصيرة