أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كورديليا حسين - جان بول سارتر.. بين الوجودية والماركسية















المزيد.....

جان بول سارتر.. بين الوجودية والماركسية


كورديليا حسين

الحوار المتمدن-العدد: 7027 - 2021 / 9 / 22 - 09:57
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ترجمة كورديليا حسين و سيد صديق

جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار يوزِّعان صحيفة "قضية الشعب" التي أصدرها تنظيم "اليسار البروليتاري" الماوي - 1968
يُعرَف الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، المولود في 11 يونيو 1905، بكونه واحدًا من أكبر أنصار النظرية الوجودية، وهي فلسفة ترتكز على حرية الفرد المطلقة كان لها الكثير من الانتشار في أوروبا في منتصف القرن العشرين. لكن ما يُذكَر كثيرًا هو نشاط سارتر السياسي والتزامه بالاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية.

وُلِدَ سارتر في باريس، لكنه انتقل بعد وفاة والده إلى مدينة أخرى ليترعرع في رعاية أمه وجده لأمه. وقد كان في صباه مهتمًا بالأدب وعالم الأفكار ومتفوقًا في المدرسة. قُبِلَ سارتر في المدرسة الباريسية العليا (وهي جامعة فرنسية ترتادها النخبة المثقفة)، وهناك قابل شريكته سيمون دو بوفوار وآخرين سيصبحون فيما بعد مكونًا أساسًا لمحيطه الثقافي على المدى البعيد.

تخرَّج سارتر في المدرسة الباريسية العليا عام 1929 مع سيمون دو بوفوار. شرع كلاهما بعد التخرُّج في التدريس بالمدارس الثانوية، وقد كانت تلك الوظيفة حينها تضمن لأصحابها عيشًا كريمًا ودخلًا ثابتًا مدى الحياة، بالإضافة إلى ساعات عمل تتراوح بين 10 و15 ساعة أسبوعيًا، خلافًا لما هي عليه اليوم.

تساؤلات وأفكار وجودية
تشكَّلت أفكار سارتر الوجودية خلال عمله مدرِّسًا في الثلاثينيات، وقد كان في تلك الفترة يسكن غرف الفنادق ويكتب في المقاهي والحانات، متحررًا بذلك من الأعباء التقليدية للحياة اليومية التي يواجهها جموع الناس، كالالتزامات الأسرية والقلق من الإيجارات المتأخرة والفواتير وما إلى غير ذلك. كان يمكن لشكل الحياة ذلك أن يصبح عديم القيمة ومنفصلًا عن العالم، كما قد يمكنه أن يدفع بالمرء إلى التفوه بعبارات كتلك التي اشتهر بها سارتر، والتي نسمعها على لسان بطل روايته الرائعة “الغثيان” والتي صدرت عام 1938، وفيها يقول البطل: “كل موجودٍ يولد بلا سبب، ويستمر في الوجود نتيجة ضعفه، ثم يموت صدفةً”.

لقد كانت الحرب العالمية الثانية، وفقًا لما يذكره سارتر، هي التي شكَّلت حياته، حيث كتب: “في تلك اللحظة انتقلتُ من الفردية والفرد الخالص … إلى الاجتماعي، إلى الاشتراكية”. كان سارتر قد التحق بالجيش في أواخر عام 1939 ليعمل في وحدة أرصاد جوية بالقرب من خط المواجهة بين فرنسا وألمانيا. وكما يمكننا أن نرى بوضوح في مذكراته الشخصية لتلك الفترة، كان هناك الكثير من التوتر المتصاعد بداخله بين وجهة نظره الوجودية والظروف بالغة الصعوبة للمجندين بالجيش.

كان فرضية سارتر المبدئية هي أن للأفراد حرية قبول الحرب أو رفضها، وأن وقوع الحرب واستمرارها آتٍ من كون الأفراد قد اختاروا ألا يعارضوها، وذلك خلافًا لما قد تبدو عليه الأمور. ويعكس سارتر تلك الفكرة في مذكراته قائلًا: “كلما تمعَّنت في الأمر، رأيت أن الرجال يستحقون تلك الحرب. فقد تبنيناها كلنا بإرادتنا الحرة، رغم أنها اندلعت نتيجة خطأ البعض”.

في تلك المذكرات وضع سارتر الأفكار الأساسية لعمله النفيس “الوجود والعدم” المنشور عام 1943. وقد كانت أطروحته الأساسية هي أن الوجود يسبق الجوهر، أي أننا كأفرادٍ “أُلقِيَ” بنا في هذا العالم، وأن وجودنا سابق على أي شيء آخر، ثم يأتي بعد ذلك المعنى الذي نوجده لحياتنا. فالإنسان على حد تعبير سارتر “ليس سوى ما يصنعه بنفسه”. والعيش الأصيل يعني ألا نتهرَّب من الحرية المطلقة المسببة للقلق والمتأصلة في الوجود. ويعني أن الطريقة التي نعالج بها الأمور متروكة لنا وحدنا، بغض النظر عن المواقف التي نمر بها. أي أنه يجب علينا أن نسعى دائمًا إلى “أن نكون أنفسنا”، وألا نسمح للآخرين أو للظروف بتحديد هويتنا.

عاد سارتر إلى باريس في أوائل عام 1941 بعد إطلاق سراحه من إحدى معسكرات أسرى الحرب الألمانية، ومن هناك شرع على الفور في تنظيم شكلٍ من أشكال المقاومة ضد الاحتلال النازي. وقد اتخذت تلك المقاومة شكل مجموعة سياسية أسسها سارتر مع آخرين باسم “الاشتراكية والحرية”، وضمَّت آنذاك عددًا من رفاقه من الوسط الثقافي بالإضافة إلى شخصيات أخرى من اليسار المناهض للستالينية.

انتُقِدَ سارتر لاحقًا لقلة انخراطه في العمل السياسي مع المقاومة. ومع ذلك فقد كان انخراطه ذاك دليلًا على تغير قد حدث في فهمه لدور المثقف داخل المجتمع. فلم يعد المثقف بالنسبة له دخيلًا على المجتمع، يقف بمعزل عن النضالات اليومية للعالم. وبهذا لم يتجنب سارتر التساؤلات الأساسية التي أثارتها الحرب حول كيف يمكن للفرد أن يكون “حرًّا” تحت احتلال أجنبي، أو كيف يمكن بشكل عام الموازنة بين الاعتراف باستقلاليتنا كأفراد وفي الوقت نفسه فهم القيود المفروضة علينا من قِبَلِ التاريخ والمجتمع.

نشاط مكثَّف وشعبية كبيرة
أدَّى انشغال سارتر بمثل هذه التساؤلات إلى أن يغزل نسيجًا أكثر نشاطويًا على وجوديته. لم تعد الحرية بالنسبة له تُختَزَل في حالةٍ مجرَّدة. في المقابل، صار يرى أن وجودنا الفردي مرتبطٌ بمصير المجتمع ككل، وأن الفلسفة التحرُّرية الحقيقية بحاجةٍ إلى التعاطي مع مسألة كيف يمكن لشروط الحرية الفردية أن تُعزَّز على هذا الصعيد.

ينعكس هذا في إضافاته، في الأعمال التي كتبها ما بعد الحرب، لتلك النسخة من الوجودية الحتمية القاطعة لفيلسوف التنوير إيمانويل كانط. فبينما كان تشديده في “الوجود والعدم” على الصراع في علاقاتنا بالآخرين -الأمر الذي لُخِّصَ في أشهر مجازاته “الحجيم هو الآخرون”- بحلول نهاية الحرب، توصَّل إلى استنتاجٍ مختلف: “لا يمكن أن أجعل الحرية هدفي إن لم أجعل حرية الآخرين هدفي بنفس القدر”.

كان سارتر حاضرًا في كلِّ مناحي الحياة الثقافية في باريس ما بعد الحرب. فإلى جانب الشعبية التي حظى بها كتاب “الوجود والعدم”، كانت هناك مسرحية “لا مخرج” التي عُرِضَت لأول مرة في منتصف العام 1944. ثم نُشِرَت روايته “عصر المنطق”، التي كانت جزءًا أول مِمَّا صار لاحقًا سلسلة روايات “طرق الحرية”، التي كانت بمثابة توضيحٍ إضافي للموضوعات الوجودية الرئيسية المطروحة في “الوجود والعدم”.

كان هناك أيضًا إصدار مجلة “الأزمنة الحديثة”، التي حرَّرها سارتر مع دو بوفوار، إضافةً إلى عددٍ من معاونيهم المقرَّبين مثل ريمون آرون وموريس ميرلو بونتي. وأخيرًا، كانت هناك محاضراته، التي كانت أشهرها تلك التي ألقاها في أكتوبر 1945 بعنوان “الوجودية مذهب إنساني”. كان الحماس لسارتر هائلًا، إلى درجة أن الحشود في محاضرته كانت أكبر مِمَّا تحتمله القاعة، وكان هناك تدافع جعل عددًا من الناس يُغشى عليهم.

لفهم هذه الشعبية الكبيرة لسارتر، من الضروري أن نتعرَّف على المناخ المهيمن في فرنسا آنذاك. كانت الثورة رائجةً في الأجواء، لكن البدائل المطروحة في الساحة السياسية السائدة لم تكن مُرضية. استند الحزب الشيوعي الفرنسي إلى إستراتيجية “الجبهة الشعبية” في سنوات ما قبل الحرب -ملتزمًا برغبة ستالين في عدم إزعاج حلفائه في أعقاب اتفاقية تقسيم أوروبا ما بعد الحرب مع رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت. وعلى اليمين، كانت هناك نفس السياسات المحافظة، حيث العودة إلى القيم العائلية واحترام النظام الاجتماعي، إلخ.

كان هناك توقٌ هائل للحرية، بالأخص في أوساط الشباب، وفي المقابل لم تكن هناك سياساتٌ مُقنِعةٌ بما يكفي لتجسيد هذا التوق على أرض الواقع. ولفترةٍ من الزمن، بدت الوجودية وكأنها تتمسَّك بالأمل في بدايةٍ جديدة. غير أنه، بالنسبة لسارتر، لم تكن مكانة الرمز المناهض للثقافة السائدة كافية. وفي تأمله لاحقًا في تلك الفترة، قال: “بالنسبة لي، أصبحت اشتراكيًا راسخًا … لكن أيضًا اشتراكيٌّ تحرُّري، معادٍ للتسلسل الهرمي، ومؤيِّد للديمقراطية المباشرة”. في العام 1948، أسَّس سارتر مع الكثير غيره من الرموز البارزة في اليسار المناهض للستالينية “الرابطة الثورية الديمقراطية”. وفي بيانها التأسيسي، كتبوا:

“بين تعفُّن الديمقراطية الرأسمالية، وضعف وقصور الاشتراكية الديمقراطية، وحدود الشيوعية في شكلها الستاليني، نؤمن بأن رابطةً من أناسٍ أحرار من أجل الديمقراطية الثورية لهي قادرةٌ على منح حياةٍ جديدة لمبادئ الديمقراطية والكرامة الإنسانية، من خلال ربطها بالنضال من أجل الثورة الاجتماعية”.

بين الماركسية والستالينية
للأسف، انهارت الرابطة بالكاد بعد عامٍ واحد، ولم تتعد عضويتها في أحسن الأحوال 4 آلاف عضوٍ قط. وسبب هذا الانهيار كان الافتقار إلى أيِّ تحليلٍ سياسي متماسك يمكنه تحمُّل الضغوط الهائلة للحرب الباردة الناشئة. أما الدرس الذي استخلصه سارتر من حطام الرابطة، فكان أن اليسار المناهض للستالينية لم يتمكَّن من تقديم بديلٍ حقيقي. كان مفتاح المستقبل يكمن في الطبقة العاملة، وهذه الطبقة كانت إلى حدٍّ كبير تحت هيمنة الحزب الشيوعي الفرنسي. وكما طرح سارتر نفسه، فإن “أغلبية البروليتاريا … تشكِّل مجتمعًا منغلقًا بلا أبوابٍ أو نوافذ. هناك طريقٌ واحدٌ فقط، وهو طريقٌ ضيقٌ للغاية، ألا وهو الحزب الشيوعي”.

ومن العام 1952 تقريبًا، وحتى العام 1956، صار سارتر أشبه بالمُرافق الدائم للحزب الشيوعي الفرنسي. في كتابه “الشيوعيون والسلام”، ذكر أنه اتفق “مع الشيوعيين في موضوعاتٍ محدَّدة ومحدودة، مجادلًا على أساس مبادئي وليس مبادئهم”. بيد أن الواضح أنه مع الوقت بدأ في تكييف مبادئه بشكلٍ ما لتتوافق على نحوٍ أكبر مع قالب الحزب الشيوعي.

جاء المثال الأكثر صدمةً على ذلك في زيارة سارتر للاتحاد السوفييتي في 1954. نشر لدى عودته سلسلةً من المقالات التي احتفت بالثقافة المنفتحة وحرية التعبير، وما إلى ذلك. وربما الأكثر صدمةً من ذلك حتى، أنه حاول لاحقًا الحدَّ من هول الأمر بادعائه أنه، بسبب مرضه، قامت سكرتيرته الخاصة بجزءٍ كبيرٍ من العمل في هذه المقالات نيابةً عنه. كان هذا أكثر مِمَّا تحتمله المسئولية الوجودية الذاتية.

غير أن موقف سارتر في ذلك الوقت لم يكن واضحًا تمامًا بأنه مدافعٌ صريح عن الستالينية. فبينما كيَّفَ نفسه في بعض النواحي مع الحزب الشيوعي الفرنسي، كان له موقفه الأكثر استقلالية في نواحٍ أخرى. على سبيل المثال، ظلَّت مجلة “الأزمنة الحديثة” منصةً للمساهمات من جانب اليسار المناهض للستالينية.

استمرَّ سارتر أيضًا في النشر باسمه، وكانت تلك أعمالًا عارضت بشدة جوهر السياسة الشيوعية. كان كتاب “القديس جينيه” (1952)، الذي يدور حول الكاتب الفرنسي جان جينيه، المعاصر لسارتر، مثالًا على ذلك. كان جينيه مثليًا، وقد أثار تلقيب سارتر له بـ”القديس” استجابةً شديدة العداء للمثلية، بما في ذلك في أوساط اليسار. كان ذلك في وقتٍ رفض فيه الحزب الشيوعي منح العضوية لـ”المثليين السافرين”.

تجسَّدت الطبيعة المتناقضة لسياسات سارتر، في تعبيرها الفلسفي، بأجلى صورها في عمله الضخم “نقد العقل الديالكتيكي”، المنشور عام 1960. كان هذا العمل محاولةً من سارتر لتجديد ما رأى أنه يمثِّل الروح النقدية الحقيقية للماركسية، مستخدمًا رؤىً مُستمدَّة من الوجودية. ويتمثَّل النفع من الوجودية، في وجهة نظر سارتر، في التركيز على الفرد، ذلك التركيز الذي اعتقد أن المادية التاريخية تفتقر إليه. كتب: “إن لم نكن نرغب في أن يصبح الديالكتيك قانونًا إلهيًا مرةً أخرى، لابد أن ينبع من الأفراد، وليس من كيانٍ ما فوق الأفراد”.

بيد أن ما خلُص إليه لم يكن وجوديًا ولا ماركسيًا، بل خليطًا من الأفكار والمفاهيم المُستخلَصة من كليهما. يرجع ذلك، في جزءٍ كبيرٍ منه، إلى المفهوم الخاطئ لما كانت عليه الماركسية. رأى سارتر التشويهات الستالينية للماركسية (الديالكتيك باعتباره “قانون إلهي”، والتضحية بالفرد لصالح “كيانٍ فوق الأفراد”، وما شابه ذلك)، باعتبارها نتاجًا لقصورٍ في الماركسية نفسها. وفي محاولةٍ لتصحيح ذلك، خَلَطَ الحابل بالنابل.

ما كان لازمًا لصون الماركسية لم يكن إضافة الفلسفة الوجودية، بل العودة إلى التراث الماركسي الحقيقي -تراث ماركس وإنجلز نفسيهما، والرموز البارزة اللاحقة مثل فلاديمير لينين وروزا لكسمبورج وليون تروتسكي وجورج لوكاش. في هذا التراث، وعلى النقيض من الستالينية، كان مفهوم الحرية الفردية مركزيًا بدرجةٍ كبيرة. والنضال من أجل الاشتراكية، كما أوضح ماركس نفسه في البيان الشيوعي، هو نضالٌ لمجتمعٍ “يكون فيه تطوُّر الفرد شرطًا للتطوُّر الحر للمجتمع ككل”.

بينما كان سارتر يكتب “نقد العقل الديالكتيكي”، كان منخرطًا أيضًا في الحملة ضد حرب فرنسا في الجزائر (1954-1962). ومرةً أخرى، وضعه ذلك في خلافٍ مع الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي منح تأييده في العام 1956 للسلطات الجديدة التي طالب بها الحزب الاشتراكي الفرنسي بغرض تصعيد الحرب. وقد دفع موقف الحزب الشيوعي الفرنسي، إلى جانب سحق الثورة المجرية على يد الغزو السوفييتي في العام نفسه، إلى انتهاء ذلك الفصل من التعاون المباشر من جانب سارتر مع الستالينيين.

تناقضات مناهضة سارتر للاستعمار
استند تأييد سارتر لنضالات التحرُّر الوطني في الجزائر وفيتنام وكوبا، وغيرهم، على الرؤية الفلسفية الأساسية للوجودية. والنظرة الملازمة لهذه الرؤية، كما فهمها سارتر لاحقًا في فترة ما بعد الحرب، تمثَّلَت في أنه إذا كانت حرية الآخرين مقيَّدة، فإن حرية الجميع هكذا أيضًا. كان هذا هو السياق الذي كتب فيه أحد أقوى أعماله السياسية: مقدمة كتاب “مُعذَّبو الأرض” لفرانز فانون، عام 1961. في هذه المقدمة، استهدف سارتر أكثر الاتجاهات السلمية وداعةً، تلك التي دعت إلى إنهاء العنف من كلا الجانبين.

كتب سارتر: “إذا كان العنف قد بدأ للتوِّ فقط، وإذا لم يكن الاستغلال والاضطهاد موجودًا على الأرض من قبل، ربما أنهت شعارات اللاعنف هذا القتال”. وأضاف: “لكن إذا كان النظام برمته، وحتى أفكار اللاعنف لديكم، مشروطة باضطهادٍ من ألف عام، فإن سلبيتكم لا تقودكم إلا إلى مصافِ المُضطهِدين”.

لا يمكن فهم أهمية موقف سارتر، تأييدًا للاستقلال الجزائري، إلا في ضوء الأجواء شديدة الاستقطاب في فرنسا في تلك الفترة. في أكتوبر 1961، هاجمت الشرطة الفرنسية مظاهرةً لثلاثين ألفًا من الجزائريين في باريس. قُتِلَ أكثر من 200 متظاهر، غرق منهم كثيرون بعد إلقائهم في نهر السين. في الوقت نفسه، كانت هناك موجةٌ من التفجيرات الإرهابية من القوميين الفرنسيين اليمينيين المتطرِّفين. وباعتباره أبرز المثقفين في فرنسا، كان من شأن موقف سارتر أن يضعه في القلب من كلِّ هذا. تعرَّضَت شقته لتفجيرين، وسار المتظاهرون اليمينيون في الشوارع هاتفين “أطلقوا النار على سارتر”.

أما الاستثناء المُخجِل لموقف سارتر المناهض للاستعمار، فكان تأييده لتأسيس إسرائيل. صحيحٌ أنه صار لاحقًا أكثر حساسيةً إزاء النضال الفلسطيني، إلا أنه في العام 1976، حين مُنِحَ الدكتوراه الفخرية من جامعة القدس العبرية، أعلن قائلًا: “أنا مؤيِّد للفلسطينيين بالقدر نفسه الذي أؤيِّد به الإسرائيليين، والعكس بالعكس”.

نضالٌ ثم انزواء
رسَّخَ دور سارتر في النضال ضد حرب الجزائر، وانخراطه اللاحق في الأيام الأولى لحركة مناهضة الحرب على فيتنام، سمعته بين جيل الشباب الذي اضطلع لاحقًا بالدور القيادي في انتفاضة مايو 1968. وتوطَّدَت هذه السمعة الجذرية برفضه جائزة نوبل في الأدب عام 1964، إذ رفضها لأنه رآها جزءًا من محاولةٍ لتحويله إلى رمزٍ ثقافي مسالم للبرجوازية.

أدَّى سارتر دورًا حيويًا في النضال، إذ كان يقدِّم المحاضرات للطلاب الذين احتلوا جامعة السوربون، وتلتف حوله أكثر العناصر النضالية منهم. وفي حوارٍ أُذيعَ عبر الراديو في ذروة الاحتجاجات، جادَلَ بقوة ضد فكرة “إصلاح” نظام الجامعات، قائلًا إن “العلاقة الوحيدة التي يمكن أن يحظى بها الطلاب مع هذا النظام الجامعي هي أن يحطِّموه. ومن أجل أن يحطَّموه، هناك حلٌّ واحد، وهو أن يخرجوا إلى الشوارع”.

خلال تلك الفترة، ارتبط بقوةٍ بالتيارات الماوية التي كانت سريعة النمو آنذاك. في العام 1970، طلب أحد التنظيمات الماوية الرئيسية، وهو تنظيم “اليسار البروليتاري”، من سارتر أن يدرجه كمحرِّرٍ لصحيفته، لأن المُحرِّرَين السابقين اعتُقِلا وسُجِنا. وافق سارتر، حتى أنه كان ينزل لبيع نسخ الصحيفة في الشوارع. أُلقِيَ القبض عليه، لكن الحكومة لم تجرؤ على الزجِّ بشخصٍ في مكانة سارتر في السجن. لم يساعد ارتباط سارتر بالماويين في أن يكون في وضعٍ مناسبٍ للتعامل مع الانحسار السياسي في أواخر السبعينيات. ومنذ منتصف السبعينيات، وحتى وفاته في أبريل 1980، انزوى عن المشاركة النشطة في الحياة السياسية الفرنسية.

إذًا، كيف نقيِّم حياة سارتر وأعماله ككل؟ في حين أن لا وجوديته “النقية” المبكِّرة، ولا نسخته الوجودية من الماركسية، مقعنةٌ إلى حدٍّ كبير، فإن مكانته بين أكثر المفكِّرين اليساريين الشعبيين التزامًا في القرن العشرين تستحق الاحتفاء. تضعه جذريته المتماسكة وتوجُّهه الحركي في فترة ما بعد الحرب في مرتبةٍ أرقى من كثيرٍ من مفكِّري اليوم.

* المقال بقلم: جيمس بليستد – موقع “العلم الأحمر” الأسترالي.



#كورديليا_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب في أوروبا الشرقية
- ما كشفته لنا جائحة فيروس كورونا عن الطبقات الحاكمة
- النساء في تايلاند يدفعن ثمنًا باهظًا للمشاركة الديمقراطية
- لماذا لا يمكن الاعتماد على الديمقراطيين في مواجهة التطرف الي ...
- دونالد ترامب وأربع سنوات من الفظائع.. والمقاومة من أسفل


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كورديليا حسين - جان بول سارتر.. بين الوجودية والماركسية